هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

ناشئة عن دفع الضرر. وليس (١) دفع مطلق الضرر الحاصل من إيعاد شخص

______________________________________________________

أو جلّها تصدر لدفع الضرر عن النفس أو عمّن يتعلّق بها ، كبذل المال للطعام والشراب دفعا لضرر الجوع والعطش ، وشراء الأدوية لعلاج المرض ، وكذا الحال في شراء الألبسة للاتّقاء من الحرّ والبرد ، وشراء الدار للسكنى فيها ، ومن المعلوم خروج هذه الموارد أيضا عن حدّ الإكراه موضوعا.

(١) غرضه من هذه العبارة التنبيه على ما تقدم آنفا من اعتبار الإتيان بنفس ما اكره عليه ، فلو أتى بمقدمته لم يتحقق الإكراه الموضوع للأحكام. كما إذا أكرهه الظالم على دفع مال إليه ، ولم يقدر على دفعه إليه إلّا ببيع داره ودفع ثمنها إليه ، فإنّ بيع الدار صحيح ، لعدم ورود الإكراه عليه ، بل الإكراه ورد على دفع المال. فهذا الإكراه لم يسقط المكره عن الاستقلال في التصرف ، بل له التصرف البيعي وعدمه.

والحاصل : أنّ الإكراه لا بد أن يتعلّق بنفس بيع الدار حتى يكون بيع المكره صادقا عليه. وحينئذ يختار الفعل من باب حكم العقل بوجوب دفع الضرر عن نفسه أو عرضه أو ماله ، أو عن غيره المتعلق به ، بحيث يعدّ ضرره ضررا عليه ، ففعل المكره لا يخرج بالإكراه عن أفعاله الاختيارية. لكنه يصدر عنه بغير طيب نفسه ، لأنّ النفس كارهة لفعل ما يحمّله غيره عليه ، مع الإيعاد على تركه بضرر يشقّ عليه تحمله.

وهذا بخلاف ما يفعله لدفع الضرر ، لكنه مع الاستقلال في فعله ، كبيع ماله لدفع الجوع ، أو لأداء دينه ، أو لدفع ظلم الجائر الذي يريد أن يأخذ منه مالا بدون أن يجبره على بيع داره ، فإنّه يختار البيع دفعا للضرر الجوعي مثلا ، ويطيب نفسه بذلك. بخلاف ما إذا أنشأ البيع عن إيعاد الظالم على تركه ، فإنّه لا يطيب نفسه بحمل الغير إياه على البيع. وإن كان اختياره له لأجل دفع الضرر ، لكنّه مقرون بإيعاد الغير.

وبالجملة : فالبيع مثلا إن كان لدفع الضرر الناشئ عن إيعاد الغير كان صحيحا ، وهو المسمّى بالمضطرّ إليه. وإن كان لدفع ضرر المكره ، لم يكن صحيحا ، وهذا هو المسمّى بالمكره عليه. فاتّضح الفرق بين الإكراه والاضطرار.

١٨١

يوجب (١) صدق المكره عليه (٢) ، فإن (٣) من اكره على دفع مال ، وتوقّف على بيع بعض أمواله ، فالبيع الواقع منه لبعض أمواله (٤) وإن كان لدفع الضرر المتوعد به على عدم دفع ذلك المال ، ولذا (٥) يرتفع التحريم عنه لو فرض حرمته عليه (٦) لحلف أو شبهه (٧) ، إلّا (٨) أنّه ليس مكرها.

فالمعيار في وقوع الفعل مكرها عليه سقوط الفاعل ـ من أجل الإكراه المقترن بإيعاد الضرر ـ عن (٩) الاستقلال في التصرف بحيث لا يطيب نفسه

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «وليس دفع».

(٢) حتى يكون بيع الدار ـ في الإكراه على دفع المال لا على البيع ـ مندرجا في بيع المكره.

(٣) تعليل لقوله : «وليس دفع» وقد تقدم توضيحه آنفا.

(٤) كما إذا كان للمكره أموال متفرقة كالنقود والبستان والدار ، فباع داره لتسليم ثمنها إلى الظالم دفعا للضرر المتوعّد به.

(٥) أي : ولأجل صحة بيع شي‌ء لدفع الضرر يرتفع التحريم عنه ، وغرضه إقامة الشاهد على أن «البيع لدفع الضرر» ليس على إطلاقه إكراها ، فقد يكون البيع للاضطرار ، وهو رافع للحرمة التكليفية ، ولا يوجب فساد المعاملة وضعا ، فلو حلف على عدم بيع داره ، ثم اضطرّ إلى بيعها لدفع الثمن إلى الظالم المكره حلّ بيعه ولم يحنث الحلف ، ويصحّ وضعا ، لعدم صدق «الإكراه من الغير» على هذا البيع.

(٦) هذا الضمير وضمير «عنه» راجعان إلى الموصول في «من اكره» وهو المكره على دفع المال لا على البيع. وضمير «حرمته» راجع إلى البيع.

(٧) كالنذر والعهد الموجبين لطروء عنوان ثانوي على المتعلّق.

(٨) خبر قوله : «فالبيع».

(٩) متعلق ب «سقوط».

١٨٢

بما يصدر منه ، ولا يتعمّد إليه عن رضاه ، وإن كان يختاره لاستقلال العقل بوجوب اختياره دفعا للضرر ، أو ترجيحا لأقلّ الضررين.

إلّا أنّ هذا المقدار (١) لا يوجب طيب نفسه به ، فإنّ النفس مجبولة على كراهة ما يحمّله غيره عليه مع الإيعاد عليه بما يشقّ تحمله.

والحاصل (٢) : أنّ الفاعل قد يفعل لدفع الضرر ، لكنّه مستقلّ في فعله ومخلّى وطبعه فيه (٣) بحيث يطيب نفسه بفعله ، وإن كان من باب علاج الضرر. وقد يفعل لدفع ضرر إيعاد الغير على تركه. وهذا ممّا لا يطيب النفس به ، وذلك (٤) معلوم بالوجدان.

