هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن الظاهر من «رفع القلم» هو رفع المؤاخذة التي هي من خواص التكاليف الإلزامية. والوجه في هذا الظهور تسالم المشهور على أمرين :

أحدهما : شرعية عبادات الصبي لا تمرينيتها ، لوضوح إناطة التقرّب بوجود أمر مولوي استحبابي في حق الصغير المميّز ليتقرّب به إليه جلّ وعلا. ومن المعلوم توقف هذا الأمر الندبي على شمول إطلاق أدلة العبادات لكلّ من الصبي والبالغ ، وإنّما يرتفع عن الصبي ما وضعه الشارع على البالغ ، وهو خصوص المؤاخذة والعقوبة المترتبة على عصيان الحكم الإلزامي ، فيكشف عن ارتفاع خصوص الإيجاب والتحريم امتنانا عن غير البالغ. وأمّا سائر الأحكام التكليفية من الاستحباب والإباحة والكراهة ، وكذا الأحكام الوضعية ، فإطلاق أدلتها شامل لكل من الصغير والكبير على السواء ، لعدم امتنان رافع لها.

ثانيهما : اشتراك الأحكام الوضعية بين الصبي والبالغ ، فلو دلّ حديث «رفع القلم» على إلغاء سببية إنشاء الصبي وكونه بحكم العدم لكان منافيا لتسالمهم على الاشتراك المزبور. ولا مناص من جعل المرفوع قلم المؤاخذة المترتبة على عصيان الأحكام التكليفية الإلزامية ـ من الإيجاب والتحريم ـ خاصة ، حتى يبقى قلم الأحكام الوضعية شاملا للصغار ، فسببية الإنشاء للملكية والضمان والوصاية ونحوها حكم وضعي مشترك.

وبناء على هذين الأمرين يتعيّن جعل المرفوع المؤاخذة المخصوصة بالأحكام الإلزامية ، دون غيرها ، لكون الحديث في مقام الامتنان على الأمّة ، فيختص المرفوع بما فيه ثقل عليهم ، ولا ثقل في غير الإيجاب والتحريم حتى يرتفع بالحديث ، فالأحكام التكليفية غير الإلزامية وكذا الاعتبارات الوضعية ـ الّتي منها سببية الإنشاء للأثر المترتب عليه ـ جارية في حق الصبي ، ولا وجه لما التزم به المشهور من سلب عبارته اعتمادا على حديث رفع القلم عنه.

٢١

لا قلم جعل الاحكام ، ولذا (١) بنينا كالمشهور على شرعية عبادات الصبي.

وثانيا (٢) : أنّ المشهور على الألسنة أنّ الأحكام الوضعية ليست مختصة

______________________________________________________

(١) يعني : ولكون المراد برفع القلم رفع المؤاخذة قلنا بشرعية عبادات الصبي.

(٢) هذا ثاني وجوه المناقشة ، وتوضيحه : أنّه لو سلّمنا ظهور «رفع القلم» في نفي كافة الأحكام المجعولة على الكبار قلنا : لا بدّ من جعل المرفوع خصوص الأحكام التكليفية ، حتى تكون الاعتبارات الوضعية جارية في حق الصغار ، وذلك لما اشتهر بينهم من عدم اختصاص الخطاب الوضعي بالبالغين ، لحكمهم بضمان الصبي بالإتلاف ، وبصحة عتقه وتدبيره ووصيّته ونحوها.

وعلى هذا فلا تلازم بين التكليف والوضع ، فيمكن تأثير عقد الصبي في النقل والانتقال ، واتصاف إنشائه بالسببية فعلا والتأثير الفعلي ، لكنه لا يخاطب بوجوب الوفاء بإنشائه إلّا بعد البلوغ ، لكون وجوب الوفاء حكما إلزاميا معلّقا على البلوغ وكما العقل.

أو يقال : بأنّ إنشاء الصبي سبب لتوجه خطاب «ف بعقد الصبي المولّى عليه» إلى الولي الآذن له ، فيجب فعلا عليه ترتيب الأثر على عقد الصبي المأذون له ، وكذا لو أجاز عقده. وبهذا يتصف إنشاؤه بالسببية أيضا.

فإن قلت : كيف يتصف إنشاؤه بالسببية ، مع عدم مخاطبته بوجوب الوفاء فعلا؟ وكيف يصير إنشاؤه سببا لتوجه الخطاب إلى الوليّ؟ مع دوران وجوب الوفاء مدار العقد ، ولا عقد للوليّ حتى يجب وفاؤه به.

قلت : لا استيحاش في سببيّة إنشاء الصغير لخطاب غير فعليّ في حق نفسه ، أو لخطاب فعلي في حق وليّه ، وذلك لوجود نظيره ، وهو أنّه لو أجنب الصغير بمباشرة زوجته مثلا أثّرت جنابته في توجّه أحكام تكليفية ، بعضها غير فعلية وهو ما يتعلق بنفسه ، وبعضها فعلية خوطب به البالغون ، فغير الفعلي وجوب الغسل عليه بمجرّد بلوغه. والفعلي أنّه يحرم على الغير تمكين الصغير المجنب من مسّ المصحف الشريف ،

٢٢

بالبالغين ، فلا مانع من أن يكون عقده سببا لوجوب الوفاء (١) بعد البلوغ ، أو على الولي إذا وقع بإذنه أو إجازته. كما يكون جنابته سببا لوجوب غسله بعد البلوغ ، وحرمة (٢) تمكينه من مسّ المصحف.

وثالثا (٣) : لو سلّمنا اختصاص الأحكام حتى الوضعية بالبالغين ، لكن لا مانع من كون فعل غير البالغ موضوعا للأحكام المجعولة في حق البالغين ، فيكون الفاعل كسائر غير البالغين خارجا عن ذلك الحكم إلى وقت البلوغ.

______________________________________________________

ومن دخوله في المسجد ، ونحوهما من المحظورات على المحدث بالحدث الأكبر.

والحاصل : أنّ مقتضى تسالمهم على شمول الأحكام الوضعية للصغار هو الالتزام بسببية عقده وإنشائه في ترتب الأثر عليه كالنقل والانتقال في البيع ، والزوجية في النكاح ، والبينونة في الطلاق ، وبهذا يسقط استدلال المشهور بحديث «رفع القلم» على بطلان إنشاء الصبي.

