هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

الخارج ، وأنّ الداعي إلى الإنشاء ليس قصد وقوع مضمونه في الخارج (١) ، لا أنّ كلامه الإنشائي مجرّد عن المدلول ، كيف؟ (٢) وهو معلول الكلام الإنشائي إذا كان مستعملا غير مهمل.

وهذا (٣) الذي ذكرنا لا يكاد يخفى على من له أدنى تأمّل في معنى الإكراه لغة وعرفا ، وأدنى تتبع فيما ذكره الأصحاب في فروع الإكراه التي لا تستقيم مع ما توهمه من (٤) خلوّ المكره عن قصد مفهوم اللفظ. وجعله (٥) مقابلا للقصد.

______________________________________________________

وبهذا البيان تندفع المناقضة الّتي استظهرها السيد قدس‌سره من عبارة المتن.

(١) قد عرفت أن المراد بالخارج هو الملكية الاعتبارية التي يحكم بها العرف والشرع بعد استجماع العقد لما يعتبر فيه.

(٢) يعني : كيف يمكن خلوّ كلامه الإنشائي عن المدلول؟ مع أنّ المدلول معلول الكلام الإنشائي إذا لم يكن مهملا ، والمعلول لا ينفك عن علّته.

(٣) المشار إليه هو عدم كون كلام المكره خاليا عن المعنى ، كمن يتكلّم تقليدا وأنّ مرادهم عدم القصد.

وهذا شروع في إثبات مدّعاه من قصد المكره للمدلول وإن لم يكن قاصدا لحصول المضمون في الخارج ، والوجوه المذكورة في المتن سبعة.

الأوّل : ملاحظة المعنى اللغوي والعرفي ، وذلك لأنّ معنى «الإكراه على الشي‌ء» وقوعه في الخارج على وجه الكره ، وعليه فلا بدّ من قصد المدلول ، وإلّا لم يقع الفعل القصدي في الخارج.

والحاصل : أنّ الإكراه على البيع كالإكراه على الشرب ، فكما لا يصدق إلّا مع الشرب في الخارج ، فكذا في البيع.

(٤) بيان للموصول في «ما توهمه».

(٥) بالجرّ ، معطوف على «معنى الإكراه» وهذا وجه ثان ، وحاصله : أنّ التتبع في ما ذكره الأصحاب قدس‌سره من «جعل الإكراه مقابلا للقصد» يشهد ببطلان

١٦١

وحكمهم (١) بعدم وجوب التورية في التفصّي عن الإكراه. وصحّة (٢) بيعه بعد الرضا. واستدلالهم (٣) له بالأخبار الواردة في طلاق المكره

______________________________________________________

ما قد يتوهم من عبارة الشهيدين من عدم قصد مدلول العقد ، لأنّهم اشترطوا القصد أوّلا ، ثم اشترطوا الرّضا وعدم الإكراه. فلو لم يتمشّ القصد من المكره كان اشتراط القصد كافيا لإثبات بطلان إنشائه ، ولم يحتج إلى اشتراط الاختيار حينئذ ، لانتفاء العقد بانتفاء القصد ، فلا متعلّق للرضا.

قال المحقق في شرائط الطلاق : «الثالث : الاختيار ، فلا يصح طلاق المكره .. الرابع : القصد .. فلو لم ينو الطلاق لم يقع كالساهي والنائم والغالط» (١).

(١) بالجرّ معطوف أيضا على قوله : «معنى الإكراه» وهذا وجه ثالث ، وحاصله : أنّ التأمل في حكم الفقهاء بعدم وجوب التورية ـ لأجل التفصّي عن المكره عليه ـ يشهد بتحقق قصد المدلول ، لتفرع التورية على القصد ، فيقال بأنه يقصد معنى آخر من «بعت» غير «إنشاء تمليك عين بمال». فلو كان إنشاء المكره صوريّا خاليا عن قصد المضمون لم يكن موضوعا لوجوب التورية أو لعدم وجوبها ، لفرض بطلانه من جهة قصور المقتضي بفقد الإرادة الجدية. فنفي وجوب التورية كاشف عن تحقق القصد المقوّم للإنشاء.

(٢) بالجر أيضا معطوف على «معنى الإكراه» وهذا وجه رابع ، وحاصله : أنّ التأمل في حكمهم بصحة بيع المكره إذا لحقه الرضا كاشف عن حصول القصد المقوم لعقدية العقد ، وإنّما المنتفي هو الشرط أعني به الرضا ، فإذا لحقه صحّ ، لتمامية سبب النقل حينئذ. وعليه فلا سبل للأخذ بما يتوهم من عبارة الشهيدين من عدم قصد المدلول أصلا.