ثم إنّه هل يعتبر (٥)

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ هذا المقدار من الاختيار ـ الناشئ من دفع الضرر أو تحمل أخفّ الضررين ـ لا يجدي في صحة المعاملة ، إذ لا تطيب نفس المكره بما يحمّله المكره عليه.

(٢) غرضه ـ كما تقدم التنبيه عليه ـ عدم التنافي بين كون تصرف المكره إراديا وبين عدم طيب نفسه بفعله الإرادي.

(٣) أي : في فعله ، إذ لا تحميل في موارد الاضطرار.

(٤) يعني : وجود طيب النفس في المضطرّ المستقلّ في تصرّفه ، وفقدان الطيب في المكره على البيع مثلا.

هذا كلّه في بيان حدّ الإكراه ، من حيث ميزه عن الاضطرار. وسيأتي الكلام في أنّ العجز عن التورية دخيل فيه أم لا.

هل يتوقف الإكراه على العجز عن التخلص بالتورية أو بغيرها؟

(٥) هذه إحدى جهات البحث في إنشاء المكره ، وهي : أنّ الإكراه المتحقق بتحميل الغير وإيعاده الضرر بالمكره هل يتقوّم مفهومه بالعجز عن دفع الضرر المتوعد به ، بحيث لو كان قادرا على التفصي عنه لم يصدق «المكره عليه» على فعله؟

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أم لا دخل له في صدق الإكراه موضوعا.

وعلى الثاني فهل يعتبر في حكمه الشرعي ـ وهو سقوطه عن الأثر المترتب على فعل المختار ـ عجز المكره عن التفصّي والفرار عن الضرر ، أم لا يعتبر ذلك أصلا؟ أم يفصّل بين التفصّي عن الضرر بالتورية وبغيرها؟ في المسألة وجوه بل أقوال :

الأوّل : عدم دخل التمكّن من التخلّص عن إيعاد المكره ، لا في مفهوم الإكراه ولا في حكمه الشرعي ، فيصدق الإكراه ويرتفع أثره الشرعي بمجرّد تحميل الغير ، وإيعاده الضرر على المكره ، سواء تمكن من التخلص أم عجز عنه. بلا فرق بين الإكراه على إنشاء معاملة وبين غيره ، كالإكراه على فعل محرّم أو ترك واجب ، وهذا منسوب إلى جماعة ، واختاره المصنف في بادئ الأمر.

الثاني : التفصيل بين المعاملة وغيرها ، بعدم اعتبار إمكان التفصي عن المكره عليه في المعاملة ، فتبطل بمجرّد الإكراه وإن كان قادرا على التخلّص منها. وباعتباره في غير المعاملة ، فلا يجوز ارتكاب المحرّم المكره عليه إلّا بالعجز عن التفصّي عنه.

الثالث : التفصيل بين كون المتفصّى به تورية وغيرها ، فإن قدر على التورية لم يكن مكرها ، سواء أكان المكره عليه معاملة أم غيرها ، وان تمكّن من التفصّي من ضرر المكره بوسيلة أخرى لم يجب عليه ذلك ، فهو مكره عليه ، فلا يحرم فعله ، ولا يصحّ إنشاؤه.

الرابع : التفصيل بين الموضوع والحكم ، بمعنى أنّ إمكان التخلص غير مأخوذ في مفهوم الإكراه ، ولكنه ملحوظ في حكمه الشرعي ، فالقادر على التفصّي مكره موضوعا وغيره مكره أثرا ، فلا يكون إنشاؤه باطلا شرعا ، وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

والمراد بالتورية هو الستر والإخفاء ، بإلقاء كلام ظاهر في معنى وإرادة خلاف ظاهره ، مع إخفاء القرينة على المراد ، فكأنّ المتكلم وارى وستر مراده عن المخاطب

١٨٤

في موضوع (١) الإكراه أو حكمه (٢) عدم إمكان التفصي عن الضرر المتوعد به بما (٣) لا يوجب ضررا آخر كما حكي عن جماعة ، أم لا؟ الذي يظهر من النصوص والفتاوى عدم (٤) اعتبار العجز عن التورية ، لأنّ حمل

______________________________________________________

بإظهار غيره ، بحيث تخيّل المخاطب إرادة ظاهر كلامه ، قال العلامة الطريحي : «ورّيت الخبر ـ بالتشديد ـ تورية : إذا سترته وأظهرت غيره ، حيث يكون للفظ معنيان ، أحدهما أشيع من الآخر ، وتنطق به وتريد الخفي». (١)

ويمكن التنظير له بما روي من قول عقيل : «أمرني معاوية أن ألعن عليا ، ألا فالعنوه» لأنه أراد بمرجع الضمير معاوية الآمر باللعن ، عليه أشد لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

وكيف كان فاستدل المصنف قدس‌سره على إطلاق الإكراه ـ وعدم دخل إمكان التفصي عن الضرر المتوعد به ـ بوجوه سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(١) بأن يكون مفهومه العرفي متقوّما بعجز المكره عن التخلص عن الضرر المتوعد به.

(٢) بأن يكون مفهوم الإكراه مطلقا شاملا للقدرة على التفصي وعدمها ، إلّا أنّ سلب الحكم عن إنشاء المكره مخصوص تعبدا بعجز المكره عن الفرار. فلو قدر عليه لم يكن محكوما بحكم الإكراه ، فلو أكرهه الجائر على طلاق زوجته ، وتمكّن المكره من ترك الإنشاء رأسا ، أو التورية بإرادة خلاص زوجته من الأعمال البيتية كالطبخ والغسل وتربية الأطفال ، فأنشأ الصيغة ـ غير قاصد للبينونة ـ لم يقع الطلاق ، إذ لا إكراه مع إمكان التفصي عمّا أكره عليه.

(٣) متعلق ب «التفصي» يعني : يتخلّص المكره من المكره عليه ، ولم يستتبع فراره ضررا آخر عليه ، فلو استتبعه كان مكرها.

(٤) هذا ما استظهره المصنّف أوّلا ، وهو تحقق الإكراه بمجرّد تحميل الغير ، سواء

__________________

(١) مجمع البحرين ج ١ ، ص ٤٣٦.

