هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ قصد المعنى. وأمّا إذا احتمل عدم القصد حتى مع عدم الغفلة فلا مسرح لأصالة القصد. والأمر في المقام من هذا القبيل ، فلا يجدي أصالة القصد (*).

__________________

(*) الجهة السابعة ما أشار إليه بقوله : «واعلم أنّ الإكراه قد يتعلق بالمالك» وتوضيحه : أنّ الإكراه قد يتعلّق بالمالك العاقد ، ولعلّه الغالب ، وقد يتعلّق بالمالك دون العاقد ، وقد يتعلق بالعاقد دون المالك ، فللمسألة ثلاث صور :

أمّا الأولى فقد تقدّم الكلام فيها ، وأنّ حكمها بطلان العقد الإكراهي لحديث الرفع.

وأمّا الثانية كالإكراه على التوكيل بطلاق زوجته ، وطلّق الوكيل من غير إكراه ، فلا إشكال في عدم وقوع الطلاق عن الزوج ، لعدم استناده إليه بعد كون التوكيل كالعدم ، لتحققه عن الإكراه وعدم رضا الموكل.

وعليه فصحته منوطة بإجازة الزوج بناء على صحة الإيقاعات الفضولية بالإجازة ، وإلّا فلا.

والحاصل : أنّ طيب نفس الوكيل بالطلاق مع كون توكيله إكراهيّا لا يكفي في صحة الطلاق.

وأما الثلاثة ـ وهي إكراه العاقد ـ فقد ذكر فيها المصنف قدس‌سره : «انّ الأقوى هنا الصحة ، لأنّ العقد هنا من حيث إنه عقد لا يعتبر فيه سوى القصد الموجود في المكره إذا كان عاقدا ، والرضا المعتبر من المالك موجود بالفرض ، فهذا أولى من المالك المكره على العقد إذا رضي لاحقا».

لكن التحقيق أنّ هنا صورا :

الصورة الأولى : أن يكون الإكراه من المالك ، وكان العاقد مكرها في إنشائه ،

٢٤١

.................................................................................................

__________________

والظاهر عدم الإشكال في صحة العقد في هذه الصورة ، لصدق التجارة عن تراض من المالكين عليه ، والعاقد أجنبي عن مالكي العوضين ، فلا أثر لرضاه ، إذ المفروض كون العاقد غير المالك ، فإكراهه لا يؤثر في فساد المعاملة.

وتوهم دلالة حديث الرفع على بطلان هذا العقد لمكان الإكراه ، فاسد ، إذ لا أثر لفعل المكره بالنسبة إلى نفسه حتى يرفعه حديث الرفع ، فإضافة العقد إليه إنما هي بلحاظ المعنى المصدري ، وإلّا فلا إضافة للعقد إليه أصلا. فلا بدّ من إضافته إلى المالك ، والمفروض عدم قصور في إضافته إليه ، واقتران العقد برضاه ، فهذا العقد جامع لشرائط الصحة. هذا بالنسبة إلى العاقد.

وأمّا بالنسبة إلى المالك فجريان الحديث في حقه ورفع الأثر بالإضافة إليه خلاف الامتنان.

الصورة الثانية : أن يكون الإكراه من غير المالك لغير وكيله ، كما إذا أكره زيد عمرا على بيع مال بكر ، أو طلاق زوجته ، فإنّ العقد حينئذ فضولي يتوقف صحته على إجازة مالكه ، وهو بكر في المثال ، ووجهه ظاهر.

الصورة الثالثة : أن يكون الإكراه من غير المالك لمن يكون وكيلا مفوّضا من قبل المالك ، كما إذا كان زيد مالكا وعمرو وكيلا له ، وأكره بكر عمرا على بيع مال زيد. وصحة المعاملة في هذه الصورة منوطة برضا المالك ، فإن أحرز ذلك فلا إشكال في الصحة ، إذ المدار في الصحة طيب نفس المالك. وإن لم يحرز ذلك ، فالظاهر بطلانها ، لأنّ المفروض صدور العقد عن الوكيل بغير الرضا ، فلا كاشف عن رضا المالك بالعقد حتى يستند إليه.

نعم إذا علم من الخارج رضا المالك بالعقد حكم بصحة العقد وإن أنشأه الوكيل عن كره وذلك لأنّ رضا الوكيل قد اعتبر بما أنّه طريق إلى استكشاف رضا المالك من

٢٤٢

فرع (١) [فروع] :

لو أكرهه على بيع واحد غير معيّن من عبدين ، فباعهما ، أو باع نصف

______________________________________________________

الإكراه على بيع عبد من عبدين مبهما

(١) كذا في بعض النسخ ، ولكن في النسخة المصححة التي بأيدينا وغيرها «فروع» بصيغة الجمع ، ولعلّ مراده الجمع المنطقي ، أو الفروع الثلاثة ، بجعل قوله : «أو باع نصف أحدهما» فرعا آخر منضما إلى قوله : «لو أكرهه على بيع واحد غير معيّن» وإلى قوله الذي ذكر فيه الفرع الثاني ـ وهو : «ولو أكرهه على بيع معيّن فضمّ إليه غيره وباعهما دفعة .. إلخ» ويمكن أن يشتبه الناسخ في كتابة لفظ الجمع ، والله العالم.

والغرض من التعرض للفرعين المنقولين عن التذكرة هو بيان أنّ ما يقع في الخارج ـ بعد الإكراه ـ على أنحاء ، فتارة يكون نفس ما أكره عليه ، كما لو أكرهه على بيع داره فباعها ، وأخرى مغايرا له ، وهو إما مباين له تماما ، كما إذا أكرهه على بيع داره فباع بستانه أو طلّق زوجته ، وإمّا موافق له مع زيادة عليه ، وإما مع نقيصة عما أكره عليه ، وستظهر أحكامها.

ولا يخفى أنّه تقدم بعض صور المسألتين فيما عنونه بقوله (في ص ٢١٤) : «أما لو كانا عقدين أو إيقاعين ، كما لو أكره على طلاق إحدى زوجتيه .. إلخ» فراجع ، ولكنّه لم يستقص صور المسألة هناك.

