هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

وإن كان الفعل (١) لداعي التخلص من الضرر ، فقد يكون قصد الفعل لأجل اعتقاد أنّ الحذر (٢) لا يتحقق إلا بإيقاع الطلاق حقيقة (٣) ، لغفلته (٤)

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «فإمّا أن يكون الفعل لا من جهة التخلص عن الضرر المتوعد به» فالأولى تبديل قوله : «وإن كان الفعل لداعي التخلص من الضرر» بأن يقال : «وإمّا أن يكون الفعل من جهة التخلص عن الضرر المتوعد به» فصور داعوية الإكراه ثلاث :

إحداها : أن يكون الفعل لدفع الضرر الدنيوي الوارد على المكره.

ثانيها : أن يكون الفعل لدفع الشفقة الدينية على المكره أو على غيره.

ثالثها : أن يكون الفعل للتخلص عن الضرر الوارد على المكره ، وهذا يتصور على وجهين :

الأوّل : أن يكون قصد الطلاق مثلا لأجل اعتقاد المكره بعدم إمكان التخلص عن الضرر المتوعد به الا بإيقاع الطلاق حقيقة ، لغفلته عن عدم توقف التخلص على ذلك. وهذه صورة خامسة.

والثاني : أن يوقع الطلاق حقيقة ، لجهله بأنّ الشارع رفع حكم الطلاق وصحته إذا وقع عن إكراه ، فزعم أنّ الطلاق الإكراهي صحيح ، ولذا أوقع الطلاق حقيقة. وهذه صورة سادسة.

(٢) يعني : أن التخلص من الضرر المتوعد به لا يتحقق .. إلخ.

(٣) يعني : أن المكره يتخيّل انحصار تخلّصه من الضرر المتوعد به في إيقاع الطلاق بالإرادة الجدية ، لا بمجرّد التلفظ بالصيغة.

(٤) يعني : أنّ منشأ تخيّل المكره هو غفلته عن حقيقة الأمر ، فيوطّن نفسه على البينونة عن زوجته والإعراض عنها ، فيوقع الطلاق قاصدا. ولو لا هذه الغفلة أمكن أن ينشئ اللفظ المجرّد عن النية ، فكان يتخلّص من شر المكره بالصيغة العارية عن القصد ، لأنّه طلاق صوري ، ولم يقع حقيقة.

٢٦١

عن أنّ التخلص غير متوقف على القصد إلى وقوع أثر الطلاق وحصول البينونة ، فيوطّن نفسه على رفع اليد عن الزوجة والإعراض عنها ، فيوقع الطلاق قاصدا. وهذا (١) كثيرا ما يتفق للعوام.

وقد (٢) يكون هذا التوطين والإعراض من جهة جهله بالحكم الشرعي ، أو كونه رأى (٣) مذهب بعض العامة ، فزعم أنّ الطلاق يقع مع الإكراه ، فإذا أكره على الطلاق طلّق قاصدا لوقوعه ، لأنّ (٤) القصد إلى اللفظ المكره عليه ـ بعد اعتقاد كونه سببا مستقلا في وقوع البينونة ـ يستلزم القصد إلى وقوعها ،

______________________________________________________

(١) أي : إيقاع الطلاق الحقيقي ، لزعم توقّف التخلّص عن الضرر على الإنشاء الجدّي.

(٢) معطوف على قوله : «فقد يكون» وهذه هي الصورة السادسة ، وكان الأولى أن يقول : «وقد يكون قصد الفعل».

(٣) بصيغة الماضي لا المصدر ، أي : أو كون المكره رأى وعلم مذهب العامة من صحة طلاق المكره ، فزعم أنّ مذهب الشيعة الإمامية أيضا هو الصحة ، فطلّق قاصدا لوقوعه حقيقة ، فتبين زوجته منه حينئذ.

(٤) تعليل لصحة الطلاق ، وهو مؤلّف من مقدّمتين ، الأولى : كونه مكرها على التلفظ بصيغة الطلاق ، الثانية : اعتقاده بسببية اللفظ لحصول البينونة ، وامتناع التفكيك بين اللفظ وأثره ، فيقصد الطلاق جدا ويوطّن نفسه عليه.

وعليه فيمكن حمل كلام العلّامة ـ من صحة الطلاق عن نيّة لو أكره عليه ـ على الصورة الخامسة والسادسة ، لتحقق القصد الجدي وطيب النفس فيهما. لكن الحكم بالصحة لا يخلو عن إشكال ، والبطلان أقرب ، لتحقق الإكراه على اللفظ ، فيسقط عن التأثير. والقصد الجدّي غير كاف ما لم يتسبب إليه باللفظ عن اختيار.

٢٦٢

فيرضي نفسه بذلك ويوطّنها عليه ، وهذا (١) أيضا كثيرا ما يتّفق للعوام.

والحكم (٢) في هاتين الصورتين لا يخلو عن إشكال ، إلّا أنّ تحقق الإكراه أقرب (*).

______________________________________________________

(١) أي : الصورة السادسة كالخامسة ممّا يتّفق للعوام غير الملتفتين إلى خصوصيات المسائل.

(٢) أي : الحكم بالصحة ـ على ما استقر به العلّامة ـ لا يخلو عن إشكال ، والأقرب هو البطلان ، لوجود الإكراه.

__________________

(١) اعلم أنّه لا بدّ قبل التعرض لشرح كلام العلامة ـ في فرع الإكراه على الطلاق ـ وبيان صحته أو بطلانه من ذكر الصور المتصورة في المسألة :

الأولى : أن يكرهه الجائر على الطلاق ، لكنه متمكّن من دفع ضرر المكره ، ومع ذلك يوقع الطلاق. لا ينبغي الإشكال في صحة الطلاق حينئذ ، لعدم استناده إلى خوف ضرر المكره بل يستند إلى الرضا ، فلا وجه لبطلانه ، والظاهر خروجه عن مورد كلام العلامة قدس‌سره.