(١) الأولى زيادة كلمة «عليه» ليرجع ضميره إلى الصبي ، وليتّجه عطف «أو على الولي» عليه.

(٢) بالجرّ معطوف على «وجوب» يعني : يحرم فعلا على البالغين تمكين الصبيّ من مسّ المصحف. وحرمة التمكين مسبّبة عن جنابة الصغير.

(٣) هذا ثالث وجوه المناقشة ، ومحصّله : منع استدلال المشهور بحديث «رفع القلم» على سلب عبارة الصبي وبطلان عقده حتّى مع تسليم اختصاص الخطاب الوضعي بالبالغين ، وتوضيحه : أنّ رفع قلم التكليف والوضع عن الصغير يقتضي عدم ترتب أثر على عقده بالنسبة إلى نفسه ، فلو باع شيئا من ماله لم يتملّك الثمن ما دام صبيّا ، فإذا بلغ أثّر ذلك العقد أثره ووجب عليه الوفاء به. وأمّا الكبير الذي عقد مع الصبي فيجب عليه ترتيب الأثر ويحرم عليه نقض العقد ونكثه. ومن المعلوم أنّ رفع قلم التكليف والوضع عن الصبي أجنبي عن الأحكام الموضوعة على الكبير الذي عقد معه.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والفارق بين هذا الاشكال والاشكال الثاني : أنّ المصنف قدس‌سره التزم هناك بسببية إنشاء الصبي للنقل ولوجوب الوفاء معلّقا على البلوغ ، لما اشتهر من اشتراك الوضع بين البالغ والصغير. وفي الاشكال الثالث التزم باختصاص مطلق الأحكام بالبالغين ، ولكنه فكّك بين طرفي العقد في موضوعيّته للآثار. هذا ما يناسب ذكره في التوضيح ، وإن شئت تفصيل الفرق فلاحظ التعليقة (*).

__________________

(*) قد يفرّق بين وجهي الإشكال تارة بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : أنّ الثاني ناظر إلى سببيّة عقد الصبي فعلا لوجوب الوفاء به معلّقا على البلوغ ، والثالث ناظر إلى سببية عقده لوجوب الوفاء به بعد البلوغ بلا سببية فعلية للوجوب التعليقي. ولكن مع ذلك ليس للطرف الآخر نقض العقد ، لأنّ العقد موضوع تام لوجوب الوفاء وإن لم يؤثر فعلا في الملكية ، كما في العقد بين الفضول والأصيل ، فإنه يحرم عليه النقض مع عدم وجوب شي‌ء على الفضول (١).

والحاصل انه يفكّك بين الحكم الوضعي وهو الملكية ، وبين التكليفي وهو وجوب الوفاء ، فعقد الصبي بالنسبة إلى نفسه لا يتصف بالسببية للملكية ولا لوجوب الوفاء ، وبالنسبة إلى الكبير يتصف بالسببية لوجوب الوفاء خاصة لا للملكية ، هذا.

واخرى بما أفاده المحقق الايرواني قدس‌سره من : أنّ الثاني متمحّض في سببيّة إنشاء الصبي بالاستقلال في حصول جميع آثار المعاملة ، والثالث ينفي استقلال تأثيره مع الالتزام بالتأثير الضمني ، بأن يكون إنشاء الصبي جزء المؤثر ، والجزء الآخر بلوغه ، أو بلوغ أرباب الأموال من الموكّلين للصبي. وهذا نظير عقد الوصية في كونه جزء المؤثر ، وكون جزئه الآخر موت الموصى. ونظير عقد الصرف والسّلم في كونه جزء المؤثر ، وكون جزئه الآخر هو القبض.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١١٤.

٢٤

.................................................................................................

__________________

ثم اعترض هذا المحقق على المصنف قدس‌سرهما بالتناقض ، لابتناء الوجه الثالث على نفي الوضع عن الصغير ، فإثباته له ولو بعنوان جزء السبب يقتضي عموم الوضع للكبير والصغير ، إذ لا فرق في الشمول بين تمام السبب وجزئه (١).

وثالثة بما يظهر من بعض من : أنّ الاشكال الثاني ناظر إلى جريان الحكم الوضعي بالنسبة إلى نفس الصبي ، بخلاف الاشكال الثالث ، لتمحضه في موضوعية إنشاء الصبي لحكم البالغ ، كما إذا عقد على مال الولي بإذنه ، أو توكّل عن الأجنبي في مجرّد إجراء العقد ، فإنّ مقتضى صحّته ترتيب الأثر عليه من قبل الولي أو الموكّل ، وهذا المقدار أجنبي عن رفع القلم عن الآثار المختصّة بالصبي ، هذا.

أقول : ما أفاده المصنف في الاشكال الثاني واضح لا إجمال فيه وإن تطرّق إليه المنع بما سيأتي. وإنّما الكلام في الاشكال الثالث ، فإنّه قدس‌سره جمع فيه بين أمرين :

أحدهما : موضوعية عقد الصبي للآثار التي يجب على البالغين ترتيبها عليه ، من دون توجّه خطاب إلى نفس الصبي.

ثانيهما : صيرورة الصبي مخاطبا بترتيب آثار المعاملة بمجرّد بلوغه ، وهذا يستفاد من تحديد رفع الأحكام ببلوغه ، لاقتضاء عدم لغويّة التحديد لزوم العمل بمقتضى العقد ووجوب الوفاء به بمجرد البلوغ ، ومن المعلوم توقف فعلية الآثار بالبلوغ على الالتزام بالصحة التأهّليّة في عقد الصبي في حقّ نفسه ، حتى تتوقف سببيته الفعلية لكلّ من الوضع والتكليف ـ أعني بهما الملكية ووجوب الوفاء به ـ على بلوغه ، وإلّا فلو قلنا باختصاص الأحكام الوضعية بالكبار وأسقطنا أقوال الصبي وأفعاله عن اقتضاء التأثير امتنع فعلية الحكم بالبلوغ.