وكيف كان فلو أكرهه الجائر على بيع واحد غير معين من عبدين ، فإن باع كذلك ، بأن قال : «بعت أحد عبديّ هذين» من دون قصد بيع أحدهما بالخصوص

__________________

جهة توكيله ، فلو علم برضا الموكل مع صدور العقد عن الوكيل كرها حكم بصحته.

ومن هنا ظهر عدم صحة قياس ما نحن فيه بالمجنون ، وذلك لأنّ المجنون مسلوب العبارة ، فلا أثر لعقده ، بل عقده ليس بعقد حقيقة ، بخلاف المكره فإنّه ليس بمسلوب العبارة.

٢٤٣

أحدهما ، ففي (١) التذكرة إشكال (٢).

أقول : أمّا بيع العبدين ، فإن كان تدريجا فالظاهر وقوع الأوّل مكرها (٣)

______________________________________________________

كان باطلا ، لمطابقة ما أنشئ لما أكره عليه.

وإن خالف المكره ما أكره عليه ، بأن باع كليهما ، أو باع نصف أحدهما ، ففصّل المصنف قدس‌سره بين المسألتين ، وسيأتي حكم بيع النصف ، فالكلام فعلا في بيعهما ، وله صورتان :

إحداهما : بيعهما تدريجا ، بأن يبيع أحدهما المعيّن ، ثم يبيع الآخر بعد ساعة مثلا.

والأخرى : بيعهما دفعة ، بأن يقول : «بعت هذين العبدين بكذا».

فإن باعهما تدريجا فالظاهر بطلان بيع السابق ، لكونه مكرها عليه ، وصحة بيع اللّاحق ، لكونه مختارا في بيعه ، لتحقق غرض المكره ببيع السابق.

ويحتمل الرجوع إلى المكره في تعيين أنّ أيّ البيعين كان بداعي دفع الضرر المتوعّد به ، فيبطل ويصحّ الآخر. فلا يتعيّن السابق للبطلان.

وإن باعهما دفعة كان كل من صحة بيع كليهما وفساده محتملا ، أمّا احتمال الصحة فلأنّ ما أنشئ ـ وهو بيع العبدين ـ مخالف لما أكره عليه وهو بيع أحدهما مبهما ، فلم يتعلق الإكراه ببيعهما معا.

وأمّا احتمال الفساد ، فلأنّ بيعهما معا وإن لم يكن مكرها عليه ، إلّا أنّ بيع أحدهما ناش عن الإكراه ، ولمّا لم يتعيّن ذاك المكره عليه من البيعين ، فلا بدّ من الحكم ببطلانهما معا ، إذ لا مرجّح لأحدهما حتّى يتعيّن كونه المكره عليه. كما لا مجال لصحتهما معا ، بعد وجود المكره عليه بين البيعين.

هذا كله لو باعهما معا وأمّا لو باع نصف أحدهما فسيأتي الكلام فيه.

(١) جواب الشرط في قوله : «لو أكرهه» والفاء في «فباعهما» عاطفة على «أكرهه» لا جوابية.

(٢) قال العلّامة قدس‌سره : «لو أكرهه على بيع عبد فباع اثنين أو نصفه فإشكال» (١).

(٣) لأنّه دافع للضرر المتوعد به ، فالبيع الثاني يقع عن الرضا ، فيصح.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢ ، السطر ٣٧.

٢٤٤

دون الثاني ، مع احتمال الرجوع إليه في التعيين (١) سواء ادّعى العكس (٢) أم لا.

ولو باعهما دفعة احتمل صحة الجميع ، لأنّه (٣) خلاف المكره عليه ، والظاهر (٤) أنّه لم يقع شي‌ء منهما عن إكراه.

وبطلان (٥) الجميع ، لوقوع أحدهما مكرها عليه ، ولا ترجيح.

والأوّل (٦) أقوى.

ولو أكره (٧) على بيع معيّن ، فضمّ إليه غيره وباعهما دفعة ،

______________________________________________________

(١) لأنّه أعرف بقصده ، لاحتمال وقوع البيع الأوّل عن الرضا ، وإيقاع الثاني لدفع ضرر المكره. ويحتمل العكس. وحيث إنّه لا يعرف أحدهما إلّا من قبله لزم الرجوع إليه في التعيين ، فيتّبع قوله.

(٢) أي : وقوع الثاني مكرها عليه ، ووقوع الأوّل عن الرّضا.

(٣) أي : لأنّ بيع الجميع خلاف المكره عليه ، حيث إنّ المكره عليه بيع واحد منهما.

(٤) كذا في نسخ الكتاب والظاهر أولوية تبديل الواو بالفاء ، لأنّه كالمتفرع على قوله : «لأنّه خلاف المكره عليه» إذ بعد فرض عدم كون بيعهما معا مكرها عليه فالظاهر أنّه لم يقع شي‌ء منهما بداعي خوف الضرر المتوعد به من المكره حتى يبطل.

(٥) بالرفع ، معطوف على قوله : «صحة الجميع» ووجهه وقوع أحدهما مكرها عليه ، لكن لمّا لم يكن لتعيينه مرجّح ، وكان ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح فلا بدّ من القول ببطلان الجميع ، هذا.

لكن فيه : أنه يمكن تعيينه بالقرعة ، فلا يلزم الترجيح بلا مرجح ، فتأمل.

(٦) وهو صحّة بيعهما معا دفعة ، لما مر آنفا من عدم كون بيعهما معا مكرها عليه.

(٧) هذا هو الفرع الثاني من الفرعين المذكورين هنا ، ولعلّهما أريدا من كلمة

٢٤٥

فالأقوى (١) الصحة في غير ما أكره عليه (٢).

وأمّا (٣) مسألة النصف ، فإن باع النصف بقصد بيع النصف الآخر امتثالا

______________________________________________________

«الفروع». ومثاله الإكراه على بيع عبد معيّن ، فضمّ إليه المكره عبدا آخر وباعهما معا دفعة ، لا تدريجا ، فيصح بيع الضميمة ، ويبطل بيع المكره عليه ، لأنّ ما وقع ـ وهو بيع العبدين ـ مخالف لما أكره عليه وهو بيع عبد معيّن.