الثانية : أن يقع الطلاق عن إكراه الجائر ، بحيث يصدر عن خوف الضرر المتوعد به ، ترجيحا لأقل الضررين من الطلاق ومن الضرر المتوعد به.

لا ينبغي الإشكال في الفساد في هذه الصورة مطلقا ، سواء أكان المكره معتقدا بصحة العقد الواقع عن إكراه لجهله بالمسألة ، أم معتقدا بعدم اندفاع الضرر إلّا بقصد حقيقة العقد أو الإيقاع كالطلاق فقصده ، فإنّ الإكراه في جميع هذه الصور مبطل ، لشمول أدلته لكل ما يقع عن إكراه. ومقتضى ترك الاستفصال عدم الفرق في البطلان بين الاعتقاد بالصحة وعدمه ، فلا وجه للتردد في الحكم بالصحة والفساد كما صدر من المصنف قدس‌سره ، وإن تعقبه بقوله : «إلّا أنّ تحقق الإكراه أقرب».

٢٦٣

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالظاهر بطلان الطلاق فيما إذا صدر عن خوف الضرر المتوعد به من المكره مطلقا وإن اعتقد المكره صحة الطلاق ، فإنّ الإكراه يرفع أثر العقد والإيقاع بمقتضى إطلاق حديث رفع الإكراه.

فالتفصيل بين الاعتقاد بالصحة وعدمه ـ في الصحة في الأوّل ، والفساد في الثاني كما عن بعض العامة ـ لا وجه له ، لصدق الإكراه وعدم طيب النفس في الجميع.

ويدل على ذلك ـ مضافا إلى حديث الرفع ـ صحيحة البزنطي عن أبي الحسن عليه‌السلام «في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه» (١).

الثالثة : أن يكون الإكراه بعض السبب المؤثر لا تمام السبب ، كما إذا كان في الطلاق بعض الجهات الموجبة لمحبوبيته ، وكان الإكراه متمما لسببية تلك الجهات ، بحيث لو لم يكن الإكراه لم تؤثر تلك الجهات. وكذا لو لم تكن تلك الجهات لم يكن الإكراه مؤثّرا في وقوعه ، ولا باعثا إليه ، ولا حاملا عليه.

وبالجملة : يكون صدور الطلاق مستندا إلى أمرين ، أحدهما الرضا ، والآخر الإكراه ، وبانتفاء أحدهما ينتفي الطلاق.

والظاهر بطلان الطلاق في هذه الصورة أيضا ، لظهور أدلة اعتبار الرضا في العقود والإيقاعات في اعتبار الرضا مستقلّا ، بحيث يكون صدور الإنشاءات عن الرضا بالاستقلال.

وإن شئت فقل : إنّ مقتضي الصحة هو الرضا ، فإذا انضمّ إليه الإكراه انتفى المقتضي للصحة قطعا أو احتمالا ، والشك في وجود مقتضي الصحة كاف في الحكم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٣٦ الباب ١٢ من أبواب كتاب الايمان الحديث : ١٢.

٢٦٤

.................................................................................................

__________________

بالفساد الذي يقتضيه أصالة الفساد ، بعد عدم عموم دليل أو إطلاق يثبت دخل مطلق طيب النفس ولو ضمنيا ، هذا.

الرابعة : أن يكون كل واحد من الرضا النفساني ـ الناشئ عن سوء خلقة الزوجة أو خلقها مثلا ـ والإكراه علة تامّة وسببا مستقلّا في نفسه لوقوع الطلاق ، بحيث لو لم يكن إكراه لوقع الطلاق أيضا ، وبالعكس.

والظاهر صحة الطلاق في هذه الصورة ، لوجود المقتضي للصحة هنا وهو الرضا الاستقلالي ، حيث إنّ ظاهر الأدلة اعتبار الاستقلال في سببية الرضا لصحة العقد أو الإيقاع ، وهذا الاستقلال موجود في هذه الصورة. بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ الرضا كان فيها جزء السبب ، فقياس هذه الصورة بسابقتها في غير محله ، لتمامية المقتضي للصحة هنا دون تلك الصورة.

والمراد بكون كل منهما مستقلا في الداعوية هو الشأنية والصلاحية ، لا الاستقلال في الداعوية الفعلية ، فإنّها من المحالات ، لامتناع اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد كما قرّر في محله ، فلا محالة يكون كل منهما جزءا للعلة المؤثرة فعلا ، فهما علة واحدة مركّبة ، لكن الأثر يكون للطيب فقط ، ولا يترتب على الإكراه أثر ، لأنّه ليس مقتضيا للفساد حتى يندرج المقام في تعارض المقتضيين ، الإكراه المقتضي للفساد والطيب المقتضي للصحة ، بل يكون الفساد مع الإكراه لأجل عدم المقتضي للصحة ، وهو الطيب ، فالإكراه لا يقتضي الفساد ، بل الفساد مع الإكراه مستند إلى عدم المقتضي وهو الطيب ، فإجتماع الإكراه والطيب يكون من قبيل تعارض المقتضي واللّامقتضي ، لا من قبيل تعارض المقتضيين. ومن المعلوم انه لا أثر إلّا للمقتضي ، وهو في المقام طيب النفس ، وضمّ اللامقتضي إلى المقتضي كضم الحجر في جنب الإنسان.

فالمتحصل : انّه لا بدّ من الحكم بصحة الطلاق في هذه الصورة ، هذا.

وعلى فرض التسليم ـ وكون الإكراه مانعا عن الصحة ومقتضيا للفساد ـ لا يجري

٢٦٥

.................................................................................................

__________________

فيه أيضا حديث الرفع. لأنّ بطلان الطلاق مع الرضا وطيب النفس خلاف الامتنان.

ولعلّ مراد العلامة قدس‌سره هذه الصورة بقرينة قوله : «ناويا» إذ ليس المراد قصد مدلول اللفظ بداهة ، حيث إنّ المكره ليس غافلا ولا هازلا ، بل هو قاصد لاستعمال الألفاظ في معانيها ، فالمراد بالنية قصد إيجاد المعنى المقصود باللفظ ، غاية الأمر مع اقتران هذا القصد الناشئ عن الطيب بالإكراه.

وقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما عن المحقق النائيني قدس‌سره من أنّه «حيث لا يمكن توارد علتين مستقلتين على معلول واحد ، فيصير كل واحدة إذا اجتمعتا جزء السبب ، والفعل يستند إليهما معا. وكل علتين مستقلّتين إذا وردتا على معلول واحد وكان بينهما تدافع فلا يؤثر كل منهما» (١).

وجه الظهور عدم كون الإكراه مقتضيا للفساد ليكون المقام من قبيل توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد ، بل الإكراه يعدم مقتضي الصحة ، فمع وجود ما يقتضي الصحة وهو الرضا يصح العقد أو الإيقاع ، هذا.

تنبيه : لا يخفى أنّه لا فرق في بطلان الطلاق عن إكراه بين رجوع الضرر المتوعد به إلى نفس المكره أو إلى عرضه وشرفه أو إلى ماله ، وبين رجوع الضرر إلى غيره ممّن يهمّ أمره المكره كزوجته وولده وخادمه وغيرهم ممّن يتعلق به ، كأن يقول : «طلق زوجتك ، وإلّا قتلتك أو قتلت ابنك أو أخاك».

كما لا فرق بين كون الضرر دنيويا كأن يقول : «طلّق زوجتك وإلّا أخذت مالك أو مال ولدك أو أخيك» وبين كونه دينيا كأن يقول : «طلّق زوجتك وإلّا منعتك أو ولدك أو أخاك عن الصلاة مثلا» فإنّ مفهوم الإكراه ينطبق على الجميع.

__________________

(١) منية الطالب : ج ١ ص ١٩٦.

٢٦٦

ثمّ (١) إنّ المشهور بين المتأخرين (٢)

______________________________________________________

صحة عقد المكره المتعقب بالرضا

(١) هذه جهة أخرى من جهات البحث في إنشاء المكره ، وهي : أنّ عقد المكره هل يصحّ تأهّلا بأن يتم تأثيره بالرضا اللّاحق ، أم أنّه ينعقد فاسدا غير قابل للتأثير بلحوق الرضا؟ فيه قولان :

أحدهما : وهو المشهور الصحّة التأهليّة ، نظير عقد الفضول.

وثانيهما : هو البطلان ، لوجوه ثلاثة أشار إليها في المتن ، وسيأتي بيانها.

(٢) تقييد الشهرة بالمتأخرين ربما يظهر منه عدم شهرة الصحة بين من عداهم من المتقدمين ، ولكن الظاهر شهرة الحكم بين غير المتأخرين أيضا ، ففي حاشية الفقيه

__________________

نعم لو كان الغير نفس المكره ، فإن كان ممن يتعلق به بحيث يكون ضرره ضررا على المكره ، كأن يقول ولده له : «طلّق زوجتك وإلّا قتلت نفسي» أو يقول له : «أعطني كمية خاصة من الفلوس لأسافر إلى الخارج لتحصيل العلم وإلّا قتلت نفسي أو أترك الصلاة أو أخرج عن الدين» أو «هاجر إلى البلد الفلاني للتوطن هناك وإلّا قتلت نفسي» وأشباه ذلك ، فالظاهر تحقق الإكراه في ذلك ، لأنّ قتل الولد نفسه ضرر على الوالد.

وإن كان ذلك الغير أجنبيا عن المكره ، كما إذا قال : «طلق زوجتك لأتزوّجها وإلّا زنيت بها» فإنّ تطبيق أدلة الإكراه هنا يوجب فساد الطلاق المستلزم للوقوع في الضرر وهو الزنا ، لأنّ فساد الطلاق للإكراه مستلزم لبطلان التزويج المترتب عليه ، فيقع المكره في الزنا ، وهو ضرر دينيّ مكروه للمكره ، فيكون خلافه محبوبا له ، وهو متوقف على الطلاق الصحيح ، فيصير الطلاق الصحيح محبوبا غيريّا ، هذا.

مضافا إلى الإشكال في صدق الإكراه ، لكون الضرر المتوعد به واردا على المكره لا المكره كما هو المفروض.

٢٦٧

أنّه لو رضي المكره (١) بما فعله صحّ العقد ، بل (٢) عن الرياض تبعا للحدائق «أنّ عليه اتفاقهم» (١) لأنّه (٣) عقد حقيقي ، فيؤثّر أثره مع اجتماع باقي شرائط البيع وهو طيب النفس (٤).

ودعوى اعتبار (٥) مقارنة طيب النفس للعقد ،

______________________________________________________

المامقاني قدس‌سره : «بل المشهور ذلك مطلقا ، في كثير من العبارات. بل ظاهر كثير من العبارات الاتفاق عليها» (٢).

(١) المراد به هو المالك المباشر للعقد ، كما تقدم أنّه الغالب ، لقلّة موارد تعدّد المالك والعاقد.

(٢) غرضه الإضراب عن مجرّد شهرة الحكم إلى كون الصحة معقد الإجماع.

(٣) هذا دليل المشهور وهو يتم بعد ما تقدّم من أنّ المكره قاصد لمدلول العقد ، وإلّا فهو مصادرة.

(٤) الحاصل بعد العقد ، وهو كاف في الصحة بعد عدم الدليل على اعتبار مقارنة طيب النفس للعقد ، بل مع وجود الدليل على عدمه ، فإنّ الإطلاقات تنفي الشكّ في اعتبار المقارنة ، وتثبت عدم اعتبارها.

(٥) هذا أوّل الوجوه المستدل بها على عدم إجداء لحوق الرضا بعقد المكره ، ومحصّله : أنّ شرط صحة العقد ليس مطلق وجود الرّضا قارن العقد أو لحقه ، بل هو خصوص الرضا المقارن للإنشاء ، على ما يستفاد من مثل «التجارة عن تراض» فلو كان طيب النفس مفقودا حال الإنشاء وقع العقد باطلا ، ولا سبيل لتصحيحه بالرضا اللاحق ، لعدم صدق «التجارة الناشئة عن تراض» عليه.