وبهذا قد يشكل ما أفادوه من الفروق بين الإشكال الثاني والثالث.

أمّا ما تقدم من المحقق الأصفهاني قدس‌سره فلأنّ الاشكال الثالث ليس ناظرا إلى سببية عقد الصبي لخصوص وجوب الوفاء ، وذلك لما في ذيل كلام المصنف قدس‌سره من صيرورة

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٢٥

.................................................................................................

__________________

الصبي مخاطبا حال البلوغ بترتيب الآثار ، ومن المعلوم توقف ترتيبها على اقتضاء عقد الصبي لتأثيره في كلّ من الملكية ووجوب الوفاء ، لا في خصوص التكليف ، إذ لو لم يلتزم بسببية ناقصة في إنشائه للنقل والانتقال امتنعت سببيّته التامة بعد البلوغ الذي هو ليس ظرف الإنشاء ، وكيف يجب الوفاء بعقد لم يؤثّر في الملكية أصلا؟ بل في الحقيقة يلغو مثل هذا الأمر الذي لا موضوع له (١).

وعليه فالتفكيك بين الوضع والتكليف هنا من الغوامض التي تقصر أفهامنا عن اكتناهها.

وأمّا تنظيره للمقام بعقد الفضول من حيث عدم مخاطبته بوجوب الوفاء ، بخلاف الأصيل ، فهو وإن كان صحيحا ، لكنّ الوجه في حرمة النقض على الأصيل هو صحة عقده مع الفضول تأهّلا ، وقابليته لفعلية التأثير بإجازة المالك ، فالسببية الناقصة للمبادلة متحققة بذلك العهد ، فلو أنكرنا هذا التأثير الناقص لم يجب على الأصيل الوفاء كما يلتزم به القائل ببطلان عقد الفضول رأسا ، وعليه فلم يتحقق تفكيك بين الوضع والتكليف.

والانصاف أن إشكال الميرزا النائيني على المصنف «من امتناع تفكيك الآثار بين البالغ وغيره فيما كان ذات الفعل موضوعا للأثر» (٢) لا يندفع عنه بما أتعب به المحقق الأصفهاني نفسه الشريفة لتثبيته.

وأما ما أفيد «من كون الاشكال الثالث ناظرا إلى موضوعية إنشاء الصغير للبالغ كما في الوكيل» فيدفعه صراحة كلام المصنف من صيرورة الصغير مخاطبا بالوفاء بالبلوغ ، وهذه قرينة على أنّ مراد المصنف من الموضوعية غير الوكالة ، فالصبي يعقد على مال نفسه مع الكبير ، فيكون هذا العقد موضوعا لوجوب الوفاء فعلا على الكبير ، ومعلّقا على البلوغ بالنسبة إلى الصغير.

وعليه فلعلّ الأقرب إلى مقصود المصنف قدس‌سره من الفرق بين الإشكالين ما أفاده

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٧٣.

٢٦

.................................................................................................

__________________

المحقق الايرواني قدس‌سره من تمام المؤثر وجزء المؤثر. ويرد حينئذ على الماتن ما تقدم منه من التناقض.

وكيف كان فإشكالات المصنف الثلاثة على استدلال المشهور بحديث رفع القلم لا تخلو من مناقشة.

أمّا الأوّل ـ وهو تعلق الرفع بالمؤاخذة الكاشف عن نفي خصوص التكليف الإلزامي عن الصبي ، وصحة العقد حكم وضعي لا ترفع بالحديث ـ فغير ظاهر ، لوجوه :

أوّلها : أنّ الداعي إلى تقدير المؤاخذة أمران :

أحدهما : اقتضاء مادة الرفع لكون المرفوع ثقيلا ، فلا يصدق عرفا على رفع ورقة وان صدق عليها لغة.

والآخر ورود الحديث مورد الامتنان.

ولكن الظاهر عدم اقتضائهما رفع المؤاخذة المترتبة على فعل البالغ ، فيمكن تعلق الرفع بنفس الأحكام الإلزامية ، وكذا الوضعية التي فيها ثقل وكلفة ومشقة كالقصاص. ولو دار الأمر بين أحد الأمرين لم يكن مرجح لتقدير المؤاخذة.

ودعوى «امتناع الحكم بشرعية عبادات الصبي لو كان المرفوع بالحديث نفس الأحكام الإلزاميّة ، إذ بناء على المبنى المنصور من بساطة الأوامر والنواهي لا يبقى للفعل رجحان بعد رفع الإلزام ، بخلاف ما لو تعلّق الرفع بالمؤاخذة المختصة بالتكاليف الإلزامية» ممنوعة ، إذ لا فرق في هذا الاشكال بين رفع التكليف والمؤاخذة ، لسقوط الإلزام على كلّ منهما ، وبه يسقط أصل الطلب.

لكن يندفع الإشكال بأنّ الدليل المقيّد محفوف بقرينة الامتنان الموجبة لرفع خصوص ما فيه الثقل والمشقة وهو الإلزام ، بل رفع ما عدا الإلزام خلاف المنّة على الصغير ، لحرمانه عن الحسنات التي يتفضل بها سبحانه وتعالى على فعل الخيرات.

ثانيها : أنّ تقدير المؤاخذة ممتنع في نفسه ، لظهور رفع العقوبة في نفي فعليتها ، ومن المعلوم أنّها مترتبة على استحقاقها حتى يتعلّق به العفو ، والمقطوع به عدم استحقاق الصبي للعقوبة حتى يتعقبه العفو. هذا في المميّز القابل للخطاب ،

٢٧

.................................................................................................

__________________

فإنّ الضرورة الفقهية على نفي استحقاقه للمؤاخذة على أفعاله إلّا ما استثني كالتعزير في السرقة المتكررة. وأمّا غير المميّز فلقضاء العقل القطعي كالنائم والمجنون بقبح مؤاخذته.

هذا مضافا إلى أن نفي فعلية العقاب لا يستلزم نفي التكاليف الإلزامية عن الصغير ، لأعميتها منه ، فالظهار حرام معفوّ عنه كما قيل ، وعليه فليس للمصنف قدس‌سره استكشاف سقوط التكاليف الإلزامية من رفع المؤاخذة الفعلية.