وعنون الشهيد الثاني هذا الفرع في طلاق المكره فيما لو أكرهه على طلاق زوجة معيّنة كزينب ، فطلّقها مع فاطمة ، وفصّل قدس‌سره بين طلاقهما بإنشاء واحد فيصح ، لأنّ ما وقع مغاير لما أكره عليه ، وبين طلاقهما مستقلّا ، بأن يقول : زينب طالق وفاطمة طالق «طلّقت فاطمة ولم تطلّق زينب ، لأنه مكره عليها بخلاف الأخرى» (١).

لكن المصنف حكم ببطلان بيع المكره عليه وصحة ما عداه ، وفاقا لما في المقابس سواء أكان الإنشاء واحدا أم متعددا (٢).

(١) جواب قوله «ولو أكره» ولا يخفى أنّ وجه الصحة الذي أفاده بقوله : «لأنّه خلاف المكره عليه» جار فيما إذا باعهما دفعة مع كون المكره عليه بيع أحدهما المعيّن.

(٢) بل مقتضى الوجه المتقدم وهو قوله : «لأنّه خلاف المكره عليه» صحتهما معا ، لأنّ بيعهما دفعة ليس مما أكره عليه ، فلا وجه لبطلان المعيّن المكره عليه ، بل كلاهما بمقتضى الوجه المزبور محكوم بالصحة.

(٣) هذه تتمة للمسألة الأولى المتقدمة في كلام العلّامة ، والغرض منها بيان مخالفة ما أنشأه المكره لما أمر به المكره ، بأن يأمره ببيع عبد فيبيع عبدين ، أو يبيع نصف عبد. وتقدّم الكلام في بيع عبدين ، ويقع في بيع النصف.

وحكم المصنف قدس‌سره بفساده ، سواء أكان داعيه امتثال أمر المكره ، فباع نصف

__________________

(١) مسالك الافهام ج ٩ ص ٢١.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ١٥ ، السطر ٢١.

٢٤٦

للمكره ـ بناء على شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين (١) ـ فلا إشكال في وقوعه مكرها عليه (٢). وإن كان (٣) لرجاء أن يقنع المكره بالنصف كان أيضا إكراها. لكن في سماع (٤) دعوى البائع ذلك (٥)

______________________________________________________

العبد في هذا اليوم ، ونصفه الآخر غدا ، لصدق الإكراه على بيع العبد تدريجا في دفعتين. أم كان داعيه رجاء قناعة المكره ببيع نصف العبد ، وتنازله عمّا أمر به من بيع عبد واحد من عبيده ، والوجه في البطلان استناد بيع النصف إلى تحميل الغير وتوعيده. هذا بالنسبة إلى الحكم الواقعي وهو فساد البيع.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الظاهري لو ترافع المشتري للنصف إلى الحاكم الشرعي ، فهل يحكم ببطلان بيع النصف للإكراه ، أم بالصحة؟ وجهان ، سيأتي بيانهما.

(١) بأن يقال : إنّ إطلاق كلام المكره يشمل بيع العبد دفعة ودفعتين.

(٢) يعني : فيقع البيع باطلا ، لكونه مكرها عليه ، بناء على الإطلاق المزبور.

(٣) هذا عدل قوله : «فان باع النصف» وسوق البيان يقتضي أن يقال : «وإن باعه برجاء .. إلخ» وحاصله : أنّه إن باع النصف لا بقصد أن يبيع النصف الآخر امتثالا لأمر المكره ، بل برجاء أن يكتفي الآمر المكره بما باعه من النصف كان البيع أيضا عن إكراه ، فلا فرق في صدق الإكراه على بيع النصف بين الصورتين ، وهما قصد بيع النصف الآخر امتثالا لأمر المكره ، وعدم قصد بيع النصف الآخر برجاء قناعة المكره ببيع النصف.

(٤) خبر مقدم ، والمبتدأ مؤخر وهو قوله : «نظر».

(٥) منصوب محلّا على المفعولية «دعوى» والمشار إليه هو قصد بيع النصف لرجاء رضا المكره بذلك ، مع عدم أمارة على هذه الدعوى.

٢٤٧

مع عدم الأمارات نظر (١) (*).

______________________________________________________

(١) ناش من كونه ممّا لا يعلم إلّا من قبله ، فلا بدّ من سماع دعواه ، ومن كون الظاهر وقوع البيع بالاختيار فلا تسمع دعواه. ولعلّ الأظهر الأوّل ، لأنّ الإكراه صالح للقرينية على صرف الظهور المذكور.

__________________

(١) الجهة الثامنة ما تعرض له المصنف قدس‌سره بقوله : فرع ولو أكرهه على بيع عبد من عبدين .. إلخ.

لا يخفى أن ما يقع في الخارج إن كان عين ما أكره عليه كما إذا أكرهه على بيع داره فباعها ، أو على شرب الخمر فشربها ، فلا إشكال في ارتفاع أثره تكليفيا كان أم وضعيّا ، لأنّه وقع عن أمر المكره بداعي دفع ضرره كما تقدم سابقا.

وإن كان مغايرا للمكره عليه ، ففيه صور ، إحداها : أن يكون مباينا للمكره عليه.

ثانيتها : أن يكون أكثر منه.

ثالثتها : أن يكون أقل منه.

أمّا الصورة الأولى فلا ينبغي الإشكال في صحة العقد فيها ، لعدم وقوعه عن أمر المكره حتى يصدق عليه أنّه مكره عليه كي يبطل ، فإذا أكره على بيع كتابه فباع داره كان البيع صحيحا ، لأنه غير المكره عليه ، فلا يشمله حديث الرفع وغيره مما يدلّ على بطلان العقد الإكراهي.

نعم إذا باع داره لاحتمال أن يقنع المكره به ، ويرفع اليد عن إكراهه كان باطلا ، لفقدان طيب النفس ، ووقوع البيع عن اضطرار ، هذا.