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أمكن التخلص منه أم لا ، وكذا لا يعتبر في حكمه الشرعي إمكان العجز عن التفصي.

أمّا عدم اعتبار العجز عن التفصي بالتورية فلقضاء العرف بصدق موضوع الإكراه مع القدرة على التورية.

وأما عدم دخل إمكان التفصي في حكم الإكراه ـ بعد سعة مفهومه وشموله لصورتي العجز عن التورية وعدمه ـ فإطلاق النصوص والفتاوى يقتضي عدم الفرق في حكم الإكراه بين صورة العجز عن التورية وعدمه ، وهذا الإطلاق يشمل كلتا الصورتين في عرض واحد ، بعد وضوح عدم دخل العجز عن التورية في موضوع الإكراه.

وعليه فحمل الإطلاق المزبور على خصوص صورة العجز عن التورية ـ للجهل بالتورية ، أو الدهشة الموجبة للغفلة عن التورية ـ يكون من حمل المطلق على الفرد النادر ، لأنّ الغالب التمكن من التورية. فهذا الحمل بعيد جدا ، لكونه في الاستهجان نظير تخصيص العام بأكثر أفراده ، ومن المعلوم إباء العام والمطلق عن ذلك ، فيتقوّى الإطلاق والشمول لصورة القدرة على التورية ، ويشكل تقييده بالعجز عنها.

خصوصا مع ورود الإطلاق في كل ما يمكن أن يستدلّ به على سقوط إنشاء المكره عن الأثر لا في دليل واحد ، قال في الجواهر : «ولا يعتبر عندنا في الحكم ببطلان طلاق المكره عدم التمكن من التورية ـ بأن ينوي غير زوجته ، أو طلاقها من الوثاق ، أو يعلقه في نفسه بشرط ، أو نحو ذلك ـ وإن كان يحسنها ، ولم تحصل له الدهشة عنها ، فضلا عن الجاهل بها ، أو المدهوش عنها ، لصدق الإكراه ، خلافا لبعض العامة» (١).

وقريب منه ما في المسالك من دعوى الإجماع ، وإن مال هو قدس‌سره إلى اعتبار التورية للقادر عليها ، فراجع (٢).

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٢ ، ص ١٥.

(٢) مسالك الافهام ج ٩ ، ص ٢٢.

١٨٦

لأنّ حمل عموم (١) رفع الأكرة ، وخصوص (٢) النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه ، ومعاقد الإجماعات (٣) والشهرات (٤) المدّعاة في حكم المكره على (٥) صورة العجز عن التورية لجهل أو دهشة بعيد (٦) جدّا. بل غير صحيح في بعضها

______________________________________________________

(١) هذا هو الدليل الأول الرافع لحكم الإكراه في المعاملات وغيرها ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث رفع التسعة أو الستة أو الثلاثة «رفع ما استكرهوا عليه» وحيث إنّ الغالب القدرة على التورية ، فحمله على رفع حكم الإكراه عن العاجز عنها حمل للمطلق على الفرد النادر ، وهو ممنوع.

(٢) هذا هو الدليل الثاني ، وقد تقدمت جملة من النصوص النافية للطلاق والعتق الإكراهيين ، فراجع (ص ١٦٣ و ١٦٤).

(٣) هذه الإجماعات المتضافر نقلها دليل ثالث. والإجماع وإن كان دليلا لبيّا يقتصر فيه على المتيقن وهو العاجز عن التورية ، إلّا أنّ استهجان حمل إطلاق المعقد على الفرد النادر يقتضي الأخذ بالإطلاق ، كما هو واضح ، فتأمل (*).

(٤) بناء على كون الشهرة الفتوائية دليلا على الحكم الشرعي فإطلاقها حجة كالإجماع المنقول ، وإلّا فهي مؤيدة لإطلاق الأدلة اللفظية.

(٥) متعلق ب «حمل».

(٦) خبر قوله : «لأنّ حمل» يعني : أنّ الفرد النادر ـ وهو العجز عن التورية ـ إمّا أن يكون لجهل المكره بأسلوبها ، وإمّا أن يكون لدهشته وذهوله عن التورية مع علمه بها.

ومثال الجهل ما إذا أكره على طلاق زوجته ، ولم يعلم أن يقصد من الطلاق خلاص الزوجة من الوثاق وأعمال البيت وتربية الأطفال ، بحيث لو كان عالما بهذه التورية لم يقصد جدّا بينونة زوجته.

ومثال الدهشة ، كما إذا سلّ المكره سيفه عند أمره بالطلاق ، فأثّر الخوف في المكره ، وعرضت الدهشة عليه ، ونسي تمكّنه من التورية ، فطلّق قاصدا للبينونة.

__________________

(١) إشارة إلى : أنّه لا إطلاق في معقد الإجماع حتى يكون حمله على الفرد النادر مستهجنا ، إذ المفروض كونه لبيّا ، ولا محيص عن الأخذ بالمتيقن منه.

١٨٧

من جهة المورد (١) ، كما لا يخفى على من راجعها.

مع أنّ القدرة على التورية لا يخرج الكلام عن حيّز الإكراه عرفا (٢) ، هذا.

______________________________________________________

ففي هذين المثالين حكموا ببطلان الطلاق ، للعجز عن التورية ، فهما المتيقن من رفع الإكراه شرعا.

(١) لعل مقصوده ما ورد في قصة عمار على ما رواها المفسرون في شأن نزول قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ، إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١) إنّ قريشا أكرهوه وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد ، فأبى أبواه فقتلوهما ، وهما أوّل شهيدين في الإسلام ، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها. فقيل يا رسول الله : إنّ عمارا كفر ، فقال : كلّا إنّ عمارا ملي‌ء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الايمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ، وقال : ما لك إن عادوا لك فعدهم بما قلت» (٢).