وهذا الوجه يمكن أن يستفاد من كلام المحقق الثاني قال قدس‌سره : «واعلم أنّ هذه

__________________

(١) الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٧٣ ، رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٥١١ والحاكي عنهما صاحب الجواهر ، فراجع جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٧.

(٢) غاية الآمال ص ٣٣٧.

٢٦٨

خالية (١) عن الشاهد مدفوعة بالإطلاقات.

وأضعف منها (٢) دعوى اعتبارها في مفهوم العقد ، اللازم منه عدم كون عقد الفضولي عقدا حقيقة.

______________________________________________________

المسألة ـ يعني صحة عقد المكره بلحوق الرضا ـ إن كانت إجماعية فلا بحث. وإلّا فللنظر فيها مجال ، لانتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرّضا ، ولا يتحقق العقد المشروط بالقصد إذا لم يتحقق الرضا ، لأنّ الظاهر من كون العقود بالقصود اعتبار القصد المقارن لها دون المتأخر» (١).

فإن أريد من اعتبار القصد المقارن معناه الظاهر ـ أي إرادة المضمون جدّا ـ كان هو الوجه الآتي. وإن أريد منه ما وجّهه المصنف قدس‌سره سابقا ـ من انتفاء الرضا وأنّ المكره قاصد للمدلول ـ كان هو الوجه الأوّل من وجود القصد وفقد الرضا المقارن.

وعلى كلّ منهما فقد نقل السيد العاملي وصاحب الجواهر وغيرهما إشكال جامع المقاصد على صحة عقد المكره بلحوق الرّضا.

وكيف كان فقد أجاب المصنف عن الوجه الأوّل : بعدم الدليل على اشتراط صحة العقد بالرضا المقارن ، بل مطلق الرضا ولو بعد العقد كاف في تأثيره ، ولو شك في اعتبار مقارنة هذا الشرط للإنشاء فمقتضى إطلاق حلّ البيع ووجوب الوفاء بالعقود نفي اعتبار المقارنة له.

(١) خبر قوله : «ودعوى» وقوله : «مدفوعة» خبر بعد خبر.

(٢) أي : من دعوى جماعة اعتبار مقارنة طيب النفس للعقد وهذا ثاني الوجوه المستدلّ بها على عدم فائدة لحوق الرضا بعقد المكره ، وهو ظاهر جماعة ، منهم الشهيدان ، وقد أشار إليه المصنف في صدر المسألة بقوله : «ثم إنّه يظهر من جماعة منهم الشهيدان أنّ المكره قاصد إلى اللفظ غير قاصد إلى مدلوله» فعدم طيب النفس

__________________

(١) مفتاح الكرامة ج ٤ ص ١٧٤ ، جواهر الكلام ج ٢٢ ص ٢٦٧ ، جامع المقاصد ج ٤ ص ٦٢.

٢٦٩

وأضعف من الكل دعوى (١)

______________________________________________________

يوجب انتفاء القصد الجدّي للمدلول ، فينتفي مفهوم العقد بانتفاء القصد ، ولا منشأ لانتفاء القصد إلّا الإكراه الرافع لطيب النفس.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أنّ المقصود في الوجه الأوّل التمسك بدليل اعتبار الرضا في العقود ، وأنّ مقتضى الاشتراط شرعا ـ بعد الفراغ من صدق العقد عرفا على إنشاء المكره ـ هو خصوص المقارنة ، لا مطلق وجود الرضا. بخلاف هذا الوجه الثاني ، فإنّ الغرض منه سلب عنوان العقد عن عقد المكره حقيقة ، لتقوّم العقد بالقصد المنفي بالإكراه كما هو المفروض.

وجعله المصنف أضعف من الوجه الأوّل ، وجه الأضعفيّة : أنّ العقد العرفي غير منوط بالطيب ، بل العقد العرفي ينشأ تارة عن طيب النفس ، وأخرى عن الكراهة. والشاهد على صدق العقد على الإنشاء المجرّد عن رضا المالك التزامهم بكون عقد الفضوليّ عقدا حقيقة ، وإنّما يتوقف تأثيره على إجازة المالك ، ولو لم يكن عقدا عرفيا ـ بأن كان كإنشاء الهازل ـ امتنع تأثيره بعد لحوق رضا المالك.

وعليه فمقارنة الرضا للإنشاء غير مقوّمة للعقد عرفا ، ولا شرطا له شرعا.

(١) هذا ثالث الوجوه ، ومحصّله : إسقاط عقد المكره عن الصحّة التأهّلية وجعله كالعدم ، من جهة اعتبار مقارنة رضا العاقد للإنشاء شرعا ، وحيث إنّ العاقد المكره فاقد له لم ينفعه لحوق الرضا. ولا فرق في البطلان بين كون المكره العاقد مالكا لأمر الإنشاء ـ كما هو الغالب ـ أم غير مالك له ، ولكنّه أكره على بيع مال الغير أو طلاق زوجة الغير ، على ما سبق تفصيله في (ص ٢٣٤) وردّه المصنف قدس‌سره بالنقض بصحة عقد المكره بحق ، ممّا يكشف عن عدم دخل رضا العاقد شرعا حين الإنشاء ، كما إذا أمر الحاكم الشرعيّ الزوج ببيع شي‌ء من أمواله لينفق على زوجته ، أو أمر المحتكر للطعام ببيعه ، أو أمر المديون المماطل في أداء الدين ببيع شي‌ء لإيفاء ثمنه في

٢٧٠

اعتبار طيب نفس العاقد (١) في تأثير عقده (٢) ، اللازم منه عدم صحة بيع المكره بحقّ ، وكون (٣) إكراهه على العقد تعبّديا لا لتأثير فيه.