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي كون ما وقع في الخارج أكثر من المكره عليه ـ فهي تتصور على وجهين : أحدهما أن يقع تدريجيا ، والآخر أن يقع دفعيا.

أمّا الوجه الأوّل كما إذا أكره على بيع أحد عبديه ، فباع أحدهما ، ثم باع الآخر ،

٢٤٨

.................................................................................................

__________________

فلا شبهة في بطلان البيع الأوّل فيه ، لأنّ المكره عليه ـ وهو عنوان أحدهما ـ ينطبق عليه قهرا ، فيشمله حديث الرفع وغيره ممّا يدل على بطلان البيع المكره عليه.

وأمّا البيع الثاني فيحكم بصحته قطعا ، لسقوط الإكراه بالبيع الأوّل ، فلا يبقى إكراه حتى يدعو إلى البيع الثاني ويبعث عليه ، فلا وجه لفساده.

لكن المصنف قدس‌سره احتمل أنّه يرجع إلى البائع في تعيين المكره عليه ، ويتبع قوله ، فإذا قال : «أريد تطبيق المكره عليه على العقد الثاني» حكم بفساده ، وصحة البيع الأول.

لكن فيه : أن انطباق الإكراه على الأول دون الثاني واقعي قهري ، لا أنّه باختياره ، ضرورة ارتفاع الإكراه بالبيع الأوّل ، فلا يبقى له موضوع حتى يطبّقه البائع عليه ، فالبيع الثاني يقع لا محالة عن غيره كره. لا أنّه يحتمل وقوع الثاني حتى يرجع إلى البائع في التعيين.

وهذا نظير أمر الشارع بشي‌ء بنحو صرف الوجود ، فإنه لانطباقه على أوّل الوجود يسقط الأمر ، ولا يبقى أمر بالنسبة إلى سائر الوجودات.

إلّا أن يقال : إنّ الأمر هناك متعلق بالطبيعة المتحققة بصرف الوجود قهرا ، ولذا يسقط بمجرد انطباق الطبيعة على أوّل الوجود. وهذا بخلاف عنوان «أحدهما» في الإكراه ، لأن أمر تطبيق أحدهما هنا بيد المكره ، حيث إنّ دفع الضرر المتوعد به بأيّ فرد من الفردين إنما هو بيد المكره ، ضرورة أنّ له دفعه بكل فرد من الفردين شاء ، فإنّ الطيب والكراهة النفسانية ممّا لا يعلم إلّا من قبل البائع المكره ، فاحتمال الرجوع إليه في التعيين كما في المتن قوي ، والله العالم.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو بيعهما دفعة ، كما إذا باع العبدين بإنشاء واحد ، فإن كان بيعهما كذلك لرغبته في بيعهما ، فبإكراه الجائر على بيع أحدهما اغتنم الفرصة ، فباعهما.

أو كان بيعهما لغرض آخر زائد على الإكراه ، كسهولة بيعهما معا بالإضافة إلى بيع

٢٤٩

.................................................................................................

__________________

أحدهما منفردا أو لصعوبة التفرقة بينهما ، لكونهما والدا وولدا ، أو لعدم وجود من يشتري أحدهما منفردا ، أو غير ذلك من الأغراض الداعية إلى بيعهما ، مع كون المكره عليه بيع أحدهما ـ فحينئذ وإن كان بيع كل منهما مكروها له ، قد دعا إليه وحمله عليه أمر المكره.

لكن لمّا كان الشرط في تحقق الإكراه الرافع لأثر المعاملة ترتب الضرر على ترك المكره عليه ، وهذا المعنى لا ينطبق على كل منهما في عرض انطباقه على الآخر ، بل ينطبق على كلّ واحد على البدل ، فيكون أحدهما مكرها عليه دون الآخر. ولأجل أن انطباقه على واحد لا بعينه بلا مرجح تعيّن البناء على بطلانهما معا.

فما أفاده المصنف قدس‌سره ـ من احتمال صحة الجميع ، لوجهين : أحدهما أنّ بيعهما خلاف المكره عليه ، والآخر أنّ الظاهر عدم وقوع شي‌ء منهما عن إكراه ـ لا يخلو من الغموض.

إذ في الأوّل خلاف المكره عليه منوط بأن يكون الإكراه على بيع أحدهما بشرط لا ، وهو خلاف الفرض.

وفي الثاني : تحقق الإكراه لبيع كل منهما على البدل ، فوقوعهما كان ناشئا عن أمر المكره بحيث لو لم يكن لما أقدم على بيعهما.

نعم لم يقع الإكراه بهما معا ، بل بأحدهما لا بشرط الحاصل في ضمنهما ، وهو كاف في بطلانهما ، هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ قدس‌سره (١).

لكن يمكن أن يقال : بصحة بيع واحد منهما ، لعدم الإكراه بالنسبة إليه ، وبطلان الآخر لأجل الإكراه على أحدهما لا بعينه ، ويتعين الصحيح بالقرعة. فهو نظير ما إذا أكره على بيع أحدهما المعيّن ، فباع كليهما مرة واحدة ، فإنّ البيع بالنسبة إلى المعيّن المكره عليه باطل ، وبالإضافة إلى غيره صحيح.

وبالجملة : ففي بيعهما دفعة إذا كان عن إكراه وجوه : الصحة في الجميع ، للوجهين المتقدمين عن المصنف.

والبطلان كذلك ، لأن المكره عليه لا تعيّن له في الواقع ، وأنّ نسبته إلى كل واحد من

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ١٩٩.

٢٥٠

.................................................................................................

__________________

الفردين على حد سواء.

والحكم بفساد أحدهما معينا دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيحكم بفساد الجميع.

والصحة بالنسبة إلى الزائد على المقدار المكره عليه ، والفساد بالإضافة إلى ذلك المقدار ، ويتعيّن الفاسد بالقرعة.

