هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

.................................................................................................

__________________

لكن المصنف قد ناقش فيه بما لفظه : «انه لو لم يكن هذا مكرها عليه ..» الى آخر ما في المتن. وحاصل الاشكال النقض بسائر موارد الإكراه ، وقد أوضحناه في التعليقة التوضيحية.

وفيه : عدم ورود النقض ، وذلك لأنّ الخصوصيات على قسمين :

أحدهما : ما له دخل في موضوع الأثر ، كما في الإكراه على الجامع بين طلاق إحدى الزوجتين أو عتاق أحد العبدين ، فإنّ المكره عليه حينئذ وإن كان كلّيا ، إلا أن خصوصية كل فرد من طلاق إحدى الزوجتين أو عتاق أحد العبدين موضوع للأثر ومحط نظر المكره.

فالإكراه تعلّق بكلّ واحدة من الخصوصيتين بحيث يصدق على طلاق كل واحدة منهما أنّه مكره عليه.

وثانيهما : ما لا يكون كذلك ، كما في الإكراه على بيع الدار ، فإن الخصوصيات الموجودة في بيع الدار ـ كإجراء عقده بالعربية أو الفارسية وفي مكان خاص وزمان كذلك ، وبيعها من زيد أو عمرو إلى غير ذلك من الخصوصيات ـ ليست دخيلة في الأثر ، ولم يتعلّق بها الإكراه ، والأثر مترتب على طبيعيّ البيع ، والمفروض تعلق الإكراه به.

فقياس بيع الدار على طلاق إحدى الزوجتين وعتق أحد العبدين وإن كان المكره عليه في جميعها كليا ليس بصحيح ، لما عرفت من اختلاف الخصوصيات في تحقق الإكراه في بعضها ، كطلاق إحدى الزوجتين وعتق أحد العبدين ، دون بعضها الآخر كالإكراه على بيع الدار ، فإن الخصوصيات فيه ليست دخيلة في الأثر ، وإنّما الأثر مترتب على طبيعة البيع التي هي المكره عليها.

ولا بأس ببيان الصور المتصوّرة في تعلق الإكراه بالجامع والقدر المشترك ، فنقول : إنّ تلك الصور خمسة ، لأنه تارة يتعلق الإكراه أو الاضطرار بالجامع بين فعلين محرمين ، كالإكراه على شرب الخمر أو قتل النفس.

٢٢١

.................................................................................................

__________________

وأخرى يتعلّق بالجامع بين الحرام والمباح ، كإكراهه على شرب الخمر أو الماء.

وثالثة : يتعلّق بالجامع بين المباح والمعاملة كالإكراه على سفر مباح أو بيع داره.

ورابعة : يتعلّق بإحدى المعاملتين بالمعنى الشامل للعقود والإيقاعات ، بأن يتعلّق الإكراه ببيع داره أو بيع كتبه ، أو يتعلق ببيع داره أو عتق عبده ، أو يتعلق بإيقاعين كطلاق زوجته أو عتق عبده.

وخامسة : يتعلّق بالجامع بين الحرام والمعاملة ، أي بين ما تعلق به الحكم التكليفي والوضعي.

أما الصورة الأولى وهي كون كلا الأمرين حراما تكليفيا فحكمها أنّه إذا كانا متساويين في ملاك التحريم في نظر الشارع كان المكره مخيّرا في اختيار أيّ واحد منهما ، لأنّ نسبة المكره عليه ـ وهو الجامع ـ إلى كل منهما على حد سواء.

وحيث إنّ الجامع لا يمكن إيجاده إلّا في ضمن إحدى الخصوصيتين فمقدمة لارتكاب الجامع المكره عليه يضطرّ إلى ارتكاب إحدى الخصوصيتين ، فثبت التخيير في إحداهما ، فإذا أتى بالجامع في ضمن إحداهما لم يرتكب محرّما. نعم إذا أتى بالجامع في ضمن كلتا الخصوصيتين فقد ارتكب المحرّم ، لعدم ثبوت الترخيص إلّا في إحداهما.

وإن كانا مختلفين في ملاك التحريم فلا بد حينئذ من اختيار أقلهما مبغوضا. مثاله الإكراه على شرب أحد الإنائين مع كون أحدهما نجسا والآخر نجسا ومغصوبا. فإنّ الإكراه حينئذ يتعلّق بشرب النجس ، فلا يجوز للمكره شرب ما هو نجس ومغصوب لإمكان دفع الضرر المتوعد عليه بما هو أخف محذورا منه.

وكذا لو أكره شخص على شرب أحد المائعين ، وكان أحدهما خمرا والآخر متنجسا ، فإنه لا يجوز له أن يختار شرب الخمر ، لعدم كونه بالخصوص موردا للإكراه ، بل لا بدّ له من اختيار ما يكون ملاك المبغوضية أقل وأخف ، فلا يتحقق هنا إكراه على الحرام

٢٢٢

.................................................................................................

__________________

الأهم مع التفصي بارتكاب الحرام المهمّ.

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي الإكراه على الجامع بين الحرام والمباح ـ فملخص الكلام فيها أنّ هذا الإكراه لا يرفع حرمة الحرام وإن صدق الإكراه على الجامع بينه وبين المباح بحسب إكراه المكره. لكنه لا إكراه على الجامع حقيقة مع التفصي عن الحرام بغير التورية ، وعدم اضطرار المكره إلى ارتكاب الخصوصية المحرّمة مقدّمة لارتكاب الجامع المكره عليه.

وعليه فلا بدّ من ارتكاب المباح ، لاندفاع الضرر المتوعد عليه بارتكاب المباح ، فلا مسوّغ لارتكاب الحرام أصلا.

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي الإكراه على الجامع بين المباح التكليفي والمعاملة ، كالإكراه على شرب الماء أو بيع الدار ـ فالكلام فيها كسابقتها ، فلا يرفع الإكراه أثر المعاملة إذا اختارها ، لصدورها عن طيب النفس لا الخوف ، إذ المفروض إمكان دفع الضرر المتوعد به بارتكاب المباح ، فاختياره للمعاملة ليس ناشئا عن الخوف ، بل عن طيب نفسه ، فالمعاملة صحيحة.