ويؤيده (٤) فحوى صحة عقد الفضولي ، حيث إنّ المالك طيّب النفس

______________________________________________________

الدين أو أمر السيد الكافر ببيع عبده الذي أسلم ، فيصحّ البيع في هذه الموارد مع عدم طيب نفس العاقد.

فإمّا أن تكون الصحّة موافقة للقاعدة أي عدم اعتبار رضا العاقد في مقام تأثير الإنشاء ، وإمّا أن تكون تعبدا محضا ، بأن يحكم الشارع بالصحة مع فرض عدم تأثير العقد السابق الفاقد لطيب النفس ، ومن المعلوم بعد الالتزام بالتعبد ، فلا بدّ من القول بعدم دخل رضا العاقد شرعا ، هذا.

والوجه في كون هذا الوجه أضعف من سابقيه هو : أنّ مقارنة الرضا للعقد ـ لو قيل بها ـ فإنّما يراد بها رضا المالك ، لكونه مخاطبا بوجوب الوفاء ، وأمّا العاقد ـ الأجنبي عن المالك ـ فلا دخل لرضاه في تأثير العقد ، وإنّما يلزمه قصد المدلول ، والمفروض تحققه. وسيأتي تأييد المطلب ببيع الفضولي.

(١) يعني : بما هو عاقد : مع الغض عن كونه مالكا.

(٢) يعني : في صحة العقد شرعا ، فالدعوى الأولى راجعة إلى دخل طيب النفس في مفهوم العقد عرفا ، وهذه الدعوى ترجع إلى دخله في صحة العقد شرعا فقط ، يعني : يعتبر رضا العاقد ـ لا المالك ـ في تأثير العقد.

(٣) بالرفع معطوف على «عدم» يعني : أن اللازم من دخل اعتبار الطيب في تأثير العقد عدم صحة بيع المكره بحقّ ، وأنّ إكراهه على العقد إنما هو لأجل التعبد لا لصحته ، وهذا في غاية البعد.

(٤) يعني : ويؤيّد عدم اعتبار مقارنة الطيب للعقد : أنّ طيب نفس المالك المستكشف من إمضائه لإنشاء الفضولي يوجب صحة عقده ، فطيب نفس المالك

٢٧١

بوقوع أثر العقد وغير منشئ للنقل بكلامه (١). وإمضاء إنشاء الغير ليس إلّا طيب النفس بمضمونه ، وليس إنشاء مستأنفا.

مع (٢) أنّه لو كان فهو موجود هنا ، فلم (٣) يصدر من المالك هناك إلّا طيب النفس بانتقاله متأخرا عن إنشاء العقد ، وهذا (٤) موجود فيما نحن فيه مع زائد ،

______________________________________________________

المكره بما أنشأه يؤثّر في صحة عقده الواقع حين الإكراه بالأولوية ، لأنّه إذا أثر رضاه في إنشاء الفضولي الأجنبي كان تأثيره في إنشاء نفسه بطريق أولى.

وبعبارة أخرى : عقد الفضولي فاقد لأمرين ، وعقد المكره فاقد لأمر واحد ، فصحة عقد الفضولي تقتضي صحة عقد المكره بالأولوية القطعية.

فالأمران المفقودان في الفضولي أحدهما : إنشاء البيع من المالك بالمباشرة أو بالتسبيب بالاذن والوكالة. وثانيهما : طيب النفس حين العقد.

والمفقود في عقد المكره طيب النفس خاصة. فصحة عقد الفضولي بلحوق رضا المالك وإجازته تقتضي صحة عقد المكره بطيب نفسه بعد العقد بالأولوية.

(١) يعني : أنّ إجازة المالك الأصيل ليست إنشاء للنقل بقوله : «أجزت» حتى يتوهم مقارنته لطيب نفسه ، وإنّما هو تنفيذ للعقد السابق الذي أنشأه الفضولي مع الطرف الآخر.

(٢) يعني : مع أنّه لو كان إمضاء إنشاء الغير إنشاء مستأنفا فهو موجود هنا ، إذ المفروض إمضاؤه للعقد المكره عليه.

(٣) الفاء للتعليل ، وحاصله : أنّ الموجود في العقد الفضولي ـ وهو طيب نفس المالك متأخرا عن العقد ـ موجود هنا أي في عقد المكره مع شي‌ء زائد ، وهو إنشاء نفس المالك للنقل المدلول عليه بلفظ العقد ، لما تقدّم من أنّ عقد المكره عقد حقيقي.

(٤) أي : طيب النفس بالانتقال موجود في المكره وإن كان متأخرا عن العقد.

٢٧٢

وهو إنشاؤه للنقل المدلول عليه بلفظ العقد ، لما عرفت من أنّ عقده إنشاء حقيقي (١).

وتوهّم أنّ عقد الفضولي واجد لما هو مفقود هنا (٢) وهو طيب نفس العاقد بما ينشئه ، مدفوع (٣) بالقطع بأنّ طيب النفس لا أثر له لا في صدق العقدية ، إذ يكفي فيه مجرّد قصد الإنشاء المدلول عليه باللفظ المستعمل فيه ، ولا في النقل والانتقال ، لعدم مدخلية غير المالك فيه.

نعم (٤) لو صحّ ما ذكر سابقا (٥)

______________________________________________________

(١) لكونه قاصدا للمضمون وإن كان عن إكراه لا عن اختيار.

(٢) أي : في عقد المكره ، وحاصل التوهم : أن طيب نفس العاقد حين العقد موجود في عقد الفضولي ومفقود في عقد المكره حين إنشائه ، وهذا هو الفارق بين عقد الفضولي وعقد المكره.

(٣) خبر «توهم» وتوضيح الدفع : أنّ الفرق المزبور وإن كان مسلّما ، لكنّه غير فارق بين المقامين ، ضرورة أنّ هذا الطيب لا أثر له لا في توقف صدق مفهوم العقد العرفي عليه ، لكفاية مجرّد قصد الإنشاء المدلول عليه باللفظ المستعمل فيه ، ولا في أثره وهو النقل والانتقال ، إذ لا مدخلية لطيب غير المالك ، فيه.