ودعوى : «اختصاص مورد القرعة بما إذا كان المطلوب متعينا واقعا ومجهولا ظاهرا كالحيوان المحرّم بالوطي أو غيره ، المشتبه بين قطيعة غنم مثلا. وأمّا إذا لم يكن له تعين واقعي فلا مورد للقرعة فيه» غير مسموعة ، لإطلاق أدلة القرعة الشامل لكل مشكل ومشتبه ، ولذا اتفق الفقهاء على الرجوع إلى القرعة فيما إذا طلّق شخص إحدى زوجاته من غير تعيين ، مع أنّ من المعلوم عدم تعين المطلقة واقعا ، بل القرعة تعينها ظاهرا وواقعا.

ومقامنا من هذا القبيل ، إذ لا تعيّن له لا ثبوتا ولا إثباتا.

وكذا الحكم في الإكراه على مورد الأحكام التكليفية ، كما إذا أكره جائر شخصا على شرب الخمر أو البول ، فشربهما ، فإنّه لا يعاقب إلّا على شرب أحدهما ، لارتكابه المحرّم بالإرادة والاختيار ، هذا.

وأمّا الصورة الرابعة : ـ وهي ما يكون أقل من المكره عليه ، وقد أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : «وأمّا مسألة النصف فإن باع النصف إلى قوله لكن في سماع دعوى البائع ذلك مع عدم الأمارات نظر» كما إذا باع نصف أحد العبدين في المثال ، أو كما إذا باع نصف داره فيما لو أكره على بيع تمام داره ـ فتتصور على وجوه :

أحدها : أن يكون عازما على بيع النصف الآخر ، لزعم أن المكره عليه هو الجامع بين البيع الدفعي والتدريجي. ولا ينبغي الإشكال في فساد البيع حينئذ ، لكونه مستندا إلى إكراه المكره ، ومعه لا مجال للصحّة ولا لقول المصنف : «لكن في سماع دعوى البائع ذلك أي : بيع النصف بأحد الوجهين ، وهما بيع النصف مع العزم على بيع

٢٥١

.................................................................................................

__________________

النصف الآخر امتثالا لأمر المكره ، وبيع النصف برجاء قناعة الآمر المكره ببيع النصف مع عدم الأمارات ـ نظر».

ومنشأ النظر : أنّ ما نحن فيه من قبيل ما لا يعلم إلّا من قبل المدّعي ، فتسمع دعواه. وأنّ الظاهر وقوع هذا العقد باختياره ، فلا تسمع دعواه الإكراه ، وذلك لأنّ الإكراه على المجموع إكراه على بعضه خارجا ، والإكراه بنفسه أمارة على عدم وقوع البيع عن الرضا وطيب النفس.

ونظير ذلك الإكراه في موارد الأحكام التكليفية ، كما إذا أكره الجائر شخصا على شرب مقدار خاص من الخمر ، فشرب نصفه برجاء أن يقنع المكره بذلك ، ويرفع اليد عن إكراهه.

ثانيها : أن يكون بيع النصف لاحتمال اقتناع المكره بذلك ، ورفع اليد عن بيع المجموع. ولا ينبغي الإشكال أيضا في بطلان البيع في هذه الصورة ، لوضوح أن الإكراه على بيع المجموع شامل لبيع كل جزء من أجزاء الدار على نحو الاستغراق فالإكراه على بيع المجموع إكراه على بيع النصف ، فيشمله حديث الرفع الموجب للبطلان. نظير ما لو أكره على بيع دارين فباع إحداهما ، فإنّه لا شبهة في بطلانه ، لوقوعه عن إكراه.

ثالثها : أن يكون المكره عليه بشرط شي‌ء ، ويأتي المكره بالأقل بشرط لا ، كما إذا أكره على بيع نصف عبده بشرط ضمّ النصف الآخر إليه ، فباع نصفه بشرط عدم بيع النصف الآخر ، فقد يتوهم صحة البيع حينئذ ، لأنّ الواقع في الخارج مغاير للمكره عليه.

لكن فيه : أنه إن كان دليل رفع الإكراه حديث الرفع ، فهو غير شامل للمقام ، لعدم كون بيع النصف بشرط لا مكرها عليه ، وإن كان قوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) فهو شامل له ، لفقدان التراضي وطيب النفس ، فيكون أكل المال بالباطل.

وهذا نظير ما إذا كان ما وقع في الخارج مباينا للمكره عليه ، كما إذا أكره على بيع كتابه فباع رداءه لأهمية كتابه وشدة حاجته إلى الكتاب ، فإنّ بيع الرداء فاسد ، مع أنه لم يكن مكرها عليه ، لكنه لفقدان طيب النفس لا بدّ من بطلانه.

٢٥٢

بقي الكلام (١) فيما وعدنا ذكره من الفرع المذكور في التحرير قال في التحرير : «لو أكره على الطلاق فطلّق ناويا فالأقرب وقوع الطلاق» انتهى (١).

ونحوه في المسالك ، بزيادة احتمال عدم الوقوع : «لأنّ الإكراه أسقط أثر اللفظ. ومجرّد النيّة (٢) لا حكم لها» (٢)

______________________________________________________

تحليل كلام العلامة في التحرير

(١) هذه جهة أخرى من جهات البحث في إنشاء المكره. وقد سبق التعرض الإجمالي لكلام العلّامة (في ص ١٦٧) من أنّ المفقود في باب الإكراه هل هو القصد الجدّي لمدلول الإنشاء أم هو الطيب والرضا؟ ووعد المصنف ذكر توجيه عبارة التحرير بقوله : «وسيأتي ما يمكن توجيه الفرع المزبور به» وقد حان وقت الوفاء بالوعد. فنقل كلام العلامة وكلمات جمع ممّن تعرّض للمسألة كالشهيد الثاني وصاحب المدارك والفاضل الهندي وصاحب الجواهر أعلى الله مقاماتهم. كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وظاهر كلام العلّامة صحة طلاق من أكره عليه ، لو نوى الطلاق وقصده حين إنشاء الصيغة. والوجه في الصحة تمكّنه من التلفّظ بالصيغة لا عن نيّة ، لكفاية هذا التكلم في دفع الضرر المتوعد به ، فقصده للطلاق جدّا كاشف عن اختياره له وإرادته إيّاه ، فيخرج عن موضوع الإكراه.