تقريب عدم إمكان حمل قصة عمار على صورة العجز عن التورية هو : أنه مع العجز عن التورية لم يكن وجه لاضطراب عمار وبكائه ، لأنّه بعد فرض عجزه عن التورية يكون مضطرّا إلى التكلم بكلمة الكفر ، والاضطرار رافع للحرمة. فاضطرابه كان لأجل التمكن من التورية ولم يورّ ، وقرّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك ، ونفى البأس عمّا قاله من كلمة الكفر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ان عادوا فعد» ولم يأمره بالتورية بإرادة معنى آخر من كلمة الكفر غير ما هو ظاهره.

(٢) هذا راجع إلى صدق الإكراه موضوعا مع القدرة على التورية ، وحاصله : أنّ

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٠٩.

(٢) راجع مجمع البيان ، ج ٣ ص ٣٨٨ ، وروي كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار في عدة نصوص ، مثل ما رواه صاحب الوسائل عن أصول الكافي بسند معتبر وكذا في تفسير البرهان ، ولكن لم تتعرّض لقصة ياسر وزوجته ، فراجع وسائل الشيعة ج ١١ ، ص ٤٧٦ الباب ٢٩ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢ ، وتفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ و ٣٨٦ ، الحديث : ٢ و ٣ و ٤ و ٩.

١٨٨

وربما يستظهر (١) من بعض الأخبار عدم اعتبار العجز عن التفصي بوجه

______________________________________________________

مفهوم «الإكراه» عرفا يعمّ كلتا صورتي القدرة على التورية والعجز عنها ، لما عرفت من أنّه «التحميل المقترن بإيعاد ضرر على المكره ، لا يتحمّل عادة». ومن المعلوم عدم الفرق في هذا المفهوم العرفي بين التمكن من التورية وعدمه.

نعم قد يفرّق بينهما بالنظر الدقيق العقلي ، بدعوى : أنّ الخوف من الضرر ـ الذي هو مناط الإكراه ـ غير متحقق عند القدرة على التورية ، بأن يقصد من قوله : «زوجتي طالق» خلاصها من شؤون البيت ، إذ به يتخلّص من وعيد المكره ، ولا يتضرر بشي‌ء ، كما أنّه لم يقع الطلاق الشرعي.

وهذا بخلاف العاجز عن التورية ، لجهله بها أو لصيرورته مدهوشا مرعوبا بالإكراه بحيث لا تتمشى منه التورية ، فيكون الداعي على قصد الطلاق هو تحميل الغير لا طيب نفسه به.

ولكن هذا الفرق مردود بما في المتن من قوله : «عرفا» يعني : أنّ لفظ «الإكراه» كسائر الألفاظ الموضوعة للأحكام الشرعية خوطب به العرف ، فهو المتّبع في سعة دائرة المفهوم وضيقها ، ولا ريب في صدقه على مطلق التحميل سواء تمكّن المكره من التورية أم لا ، هذا.

ولا يخفى أن المناسب تقديم هذا الكلام على قوله «الذي يظهر من النصوص» لأن الموضوع مقدّم طبعا على الحكم ، فلا بد أوّلا من التعرض لعدم دخل العجز عن التورية في موضوع الإكراه ، ثم في حكمه ، ضرورة أنّ دعوى كون حمل إطلاق النصوص والفتاوى على صورة العجز عن التورية حملا للإطلاق على الفرد النادر مبنيّة على عموم معنى الإكراه لكلتا صورتي القدرة على التورية والعجز عنها حتى تصح دعوى ندرة العجز عن التورية.

(١) يعني : أنّ الكلام كان في إثبات عدم دخل القدرة على التخلص ـ بالتورية ـ من المكره في موضوع الإكراه وحكمه ، وغرضه تعميم مفهوم الإكراه لما إذا أمكن

١٨٩

آخر (١) غير التورية أيضا في صدق الإكراه ، مثل رواية ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يمين في قطيعة رحم ، ولا في جبر ، ولا في إكراه. قلت : أصلحك الله ، وما الفرق بين الجبر والإكراه؟ قال : الجبر من السلطان ويكون الإكراه من الزوجة والأم والأب ، وليس ذلك بشي‌ء» الخبر (١).

ويؤيده (٢) أنّه لو خرج عن الإكراه عرفا بالقدرة على التفصي بغير التورية

______________________________________________________

التفصي من الضرر بغير التورية ، كالفرار أو تحمل سوء خلق الزوجة ونحوهما ، على ما يستفاد من رواية ابن سنان ، المفصّلة بين جبر السلطان وإكراه الوالدين والزوجة.

تقريب الاستظهار : أنّ السلطان مثال لمن لا يمكن التفصي من مخالفته ، والزوجة والأب والأمّ أمثلة لمن يمكن التفصي من حمله على الفعل ، لغلبة الإمكان في الثاني دون الأوّل ، فكأنّه عليه‌السلام قال : «الجبر يكون من حامل لا يمكن التفصي منه نوعا مثل السلطان. والإكراه يكون من حامل يمكن التفصي منه نوعا كالزوجة والأب والأم» فأطلق الإكراه على التوعيد الذي يمكن التفصي فيه ، لانتفاء كمال السلطنة مثلا أو غيره ، إذ غاية ما يترتب على مخالفة الزوج لما تطلبه منه زوجته هو سوء خلقها وتهاونها في إدارة شؤون المنزل ، وهذا ممّا يتحمل عادة ، ويستبعد جدّا أن تورد ضررا على زوجها في نفسه أو ماله.

(١) كالفرار والاستمداد من أصدقائه ليخلّصونه من شرّ المكره ، فكما يصدق الإكراه بالقدرة عليه ، كذلك مع القدرة على التورية. وعليه فلا فرق في تحقق الإكراه بتحميل الغير ، سواء تمكّن من التخلص عنه بالتورية أو بغيرها ، أم لم يتمكن من شي‌ء منهما.

(٢) يعني : ويؤيّد الاستظهار المزبور ، وحاصل التأييد : أنّه لو كانت القدرة على التفصي بغير التورية قادحة في صدق الإكراه لكانت القدرة على التفصي بالتورية قادحة أيضا في صدقه ، إذ المناط في صدق الإكراه هو عدم إمكان التخلص عن الضرر ـ المتوعد به على ترك الفعل المكره عليه ـ إلّا بفعل المكره عليه. فمع إمكان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٤٣ ، الباب ١٦ من أبواب اليمين ، ح ١.