ومنه يظهر حكم الإكراه على الجامع بين المعاملة الصحيحة والفاسدة ، كما إذا قال : «بع دارك أو أوقع معاملة ربوية» فإنّ ما تعلّق به الإكراه وهو الجامع لا أثر له ، وماله الأثر وهو المعاملة الصحيحة لا إكراه عليه حتى يرفع الإكراه أثره ، فإنّ الاضطرار إلى ارتكاب إحدى الخصوصيتين مقدمة لوجود الجامع كما يندفع باختيار الفرد الصحيح ، كذلك يندفع باختيار الفاسد ، فإذا اختار الفرد الصحيح كان بطيب نفسه ، فيحكم بصحته.

ويظهر أيضا حكم الإكراه على الجامع بين المعاملة الصحيحة ـ كبيع داره ـ وبين أداء دينه ونحوه من الحقوق ، فإذا اختار البيع لا يحكم بفساده.

ويظهر أيضا حكم ما لو أكره على بيع داره أو بيع دار جاره فضولا ، فباع دار نفسه ،

٢٢٣

.................................................................................................

__________________

فإنّه لا يحكم بفساد بيعه ، إذ يمكن أن يبيع فضولا دار جاره ، لأنه مباح بعد وضوح عدم كونه تصرفا في مال الغير ، فيكون من صغريات الإكراه على أحد الأمرين اللذين يكون أحدهما مباحا والآخر حراما ، فهو من قبيل الإكراه على بيع داره أو شرب الماء ، فإذا اختار البيع كان صحيحا ، لإمكان التفصي عن الضرر المتوعد به بفعل المباح ، فلم يصدر عنه البيع إلّا بطيب نفسه ورغبته فيه ، ولم يصدر عنه لدفع الضرر.

وكذا لو أكره الراهن عند حلول أجل الدين على بيع العين المرهونة ، أو بيع غيرها مما لا يستحقّه المرتهن ، واختار الراهن الثاني كان البيع صحيحا ، فإنه من قبيل الإكراه على بيع شي‌ء من أمواله أو أداء دينه الواجب كما لا يخفى.

وأما الصورة الرابعة وهي ما إذا أكره على إحدى المعاملتين كطلاق زوجته أو بيع داره ، فتفسد فيها المعاملة التي يختارها المكره ، لأنّ الإكراه وإن لم يتعلق بكل من المعاملتين ، وأنّما تعلّق بالجامع ، إلّا أنّه مضطرّ الى ارتكاب إحدى الخصوصيتين مقدّمة لدفع الضرر المترتب على ترك الجامع ، والاضطرار إلى إحدى المعاملتين يرفع الأثر عما يختاره المكره خارجا.

وأمّا الصورة الخامسة ـ وهي الإكراه على الجامع بين الحكم التكليفي والوضعي ، كالإكراه على بيع داره أو شرب الخمر مثلا أو ترك واجب كالصلاة ونحوها ـ فالكلام فيها يقع في جهتين :

الأولى : في الحكم التكليفي ، والثانية في الحكم الوضعي.

أمّا الجهة الأولى فحاصل البحث فيها : أنّه لا ينبغي الارتياب في بقاء الحرمة وعدم ارتفاعها ، لأنّ المعاملة ليست من المحرّمات حتى يكون من الإكراه على الجامع بين الحرامين ، بل هي من المباحات. فالمقام من صغريات الإكراه على الجامع بين الحرام والمباح ، والمفروض أنّ المكلف متمكن من التفصي عن ارتكاب الحرام باختيار المباح

٢٢٤

.................................................................................................

__________________

وهي المعاملة ، فالحرمة باقية ولا ترتفع بالإكراه المزبور ، لعدم كون الحرام بنفسه متعلقا للإكراه ، ولا موردا للاضطرار بعد إمكان التفصي بفعل المباح كما تقدم.

وأما الجهة الثانية وهي الحكم الوضعي فملخص الكلام فيها : أنّ الظاهر بطلان البيع إذا اختاره ، لصدوره عن كره لا عن طيب النفس ، إذ هو ـ مع فرض بقاء الحرمة في الطرف الآخر كشرب الخمر ـ يكون خائفا من المكره ، فيبيع داره خوفا لا طوعا.

وببيان آخر : شرب الخمر ضرر في نفسه ، فإذا ترك البيع ترتب على تركه أحد ضررين ، إمّا شرب الخمر ، وإمّا الضرر المتوعد به من طرف المكره ، فيقع البيع خوفا من الضرر الجامع بين الإكراه والاضطرار ، فيشمله دليل رفع الإكراه. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل المتعلق بالإكراه على الجامع بين الأفراد العرضية.

وأمّا المقام الثاني المتكفّل للإكراه على الجامع بين الأفراد الطولية كما إذا أكره على فعل محرّم تكليفا في اليوم أو في الغد مثلا ، أو أكره على بيع داره في اليوم أو بعده ، فهل يكون الإكراه رافعا للأثر عن أحدهما من غير فرق بين الفرد السابق واللاحق في الأحكام التكليفية والوضعية؟ أم لا يكون رافعا للأثر إلّا عن الفرد اللاحق مطلقا. أم يفصل بين التكليفيات والوضعيات ، ففي التكليفيات لا يرتفع الأثر إلّا عن الفرد اللاحق ، بخلاف الوضعيات فإنه يرتفع الأثر بالإكراه فيه ولو اختار الفرد السابق ، لسراية الإكراه إليه ، ولتساوي الفردين بالنسبة إلى الجامع المكره عليه ، كما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره.

قال مقرر بحثه الشريف : «والظاهر في هذه الصورة (أي في الإكراه على الأفراد الطولية) الفرق بين المحرّمات والمعاملات ، فلو كان مكرها أو مضطرا إلى شرب الخمر موسّعا ، فلا يجوز له المبادرة إليه في أوّل الوقت ، سواء احتمل التخلص منه لو أخّره أم لم يحتمل ، إذ لا بدّ في ارتكاب المحرّم من المسوّغ له حين الارتكاب ، فإذا لم يكن حين الشرب ملزما ، فاختياره فعلا لا مجوّز له .. وأمّا لو كان مكرها في بيع داره موسّعا ،

٢٢٥

.................................................................................................