(٤) غرضه توجيه بطلان عقد المكره رأسا ، من جهة أن تحميل الغير ينفي القصد الجدّي إلى المدلول ، فيكون إنشاؤه لفظا مجرّدا عن مضمونه ومعناه ، ولمّا كان قوام العقد بالقصد صحّ سلب العقد عن إنشاء المكره حقيقة ، ولا يبقى موضوع لتأثيره بلحوق الرّضا ، هذا.

وقد أبطله المصنف قدس‌سره سابقا في تحقيق كلام الشهيدين من القطع بفساده ، وأنّ المكره قاصد جدّا للمدلول وإن كان عن كره لا عن طيب نفس.

(٥) يعني في (ص ١٥٧) حيث قال : «ثم إنه يظهر من جماعة منهم الشهيدان : أنّ المكره قاصد إلى اللفظ ..».

٢٧٣

من توهم أنّ المكره لا قصد له إلى مدلول اللفظ أصلا ، وأنّه قاصد نفس اللفظ الذي هو بمعنى الصوت كما صرّح به بعض (١) صحّ (٢) أنّه لا يجدي تعقب الرضا ، إذ لا عقد حينئذ (٣). لكن عرفت (٤) سابقا أنّه خلاف المقطوع من النصوص والفتاوى ، فراجع.

فظهر مما ذكرنا ضعف وجه التأمل في المسألة كما عن الكفاية (٥) ومجمع الفائدة (٦) تبعا للمحقق الثاني في جامع المقاصد ،

______________________________________________________

(١) وهو صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال : «وقصد نفس اللفظ الذي هو بمعنى الصوت غير مجد ، كما أنّه لا يجدي في الصحة تعقب إرادة العقد بذلك ..» (١).

(٢) جواب الشرط في قوله : «لو صح».

(٣) أي : حين عدم كون المكره قاصدا للمدلول ـ وإنما يقصد اللفظ خاصة ـ لا عقد حتى يتم تأثيره بالرضا اللاحق.

(٤) يعني : في (ص ١٦١) حيث قال : «وهذا الذي ذكرنا لا يكاد يخفى على من له أدنى تأمّل في معنى الإكراه لغة وعرفا .. إلخ».

(٥) قال الفاضل السبزواري قدس‌سره فيها : «قالوا : ولو رضى كل منهم بما فعل بعد زوال عذره لم يصح ، عدا المكره ، استنادا إلى تعليلات اعتبارية من غير نص. فالمسألة محل إشكال» (٢).

(٦) قال في الاشكال على حكم العلامة قدس‌سرهما بصحة عقد المكره المتعقب بالرضا ما لفظه : «وبالجملة : لا إجماع فيه ولا نصّ ، والأصل والاستصحاب وعدم الأكل بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض ، وما مرّ يدلّ على عدم الانعقاد ، وهو ظاهر. إلّا أنّ المشهور الصحّة ، وما نعرف لها دليلا ، وهم أعرف رحمهم‌الله ، ولعلّ لهم نصّا

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٢٢ ص ٢٦٧.

(٢) كفاية الأحكام ، ص ٨٩ ، السطر ٣.

٢٧٤

وإن انتصر لهم بعض من تأخّر (١) عنهم بقوله تعالى «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» الدال (٢) على اعتبار كون العقد عن التراضي (٣).

مضافا إلى النبوي المشهور الدال على رفع حكم الإكراه مؤيّدا بالنقض بالهازل ، مع أنّهم لم يقولوا بصحته بعد لحوق الرضا.

______________________________________________________

ما نقل إلينا» (١). وهذه العبارة ظاهرة في ترجيح البطلان ، لا مجرّد التأمل في الصحة كما نسبه الماتن إليه.

(١) لم أظفر بهذا المنتصر المستدل بالآية المباركة وبحديث رفع الإكراه وبالنقض بالهازل ، نعم انتصر صاحب الجواهر قدس‌سره للبطلان بحديث رفع الإكراه وبالنقض بالهازل ، كما ذكر هذا النقض في مفتاح الكرامة (٢). وأما الاستدلال بآية التجارة عن تراض فموجود في عبارة المحقق الأردبيلي المتقدمة.

وكيف كان فالدليل الأوّل هو ظهور الآية المباركة في اعتبار مقارنة الرضا للتجارة ، وهي مفقودة في عقد المكره حسب الفرض.

والدليل الثاني هو حديث رفع الإكراه ، الظاهر في سقوط العقد الإكراهي عن التأثير ، فلا يجديه الرضا اللاحق ، لعدم انقلاب الشي‌ء عمّا وقع عليه ، والمفروض كون عقده بمنزلة العدم ، وليس مقتضيا للتأثير حتى يتم تأثيره بلحوق الرضا.

والمؤيّد هو النقض بالهازل وشبهه ، حيث إنّه لا يقصد المدلول ، فلا يصحّ إنشاؤه بتعقبه بالإرادة الجدية ، إذ لا عقد حقيقة عند انتفاء القصد. ولو صحّ عقد المكره بتعقبه بالرضا لزم صحة عقد الهازل أيضا بتعقبه بالقصد الجدّي ، مع أنّهم لم يلتزموا بصحته أصلا ، فلا بدّ أن يقال بالبطلان في المكره أيضا ، لوحدة المناط.

(٢) بالجر صفة ل «قوله تعالى».

(٣) والمفروض انتفاء «التجارة عن تراض» في عقد المكره ، لوجود الإكراه

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٥٦.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٨ ، مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٧٤.

٢٧٥

والكلّ كما (١) ترى ، لأنّ (٢) دلالة الآية على اعتبار وقوع العقد عن التراضي إمّا بمفهوم الحصر وإمّا بمفهوم الوصف.

ولا حصر كما لا يخفى ، لأنّ الاستثناء منقطع (٣) غير مفرّغ.