١٩٠

خرج عنه بالقدرة عليها ، لأنّ المناط حينئذ (١) انحصار التخلص عن الضرر المتوعّد في (٢) فعل المكره عليه ، فلا (٣) فرق بين أن يتخلّص حينئذ بكلام آخر أو فعل آخر ، وبهذا الكلام مع قصد معنى آخر.

ودعوى (٤) أنّ جريان حكم الإكراه مع القدرة على التورية تعبديّ ـ لا من جهة صدق حقيقة الإكراه ـ كما (٥) ترى.

لكنّ الإنصاف (٦) أنّ وقوع الفعل عن الإكراه لا يتحقّق إلّا مع العجز عن

______________________________________________________

التخلص بغيره ـ سواء أكان التخلص بكلام آخر أم فعل آخر أم بنفس هذا الكلام مع قصد معنى آخر غير معناه الظاهر ـ لا يصدق الإكراه.

(١) أي : حين الخروج عن الإكراه بسبب القدرة على التفصي عن الضرر بغير التورية ، فالمناط في صدق الإكراه عدم إمكان التخلص عن الضرر إلّا بفعل المكره عليه.

(٢) متعلق بقوله : «انحصار» يعني : أنّ التخلص من الضرر الإيعادي منحصر في فعل المكره عليه.

(٣) متفرع على قوله : «لأنّ المناط حينئذ» يعني : فلا فرق في عدم الانحصار .. إلخ.

(٤) غرضه أنّ الفرق بين إمكان التفصي بالتورية وبين إمكانه بغيرها هو : أنّ الإكراه وإن لم يكن صادقا في كلتا صورتي إمكان التورية وغيرها ، لكن حكم الإكراه ثابت مع إمكان التفصي بالتورية تعبدا ، دون إمكانه بغير التورية.

(٥) خبر «ودعوى» وحاصله : منع هذه الدعوى ، لعدم الدليل على إلحاق غير المكره عليه بالمكره عليه ، بل المانعية تدور مدار عنوان الإكراه ، فبدونه لا يحكم بمانعية غير الإكراه. فترتّب حكم الإكراه في صورة القدرة على التورية إنّما هو لأجل صدق الإكراه لا للتعبد.

(٦) مرجع هذا إلى تسليم الدعوى المذكورة التي حكم بكونها «كما ترى» فغرضه قدس‌سره العدول عمّا أسّسه من أنّ العجز عن التفصي ـ بالتورية أو بغيرها ـ

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

غير دخيل في الإكراه موضوعا وحكما. ومقتضى هذا العدول وإن كان اشتراط الإكراه بامتناع التفصي عنه مطلقا ، لكنه قدس‌سره فصّل بين التمكن من التخلص بالتورية وبين تمكنه بغيرها. فهنا مطلبان ، أحدهما : توقف الإكراه على العجز عن التفصي.

وثانيهما : التفصيل بين كون المتفصّى به تورية أو غيرها.

أما المطلب الأوّل فتوضيحه : أنّه قد تقدم تقوّم مفهوم الإكراه بأمور ثلاثة : منها علم المكره ـ أو ظنّه ـ بترتب الضرر على مخالفة ما أكره عليه ، ويعبّر عن هذا الأمر بخوف الضرر. وعلى هذا يعتبر في تحقق الإكراه أن يكون الداعي إلى الإتيان بالفعل المكره عليه خصوص خوف ترتب الضرر المتوعد به على ترك ذاك الفعل المكره عليه ، ومن المعلوم أنّه مع القدرة على التفصي عنه بدون الإتيان بالفعل المكره عليه لا يترتب الضرر على مجرّد ترك المكره عليه ، بل على تركه وترك التفصي معا ، فهو مختار في دفع الضرر بين فعل المكره عليه وبين التفصي عن الضرر بوجه آخر ، فلا إكراه في البين.

والشاهد على إناطة صدق الإكراه بالعجز عن التخلّص هو الفرق المرتكز عند أبناء المحاورة بين أن يقول المكره : «طلّق زوجتك أو بع دارك ، وإلّا» وبين أن يأمره بالطلاق خاصة. حيث إنّ البيع عدل للطلاق في المثال الأوّل ، وإنشاء كلّ منهما مستند إلى تحميل المكره ، فهو مسلوب الأثر.

بخلاف المثال الثاني الذي طلب المكره الطلاق خاصة ، وفرضنا تمكن المكره من التخلص إمّا بالخروج مدّة من بلده ، وإما بمراجعة صديق ليشفع له عند المكره كي يتنازل عن إكراهه ، فإنّه لا يخاف المكره ترتب الضرر المتوعد به ، فلو طلّق لم يستند إلى خوف الضرر ، لعدم صدق الإكراه في هذه المنفصلة : هذا مكره على أحد الأمرين إما طلاق زوجته وإمّا تركه بالفرار من البلد أو الاستشفاع بصديق.

ووجه عدم الصدق كون الفرار ونحوه دافعا للإكراه حقيقة ، ولم يأمر به المكره

١٩٢

التفصي بغير التورية ، لأنّه (١) يعتبر فيه أن يكون الداعي عليه هو خوف ترتب الضرر المتوعد به على الترك (٢). ومع القدرة على التفصي لا يكون الضرر مترتبا على ترك المكره عليه ، بل (٣) على تركه وترك التفصي معا. فدفع الضرر يحصل بأحد الأمرين من فعل المكره عليه والتفصي ، فهو مختار في كل منهما ، ولا يصدر كل منهما إلّا باختياره ، فلا إكراه.

وليس (٤) التفصي من الضرر أحد فردي المكره عليه حتى لا يوجب تخيير الفاعل فيهما سلب الإكراه عنهما ، كما لو أكرهه على أحد الأمرين ، حيث يقع كل منهما حينئذ مكرها ، لأنّ (٥) الفعل المتفصى به مسقط عن المكره عليه لا بدل له.

______________________________________________________

لا تعيينا ولا تخييرا.