__________________

فلو كان مأيوسا من التخلص عنه فإقدامه على البيع في أوّل الوقت لا يخرجه عن الإكراه. وأمّا لو احتمل التخلص ، فلو باع أوّل الوقت فهو مختار. والفرق واضح» (١).

فملخص ما أفاده : حرمة ارتكاب الحرام فيما إذا أكره على شرب الخمر مثلا في اليوم أو الغد ، وأنّ الحرمة ترتفع في الغد ، بخلاف الإكراه على بيع داره في اليوم أو الغد ، فإنه إذا باعها في اليوم كان البيع عن إكراه ، فيبطل.

وذكر في باب التزاحم من علم الأصول تعيّن الفرد السابق في التكليفيات في صورة واحدة ، وهي ما إذا كان الفرد اللاحق أهم في نظر الشارع ، مع كون القدرة في كلّ من الواجبين شرطا عقليا ، فحينئذ يقدّم الأهم على الآخر ، فإذا أكره على شرب النجس في اليوم أو قتل مؤمن في الغد ، فإنّه يتعيّن عليه رفع الإكراه بالفرد السابق واختياره.

والسرّ في ذلك أنّ أهمية الفرد اللاحق تكون معجزة شرعا عنه ، فيجب حفظ القدرة على الفرد اللاحق بارتكاب الفرد السابق ، دون العكس ، فتكون نسبة الأهم إلى غيره كنسبة الواجب إلى المستحب أو المباح ، فكما لا يمكن أن يكون المستحب أو المباح مزاحما للواجب ، كذلك لا يمكن أن يكون المهم مزاحما للأهم ، ولا فرق في ذلك بين عرضية المتزاحمين وطوليتهما هذا.

أمّا ما أفاده قدس‌سره من لزوم تقديم الأهم على المهم فهو قاعدة كلية ثابتة في باب التزاحم ، ولا ينبغي الارتياب فيها.

وأمّا ما أفاده من التفصيل بين المعاملات وغيرها فلا محصل له ، وذلك لعدم انطباق عنوان المكره عليه ولا المضطر إليه على الفرد المتقدم مع سعة الوقت ليرتفع حكمه بسبب الإكراه أو الاضطرار ، من دون فرق في ذلك بين المحرّمات والوضعيات ، فإنّ المكره عليه الذي يترتب عليه الضرر هو ترك المجموع ، لا ترك خصوص الفرد الأوّل وعليه فلا ملزم له في فعله.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٩٠.

٢٢٦

.................................................................................................

__________________

نعم في صورة ترك الفرد الأوّل يلزم الإتيان بالفرد الأخير ، لترتب الضرر على تركه.

وعلى هذا فلو أكره على بيع داره يوم الجمعة أو يوم السبت ، فبادر إلى بيعها يوم الجمعة ، فإنّه يحكم بصحة هذا البيع ، لصدوره عن الرضا وطيب النفس ، ولا يحكم ببطلانه كما أفاده قدس‌سره نظرا إلى عدم خروجه عن الإكراه الموجب لبطلانه.

وكذا إذا أكره على فعل المحرّم إمّا يوم الجمعة وإمّا يوم السبت ، فإنه لا يجوز المبادرة إلى فعله يوم الجمعة ، لعدم ترتب ضرر على تركه في نفسه ، بل الضرر يترتب على تركه المنضم إلى ترك الفرد اللاحق ، فلا يجوز للمكلّف ارتكابه.

فالمتحصل : أنّ المضطر إليه والمكره عليه في الأفراد الطولية هو الفرد المتأخر فقط ، من دون فرق في ذلك بين المحرمات والمعاملات. فالفرد الأول من الحرام كشرب الخمر حرام فلو فعله كان عاصيا هذا.

ولا يخفى أن ما ذكرناه في الأفراد الطولية والعرضية جار في التكاليف الوجوبية ، فإذا أكره على ترك أحد واجبين طوليين كالإفطار في اليوم الأوّل من شهر رمضان أو في اليوم الثاني منه ، فإنه لا يجوز له المبادرة إلى الإفطار في اليوم الأوّل من الشهر ، لعدم كونه بالخصوص موردا للإكراه حتى يشمله حديث الرفع ويرتفع به وجوب صومه ، لعدم ترتب الضرر على تركه بالخصوص ، بل الضرر مترتب على تركه المنضمّ إلى ترك الصوم في اليوم الثاني ، فإنّ خوف الضرر ناش من ترك الواجب الثاني ، فهو المكره عليه المشمول لحديث الرفع ، فيرتفع وجوبه بالإكراه. هذا في الواجبات الاستقلالية كصوم كل يوم من شهر رمضان.

وأمّا إذا تعلق الإكراه بالواجبات الضمنية ، فمقتضى القاعدة الأوليّة في الواجبات الارتباطية سقوط أوامرها بتعذر جزء أو قيد من أجزائها وقيودها ، من غير فرق

٢٢٧

.................................................................................................

__________________

في ذلك بين كون الجزء المتعذر متعينا ، وبين كونه مرددا بين أمرين أو أمور ، فإذا أكره المكلّف على ترك جزء في الركعة الأولى أو الثانية كان مقتضى القاعدة سقوط وجوب أصل الصلاة ، لعدم القدرة على الإتيان بجميع أجزائها المفروضة ارتباطيتها.

لكن في خصوص الصلاة قام الدليل من الإجماع أو الروايات أو غيرهما على «أن الصلاة لا تسقط بحال» (١) ، وأنّ المقدار الميسور منها لا يسقط بالمعسور ، فحينئذ يدور الأمر بين أن يكون الساقط هو الجزء الأوّل ، وبين أن يكون هو الجزء الثاني كما إذا أكره على ترك التشهد من الركعة الثانية أو الركعة الرابعة.

فإن استفدنا من دليل الجزئية أنّ العبرة في جزئيته للواجب بالقدرة عليه في وعاء اعتباره ، فيتعين حينئذ أن يكون الساقط هو الجزء المتأخر ، إذ المفروض قدرته على الجزء الأوّل في ظرفه ، فيجب صرفها فيه مع الاضطرار إلى ترك الجامع كالقيام ، لما دل عليه صحيح جميل بن دراج ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : ما حدّ المرض الذي يصلي صاحبه قاعدا؟ فقال : إنّ الرجل ليوعك ويحرج ، ولكنه إذا قوي فليقم» (٢) ، ومن المعلوم صدق القدرة على القيام في الركعة الأولى إذا لم يقدر عليه إلّا في إحدى الركعات.