هذا بناء على ظاهر المتن من رفع فعلية المؤاخذة. وإن أريد من رفع المؤاخذة رفع استحقاقها ـ كما قد يقال وإن كان خلاف الظاهر ـ ففيه : أنّ الاستحقاق حكم عقلي ، فلا يكون موضوعا لرفع القلم التشريعي ، وإن صحّ جعله بلحاظ منشئه وهو الحكم الشرعي موضوعا للرفع ، كما في حديث رفع التسعة. وذلك للفرق بينهما ، حيث إنّ القلم يختص بما يكون شرعيا ، فرفع القلم لا يتعلق بما ليس شرعيا وإن ترتب على حكم شرعي.

ثالثها : ما أفاده المحقق الإيرواني قدس‌سره ـ في جملة ما أورده على رفع المؤاخذة ـ بما لفظه : «ورابعا : انّا لو سلّمنا عموم الحديث وشموله لرفع كل حكم تكليفي أو وضعي لا يجدي ذلك في صحة الاستدلال بالحديث لرفع التأثير عن إنشاء الصغير ، وذلك أنّ تأثير الإنشاء في حصول عنوان المنشأ ـ كعنوان النكاح والبيع والهبة ـ تأثير تكويني في أمر اعتباري ، فيكون كتأثير سيفه في القطع ، وقلمه في الكتابة وهذا لا يرفعه حديث الرفع. وأمّا رفع الآثار المترتبة شرعا على العناوين المتولدة من إنشائه ، على أن لا يكون البيع الحاصل بإنشائه محكوما بأحكام البيع ، فذلك في البشاعة يساوق القول بعدم ترتيب أحكام الأموات على من مات بسيفه ، أو أحكام المصحف على ما كتب بقلمه ، وهكذا. ومعلوم بالقطع أن حديث الرفع لا يرفع إلّا أحكاما مترتبة بلا واسطة على فعل الصغير ، لا أحكاما مترتبة حتى مع الواسطة» (١).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٢٨

.................................................................................................

__________________

ولكن يمكن أن يقال : بأنّ تنظير إنشاء الصبي بكتابة المصحف والقتل بالسيف غير ظاهر ، فإنّ عقده وإيقاعه وإن فرض تأثيره في الأمر الاعتباري بنظر العقلاء ، إلّا أنّ المهم إحراز إمضائه شرعا بمعنى أنه هل للشارع اعتبار مماثل لما أنشأه الصبي واعتبره العقلاء أم لا ، فلو لا حديث رفع القلم ونحوه كان مقتضى إطلاق أدلة الإمضاء تنفيذ ما أنشأه الصبي. وأمّا لو تمّت دلالة الحديث على سلب عبارة الصغير كان مفاده عدم ترتيب آثار المعاملة ـ التي يرتّبها العقلاء ـ على عقد الصبي.

ولأجله يتسامح في إطلاق السبب على الإنشاء ، والمراد به هو الموضوع والحكم ، لا العلية والمعلولية التكوينيّتان. وهذا بخلاف كتابة المصحف ، فإنّ الموضوع لحكم الشارع بحرمة المسّ هو النقوش الخاصة القرآنية سواء كتبها الكبير أم الصغير.

والحاصل : أنّ جعل الإنشاء مؤثرا تكوينيا في أمر تكويني اعتباري ـ كما تكرّر في كلامه ـ لا يخلو من غموض. هذا بعض ما يتعلق بالإشكال الأوّل.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو الالتزام بتأثير إنشاء الصبي ، لاشتراك الحكم الوضعي بينه وبين البالغ ـ ففيه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره أوّلا : منع أصل النسبة ، فإنّ المشهور وإن التزموا بثبوت الحكم الوضعي ـ في الجملة ـ في حقّ الصغير كما في نفوذ وصيّته وتدبيره وعتقه وصدقته ، إلّا أنّ المشهور أيضا على فساد عقوده ومعاملاته كما تقدم في عبارة الدروس والكفاية ، بل ادّعي عليه الإجماع. ومن المعلوم أنّ تلك الموجبة الجزئية لا تفي بإثبات محل البحث وهو صحة بيعه مطلقا حتى في صورة إذن الولي.

وثانيا : لو سلّمنا صحة النسبة قلنا بمخالفته لمبنى المصنف في الأصول من انتزاع الحكم الوضعي من التكليف ، والمفروض عدم كتابة التكليف عليه فعلا ، ولا يعقل فعلية الأمر الانتزاعي وتعليقية منشئه ، هذا (١).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١١٤.

٢٩

وبالجملة (١) : فالتمسك بالرواية ينافي (*) ما اشتهر بينهم من شرعية عبادة الصبي ، وما (٢) اشتهر بينهم من عدم اختصاص الأحكام الوضعية بالبالغين (**).

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة المناقشة الثانية والثالثة ، ومحصلها : أن التمسك بحديث «رفع القلم» لإلغاء أقوال الصبي وأفعاله ينافي ما اشتهر بينهم من أمرين ، أحدهما : شرعية عبادات الصبي ، لا تمرينيتها. والآخر : عدم اختصاص الأحكام الوضعية بالبالغين. وعليه فيلزم إرادة رفع المؤاخذة المترتبة على أفعال البالغين وأقوالهم ، وهذا لا ينافي موضوعية إنشاء الصبي المميّز ـ القاصد للأمر الاعتباري ـ للأثر.

(٢) منصوب محلّا عطفا على «ما اشتهر بينهم».

__________________

والظاهر ورود الإشكالين على المصنف قدس‌سره. وتقدم توضيح الثاني منهما في رسالة الحق ، فراجع (١).

وأمّا الإشكال الثالث فقد تقدم بعض ما يتعلق به عند بيان الفارق بينه وبين الإشكال الثاني.

(*) لا منافاة أصلا بعد كون المراد من رفع القلم رفع التكاليف الإلزامية ، الذي لا ينافي شرعية عبادات الصبي.