هذا في عدم دخل العجز عن التفصي بغير التورية ، وهو وإن كان جاريا في القدرة على التفصي بالتورية أيضا ، إلّا أنّه سيأتي عدم اعتبار التمكن منها.

(١) تعليل لعدم تحقق الفعل الإكراهي إلّا مع العجز عن التفصي بغير التورية.

(٢) أي : ترك الفعل المكره عليه.

(٣) يعني : بل يكون الضرر مترتبا على ترك كلا الأمرين ، وهما : المكره عليه والتفصي.

(٤) هذا إشارة إلى توهم ودفعه ، حاصل التوهم : صدق الإكراه هنا أيضا ، حيث إنّ التفصي أحد عدلي المكره عليه ، فكأنّه مكره على الفعل أو على التفصي مخيّرا بينهما ، فإمكان التفصي لا يخرجه عن صدق الإكراه.

(٥) هذا دفع التوهم المزبور ، وحاصله : أنّ الفعل المتفصّى به عن الضرر المتوعد به مسقط عن المكره عليه لا عدل له ، ولذا لا يكون محكوما بأحكام المكره عليه إجماعا. ففرق بين الإكراه على أحد الأمرين من البيع أو الطلاق تخييرا ، وبين إكراهه على البيع خاصة مع قدرته على الفرار.

١٩٣

ولذا (١) لا يجري عليه (٢) أحكام المكره عليه إجماعا ، فلا يفسد إذا كان عقدا.

وما ذكرناه (٣) وإن كان جاريا في التورية ، إلّا أنّ الشارع رخّص في ترك التورية بعد عدم إمكان التفصي بوجه آخر (٤) ، لما ذكرنا (٥) من ظهور النصوص والفتاوى ، وبعد حملها على صورة العجز عن التورية.

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل عدم كون الفعل المتفصى به بدلا عن الفعل المكره عليه لا يجري عليه أحكام المكره عليه ، فلو كان الفعل المتفصى به عقدا لا يبطل ، مع أنّ من الواضح بطلانه لو كان عدلا للفعل المكره عليه. كما لو أكرهه على بيع داره ، فتفصّى منه ببيع بستانه ، فإنه يقع صحيحا إجماعا ، مع أنّه لو كان مكرها عليه ـ كبيع الدار ـ لم يصح قطعا ، وهذا كاشف عن عدم كون الفعل المتفصّى به عدلا وبدلا لما أكره عليه.

(٢) هذا الضمير والضمير المستتر في «يفسد» راجعان إلى المتفصّى به.

(٣) من إناطة صدق الإكراه بخوف الضرر ، المتوقف على العجز عن التخلّص من إضرار المكره ، وغرضه بيان الفارق بين كون المتفصّى به تورية وغيرها ، فيقال : باعتبار العجز عن التخلّص بغير التورية في صدق الإكراه ، وعدم اعتبار العجز عن التخلص بالتورية في صدقه ، مع أنّ التفصّي عن الضرر المتوعد به بكلّ منهما مشترك في ارتفاع موضوع الإكراه به.

وحاصل وجه الفرق أمران ، أحدهما : التعبد ، لأنّ الشارع رتّب أثر الإكراه في صورة إمكان التفصي بالتورية ، دون التفصي بغير التورية ، لما تقدم من ظهور النصوص والفتاوى في ترخيصه في ترك التورية ، لبعد حملها على صورة العجز عنها ، لكونه من حمل المطلق على الفرد النادر.

(٤) فلو أمكن التفصي بغير التورية ـ كالخروج من البلد والاستشفاع بالصديق ونحوهما ـ لم يتحقق الإكراه ، إذ لا خوف حينئذ.

(٥) تقدم في قوله : «الذي يظهر من النصوص والفتاوى عدم اعتبار العجز عن التورية .. إلخ» فراجع (ص ١٨٥).

١٩٤

مع (١) أنّ العجز عنها لو كان معتبرا لأشير إليها في تلك الأخبار الكثيرة المجوّزة للحلف كاذبا عند الخوف والإكراه (١) ، خصوصا (٢) في قضيّة عمّار وأبويه ، حيث أكرهوا على الكفر ، فأبى أبواه فقتلا ، وأظهر لهم عمّار ما أرادوا ، فجاء باكيا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن عادوا عليك فعد» (٢). ولم ينبّهه على التورية.

فإنّ التنبيه في المقام وإن لم يكن واجبا (٣) ، إلّا أنّه لا شك في رجحانه خصوصا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار شفقته على عمّار ، وعلمه بكراهة تكلم عمّار بألفاظ الكفر من دون تورية كما لا يخفى ، هذا.

ولكنّ الأولى (٤) أن يفرّق بين إمكان التفصي بالتورية وإمكانه بغيرها ،

______________________________________________________

(١) هذا وجه ثان لعدم اعتبار العجز عن التورية في الإكراه ، وحاصله : أنّه لو كان ذلك معتبرا فيه كان اللازم الإشارة إليه في الأخبار المجوّزة للحلف كاذبا عند الخوف والإكراه ، مع عدم التنبيه عليه ، كما تقدم في رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، لإطلاق الإكراه على ما يطلبه الوالدان والزوجة ، مع أنّه عليه‌السلام نفى حكم اليمين فيه بقوله : «لا يمين في إكراه».

(٢) وجه الخصوصية أهمية القضية ، وكمال شفقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمار.

(٣) وجه عدم وجوب التنبيه على التورية في المقام هو : إناطة وجوب التورية بالالتفات إليها ، فمع الجهل بها ـ ولو مع العلم بحكمها ـ لا يجب التنبيه ، لأنّه من إعلام الجاهل بالموضوع ، ومن المعلوم عدم وجوبه.

(٤) هذا عدول عن وجه الفرق المزبور ، الذي كان مرجعه إلى عدم صدق الإكراه موضوعا على صورة التمكن من التورية مع إجراء حكم الإكراه عليه تعبّدا.

__________________

(١) لاحظ وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ص ١٤٣ ، الباب ١٦ من أبواب كتاب الأيمان.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣٨٨.