وإن لم نستفد شيئا من الأدلة فينتهي الأمر الى الأصل العملي ، ومقتضاه التخيير ، لأن الشك في اعتبار خصوص الأوّل يدفع بالبراءة ، فمقتضى العلم باعتبار أحدهما هو الإتيان به مخيرا بين السابق واللاحق.

فحاصل الفرق بين الواجبات الاستقلالية والضمنية هو : أنّ الشك هناك في سقوط

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢ ، ص ٦٠٥ ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٥. رواه زرارة في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام والحديث طويل ، ومنه «فان انقطع عنها الدم ، والّا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء ، ثمّ تصلّي ولا تدع الصلاة على حال ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الصلاة عماد دينكم.

(٢) وسائل الشيعة ج ٤ ص ٦٩٩ ، الباب ٦ من أبواب القيام في الصلاة الحديث ٣ ، رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب وابن أبي عمير عن جميل ، والرواية صحيحة.

٢٢٨

.................................................................................................

__________________

التكليف عن الفرد الأوّل بالإكراه على الجامع ، فلا بدّ أن يؤتى به ، فيتعين الساقط في الفرد اللاحق.

وفي المقام في حدوث التكليف بخصوص الفرد الأوّل ، توضيحه : أنّ التكليف في الواجبات المستقلة بالنسبة إلى الفرد الأول معلوم ، وسقوطه عنه بالإكراه على الجامع مشكوك فيه ، فمقتضى الاستصحاب بقاؤه. بخلاف الواجبات الضمنية ، فإنّ الأمر الجديد بالصلاة بعد تعذّر جزء منها كأحد التشهّدين لا يعلم أنّه تعلق بالصلاة الواجدة للتشهد في الركعة الثانية ، أو تعلق بالصلاة الواجدة للتشهد في الركعة الأخيرة ، أو بالصلاة مع التشهد في الجملة. فالشك يكون في حدوث التكليف بخصوص الفرد الأوّل تعيينا ، ومقتضى أصل البراءة عدم التعيينيّة. هذا ما يستفاد من التقريرات (١).

أقول : فيما أفاده من الفرق بين الواجبات الاستقلالية والضمنية ـ بأنّ الإكراه على الجامع في الأولى لا يؤثر في الفرد الأوّل بل يؤثر في الفرد الثاني ، فيرتفع الحكم عنه دون الأوّل ، بخلاف الواجبات الضمنية ، فإنّ حدوث التكليف فيها بالنسبة إلى الفرد الأوّل تعيينا مشكوك فيه ، فيرفع بأصالة البراءة ، فيتخير في تطبيق الإكراه على الجامع بين الفردين الطوليين على أي فرد منهما شاء ـ تأمّل وإشكال ، لأنّ ما أفيد في الفرق المزبور مبني على حدوث أمر جديد بالنسبة إلى الواجب الفاقد لجزء بالتعذر ، وسقوط الأمر الأوّل المتعلق بالكلّ ، إذ يشكّ حينئذ في أن الأمر الجديد تعلق بالصلاة الواجدة للقيام في الركعة الأولى مثلا أو للقيام في الركعة الثانية ، فيرجع حينئذ في تعلّقه بالقيام الأوّل بالخصوص إلى البراءة.

وهذا المبنى غير سديد ، لأنّ الدليل على عدم سقوط الصلاة سواء أكان قاعدة الميسور أم نصا خاصا لا يقتضي إلّا بقاء الأمر الصلاتي ، وعدم سقوطه بالتعذر ، لأنّ مقتضى حكومة قاعدة الميسور و «لا تعاد» وغيرهما من الأدلة الثانوية تضييق دائرة

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٣١٧ و ٣١٨.

٢٢٩

.................................................................................................

__________________

الجزئية أو الشرطية المستلزم لسقوط أمر الجزء أو الشرط ، مع بقاء الأمر بما عدا المعسور ، فإنّ السقوط مترتب على الثبوت ، فمعنى «الميسور لا يسقط بالمعسور» أنّ الأمر المتعلق بالكل لا يسقط إلّا ما تعلّق منه بالمعسور ، فالأمر الساقط هو الأمر الضمني المتعلق بالمعسور ، وأما الأمر بسائر الأجزاء فهو باق على حاله فحينئذ يقع الكلام في أنّ الساقط هو جزئية القيام في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية ، فيرجع الشك الى سقوط التكليف لا ثبوته ، كالشك في الواجبات الاستقلالية. فلا يؤثر الإكراه على الجامع بين الجزئين الطوليين في ارتفاع جزئية الفرد الأوّل ، بل هو باق على جزئيته ، كالإكراه على الجامع بين الفردين الطوليين في الواجبات الاستقلالية.

وبالجملة : فالفرق المزبور بين الفردين الطوليين في الواجبات الاستقلالية والضمنية في حيّز المنع ، بل وزان الضمنية وزان الاستقلالية في أنّ الإكراه على الجامع يؤثر في الفرد الأخير دون الأوّل.

بل يمكن أن يقال ـ بعد تسليم تعلق الأمر الجديد وسقوط الأمر الأوّل ـ إنّ الفرق بين الواجبات الاستقلالية والضمنية أيضا في حيّز المنع ، إذ موضوع الأمر الجديد هو المكره على ترك أحد القيامين ، وعنوان «أحدهما» قابل الانطباق على كل واحد من القيامين ، لكن لا بد من تطبيق المكره عليه على القيام الثاني ، لأن الخوف ناش من فعل القيام الثاني ، وأمّا إذا تركه وأتى بالقيام الأوّل فلا خوف. فالواجب الارتباطي كالاستقلالي من دون فرق بينهما في لزوم تطبيق المكره عليه على الفرد اللاحق ، فتدبر.