(**) قد عرفت في التعليقة أجنبيّة الرواية عن عقد الصبي ، لاختصاصها بالأحكام الإلزامية الموجبة للعقوبة ، ومجرّد إجراء الصبي الصيغة ليس من الأحكام الإلزامية ولا موضوعا لها حتى يرتفع بحديث الرفع. فالاستدلال بها لسلب عبارة الصبي ـ ولو مع إرادة نفي قلم الأحكام كما هو ظاهر كلام المصنّف ـ في غير محله.

وعليه فمقتضى العمومات صحة عقد الصبي ، غايته مع إذن الولي أو إجازته ،

__________________

(١) راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٠

فالعمدة في سلب عبارة الصبي هو الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة ، وإلّا (١) فالمسألة محلّ إشكال. ولذا (٢) تردّد المحقق في الشرائع في إجارة المميّز بإذن الولي بعد ما جزم بالصحة في العارية (٣) ، واستشكل (٤) فيها في

______________________________________________________

(١) يعني : ولو لا الإجماع المتضافر نقله ـ والمعتضد بالشهرة الفتوائية على سلب عبارة الصبي ـ يشكل الحكم ببطلان عقد الصبي.

(٢) يعني : ولكون المسألة محل الاشكال تردّد المحقق .. إلخ.

(٣) قال قدس‌سره في كتاب العارية : «فلا يصح إعارة الصبي ولا المجنون. ولو أذن الولي جاز للصبي مع مراعاة المصلحة» (١). وقال في كتاب الإجارة : «فلو آجر المجنون لم ينعقد إجارته ، وكذا الصبي غير المميّز ، وكذا المميّز إلّا بإذن وليّه. وفيه تردد» (٢).

والغرض أنّ تردد المحقق قدس‌سره في صحة إجارة الصبي ، وجزمه بالصحة في عاريته ـ مع كونهما بإذن الولي ـ كاشف عن عدم وضوح بطلان عقد الصبي كلّيّة ، فلو كان سلب عبارته مجمعا عليه متّضحا وجهه لكانت عاريته وإجارته فاسدتين.

(٤) يعني : واستشكل العلّامة في إجارة الصبي في كتابي القواعد والتحرير (٣). لكنه جزم بالبطلان في التذكرة ، فقال : «فلا تنعقد إجارة الصبي إيجابا ولا قبولا ،

__________________

للنصوص الدالة على «عدم نفوذ عقد الصبي حتى يبلغ» الظاهرة في نفي استقلاله في تصرفاته ، المقيّدة للإطلاقات الحاكمة بنفوذ العقود ، بما إذا لم يكن المتعاقدان بالغين. فما أفاده من كون المسألة محل إشكال غير ظاهر. والعجب منه قدس‌سره أنّه تمسّك بالإجماع ، مع عدم إجماع في المسألة ، وكونه على تقديره إجماعا منقولا. مضافا إلى : أنّ في إطلاق معقده للصبي المميّز الذي هو مورد البحث تأملا ، بل منعا كما تقدم في التعليقة ، فلاحظ.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧١.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٨٠.

(٣) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ٢٨١ ، تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ٢٤٤.

٣١

القواعد والتحرير ، وقال في القواعد : «وفي صحة بيع المميّز بإذن الوليّ نظر» (١).

بل (٢) عن الفخر في شرحه : «أنّ الأقوى الصحة» مستدلّا بأنّ العقد إذا وقع بإذن الولي كان كما لو صدر عنه. ولكن لم أجده فيه.

وقوّاه (٣) المحقق الأردبيلي ـ على ما حكي عنه ـ

______________________________________________________

سواء كان مميزا أو لا ، وسواء أذن له الولي أم لا ، إذ لا عبرة بعبارة الصبي» (١).

(١) يعني : أنّ العلّامة تنظّر في كتاب القواعد في صحة بيع الصبي كما استشكل في صحّة إجارته ، ولم يجزم ببطلانهما.

(٢) الوجه في الإتيان بحرف الإضراب واضح ، فإنّ فخر المحققين رجّح الصحة ـ بناء على صحة النسبة ـ لكن الموجود في الإيضاح وحكاه عنه في مفتاح الكرامة (٢) هو تقوية عدم صحة إجارة الصبي ، قال في الإيضاح في بيان وجهي الإشكال : «أقول : ينشأ من أنّ البلوغ شرط إجماعا قيل في اعتبار الصيغة وصلاحيّتها ، لترتب الحكم عليها ، لمساواته النائم والمجنون في رفع القلم ، كما في الحديث ، وهو نفي نكرة ، فيعمّ. ومن وقوعها بإذن الولي ، فصار كما لو صدر منه. والأقوى عدم الصحة» فالحقّ مع المصنف في قوله : «ولكن لم أجده فيه» ولعلّ الناسب لم يلاحظ عبارة الإيضاح بكاملها.

(٣) يعني : أنّ المحقق الأردبيلي قوّى صحة عقد الصبي ، حيث قال : «وبالجملة : إذا جوّز عتقه ووصيّته وصدقته بالمعروف وغيرها من القربات ـ كما هو ظاهر الروايات الكثيرة ـ لا يبعد جواز بيعه وشرائه وسائر معاملاته إذا كان بصيرا مميّزا رشيدا .. خصوصا مع إذن الولي ..» (٣).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ، س ٢٤.

(٢) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٥٥ ، مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٧٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٥٢ و ١٥٣ ، والحاكي عنه هو السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٧٣.

٣٢

ويظهر (١) من التذكرة عدم ثبوت الإجماع عنده ، حيث قال : «وهل يصح بيع المميّز وشراؤه؟ الوجه عندي أنّه لا يصح» (١).

واختار (٢) في التحرير صحة بيع الصبي في مقام اختبار رشده (٢).

وذكر المحقق الثاني : «أنّه لا يبعد بناء المسألة على أنّ أفعال الصبي وأقواله شرعية أم لا؟» ثم حكم بأنّها غير شرعية وأنّ الأصح (٣) بطلان العقد (٣).

وعن المختلف : «أنّه حكى في باب المزارعة عن القاضي كلاما يدلّ على صحة بيع الصبي» (٤).

______________________________________________________

(١) لعلّ وجه الظهور تعبيره بقوله : «عندي» المشعر بالخلاف ، ولو كان البطلان إجماعيا لقال : «عندنا».