______________________________________________________

المانع عن تحقق الرضا وطيب النفس ، والرضا اللاحق لا يجعل العقد السابق من «التجارة عن تراض» لأنّ مقتضى كلمة المجاوزة هو كون الرضا موجودا حين العقد بحيث تكون التجارة ناشئة عنه.

(١) وهي الآية والنبوي والتأييد بالنقض بالهازل.

(٢) حاصله : أنّ الاستدلال بالآية الشريفة على بطلان عقد المكره منوط بدلالتها على حصر السبب المشروع لتملك أموال الناس بالتجارة عن تراض ، ودلالتها على الحصر لا بدّ أن تكون بأحد وجهين : إمّا مفهوم الحصر ، وإمّا مفهوم الوصف ، وكلاهما غير ثابت.

أمّا الأوّل فلتوقفه على أن يكون الاستثناء متصلا ، بأن يكون المستثنى من أفراد المستثنى منه ، إمّا بذكره في الكلام كقوله : «ما جاء القوم إلّا زيدا» فإنّه يدلّ على انحصار عدم المجي‌ء في غير زيد. وانحصاره في زيد وإمّا بكون الاستثناء مفرّغا حذف المستثنى منه من الكلام ، ويقدّر ما يشمل المستثنى كقوله : «ما جاء إلّا زيد» فيقدّر مثلا «القوم» الشامل لزيد ، فيدل الاستثناء على حصر الجائي في زيد.

وأما الثاني ـ وهو مفهوم الوصف ـ فتقريبه : أنّ وصف التراضي المأخوذ في الآية المباركة ظاهر في إناطة جواز الأكل بالتجارة الموصوفة برضا المتعاقدين بها ، وحيث إنّ المكره غير راض حال العقد لم يحلّ أكل ماله المأخوذ بالتجارة عن كراهة ، سواء رضي بعد العقد أم لم يرض أصلا. وسيأتي المناقشة في كلا المفهومين.

(٣) هذا تقريب عدم دلالة الاستثناء على الحصر ، وحاصله : أنّ الاستثناء منقطع لا متّصل ، لأنّه استثناء من الباطل ، ومن المعلوم أنّه لا يصلح لأن يكون مستثنى منه للتجارة عن تراض إذ معناه حينئذ «لا تتملّكوا أموال الناس بالباطل

٢٧٦

ومفهوم (١) الوصف ـ على القول به مقيّد بعدم ورود الوصف مورد الغالب كما في (رَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ).

______________________________________________________

إلّا أن يكون ذلك الباطل تجارة عن تراض» وهذا المعنى غير صحيح.

وظاهر كلامه قدس‌سره دخل كلّ من القيدين في منع الحصر ، فلو كان الاستثناء متصلا أفاد الحصر ، كما أنّ المنقطع لو كان مفرّغا أفاد الحصر ، فهنا دعويان :

إحداهما : أنّ الاستثناء المنقطع غير المفرّغ لا يفيد الحصر كما في المقام ، لأنّ المستثنى ليس من جنس المستثنى منه حتى يكون خروجه عنه مفيدا للحصر.

والأخرى : أنّ الاستثناء المنقطع المفرّغ يفيد الحصر ، لأنّ ترك المستثنى منه في الكلام إنّما يكون مع العلم به ، ولشموله للمستثنى ، فيصير المراد من قوله : «ما جاءني إلّا حمار» نفي المجي‌ء عن كل ما هو صالح للمجي‌ء ، فإذا ثبت المجي‌ء للمستثنى وهو الحمار أفاد حصر المجي‌ء ـ من بين ما هو صالح للمجي‌ء ـ في الحمار.

لكن فيه : أنّ هذا التقريب يجعل الاستثناء متصلا ، ويدرج المستثنى تحت المستثنى منه.

(١) منصوب بالعطف على «الاستثناء» وغرضه منع الحصر المستفاد من الوصف على القول بالمفهوم فيه.

وبيانه : أنّ الوصف المذكور في المنطوق يكون تارة غالبيا ، كما في تحريم الربائب الموصوفة بكونها في حجور أزواج أمّهاتهن ، إذ الغالب مصاحبة البنت لأمّها المتزوجة وعدم المفارقة بينهما. وأخرى لا يكون غالبيا ، وإنّما يوصف به بعض أفراد الموصوف ، كما إذا قال : «أكرم الشعراء العدول».

وقد تقرّر في الأصول أنّ انعقاد الظهور المفهومي في الوصف مخصوص بالثاني ، وأمّا الوصف الغالبي فلا مفهوم له ، ولذا حكموا بحرمة الربيبة مطلقا سواء أكانت في حجر زوج الأمّ أم لم تكن.

٢٧٧

ودعوى وقوعه (١) هنا مقام الاحتراز ممنوعة ، وسيجي‌ء زيادة توضيح لعدم دلالة الآية على اعتبار سبق التراضي في بيع الفضولي (٢).

وأمّا حديث الرفع ، ففيه (٣) أولا : أنّ المرفوع فيه

______________________________________________________

ومن المعلوم أنّ وصف التراضي في الآية المباركة ناظر إلى غالب التجارات المنشئة خارجا ، حيث تكون مقترنة برضا المتعاقدين ، ولا مفهوم لها حتى تدل على بطلان عقد المكره الفاقد للرضا حال التجارة ، كما لا مفهوم في آية حرمة الربائب بالنسبة إلى من لم تكن منهن في الحجر. هذا توضيح مناقشة المصنف في الاستناد إلى الآية لإسقاط عقد المكره المتعقب بالرضا عن التأثير.

(١) أي : وقوع الوصف مقام الاحتراز ، والوجه في منع كون الوصف احترازيا ما أفاده في بيع الفضولي ـ وسيأتي توضيحه ثمة ـ من ورود الوصف مورد الغالب ، ومن احتمال كون «عَنْ تَراضٍ» خبرا بعد خبر ، ومن أن الخطاب للمالك ، ورضاه اللاحق يوجب اتصاف تجارته بالتراض ، فهو موضوع للمنطوق لا للمفهوم.