هذا إذا لم يقم دليل بالخصوص على تعيّن الأخذ بأحدهما المعيّن ، وإلّا فيتعين الأخذ به ، ويسقط الآخر ، كما إذا دار الأمر بين الوقت وغيره كالسورة ، فإنّه يتعيّن سقوط السورة وإتيان الصلاة بدونها في الوقت. وكما إذا دار الأمر بين الطهور وغيره ، فإنّه لا إشكال في تقدم الطهور على غيره. وكما إذا دار الأمر بين الوقت وجامع الطهور ، فإن الساقط حينئذ هو الوقت.

٢٣٠

ثم إنّ إكراه أحد الشخصين على فعل واحد (*) بمعنى إلزامه عليهما كفاية (١) وإيعادهما على تركه كإكراه (٢) شخص واحد على أحد الفعلين (**) في (٣) كون كل منهما مكرها.

______________________________________________________

إكراه أحد الشخصين على فعل واحد

(١) أي : على نحو الوجوب الكفائي ، بأن يكون كلّ منهما في صورة ترك المكره عليه موردا للإيعاد ، كترك الواجب الكفائي الموجب لاستحقاق الجميع للمؤاخذة ، بأن يأمر المكره أحد شخصين بشرب الخمر أو طلاق الزوجة أو بيع الدار ، فيقول لزيد وعمرو : «ليشرب أحدكما هذه الخمر ، وإلّا أضرّ بكما بما لا يتحمل عادة» أو قال : «ليطلّق أحدكما زوجته ، وإلّا» فإنّ إقدام كل منهما على الشرب أو الطلاق لمّا كان مستندا إلى خوف الضرر» وناشئا من تحميل الغير كان مكرها عليه.

(٢) خبر قوله : «إنّ إكراه» وضمير «إلزامه» راجع إلى «فعل واحد».

(٣) متعلق ب «إكراه» وهذا وجه المماثلة ، يعني : أنّ إكراه شخصين على فعل واحد كإكراه شخص واحد ـ على أحد الفعلين ـ في كون كل من الشخصين مكرها.

__________________

(*) بأن يكون واحدا حقيقة وإن كان متعددا فاعلا كبيع الوكيلين أو مالك ووكيله ، فإنّ الملكية الحاصلة من إنشاءاتها واحدة وإن كان إنشاؤها من متعدد. وأما إن كان متعددا كبيع دار زيد أو بيع دار عمرو ، فإن أكره أحدهما ببيع داره وباع زيد داره مع علمه أو احتماله عقلائيا ببيع عمرو داره لدفع ضرر المكره ، فيكون بيع زيد داره عن الرضا وطيب النفس.

(**) لا بدّ من تقييد الفعلين بالعرضيّين لأن الطوليّين كما تقدم سابقا لا يتصف منهما بالإكراه إلّا الفرد اللاحق ، إذ مع اختيار السابق وترك اللاحق لا خوف فيه ، بل خوف الضرر المتوعد به ليس إلّا في ترك كليهما.

٢٣١

.................................................................................................

__________________

كما ينبغي تقييده بمساواة الشخصين في الخوف الناشئ من إيعاد المكره ، فلو كان أحدهما أشدّ خوفا من الآخر بحيث يعلم الآخر إقدامه لم يجز له الارتكاب ، ولو فعل لم يكن مكرها على الفعل.

وكيف كان ، فهذه هي الجهة السادسة : وتفصيل البحث فيها : أنّ إكراه أحد الشخصين أو الأشخاص يكون نظير الواجب الكفائي الذي يتعلّق الوجوب فيه بالجامع بين الشخصين أو الأشخاص ، فمتعلق الإكراه في إكراه الشخصين أيضا هو الجامع بينهما.

ثم اعلم أن إكراه أحد الشخصين قد يكون في مورد الأحكام التكليفية ، وقد يكون في مورد الأحكام الوضعية.

والأوّل كالإكراه على ارتكاب شرب الخمر أو ترك واجب كالصلاة أو الصوم.

والثاني كإكراه أحدهما على بيع داره.

أمّا القسم الأوّل فحاصل الكلام فيه : أنّ الحكم التكليفي لا يرتفع عن فعل كلّ منهما إلّا إذا علم أو احتمل احتمالا عقلائيا عدم إتيان الآخر به ، إمّا لتمكّنه من دفع الضرر المتوجه إليه ، وإمّا لتوطين نفسه على الضرر ، فإنّه يجوز له حينئذ ارتكاب المكره عليه فعلا أو تركا.

وبالجملة : جواز ارتكاب المكره عليه منوط بخوف الضرر المتوعد به ، فإذا لم يخف الضرر بأن علم أو اطمأن بأنّ الآخر يرتكب المكره عليه خوفا من توجه الضرر إليه ، أو لقلة مبالاته بالدين حرم عليه ارتكابه ، وذلك لأن الأحكام الشرعيّة من القضايا الحقيقية التي تنحلّ إلى أحكام عديدة ، فلكل فرد من أفراد المكلّفين حكم مستقلّ غير مرتبط بحكم سائر المكلفين. فحينئذ يكون ارتفاع الحكم عن كل واحد منهم منوطا بخوفه من الضرر ليشمله حديث الرفع ، ويحكم بإباحة الفعل أو الترك له. ففي صورة عدم الخوف من الضرر يحرم ارتكابه لدليل حرمته من دون ما يقتضي ارتفاعها.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو ما إذا تعلق الإكراه بالجامع بين الشخصين في الوضعيات مع تعدّد المكره عليه في نفسه أو وحدته ـ فبيانه :

أمّا الأوّل فكما إذا أكره الجائر أحد الشخصين على بيع داره ، لكون بيع كل من

٢٣٢

.................................................................................................

__________________

الدارين في نفسه مغايرا لبيع الدار الأخرى. وهذا القسم ملحق بالقسم الأوّل المتقدّم وهو إكراه أحد الشخصين على مورد الأحكام التكليفية كارتكاب شرب الخمر أو ترك واجب ، فإن احتمل كل منهما ـ احتمالا عقلائيا رافعا للخوف ـ صدور البيع من الآخر ، ومع ذلك أقدم على بيع داره يحكم بصحة بيعه ، لعدم صدوره عن الخوف ، بل لصدوره عن طيب نفسه فليتأمّل.

وإن لم يحتمل ذلك أو احتمل احتمالا لا يرفع الخوف وباع ، لم يكن البيع صحيحا ، لأنّه وقع عن الكراهة للخوف ، لا عن طيب النفس.