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وملخص ما ذكره في قوله : «ولكن الأولى أن يفرق .. إلخ» أنّ الإكراه يصدق موضوعا على صورة التمكن من التورية ، ولا ينافيه التمكن من التورية.

توضيح الفرق بين إمكان التفصي بالتورية وبين إمكانه بغير التورية ـ بصدق الإكراه موضوعا على الأوّل دون الثاني ـ هو وقوع المكره في الضرر على تقدير تركه للمكره عليه ، وهو موجود في التورية ، إذ مع التفات المكره إلى ترك المكره عليه يوقع المكره في الضرر ولو مع التورية.

وإن شئت فقل : إنّ المكره في موارد التمكن من التورية مقهور في إرادة أحد الأمرين ، إمّا إيجاد نفس الفعل المكره عليه ، وإمّا التورية ، فأيّهما وقع يقع عن إرادة مقهورة لإرادة الغير. نظير الإكراه على أحد الأمرين كإلزامه ببيع داره أو إجارة حمّامه.

وهذا بخلاف موارد القدرة على غير التورية ، لتمكّنه من مخالفة الآمر ـ مع اطّلاعه عليها ـ بدون الإضرار.

وبعبارة أخرى : الفرق بين التورية وغيرها من أنحاء التفصي هو : أنّ الضرر الذي يورده المكره على المكره لا يدور مدار مخالفة المكره واقعا لما أكره عليه ، بل يدور مدار إحراز المكره مخالفة المكره ، فيقال : «كل ما أحرز المكره مخالفة المكره لأضرّ به» وهذه القضية الشرطية غير متحققة عند تمكّن المكره من الفرار أو التخلص من شرّ المكره بوجه آخر كالاستشفاع ، فلا يصدق الإكراه حقيقة للأمن من إضراره حينئذ.

وهذا بخلاف ما لو تفصّى المكره بالتورية بأن أكره على بيع داره ، فقصد تمليك منفعتها لا رقبتها ، فإنّه لو التفت المكره إلى ما تورّى به المكره ، وعلم بمخالفته لأمره لأورد الضرر عليه قطعا ، إذ المفروض كون المكره في مكان تحت حيطة استيلاء المكره ، فيقدر على الإضرار به وتنفيذ ما توعّده به. وعلى هذا فالتمكن من التورية لا ينافي الإكراه موضوعا ، بخلاف التمكن من التفصّي بوجوه أخر.

١٩٦

بتحقّق (١) الموضوع (٢) في الأوّل دون الثاني (٣) ، لأنّ الأصحاب وفاقا للشيخ في المبسوط ذكروا من شروط تحقق الإكراه «أن يعلم أو يظن المكره ـ بالفتح ـ أنّه لو امتنع مما أكره عليه وقع فيما توعد عليه» (٤) ، ومعلوم أنّ المراد ليس امتناعه (٥) عنه في الواقع ولو مع اعتقاد المكره ـ بالكسر ـ عدم الامتناع ، بل المعيار (٦) في وقوع الضرر اعتقاد المكره (٧) لامتناع المكره.

وهذا المعنى (٨) يصدق مع إمكان التورية ، ولا يصدق مع التمكن من التفصّي بغيرها ، لأنّ المفروض تمكنه من الامتناع مع اطّلاع (٩) المكره عليه ،

______________________________________________________

(١) متعلق ب «يفرّق» وبيان له.

(٢) وهو الإكراه المتقوم بخوف الضرر.

(٣) وهو التفصّي بغير التورية.

(٤) حيث قال فيه : «وأما بيان الإكراه فجملته : أنّ الإكراه يفتقر إلى ثلاث شرائط .. والثاني : أن يغلب على ظنّ المكره أنّه إن امتنع من المراد منه وقع به ما هو متوعّد به» (١). ونحوه كلام غيره. والشاهد في أنّ امتناع المكره واقعا لا يترتب عليه الإضرار ، وإنّما لترتب الضرر لو أحرز المكره امتناع المكره عمّا أكره عليه ، فلو باع المكره وقصد الإجارة وعلم المكره بتوريته لأضرّ به ، وعليه فالتورية لا تدفع الإضرار لو علم بها المكره.

(٥) أي : امتناع المكره عمّا أكره عليه.

(٦) بالفتح معطوف على «المراد».

(٧) فلو ورّى المكره وعلم المكره به لأضرّ به ، لأنّه يعتقد مخالفة المكره لما أكره عليه.

(٨) أي : كون المعيار في وقوع الضرر اعتقاد المكره امتناع المكره عمّا اكره عليه.

(٩) يعني : أنّ المكره يطّلع على امتناع المكره من تنفيذ ما أكره عليه ، ولكنّه

__________________

(١) المبسوط ، ج ٥ ، ص ٥١ ، ولاحظ أيضا شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٣ ، تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ٥١ ، مسالك الافهام ، ج ٩ ، ص ١٨ ، الروضة البهية ، ج ٦ ، ص ٢٠ ، نهاية المرام ، ج ٢ ، ص ١٢ ، كفاية الأحكام ، ص ١٩٨ ، رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ١٦٩ ، الحدائق الناضرة ، ج ٢٥ ، ص ١٥٩.

١٩٧

وعدم وقوع الضرر عليه.

والحاصل : أنّ التلازم بين امتناعه (١) ووقوع الضرر ـ الذي هو المعتبر في صدق الإكراه ـ موجود مع التمكن بالتورية ، لا مع التمكن بغيرها (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

لا يمكنه الإضرار بالمكره ، للفرار ونحوه.

(١) أي : امتناع المكره ، فالضرر مترتب على امتناع المكره مع اطّلاع المكره على الامتناع ، لترتب الإضرار على اعتقاده بامتناع المكره ، لا على امتناعه واقعا. وهذا متحقق في خصوص القدرة على التورية ، دون غيرها ، إذ اطّلاع المكره على امتناع المكره يوقعه في الضرر وإن تشبّث بالتورية.

(٢) أي : بغير التورية.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ المناط في صدق الإكراه عدم القدرة على التفصّي عن الضرر المتوعّد به ، فلو تمكّن من التفصّي عنه ـ ولو بالتورية ـ لم يصدق الإكراه ، فإذا علم باندفاع الضرر بالتورية ـ كما إذا علم بعدم اطّلاع المكره على التورية ـ لم يتحقق الإكراه. وعليه فلا فرق في عدم صدق الإكراه بين أنحاء التفصّي عن الضرر.