(٢) يعني : أنّ مجرّد النية لا يترتب عليها أثر ، بل ترتب الأثر منوط بعدم الإكراه على اللفظ ، فالإكراه عليه يسقط النيّة المجرّدة عن الأثر.

وبعبارة أخرى : أثر الطلاق ـ وهو البينونة ـ يتوقف على أمرين ، أحدهما إرادة الطلاق ، وثانيهما التلفّظ بالصيغة عن اختيار.

والأمر الأوّل وإن كان محققا حسب الفرض ، لأنّه قاصد للطلاق. لكن الأمر

__________________

(١) تحرير الاحكام ج ٢ ص ٥١.

(٢) مسالك الافهام ج ٩ ص ٢٢.

٢٥٣

وحكي عن (١) سبطه في نهاية المرام أنه نقله قولا (٢) ، واستدلّ عليه (٣) بعموم ما دلّ من النصّ والإجماع على بطلان عقد المكره ، والإكراه يتحقق هنا (٤) إذ المفروض أنّه لولاه لما فعله. ثم قال : «والمسألة محلّ إشكال» انتهى (١).

وعن بعض الأجلّة (٥) : «أنّه لو علم أنه لا يلزمه الّا اللفظ وله تجريده

______________________________________________________

الثاني مفقود ، لفرض كونه مكرها على إنشاء الطلاق بالصيغة ، ونتيجته عدم تحقق الطلاق أصلا.

(١) يعني : وحكي البطلان عن سبط الشهيد الثاني وهو السيد الفقيه السيد محمد العاملي في كتابه نهاية المرام ، حيث إنّه حكى كلّا من القول بالصحة والبطلان ، قال قدس‌سره : «ولو طلّق المكره ناويا ، قيل : يقع ، وهو اختيار العلّامة في التحرير ، وجدّي في الروضة والمسالك ، لحصول اللفظ والقصد ، ولأنّ القصد لا إكراه عليه ، فلو لا حصول الرضا بالعقد لما قصد إليه. وقيل : يبطل ، إذ المفروض أنّه لو لا الإكراه لما فعله ، وعقد المكره باطل بالنصّ والإجماع ، والمسألة محلّ إشكال».

(٢) يعني : لا مجرّد الاحتمال ، بل قال به بعض. والضمير البارز في «نقله» راجع إلى عدم الوقوع.

(٣) أي : على عدم الوقوع ، فإنّ عموم ما دلّ من النص والإجماع على بطلان عقد المكره يشمل الإكراه على الطلاق ، فيكون فاسدا.

(٤) يعني : لا ينبغي الارتياب في تحقق الإكراه في المقام ، وهو الإكراه على الطلاق ، لأنّه لو لا الإكراه لم يتحقق الطلاق ، فالموجب لإيقاعه هو الإكراه بحيث ينبعث عنه الطلاق.

(٥) وهو كاشف اللثام ، قال في شرح عبارة التحرير ما لفظه : «يعني : وإن ظنّ أنّه يلزمه الطلاق ـ لا مجرد لفظه ـ بالإجبار وإن كان لا يريده. أمّا لو علم أنّه لا يلزمه إلّا اللفظ ، وله تجريده عن القصد ، فلا شبهة في عدم الإكراه».

__________________

(١) نهاية المرام ج ٢ ص ١٢ ، والحاكي عنه صاحب المقابس ، فراجع المقابس كتاب البيع ص ١٤.

٢٥٤

عن القصد فلا شبهة في عدم الإكراه. وإنّما يحتمل الإكراه مع عدم العلم بذلك سواء ظن لزوم القصد وإن لم يرده المكره أم لا» انتهى (١).

ثم إن بعض (١) المعاصرين ذكر الفرع عن المسالك ، وبناه على أن المكره لا قصد له أصلا ، فردّه بثبوت القصد للمكره ، وجزم بوقوع الطلاق المذكور مكرها عليه (٢).

وفيه ما عرفت سابقا (٢) من أنّه لم يقل أحد بخلوّ المكره عن قصد معنى

______________________________________________________

وغرضه قدس‌سره من هذا الشرح بيان مورد حكم العلّامة بكون وقوع الطلاق أقرب ، يعني : أنّ صورة قصده للمعنى مع علمه بأنّه لا يلزمه إلّا اللفظ خارجة عن مورد كلام العلّامة ، لعدم الشبهة فيها في عدم الإكراه ووقوع الطلاق ، فلا يكون وجه للتعبير بالأقرب. كما أنّ صورة قصده للمعنى مع علمه بلزوم القصد ، وأنّه ليس له تجريد اللفظ عن المعنى خارجة عنه أيضا ، لعدم الشبهة فيها في الإكراه وعدم وقوع الطلاق ، فلا يصح التعبير بما ذكر.

والدليل على خروج الصورة الثانية عن مورد كلامه على ما فهمه كاشف اللثام تعبيره بالظن بدل العلم ، بعد إن الوصلية التي فسّرها المصنّف بالتسوية في قوله : «سواء ظنّ» وجه الدلالة أنّه لو لا خروجها لوجب أن يقول : «وإن علم بدلا» عن «وإن ظن» كما لا يخفى ، فيعلم من ذلك أنّ المراد من قوله : «أم لا» خصوص صورة الشك.

(١) وهو صاحب الجواهر ، وضمير «بناه» راجع إلى الطلاق ، يعني : وبنى عدم وقوع الطلاق على عدم القصد للمكره ، ثم ردّه بثبوت القصد للمكره ، لكنه قصد عن إكراه ولم يقصد عن اختيار وطيب نفس ، وقد تقدم كلام الجواهر (في ص ١٦٧) فراجع.

(٢) يعني : في أوائل المسألة (في ص ١٦٥) ، حيث قال : .. ممّا يوجب القطع بأنّ المراد بالقصد المفقود في المكره هو القصد إلى وقوع أثر العقد ومضمونه في الواقع وعدم طيب النفس به ، لا عدم إرادة المعنى من الكلام».