(٢) وهذا الاختيار شاهد على عدم تحقق الاتفاق على سلب عبارة الصبي مطلقا.

(٣) ومن المعلوم أنّ التعبير بالأصح ـ بعد تفريع المسألة على الشرعية والتمرينية المختلف فيها ـ شاهد على عدم كون بطلان عقد الصبي من واضحات الفقه.

(٤) يعني : مع إذن أبيه لا مطلقا. والظاهر أنّ عبارة المختلف الحاكية لكلام القاضي هي قوله : «مسألة : مزارعة الصبي باطلة على الأشهر. وقال ابن البرّاج : إذا اشترى الصبي التاجر أرضا ، وحجر أبوه عليه ، فدفعها مزارعة بالنصف إلى غيره يزرعها ببذره وعمله فعمل على ذلك .. والوجه أنّ شراءه باطل. فإن سوّغناه مع الإذن بطلت المزارعة .. ولو كان البذر من الدافع ـ وهو الصبي ـ كان الحاصل له» (٤)

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٨٠ ، س ١٦.

(٢) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ٢١٨ ، س ٢٩.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ١٩٤.

(٤) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٨٨ ، المهذب للقاضي ابن البرّاج ، ج ٢ ، ص ٢٠.

٣٣

وبالجملة : فالمسألة (١) لا تخلو عن إشكال ، وإن أطنب بعض المعاصرين (٢) في توضيحه حتى ألحقه بالبديهيات في ظاهر كلامه.

فالإنصاف (٣) (*) أنّ الحجة في المسألة هي الشهرة المحقّقة والإجماع

______________________________________________________

وعبارة المهذّب صدرا وذيلا ظاهرة في صحة شراء الصبي للأرض ودفعها مزارعة للغير ، وإن قيّده بصورة إذن الولي وبكونه تاجرا ، الدال على رشده. فالمهم عدم إلغاء إنشاء الصبي ومعاملته شرعا.

(١) وهي بطلان عقد الصبي مطلقا حتى المميّز ولو بإذن وليه.

(٢) وهو صاحب الجواهر قدس‌سره ، حيث قال ـ بعد كون بطلان عقد الصبي أشهر بل مشهورا ، بل عدم وجدان الخلاف فيه ـ ما لفظه : «بل صحّ له دعوى تحصيل الإجماع على ذلك كما وقع من بعضهم ، بل ربّما كان كالضروري ، وخصوصا بعد ملاحظة كلام الأصحاب ، وإرسالهم لذلك إرسال المسلّمات ، حتّى ترك جماعة منهم الاستدلال عليه اتّكالا على معلوميته» (١).

(٣) بعد قصور النصوص عن إثبات سلب عبارة الصبي وتنزيل إنشائه منزلة العدم ـ حتى مع إذن وليّه في المعاملة ـ ينحصر دليل بطلان عقده في الإجماع والشهرة الفتوائية. لكن الإجماع قد يتوهّم اختصاص معقده باستقلال الصبي في المعاملة وعدم إذن وليّه فيها ، فيكون أخصّ من المدّعى ، وهو عدم العبرة بإنشائه مطلقا حتى مع إذن الولي أو إجازته.

وتوضيح التوهم : أنّه يمكن أن يكون نظر السيد أبي المكارم والعلامة قدس‌سرهما في دعوى الإجماع على حجر الصبي إلى صورة استقلاله في التصرف ، فلا دليل حينئذ على شمول معقد الإجماع لصورة إذن وليه في المعاملة ، فلا بدّ من

__________________

(*) كيف يقتضي الانصاف ذلك مع بناء المصنف في الأصول على عدم حجية الإجماع المنقول والشهرة. فالإنصاف أنه لا حجة على سلب عبارة الصبي.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٠ و ٢٦١.

٣٤

المحكي عن التذكرة بناء (١) على أنّ استثناء الإحرام الذي لا يجوز إلّا بإذن الولي شاهد على أنّ مراده بالحجر ما يشمل سلب العبارة ، لا نفي الاستقلال في

______________________________________________________

اختصاص البطلان بصورة استقلاله في التصرف.

وقد دفع المصنف قدس‌سره هذا التوهم بوجود قرينة الإطلاق في كلامي السيد والعلّامة. أمّا في عبارة التذكرة فلاستثناء الإحرام من موارد الحجر عن التصرف ، وحيث إنّ صحة إحرام الصبي منوطة بإذن وليه ، فإمّا أن يكون مراده من «التصرف» ما هو أعم من صورة الاستقلال والإذن. وإمّا أن يكون خصوص صورة الاستقلال ـ كما يدّعيه المتوهم ـ فيكون استثناء الإحرام حينئذ عن التصرف المحجور عنه منقطعا ، لا متصلا ، لما عرفت من عدم العبرة بإحرام الصبي مستقلّا ، ولكن لمّا كان الأصل في الاستثناء هو الاتصال تعيّن إرادة مطلق التصرف في المستثنى منه ، يعني سواء أكان مستقلا أم مأذونا من قبل وليّه. وبهذا ينعقد الإطلاق في إجماع التذكرة على بطلان عقده وإيقاعه ، أي سلب العبارة.

وأمّا في عبارة الغنية فلأنّه قدس‌سره وإن قال : «وإن أجاز الولي» ولكن منعه من صحة عقد الصبي مع إجازة وليه ليس من جهة عدم نفوذ تصرفه بإذن الولي ، بل من جهة بطلان عقد الفضول ، فربّما يصح عقده بإذنه السابق ، هذا.

لكن مراد السيد عدم الصحة مطلقا حتى مع الإذن ، بشهادة استدلاله بحديث رفع القلم ، وهو كاشف عن إرادة التعميم ، إذ المرفوع عن الصبي مطلق الحكم ، سواء التكليفي والوضعي ، وسواء أكان مستقلا في التصرف أم مأذونا أم مجازا ، وهذا الإطلاق يساوق سلب العبارة ، وهو المدّعى.