(٣) بالجرّ معطوف أيضا على «معنى الإكراه» وهذا وجه خامس على أنّ المكره قاصد لمدلول إنشائه ، وحاصله : أنّه استدلّ الفقهاء على بطلان طلاق المكره بما ورد في جملة نصوص من «أنه لا طلاق إلّا مع إرادة الطلاق» بتقريب : أنّ مفهوم

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٢ و ١٣.

١٦٢

وأنّه (١) «لا طلاق إلّا مع إرادة الطلاق» (٢).

______________________________________________________

الطلاق ـ وهو البينونة ـ يتمشّى من المكره ، فيقصده كالمختار ، وإنّما المنفي بقوله عليه‌السلام : «لا طلاق» هو صحّته شرعا ، لوضوح أن وظيفته عليه‌السلام بيان الحكم من الصحة والفساد ، لا بيان الموضوع وجودا وعدما حتى يتخيل عدم قدرة المكره على قصد الطلاق.

وعليه فاستدلال الأصحاب شاهد على إرادة المكره مفهوم اللفظ ، والمفقود في إنشائه طيب النفس به ، ولأجل فقدانه لا يقع البينونة خارجا ، لإناطتها بالرّضا الباطني ، ولا يتحقق موضوع إمضاء الشارع ، هذا.

(١) بالجرّ محلّا معطوف على «طلاق المكره» وبيان للاستدلال ، وقد عرفته آنفا.

(٢) ظاهره الإشارة إلى جملة نصوص وردت بلفظ واحد ، وهو «لا طلاق إلّا لمن أراد الطلاق» أو «لا طلاق إلّا ما أريد به الطلاق» كما في صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومرسل ابن أبي عمير عنه أيضا ، وخبر عبد الواحد بن المختار الأنصاري واليسع عن أبي جعفر عليه‌السلام (١). وبهذه النصوص استدلّ في المسالك والجواهر (٢) على اعتبار القصد.

واستدلّا على اعتبار الاختيار ـ في مقابل الإكراه ـ بطوائف اخرى.

منها : خبر يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «قال : وإنّما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه» (٣).

وكيف كان فالمضمون المذكور في المتن قابل للانطباق على كلتا الطائفتين ، ولكن لمّا أسند المصنف الاستدلال بها إلى الأصحاب كان الغرض التنبيه على أنّ الموجود في الكتابين هو الطائفة الثانية لا الأولى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٢٨٥ و ٢٨٦ ، الباب ١١ من أبواب مقدمات الطلاق ، ح ٢ إلى ٥.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٩ ، ص ٢٤ ، جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٢٩٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمات الطلاق ، ح ٦.

١٦٣

حيث إنّ المنفي صحة الطلاق (١) لا تحقق مفهومه (٢) لغة وعرفا (٣).

وفيما (٤) ورد في من طلّق مداراة بأهله ، إلى غير ذلك (٥).

______________________________________________________

(١) كما هو المراد في نظائره مثل «لا طلاق إلّا ببيّنة» (١) و «لا طلاق إلّا بعد نكاح ، ولا عتق إلّا بعد ملك» (٢).

(٢) إذ ليس بيان المفهوم وظيفة الإمام عليه‌السلام وإن أمكن بيانه أحيانا.

(٣) قيدان للمفهوم.

(٤) معطوف على «معنى الإكراه» وهذا وجه سادس ، ومحصله : أنّه عدّ من الطلاق المكره عليه المحكوم بالبطلان ما إذا طلّق الرجل زوجته ـ أو إحدى زوجاته ـ مداراة بأهله وذويه ، وحسما للنزاع والتشاجر بينهم ، فإنّه يبطل ، لعدم طيب نفسه به مع قصده لمدلول الإنشاء. وقد ورد ذلك في بعض النصوص ، ففي موثق منصور بن يونس : «قال : سألت العبد الصالح عليه‌السلام وهو بالعريض ، فقلت له : جعلت فداك : إنّي تزوّجت امرأة وكانت تحبّني ، فتزوّجت عليها ابنة خالي .. فأبوا عليّ إلّا تطليقها ثلاثا. ولا و.. جعلت فداك ما أردت .. ولا أردت إلّا أن أداريهم عن نفسي ، وقد امتلأ قلبي من ذلك .. فقال : أمّا بينك وبين الله فليس بشي‌ء ، ولكن إن قدّموك إلى السلطان أبانها منك» (٣).