وأمّا الثاني ـ وهو وحدة العقد المكره عليه حقيقة ، وكون تعدده بلحاظ المعنى المصدري الناشئ عن تعدد العاقد ، وإلّا فبلحاظ المعنى الاسم المصدري واحد ـ فكما إذا أكره أحد الوكيلين على بيع دار شخصيّة لموكله ، فإنّ المكره عليه حينئذ موضوع شخصي وهو بيع دار الموكل ، والتعدد إنما يكون في ناحية من يوجد العقد وينشئه.

وكما إذا أكره أحد الوكيلين والموكل على بيع دار شخصية.

وحكم هذا القسم هو فساد المعاملة مطلقا من غير تفصيل بين العلم بصدور البيع من الآخر واحتمال ذلك احتمالا عقلائيّا وعدمهما ، لأنّها حقيقة واحدة ، ضرورة أنّ مورد الإمضاء الشرعي ـ وهو العقد الصادر عن الجامع بين الوكيلين ـ مكره عليه ، وليس خصوص كل منهما مكرها عليه ، إذ العقد الصادر عن الوكيلين هو الصادر على مال الموكّل ، فهو المكره عليه ، فالعقد من أي واحد منهما صدر فإنّما صدر عن كره ، إذ المالك لا يرضى ببيع ماله.

فعلى هذا يقع البيع فاسدا ، سواء علم العاقد بعدم إقدام الآخر عليه ، أم احتمله ، أم علم بخلافه ، فمتعلق الإكراه أمر وحداني ، وهو بيع مال الموكل ، فشأن هذا شأن إكراه الشخص الواحد على ارتكاب فعل فارد.

ومن هنا يتضح الفرق بين ما نحن فيه وهو إكراه أحد الوكيلين أو هما مع الموكّل على بيع عين شخصيّة ، وبين إكراه شخص واحد على أحد العقدين مرددا ، كأن يقول الجائر لزيد : «بع دارك أو طلّق زوجتك».

٢٣٣

واعلم أنّ (١) الإكراه قد يتعلّق بالمالك والعاقد كما تقدم ، وقد يتعلق

______________________________________________________

تعلّق الإكراه بإنشاء المالك تارة ، والعاقد اخرى

(١) هذه جهة أخرى من جهات البحث في عقد المكره ، وبيانه أنّ الإكراه على العقد يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : كون المكره هو المالك ، فيقال له : «بع دارك ، وإلّا» فينشئ البيع خوفا من الضرر ، وهذا هو الغالب ، حيث يكون المالك عاقدا أيضا ، وتقدّمت أقسامه وأحكامها في المباحث السابقة.

الثاني : كون المكره هو المالك ومن بيده الأمر ، لا العاقد ، كما لو أكره الجائر زيدا على أن يوكّل عمرا في بيع داره ، أو يوكّل ذلك الجائر فيه ، مع كون الوكيل مختارا في الإنشاء وحيث كان التوكيل باطلا للإكراه توقّفت صحة بيع الوكيل على إمضاء زيد ، لكونه فضوليا.

الثالث : عكس النحو الثاني ، بأن يكون المكره هو العاقد لا المالك ، كما لو أكره الجائر زيدا وقال له : «طلّق زوجتي وكالة ، وإلّا قتلتك» فهل يصح هذا الطلاق أم لا؟ قد عقد المصنف هذه الجهة لتحقيق المسألة ، ورجّح الصحة ، لوجود المقتضي وهو القصد والرضا ، وفقد المانع ، لفرض طيب نفس المالك أو الزوج بما طلبه من المكره ، وسيأتي وجهه.

__________________

وجه الفرق أن العقد فيما نحن فيه من أي شخص صدر يكون مكرها عليه ، فلو باع الوكيلان أو هما مع الموكّل بطل البيعان أو البيوع ، ولا يصح شي‌ء منها أو منهما ، لوقوع الجميع عن إكراه ، ولا وجه لصحته أصلا. بخلاف المثال ، فإنّه إذا طلّق زوجته دفعا لضرر المكره ثم باع داره كان البيع صحيحا. فإطلاق كلام المصنف حيث قال : «ثم إنّ إكراه أحد الشخصين على فعل واحد .. كإكراه شخص واحد على أحد الفعلين في كون كل منهما مكرها» مشكل جدّا.

٢٣٤

بالمالك دون العاقد ، كما لو أكره (١) على التوكيل في بيع ماله ، فان (٢) العاقد قاصد مختار ، والمالك مجبور ، وهو داخل في عقد الفضولي بعد ملاحظة عدم تحقق الوكالة (٣) مع الإكراه.

وقد ينعكس (٤) كما لو قال : «بع مالي أو طلّق زوجتي ، وإلّا قتلتك» والأقوى هنا الصحة ، لأنّ العقد هنا (٥) من حيث إنّه عقد لا يعتبر فيه سوى القصد الموجود في المكره إذا كان عاقدا. والرضا المعتبر من المالك موجود بالفرض. فهذا أولى (٦) من المالك المكره على العقد إذا رضي لاحقا.

______________________________________________________

(١) يعني : إكراه العاقد مالك المال على أن يوكّله في بيع ماله ، فحينئذ يكون العاقد مكرها للمالك على التوكيل في بيع ماله.

(٢) تعليل لصحة عقد الوكيل ـ بالوكالة الإكراهية ـ معلّقا على إجازة الموكل المفروض كونه مكرها.

(٣) إذ المنشأ في الوكالة هو الإذن في التصرف ، والمفروض انتفاء الإذن لمكان الإكراه والتحميل ، فكأنّه لم ينشأ شي‌ء أصلا. وهذا بخلاف البيع الإكراهي ، إذ المنشأ المقصود هو تمليك مال بمال ، والمفقود هو الرضا.

(٤) بأن يكره المالك غيره على أن يكون وكيلا عنه في عقد أو إيقاع ، كأن يقول المالك له : «بع مالي أو طلّق زوجتي ، وإلّا قتلتك».

(٥) يعني : في صورة إكراه المالك غيره على إجراء عقد أو إيقاع عنه.