(١) هذا البناء مبني على أصالة الاتصال في الاستثناء ، وتوقف الانقطاع على قرينة ، لظهور الإخراج في دخول الخارج في المخرج عنه. وحيث إنّ الإحرام لا يجوز إلّا بإذن الولي فلا بدّ من شمول المستثنى منه ـ وهو التصرف المحجور عنه ـ لمطلق أفعال الصبي وأقواله ، حتى لو وقعت بإذن وليّه.

٣٥

التصرف (١).

وكذا (٢) إجماع الغنية بناء على أنّ استدلاله بعد الإجماع بحديث رفع القلم دليل على شمول معقده للبيع بإذن الولي.

وليس المراد (٣) نفي صحة البيع المتعقب بالإجازة حتى يقال : إنّ الإجازة عند السيد غير مجدية في تصحيح مطلق العقد الصادر من غير المستقلّ ، ولو كان غير مسلوب العبارة كالبائع الفضولي.

ويؤيّد الإجماعين (٤) ما تقدّم عن كنز العرفان.

______________________________________________________

(١) كما يدّعيه المتوهم.

(٢) معطوف على «الإجماع المحكي عن التذكرة».

(٣) يعني : لو اقتصر السيّد قدس‌سره في إثبات بطلان بيع الصبي على الإجماع لكان قوله : «وإن أجاز الولي» موهما لكون وجه البطلان عدم استقلاله في التصرف ، بناء على ما ذهب إليه السيد من بطلان عقد من ليس مستقلا في التصرف ، سواء أكان كبيرا غير مالك لأمر العقد ، أم صبيّا مسلوب العبارة ، فالمهمّ قصور الإجازة اللاحقة عن تصحيح عقد غير المستقل ، وهذا بخلاف ما لو أذن له الولي قبل العقد ، فيصحّ حينئذ ، لعدم افتقاره إلى الإجازة اللاحقة كي يبطل.

ولكن الدافع لهذا الوهم استدلال السيد بحديث رفع القلم ، وهو ظاهر في سلب العبارة ، وعدم ترتب الأثر على إنشاء الصبي مطلقا ، سواء أكان باذن وليه أم لا.

(٤) أي : إجماعي الغنية والتذكرة. وغرضه بقوله : «ما تقدم عن كنز العرفان» ما أفاده في صدر المسألة بقوله قدس‌سره : «وفي كنز العرفان نسبة عدم صحة عقد الصبي إلى أصحابنا».

ولعلّ التعبير بالتأييد دون الدلالة لأجل احتمال اعتماده في دعوى الإجماع على عبارة التذكرة وعدم تحصيل اتفاق الفتاوى بنفسه.

٣٦

نعم (١) لقائل أن يقول : إنّ ما عرفت (٢) من المحقق والعلّامة وولده والقاضي وغيرهم ـ خصوصا (٣) المحقق الثاني الذي بنى المسألة على شرعية أفعال الصبي ـ يدلّ على عدم تحقق الإجماع.

وكيف كان (٤) فالعمل على المشهور.

ويمكن أن يستأنس له (٥)

______________________________________________________

(١) غرضه التشكيك في ثبوت الإجماع ـ على بطلان عقد الصبي ـ بنحو يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام أو عن حجة معتبرة.

(٢) من تردّد المحقق في إجارة المميّز بإذن الولي ، واستشكال العلّامة فيها.

(٣) وجه الخصوصية : أنّ تردّد المحقق والعلّامة وإن كان موهنا للإجماع التعبدي ، إلّا أنّ ابتناء المسألة ـ عند المحقق الثاني ـ على شرعية عباداته وتمرينيتها أقوى دليل على عدم انعقاد الإجماع الكاشف عن رأى المعصوم عليه‌السلام ـ مع وجود القائل بكلّ منهما ـ ومعه لا وجه لدعوى الاتفاق على سلب العبارة عن الصبي.

(٤) يعني : سواء تحقّق الإجماع التعبدي على بطلان عقد الصبي أم لم يتحقق ، فالمتّبع فتوى المشهور بالبطلان.

د : حديث «عمد الصبي خطأ»

(٥) أي : للمشهور ، وهذا وجه رابع لإثبات عدم موضوعية أقوال الصبي وأفعاله لأثر شرعي. والتعبير بالاستيناس ـ دون الدلالة التي عبّر عنها المصنف في حديث رفع القلم وعدم جواز الأمر ـ لأجل أنّ استظهار سلب الاعتبار عن عبارة الصبي من هذه الطائفة لا يخلو من شي‌ء ، لتطرق احتمال ظهورها في رفع خصوص الأحكام المترتبة على عنوان العمد ، وذلك بقرينة مقابلته للخطإ ، يعني : أنّ الأحكام المترتبة على عنوان العمد ترفع عن عمد الصبي ، وأنّ عمده موضوع لحكم الخطأ المترتب على الفعل الصادر خطأ من البالغ.

٣٧

أيضا (١) بما ورد في الأخبار المستفيضة من «أن عمد الصبي وخطأه واحد» (١)

______________________________________________________

وعليه ففرق بين أن يقال : «قصد الصبي كلا قصد» وبين «عمد الصبي محكوم بحكم خطأ البالغ» والمجدي في المقام هو المفاد الأوّل ، مع أنه يحتمل إرادة الثاني.

وكيف كان فتقريب دلالة هذه الأخبار المستفيضة ـ التي سيأتي التعرض لها في التعليقة إن شاء الله تعالى ـ أنّ قوله عليه‌السلام : «عمد الصبي وخطأه واحد» ظاهر في كون عمد الصبي كالعدم ، وقصده كلا قصد. فلو ترتب الحكم الشرعي على الفعل الإرادي الصادر من البالغ لم يترتب عليه لو صدر من الصبي القاصد. مثلا موضوع الوفاء بالعقد هو العقد المقصود ، فلو أنشأه الصبي المميّز ـ ولو بإذن وليه ـ كان بمنزلة إنشاء البالغ الهازل أو النائم في عدم موضوعيته لوجوب الوفاء به.