__________________

(١) كشف اللثام ، ج ١ ، القسم الثاني ، ص ١١٤ ، السطر ١٩ ، والحاكي لكلامه صاحب المقابس.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٥.

٢٥٥

اللفظ ، وليس هذا (١) مرادا من قولهم : «إنّ المكره غير قاصد إلى مدلول اللفظ» ولذا (٢) شرّك الشهيد الثاني بين المكره والفضولي في ذلك (٣) كما عرفت سابقا (٤) ، فبناء هذا الحكم (٥) في هذا الفرع (٦) على ما ذكر (٧) ضعيف جدّا.

وكذا ما تقدم عن بعض الأجلة (٨) من «أنّه إن علم بكفاية مجرّد اللفظ

______________________________________________________

وغرض المصنف قدس‌سره المناقشة في كلامي الفاضل الأصفهاني وصاحب الجواهر قدس‌سرهما ، أمّا إشكال الجواهر على المسالك فيندفع بما تقدّم في (ص ١٦٨) وأعاده هنا ، ومحصّله :

عدم ابتناء كلام الشهيد الثاني على ما يوهمه من أن المكره قاصد للفظ دون المعنى.

وأما كلام كشف اللثام فمفاده اعتبار العجز عن التورية في بطلان إنشاء المكره ، وحيث إن اعتبار هذا العجز يندفع بإطلاق الأدلة فلا مجال للالتزام به ، وسيأتي توضيحه قريبا إن شاء الله تعالى.

(١) أي : وليس خلوّ المكره عن القصد مراد من يقول : إنّ المكره غير قاصد إلى مدلول اللفظ.

(٢) أي : ولأجل عدم كون خلوّ المكره عن قصد مدلول اللفظ مراد القائلين ـ بأنّ المكره غير قاصد لمدلول اللفظ ـ شرّك الشهيد الثاني بين المكره والفضولي في عدم قصد مدلول اللفظ.

(٣) أي : في عدم قصد مدلول اللفظ.

(٤) أي : في أوائل المسألة ، حيث قال المصنف : «ويكفي في ذلك ما ذكره الشهيد الثاني من أنّ المكره والفضولي قاصدان إلى اللفظ دون مدلوله» فراجع (ص ١٦٦).

(٥) أي : بطلان الطلاق.

(٦) أي : فرع الطلاق الإكراهي.

(٧) وهو الخلو عن قصد المدلول.

(٨) وهو المولى الفقيه بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني الشهير بالفاضل

٢٥٦

المجرّد عن النية (١) فنوى اختيارا صحّ ، لأنّ مرجع ذلك إلى وجوب التورية على العارف بها المتفطّن لها» إذ (٢) لا فرق بين التخلص بالتورية وبين تجريد اللفظ عن قصد المعنى بحيث يتكلم به لاغيا ، وقد (٣) عرفت أن ظاهر الأدلة والأخبار الواردة في طلاق المكره وعتقه عدم (٤) اعتبار العجز عن التورية (٥).

______________________________________________________

الهندي قدس‌سره صاحب كشف اللثام.

(١) أي : كفاية مجرّد اللفظ المعرّى عن النية في التفصي عن الضرر ، فمع العلم بكفاية مجرّد اللفظ ـ في التخلص عن الضرر ـ لو نوى الطلاق وقع صحيحا ، لأنّه قصد الطلاق حينئذ اختيارا ، فلا وجه لبطلانه.

(٢) تعليل لرجوعه إلى التورية ، يعني : أنّ اعتبار العجز عن التجريد في تحقق الإكراه موضوعا أو حكما يدلّ بالملازمة على اعتبار العجز عن التورية ، ووجوبها على العارف بها ، مع أنّ ظاهر الأدلة الواردة في طلاق المكره عدم اعتبار العجز عن التورية.

(٣) يعني : والحال أنّ مقتضى الإطلاقات عدم اعتبار العجز عن التورية ، وكذا مقتضاها عدم اعتبار العجز عن التجريد بالجهل وعدم وجوبه على العالم بكفاية اللفظ المجرّد. فحاصل الجواب عن بعض الأجلة هو نهوض الدليل على خلافه.

(٤) خبر «أنّ» وجملة «أنّ ظاهر» في محلّ النصب مفعول به لقوله : «عرفت» أي : عرفت عدم اعتبار العجز من ظاهر الأدلة والأخبار .. إلخ.

(٥) تقدم تفصيله في (ص ١٨٥) حيث قال : «الذي يظهر من النصوص والفتاوى عدم اعتبار العجز عن التورية ..» فراجع. هذا ما يتعلق بكلام الفاضل الأصفهاني وغيره ممّا تعرّض له المصنف مقدمة لبيان ما وعد ذكره من تحقيق الفرع المذكور في التحرير.

٢٥٧

وتوضيح الأقسام (١) المتصورة في الفرع المذكور : أن الإكراه الملحوق بوقوع الطلاق قصدا إليه راضيا به إمّا أن لا يكون له دخل في الفعل أصلا ، بأن يوقع الطلاق قصدا إليه عن طيب النفس ، بحيث لا يكون الداعي إليه هو الإكراه ، لبنائه (٢) على تحمل الضرر المتوعد به.

______________________________________________________

(١) هذا هو الغرض من قوله قبل أسطر : «بقي الكلام في ما وعدنا ذكره من الفرع المذكور في التحرير» وتوضيحه : أن الفرع المزبور ـ أعني به قصد الطلاق في من أكره على الطلاق ـ يتصور على صور ست تختلف أحكامها ، فيصحّ الطلاق في الأوليين ، ويبطل في الأخيرتين ، ويستشكل في الثالثة والرابعة. والمهم في المسألة تحقيق هذه الجهة ، وهي أنّ الداعي على الإنشاء هل هو الإكراه وإيعاد الغير أم لا؟ فنقول :

الصورة الأولى : أن يكره على طلاق زوجته ، ولكنّه يتأمّل في جوانب المسألة ، فيرجح تحمل الضرر المتوعد به ، ومع ذلك يطلّق زوجته لما فيه من المصلحة ، فيكون إقدامه على الطلاق ناشئا من طيب نفسه به ، ولا يرى لذلك الإكراه تأثيرا في إنشائه أصلا. ولا ريب في صحة الطلاق في هذه الصورة ، وليست هي مقصود العلّامة قدس‌سره وغيره ممّن رجّح وقوع الطلاق ، إذ لا وجه للترجيح ، لتعين الصحة.