وحاصل ما أفاده في وجه الصحة : أن ما يعتبر في العقد العرفي من قصد مضمون العقد حاصل من المكره ، وما يعتبر في صحة العقد شرعا من رضا المالك موجود أيضا ، فلا موجب لبطلان العقد هنا.

(٦) وجه الأولوية واضح ، لأنّ رضا المالك هنا موجود حال العقد ، فلو فرض اعتبار مقارنة العقد لرضا المالك في الصحة فهي موجودة هنا. بخلاف الرضا اللاحق ، فإنّه ليس مقارنا للعقد.

٢٣٥

واحتمل في المسالك عدم الصحة (١) ، نظرا إلى أنّ الإكراه يسقط حكم اللفظ ، كما لو أمر المجنون بالطلاق فطلّقها ، ثم قال : «والفرق بينهما أنّ عبارة المجنون مسلوبة (٢) ، بخلاف المكره ، فإنّ عبارته مسلوبة لعارض تخلّف القصد ، فإذا كان الآمر قاصدا لم يقدح إكراه المأمور» انتهى. وهو حسن (٣).

وقال (٤) أيضا : «لو أكره الوكيل على الطلاق (٥) دون الموكّل ففي صحته

______________________________________________________

(١) بعد أن رجّح الشهيد الثاني قدس‌سره الوقوع ، فلاحظ قوله : «لو قال : طلّق زوجتي وإلّا قتلتك ، أو غير ذلك ممّا يتحقق به الإكراه ، فطلّق ، ففي وقوع الطلاق وجهان ، أصحّهما الوقوع ، لأنه أبلغ في الإذن. ووجه المنع : أنّ الإكراه ..» إلى آخر ما نقله المصنف عنه.

وحاصل وجه عدم الصحة : أنّ الإكراه يسقط عبارة المكره عن التأثير كسقوط عبارة المجنون ، ثم فرّق بين المكره والمجنون بقوله : «والفرق بينهما» ومقتضاه صحة طلاق العاقد المكره.

(٢) يعني : أنّ عبارة المجنون كصوت البهيمة فاقدة لكل شي‌ء حتى الإرادة الاستعمالية ، بخلاف عبارة المكره ، فإنها مستعملة ، لكنه غير قاصد لوقوع معناها ، فإذا تحقق القصد من الأمر المكره ترتب عليه الأثر ، ولم يقدح إكراه المأمور المكره.

(٣) لأنّ المراد بانتفاء القصد في عبارة المكره هو انتفاء الرضا وطيب النفس بمضمون العقد ، وهو موجود في المالك الآمر ، وإن كان مفقودا في المكره. هذا ما أفاده الشهيد الثاني في الأمر الخامس مما ذكره في طلاق المكره.

(٤) يعني : وقال الشهيد الثاني في الأمر السادس من أمور طلاق المكره : «لو أكره ..» إلخ.

(٥) يعني : لو أكره زيد من هو وكيل شرعي عن عمرو ـ في طلاق زوجته ـ على أن يطلّقها الوكيل في زمان لا يريد الوكيل إيقاعه فيه ، من دون أن يكره زيد نفس الزوج عليه.

٢٣٦

وجهان أيضا (١) ، من تحقق الاختيار في الموكّل المالك (٢) ، ومن سلب عبارة المباشر» (١) انتهى.

وربما يستدل على فساد العقد في هذين الفرعين (٣) بما دلّ على رفع حكم الإكراه.

وفيه ما سيجي‌ء (٤) من : أنّه إنّما يرفع حكما (٥) ثابتا على المكره

______________________________________________________

(١) يعني : كصورة إكراه نفس الزوج ـ أو المالك ـ غيره على الطلاق أو بيع ماله.

(٢) عبارة المسالك هذه : «المالك للتصرف».

(٣) وهما صورة كون المكره هو المالك ، التي أشار إليها المصنّف بقوله : «وقد ينعكس كما لو قال : بع مالي أو طلّق زوجتي ، وإلّا قتلتك» وصورة كون المكره الوكيل الشرعي في طلاق زوجة شخص ، من دون أن يكره المكره نفس الزوج ، بل أكره غيره.

ولعلّ المستدل على الفساد هو المحقق الشوشتري قدس‌سره فإنّه بعد نقل الفرعين عن المسالك وتوجيههما ناقش فيهما ، وقال : «ولقائل أن يقول : انّ صحة العقود توقيفية تتبع الدليل ، فلما دلّ على صحة الفضولي والمكره بحقّ قلنا بها ، ولم يدلّ فيما سوى ذلك فلا نقول به. والاستناد إلى الاستحسانات لا يناسب مذهبنا ، وفي شمول العمومات إشكال ظاهر ، فوجب القول بالمنع .. إلخ» (٢).

وظاهر قوله : «فلمّا دلّ الدليل على صحة الفضولي والمكره بحق» كون وجه المنع في الفرعين المزبورين إلغاء إنشاء المكره عن التأثير مطلقا بمقتضى حديث رفع الإكراه.

(٤) يعني : في (ص ٢٨٢) عند قوله : «وثانيا : انه يدلّ على أن الحكم الثابت للفعل المكره عليه لو لا الإكراه يرتفع عنه .. إلخ».

(٥) لأنّ الرفع في حديثه تشريعي ، فلا بدّ أن يكون المرفوع حكما شرعيا.

__________________

(١) مسالك الافهام ج ٩ ص ٢٣.

(٢) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ١٨.

٢٣٧

لو لا الإكراه (١).

ومما يؤيّد ما ذكرنا (٢) حكم المشهور بصحة بيع المكره بعد لحوق الرضا ، ومن المعلوم أنّه إنّما يتعلق بحاصل العقد الذي هو أمر مستمر ، وهو النقل والانتقال. وأمّا التلفظ بالكلام الذي صدر مكرها فلا معنى (٣) للحوق الرضا به ، لأنّ (٤) ما مضى وانقطع لا يتغيّر عمّا وقع عليه ولا ينقلب.

______________________________________________________

(١) إذ المفروض أنّه عنوان ثانوي رافع للحكم بالعنوان ، فلا محيص عن ثبوت الحكم لو لا الإكراه حتى يكون الإكراه رافعا له.

(٢) يعني : من الصحة في الفرعين المذكورين. أمّا في أوّلهما ـ وهو كون المكره نفس المالك ـ فبتصريح المصنف بالصحة.