فان قلت : إنّ هذه الأخبار ـ لو سلّم ظهورها في سلب عبارة الصبي ـ لم يتجه الاستدلال بها على بطلان عقده ، وذلك لما ورد في بعضها من قرينة الاختصاص بجناية الصبيان ، كقوله عليه‌السلام في معتبرة إسحاق بن عمار : «عمد الصبي خطأ يحمل على العاقلة» وعليه فليست في مقام تنزيل عقد الصبي منزلة العدم ، وإنما هو حكم مخصوص ببابي القصاص والديات. مضافا إلى أن صاحب الوسائل رواها في البابين المذكورين.

قلت : هذه الطائفة مشتملة على مضامين ثلاثة ، ومحطّ النظر هو معتبرة محمّد بن مسلم المذكورة في المتن ، وهي مطلقة ولا قرينة فيها على الاختصاص بباب الجناية. وليس المقام من موارد حمل المطلق على المقيد ، خصوصا بعد استظهار إطلاق تنزيل عمد الصبي منزلة خطأ البالغ في كلمات شيخ الطائفة وابن إدريس كما سيأتي التعرض له. وأمّا ذكر هذه الأخبار في باب الديات لمناسبة فليس دليلا على الاختصاص كما لا يخفى.

(١) يعني : كما استدلّ بحديث رفع القلم ، وعدم جواز أمر الصبي ، وإن كانت الدلالة ممنوعة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣٠٧ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، ح ٢.

٣٨

كما في صحيحة ابن مسلم وغيرها (١). والأصحاب (٢) وإن ذكروها في باب الجنايات ، إلّا أنّه لا إشعار في نفس الصحيحة بل وغيرها (٣) بالاختصاص (٤) بالجنايات.

______________________________________________________

(١) كمعتبرة إسحاق بن عمّار (١) وخبر أبي البختري الآتي (٢) في المتن.

(٢) يعني : أرباب الجوامع الروائية ، وإلّا فاستدلّ بها الفقهاء في غير باب الجناية ، ككفارات الإحرام ، وعبارة المتن دفع دخل تقدم توضيحهما بقولنا : «فان قلت .. قلت ..».

(٣) المراد بغير الصحيحة هو معتبرة إسحاق بن عمّار ، ولم يظهر الوجه في عدم إشعارها بالاختصاص بباب الجنايات.

إلّا أن يدّعى : أن قوله عليه‌السلام : «عمد الصبي خطأ يحمل على العاقلة» يتضمّن أمرين :

أحدهما : تنزيل موضوع ـ وهو عمد الصبي ـ منزلة موضوع آخر وهو خطاؤه.

والآخر : حكم ، وهو كون دية جنايته على عاقلته ، وليس هذا الحكم قرينة على تقيّد الأوّل بباب الجنايات ، فلذا يحكم بإطلاق تنزيل عمده منزلة خطائه ، وكون قصده كلا قصد ، هذا.

ولكن الظاهر قرينية «تحمّل العاقلة للدية» على تنزيل عمد الصبي في خصوص باب الجناية منزلة خطأ البالغ في تحمل العاقلة ، إذ لم يثبت هذا الحكم في غير الجناية الخطائية في البالغ حتى يثبت في حق الصبي.

وعليه فالأولى في دعوى عدم الإشعار ـ بالاختصاص بالجناية ـ الاعتماد على خصوص صحيحة محمد بن مسلم غير المذيّلة بتحمل العاقلة للدية.

(٤) متعلق ب «لا إشعار».

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣٠٧ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٦٦ ، الباب ٣٦ من كتاب القصاص ، ح ٢.

٣٩

ولذا (١) تمسّك بها الشيخ في المبسوط والحلّي (١) في السرائر على أنّ إخلال الصبي المحرم بمحظورات الإحرام ـ التي (٢) يختص حرمتها الموجبة للكفارة فيها بحال التعمد ـ لا يوجب (٣) كفارة على الصبي ، ولا على الولي ، لأنّ عمده خطاء.

وحينئذ (٤) فكل حكم شرعي تعلّق بالأفعال التي يعتبر في ترتب الحكم

______________________________________________________

(١) أي : ولعدم إشعار الصحيحة بالاختصاص بالجنايات تمسّك بها الشيخ رحمه‌الله والحلّي على عدم كون إخلال الصبي بمحرّمات الإحرام موجبا للكفارة ، لأنّ عمده خطاء ، ومن المعلوم عدم ترتب الكفارة على ارتكابها خطأ ، فكل حكم شرعي يترتب على الفعل القصدي للبالغ لا يترتّب على الفعل الصادر عمدا عن الصبي ، لأنّ قصده نزّل منزلة العدم ، وعمده بمنزلة الخطاء.

(٢) صفة ل «المحظورات» وقوله : «الموجبة» صفة للحرمة ، يعني : أنّ محرّمات الإحرام على قسمين ، منها : ما لا يستلزم كفارة في غير حال العمد كلبس المخيط والطيب وحلق الشعر وتقليم الأظفار ونحوها نسيانا. ومنها : ما يستلزمها حتى لو ارتكبها المحرم نسيانا كالصيد ، على ما حكاه في المبسوط.

وكلام شيخ الطائفة وابن إدريس قدس‌سرهما ناظر إلى القسم الأوّل ، يعني : لو تعمّد الصبي المحرم لبس المخيط مثلا لم يجب عليه التكفير ، لكون عمده بمنزلة خطأ البالغ. واستدلّا على ذلك بما روي عنهم عليهم‌السلام من : أنّ عمد الصبي وخطأه سواء ، فراجع.

(٣) خبر قوله : «ان إخلال».

(٤) أي : وحين لم تكن صحيحة محمّد بن مسلم ـ ولا غيرها ـ ظاهرة ولا مشعرة بالاختصاص بجناية الصبي ، فكل حكم .. إلخ. وهذا تقريب الاستيناس بهذه الطائفة على سلب عبارة الصبي ، وحاصله : أنّ ترتب الأثر على الإنشاء سواء في العقد والإيقاع منوط بقصد الأمر الاعتباري ، ولمّا كان قصد الصبي المميّز بمنزلة عدم قصده كان إنشاؤه لغوا ، كإنشاء البالغ الهازل أو الغالط.

__________________

(١) المبسوط ، ج ١ ، ص ٣٢٩ ، السرائر ، ج ١ ، ص ٦٣٦ و ٦٣٧.

٤٠