الصورة الثانية : أن يكره على الطلاق ، ويرضى به بعد التأمل كالصورة السابقة ، إلّا أنّ الفارق بينهما كون تمام السبب ـ في الأولى ـ هو طيب نفسه به ، بخلافه في هذه الصورة ، فإنّ الداعي إلى الطلاق مؤلّف من إكراه المكره ومن طيب نفس المكره ، بحيث لو لم ينضم أحدهما إلى الآخر لم يكن كل منهما مستقلا في الداعوية. ولا ريب في صحة الطلاق في هذه الصورة أيضا ، لتحقق الشرط وهو إرادة الطلاق ، وقصده عن الرضا ، وليست هذه أيضا محطّ نظر العلّامة في ترجيحه صحة الطلاق ، وسيأتي ذكر سائر الصور بتبع المتن إن شاء الله تعالى.

(٢) أو لطيب نفسه الناشئ عن سوء خلق الزوجة بحيث لو لم يكرهه الجائر

٢٥٨

ولا يخفى بداهة وقوع الطلاق هنا (١) ، وعدم جواز حمل الفرع المذكور عليه ، فلا معنى لجعله في التحرير أقرب (٢) ، وذكر احتمال عدم الوقوع في المسالك ، وجعله (٣) قولا في نهاية المرام ، واستشكاله (٤) فيه لعموم النص والإجماع.

وكذا (٥) لا ينبغي التأمّل في وقوع الطلاق لو لم يكن الإكراه مستقلّا في داعي الوقوع ، بل هو بضميمة شي‌ء اختياري (٦) للفاعل.

وإن (٧) كان الداعي هو الإكراه ، فإمّا أن يكون الفعل لا من جهة التخلص عن الضرر المتوعّد به ، بل من جهة دفع الضرر اللّاحق للمكره ـ بالكسر ـ

______________________________________________________

لطلّقها لذلك.

(١) أي : في صورة طيب النفس بالطلاق ، لوقوعه عن الطيب لا عن الإكراه.

(٢) يعني : بل لا ينبغي الارتياب في صحة الطلاق ، لا أنّها أقرب.

(٣) هذا وقوله : «وذكر» معطوفان على «جعله» في قوله : «فلا معنى لجعله».

(٤) معطوف أيضا على «جعله» في قوله : «فلا معنى لجعله» يعني : ولا معنى لاستشكاله في وقوع الطلاق ، لعموم النص والإجماع على بطلان طلاق المكره.

(٥) هذه هي الصورة الثانية ، يعني : وكذا لا ينبغي التأمّل في صحة الطلاق فيما إذا كان الإكراه جزء السبب لوقوع الطلاق ، وكان الجزء الآخر طيب النفس ، للتخلص من ثقل النفقة مثلا. ولا يؤثر الإكراه في بطلان الطلاق مع وجود طيب النفس ، وإن لم ينحصر الداعي في هذا الطيب ، بل كان هو مع انضمام الإكراه تمام المؤثر. نظير ما ذكروه في نية الضمائم في العبادة ، كقصد التبريد بالوضوء ، المنضمّ إلى التقرب.

(٦) كطيب نفسه الناشئ من إرادة التخلص من ثقل النفقة أو من سوء خلق حليلته.

(٧) الظاهر أنّه معطوف على قوله : «إمّا أن لا يكون له دخل في الفعل أصلا»

٢٥٩

كمن قال له ولده : «طلّق زوجتك وإلّا قتلتك أو قتلت نفسي» فطلّق الوالد خوفا من قتل الولد نفسه ، أو قتل الغير له إذا تعرّض لقتل والده.

أو كان الداعي (١) على الفعل شفقة دينية على المكره ـ بالكسر ـ أو على المطلقة أو على غيرهما ممّن يريد نكاح الزوجة لئلا يقع الناس في محرّم.

والحكم في الصورتين (٢) لا يخلو عن إشكال.

______________________________________________________

يعني : أنّ الإكراه إمّا أن لا يكون له دخل .. إلخ ، وإمّا أن يكون له دخل. وقد عبّر عن هذه الجملة المعطوفة بقوله : «وان كان الداعي هو الإكراه». وهي تشتمل على صورتين ، هما الثالثة والرابعة ، وقد استشكل المصنف قدس‌سره فيهما في صحة الطلاق.

فالصورة الثالثة : أن يكون الداعي إلى الفعل غير جهة التخلّص عن الضرر المتوجّه إلى المكره ، بل يكون الداعي دفع الضرر الوارد على المكره ، كما إذا هدّد شخص والده وقال له : «طلّق زوجتك وإلّا قتلت نفسي» فيقدم الوالد على طلاق زوجته كارها له ، لكنه يتحرّز بهذا الطلاق عن أن يصاب بفقد ولده ، يعني : أنّ طلاق الزوجة أهون عليه من تلك الفاجعة.

والصورة الرابعة : أن يكون الداعي إلى الفعل شفقة دينية على المكره ، لئلّا يقع في المعصية ، كما إذا قال الجائر : «طلّق زوجتك لأتزوّجها ، وإلّا زنيت بها» فطلّق زوجته عن الرّضا ، لئلّا يقع المكره أو غيره في معصية الزنا.

(١) الأولى أن يقال : «أو من جهة شفقة دينية» بدل قوله : «أو كان الداعي على الفعل» إذ غرضه أنّه ـ في صورة كون الداعي هو الإكراه ـ قد يكون الفعل من جهة دفع الضرر الوارد على المكره كقتل الولد ، وقد يكون لشفقة دينية على المكره ، أو على المطلقة ، أو على غيرهما لدفع معصية الزنا مثلا.

(٢) وهما : صورة دفع الضرر عن المكره ، وصورة الشفقة الدينية عليه.

٢٦٠