وأمّا في ثانيهما فلوجود علّة الصحة التي ذكرها في الفرع الأوّل بقوله : «لأنّ العقد هنا من حيث إنّه عقد لا يعتبر فيه سوى القصد الموجود في المكره .. إلخ».

وحاصل وجه التأييد : أنّ مقتضى حكمهم بصحة بيع المكره بلحوق الرضا هو كون المناط في الصحة الرضا بمضمون العقد ـ وهو النقل والانتقال في البيع ـ وإن كان صدور الصيغة عن كره ، لأنّ الإجازة لا توجب انقلاب الكره في صدور الصيغة إلى الرضا به ، والمفروض وجود الرضا بمضمون العقد في المقام ، وهو كون المكره هو المالك ، أو كون المكره الوكيل الشرعي للمالك. بل المقام أولى من الرضا اللاحق لسبق الرضا في ما نحن فيه وكون الرضا مقارنا للعقد ، بخلافه في الإجازة.

(٣) لكونه من السالبة بانتفاء الموضوع ، مع أنّ الرضا صفة مقولية لا ما نحن فيه ، يعقل عروضها على المعدوم ، وهو اللفظ المفروض تصرّمه حال الرّضا.

(٤) تعليل لقوله : «فلا معنى» وقد عرفت وجه استحالة تعلق الرضا باللفظ الصادر عن إكراه ، فيتعيّن تعلّق طيب النفس بما له بقاء ، وهو الأمر الموجود في موطن الاعتبار.

٢٣٨

نعم (١) ربما يستشكل هنا (٢) في الحكم المذكور بأنّ (٣) القصد إلى المعنى ـ ولو على وجه الإكراه ـ شرط في الاعتناء بعبارة العقد ، ولا يعرف (٤) إلّا من قبل العاقد ، فإذا كان مختارا أمكن إحرازه بأصالة القصد في أفعال العقلاء الاختيارية دون المكره عليها.

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على حكمه وفاقا للمشهور بالصحة ، والمستشكل هو المحقق الشوشتري ، قال في المقابس ـ بعد عبارته المتقدّمة (في ص ٢٣٧) ما لفظه : «وأيضا انّ إرادة مدلول اللفظ لا بدّ منها في صحة العقد ، وإن تجرّد من الرضا به ، ولذلك بطل عقد الهازل وقاصد التورية ونحوهما ، وإذا صدر العقد من مختار بالغ عاقل حكمنا بما هو الظاهر من حصول ذلك ، بخلاف ما إذا صدر من مكره ، إذ لا ظهور لعبارته في قصد المعنى المطلوب ، ولا عبرة بالدلالة المجرّدة عن الإرادة ، فكيف يحكم بالصحة بمجرّد صدور العقد والرضا ..؟» (١).

وحاصل الإشكال : أنّ الاعتناء بعبارة العقد مشروط بالقصد إلى المعنى ولو على وجه الكره ، ولا يعرف هذا القصد إلّا من قبل العاقد ، فإذا كان العاقد مختارا أمكن إحراز القصد بالأصل العقلائي ، وهو كون الفاعل المختار قاصدا في أفعاله وأقواله ، وأمّا إذا كان مكرها فلا سبيل إلى إحراز قصده.

(٢) يعني : في الفرعين المذكورين ، أحدهما : إكراه العاقد بدون إكراه المالك ، وثانيهما : إكراه الوكيل بدون إكراه الموكّل.

(٣) متعلق ب «يستشكل» وبيان له ، وقد تقدم آنفا نصّ كلام المقابس ومحصّله.

(٤) أي : ولا يعرف القصد إلى المعنى ـ ولو على وجه الإكراه ـ إلّا من قبل العاقد.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ص ١٨ ، واعترض صاحب الجواهر أيضا على الحكم المذكور بوجه آخر ، فراجع جواهر الكلام ، ج ٣٢ ص ١٦.

٢٣٩

اللهم إلّا أن يقال : (١) إنّ الكلام بعد إحراز القصد ، وعدم (٢) تكلم العاقد لاغيا أو مورّيا ولو كان مكرها.

مع أنّه (٣) يمكن إجراء أصالة القصد هنا أيضا (٤) ، فتأمّل (٥).

______________________________________________________

(١) غرضه الخدشة في إشكال المحقق الشوشتري ، والذبّ عن حكم المشهور بالصحة في الفرعين المزبورين ، ومحصل الخدشة وجهان :

الأوّل : منع ما أفاده من قوله : «دون المكره عليها» وبيانه : أنّ إحراز قصد العاقد معتبر قطعا في صحة العقد ، والمفروض إحرازه في المقام أيضا ، للعلم بأنّ العاقد المكره لم يتكلّم لاغيا ولا مورّيا ، فلا بدّ أن يقصد مضمون الإنشاء ، فيتعيّن الحكم بالصحة.

(٢) معطوف على «إحراز» أي : وعدم تكلم العاقد لاغيا .. إلخ.

(٣) هذا هو الوجه الثاني ، وهو : أنّه لو شك في كون العاقد قاصدا جدّا أمكن إحرازه بإجراء أصالة القصد في صورة الإكراه ، كإجرائها في صورة الاختيار ، بأن يدّعى المناط في ظهور القصد هو كون الفعل اختياريا ، في مقابل الاضطرار الذي هو كحركة المرتعش ، ومن المعلوم أنّ الإكراه على الفعل لا يكون من الاضطرار المزبور الرافع للقصد.

وعليه فإجراء أصالة القصد في عقد المكره ـ الملتفت المريد للتفهيم والتفهم ـ يقتضي إرادة المعنى من اللفظ إخبارا أو إنشاء ، وأمّا كونه عن طيب النفس فلا يقتضيه الأصل المزبور.

والحاصل : أنّ أصالة القصد تثبت القصد بالمقدار المحتاج إليه.

(٤) يعني : كإجرائها في صورة الاختيار.

(٥) لعلّه إشارة إلى : أنّ أصالة القصد التي هي من الأصول العقلائية إنما تجري فيما إذا كان منشأ الشك في قصد المدلول احتمال الغفلة ، فمقتضى أصالة عدم الغفلة

٢٤٠