(٢) حيث قال هناك : «إنّ دلالته على الحصر ممنوعة ، لانقطاع الاستثناء كما هو ظاهر اللفظ .. إلخ» فراجع (ص ٤٧٤).

(٣) يعني : أنّ التمسك بحديث الرفع لبطلان عقد المكره حتى بعد لحوق الرضا مخدوش أيضا ـ كالاستدلال بالآية ـ بوجهين.

توضيح الوجه الأوّل : أنّ حديث رفع الإكراه يرفع المؤاخذة والأحكام الإلزامية ، كما إذا أكره على ارتكاب محرّم ، فإنّ الحديث يرفع حرمته كشرب الخمر ، وأمّا الحكم بوقوف عقده على رضاه فلا يرفعه الحديث ، لأنّه راجع إلى أنّ له أن يرضى بالبيع الصادر عنه إكراها ، وهذا حقّ له عليه حتى يرتفع بحديث الرفع الوارد في مقام الامتنان.

وبعبارة أخرى : الدليل أجنبي عن المدّعى ، إذ المقصود نفي الأثر ـ كالنقل

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والانتقال المترتب على بيع المختار ـ عن بيع المكره المتعقب برضاه ، والحديث غير واف به ، وذلك لما تقرّر في الأصول من أمرين :

أحدهما : كون المرفوع المقدّر هو المؤاخذة على الإكراه ، ونحوه ممّا ورد في حديث الرفع.

وثانيهما : ورود الحديث مورد الامتنان على الأمّة وعلى آحاد المكلّفين.

فبناء على هذين الأمرين يقتضي «رفع الإكراه أو ما أكرهوا عليه» عدم مخاطبة المكره بترتيب الأثر على عقده ، وعدم وجوب الوفاء به بتسليم المبيع مثلا إلى المشتري. وأمّا ثبوت حقّ للمكره بعد العقد بأن يقال له : «يجوز لك إنفاذ ذلك العقد ليترتب عليه الأثر كما يجوز لك عدم الرضا به كي لا يجب عليك الوفاء به» فهو ليس حكما إلزاميا على المكره حتى يرتفع بالحديث ، بل هو حق له ينتفع به ومن المعلوم اختصاص الحديث برفع ما فيه ثقل ومشقة ، لا السلطنة على الردّ والإمضاء.

فإن قلت : عقد المكره وإن لم يكن موضوعا لأثر إلزامي بالنسبة إلى نفسه ، إلّا أنّه موضوع له بالنسبة إلى الطرف الآخر ، مثلا لو أكره زيد على بيع داره ، فباعها ، فلو قلنا بقابلية عقد المكره للصحّة بلحوق الرضا لزم على المشتري الصبر إلى أن يختار المكره الردّ أو الإمضاء ، والوجه في وجوب الصبر عليه مخاطبته بوجوب الوفاء بعقده ، لتمامية العقد بالنسبة إليه ، فيحرم من التصرف في الثمن مدّة إلى أن يختار المكره أحد الأمرين من الفسخ والإنفاذ ، ومن المعلوم أنّ وجوب الصبر على الطرف مؤاخذة عليه ، فترتفع بالحديث ، ومعه لا يبقى موضوع لحق المكره من سلطنته على الإجازة والردّ.

قلت : لا مجال للتمسّك بالحديث لرفع وجوب الانتظار عن الطرف ، فالعقد لازم من جهته ، وعليه الصبر ، وذلك لأنّ الحديث رافع للمؤاخذة عن المكره ، لا عن

٢٧٩

هي المؤاخذة (١) ، والأحكام (٢) المتضمنة لمؤاخذة المكره (٣) وإلزامه (٤) بشي‌ء. والحكم (٥) بوقوف عقده على رضاه راجع إلى أنّ له أن يرضى بذلك (٦) ، وهذا (٧) حقّ له لا عليه (٨).

نعم (٩) قد يلزم الطرف الآخر بعدم الفسخ حتى يرضى المكره أو يفسخ ، وهذا (١٠) إلزام لغيره ، والحديث لا يرفع المؤاخذة والإلزام عن غير المكره

______________________________________________________

المختار ، فوجوب الوفاء بالعقد جار في حقه وإن لم يجر في حق المكره ببركة حديث الرفع ، ولا مانع من التفكيك في حكم عقد شخصي بين طرفيه ، هذا محصّل ما أفاده المصنف في الوجه الأوّل ، وإن بقي دفع توهم آخر سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : أنّ المقدّر هو المؤاخذة ، كما تكرر ذلك في كلمات المصنف ، وقد تقدم منه أيضا في حديث رفع القلم عن الصبي ، فراجع.

(٢) معطوف على «المؤاخذة» يعني : أن المرفوع هو الأحكام الإلزامية ، فإنّها هي التي يترتب عليها استحقاق المؤاخذة الدنيوية أو الأخروية.

(٣) كسببية العقد للنقل ، فهي مرفوعة عن المكره.

(٤) معطوف على «المؤاخذة» يعني : أنّ المرفوع في الحديث هو إلزامه بشي‌ء.

(٥) يعني : والحال أنّ الحكم بتوقف عقد المكره على رضاه المتعقب معناه إثبات سلطنة له ، وهي ضد المؤاخذة ، والحديث رافع لما على المكلف ، لا لما له.

(٦) أي : بعقده الذي أنشأه حال الكراهة.

(٧) أي : وقوف عقده على رضاه حق لنفع المكره لا على ضرره.

(٨) يعني : فلا يرفعه الحديث ، لأنّه بمقتضى كونه امتنانيا يرفع ما عليه لا ما له.

(٩) هذا استدراك على ما أفاده من عدم جريان الحديث لنفي سلطنة المكره على الفسخ والردّ ، وقد تقدم توضيحه آنفا بقولنا : «فان قلت».

(١٠) أي : وإلزام الطرف بالوفاء والصبر إلزام لغير المكره ، وهذا الغير ليس

٢٨٠