هذا تمام الكلام في دخل العجز عن التفصي ـ عن المكره عليه ـ في الإكراه موضوعا أو حكما ، وقد عرفت اختلاف أنظار المصنف في المسألة ، الكاشف عن إعضالها (*).

__________________

(*) الجهة الرابعة : هل يعتبر في مفهوم الإكراه وجود مكره واقعا ، أم يكفي فيه مجرّد الاعتقاد بوجوده ، وإن كان اعتقاده مخالفا للواقع؟ فيه تفصيل. فإن قلنا بكون الوجه في البطلان حديث الرفع كما ذكره السيد قدس‌سره (١) صحّ البيع ، لتقوّم الإكراه بوجود المكره ، والمفروض عدمه.

وإن قلنا بكون الوجه فيه عدم طيب النفس بطل البيع ، لفقدان طيب النفس بعد اعتقاد وجود المكره وبيعه خوفا من الضرر المتوعد به بحسب اعتقاده.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٢٠.

١٩٨

.................................................................................................

__________________

كما يصح البيع في صورة العكس ، وهو ما إذا باع باعتقاد الإكراه ، ثم تبيّن عدمه ، فإنّ البيع فاسد ، لعدم الرضا النفساني مع كونه معتقدا بوجود مكره.

فتظهر الثمرة بين شرطية طيب النفس ومانعية الإكراه في صورة اعتقاد وجود المكره له على بيع متاعه فباعه ، مع فرض عدم وجود المكره واقعا.

وكيف كان فالمصنف اعتبر في الإكراه قيودا خمسة :

الأوّل : وجود شخص حامل على الفعل ، فلولاه لا يتحقق الإكراه ، فإنّ باب الإفعال يقتضي وجود حامل على إيجاد فعل مكروه لطبعه. وقد أشار الماتن إلى هذا الأمر بقوله : «إنّ حقيقة الإكراه لغة وعرفا حمل الغير على ما يكرهه».

الثاني : أن يتوجّه الإكراه إلى نفس المعاملة ، لا إلى غيرها ممّا يتوقف على المعاملة كما إذا أكرهه على دفع مال أو بناء قنطرة أو مسافرة أو غيرها مما يتوقف على بيع بعض أمواله ، فإنّ الإكراه حينئذ يتوجه إلى المقدمة أي مقدمة البيع ، لا الى نفس البيع.

وإن شئت فقل : إن الإكراه على البيع تارة نفسي ، أي الإكراه يتعلق أوّلا وبالذات بنفس البيع ، وأخرى غيري كالإكراه على بناء قنطرة يتوقف ذلك على بيع بعض أمواله.

والبيع في هذه الصورة صحيح ظاهرا بلا إشكال ، لعدم جريان الأدلة الدالة على قدح الإكراه في الصحة فيه.

أمّا الإجماع فلأنّ المتيقن منه غير هذه الصورة.

وأمّا حديث الرفع فإطلاقه وإن كان شاملا للإكراه الغيري ، لكن تطبيقه في المقام خلاف الامتنان ، لأنّ بطلان البيع في هذا الفرض تضييق على المكلف ، لا توسعة له. كما يقال مثله في الإكراه بحق ، حيث إنّ إجراءه خلاف الامتنان بالنسبة إلى صاحب الحق. فلو اكره على بيع داره لوفاء دينه كان بيعه صحيحا ، لأنّ إبطاله ضرر على الدائن فلا يشمله الحديث الشريف.

الثالث : ما أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : «ويعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل

١٩٩

.................................................................................................

__________________

اقترانه بوعيد منه» وحاصله : أنّ الإكراه لا يتحقق إلّا باقترانه بوعيد من المكره ، ولا يكفي في حصول الإكراه توجه الضرر على ترك الفعل المكره عليه ولو من ناحية غير الآمر.

قال السيد قدس‌سره : «فعلى هذا لا يصدق على ما أشرنا إليه سابقا من طلب الغير منه فعلا إذا خاف من تركه الضرر السماوي ، أو ضررا من جانب شخص آخر إذا اطّلع على ذلك مع عدم توعيده ، بل وكذا إذا فعل الفعل لا بأمر الغير ، لكن خاف منه الضرر. وحينئذ فالإقدام على الفعل قبل اطّلاع الجائر بتخيل أنّه إذا اطّلع على الترك أوصل إليه الضرر لا يعدّ من الإكراه» (١).

وتبعه المحقق النائيني رحمه‌الله في ذلك قال مقرّر بحثه رحمه‌الله : «يعتبر توعيد الطالب على الترك ، ثم يعتبر الظن أو الاحتمال العقلائي على ترتب ذلك الوعيد على الترك ، فمجرد أمر الغير مع عدم اقترانه بتوعيد منه لا يدخل في موضوع البحث وإن خاف من تركه ضررا سماويا ، أو الضرر من شخص آخر غير الآمر» (٢).

لكن الإنصاف أنّ المعتبر في الإكراه خوف ترتب الضرر على ترك الفعل المكره عليه وإن لم يكن توعيد على الترك ، بحيث يكون الترك موجبا لخوف الضرر ، سواء أكان من نفس الآمر أم من غيره ، وسواء أكان مع توعيد المكره أم مع عدمه ، وسواء أكان الضرر دنيويا أم أخرويا.

نعم إذا كان الضرر أخرويّا حكم بصحّة المعاملة ، لكون الإكراه بحقّ صحيحة.

فضابط الإكراه هو أن يكون الداعي إلى ارتكاب الفعل خوف الضرر من شخص ولو من ناحية غير الآمر ، ومن غير تصريح الآمر به ، فتفسد المعاملة المنبعثة عن خوف الضرر المترتب على تركها بشرط كون الضرر واردا عليه من إكراه المكره وإن لم يوعّده بالضرر حين الإكراه.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٢٢.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٨٥.

٢٠٠