والشاهد في أنّ الزوج قصد المدلول ، لأجل المداراة ، فصدق على إنشائه «الطلاق» لكن المنفي شرعا صحته واقعا.

(٥) أي : غير ما ورد في من طلّق مداراة بأهله ، وهذا الغير ورد في نصوص عديدة ، من بطلان الطلاق الذي لم يحضره العدلان ، أو يفقد شرطا آخر ككونها في طهر غير مواقع ، فإنّ المفهوم مقصود في الجميع ، والمنفي هو الصحة الشرعية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٢٨٥ ، الباب ١٠ من أبواب مقدمات الطلاق ، ح ١٣.

(٢) المصدر ، ص ٢٨٦ ، الباب ١٢ ، ح ١.

(٣) المصدر ، ص ٣٣٢ ، الباب ٣٨ ، ح ١.

١٦٤

وفي (١) أنّ مخالفة بعض العامة في وقوع الطلاق إكراها لا ينبغي أن يحمل على الكلام (٢) المجرّد عن قصد المفهوم الذي لا يسمّى خبرا ولا إنشاء.

وغير ذلك (٣) مما يوجب القطع بأنّ المراد بالقصد المفقود في المكره هو القصد إلى وقوع أثر العقد ومضمونه في الواقع ، وعدم (٤) طيب النفس به ، لا عدم إرادة المعنى من الكلام.

______________________________________________________

(١) معطوف على «معنى الإكراه» وهذا وجه سابع ، يعنى : أنّ التأمل في مخالفة بعض العامة في صحة الطلاق الإكراهي شاهد على تحقق قصد المدلول فيه ، وأنّ بطلانه ليس لأجل خلوّ الصيغة عن المعنى ، بل لأجل فقد طيب النفس والقصد الجدّي.

(٢) الأولى تبديل «الكلام» ب «الألفاظ» ضرورة أنّ الكلام هو اللفظ المفيد المنقسم إلى الخبر والإنشاء ، فما ليس كذلك لا يسمّى كلاما.

(٣) معطوف على «معنى الإكراه» يعني : وأدنى تأمّل في غير ذلك مما يوجب القطع .. إلخ. وغرضه إحالة وضوح المطلب إلى موارد متفرقة مذكورة في الكتب الفقهية ، وهي توجب القطع بأنّ القصد المفقود في المكره هو قصد وقوع أثر إنشائه خارجا وعدم طيب نفسه به ، وأمّا قصد المدلول فمتحقق فيه. فراجع أبواب غالب العقود والإيقاعات تجد اشتراطها بكلّ من القصد والاختيار ، وأنّ بطلان إنشاء المكره ناش من فقد الاختيار ، لا من عدم إرادة المعنى.

(٤) بالرفع معطوف على «القصد» يعني : أنّ المراد بالقصد المفقود في المكره هو عدم طيب النفس بمضمون العقد ، لا عدم إرادة المعنى من الكلام.

ولا يخفى أن العطف يقتضي مغايرة المعطوف والمعطوف عليه ، فالمفقود أمران قصد الوقوع خارجا وطيب النفس. لكن الظاهر اتحادهما ، أو كون فقد الرّضا منشأ لانتفاء حصول الأثر خارجا أي بحكم العرف والشرع ، وقد سبق في (ص ١٦٠) بعض الكلام فيه.

١٦٥

ويكفي في ذلك (١) ما ذكره الشهيد الثاني من «أنّ المكره والفضوليّ قاصدان إلى اللفظ دون مدلوله».

______________________________________________________

(١) أي : يكفي في أنّ المراد من نفي القصد في المكره ليس نفي قصد المعنى ـ وعدم استعمال الكلام فيه ـ ما ذكره الشهيد الثاني. وجه الكفاية : أنّه قدس‌سره جعل المكره والفضولي على حدّ سواء في قصد المدلول ، ومن المعلوم أنّ الفضوليّ قاصد للمدلول ومريد له من اللفظ ـ بمعنى استعماله فيه ـ فكذلك المكره.

ولا بأس بنقل بعض كلامه وقوفا على حقيقة الأمر. قال في شرح قول المحقق : «فلا يصح بيع الصبي .. وكذا المجنون والمغمى عليه والسكران والمكره ، ولو رضي كلّ منهم بما فعل بعد زوال عذره ، عدا المكره للوثوق بعبارته» ما لفظه : «الفرق بينهم وبين المكره واضح ، إذ لا قصد لهم إلى العقد ولا أهلية لهم ، لفقد شرطه وهو العقل. بخلاف المكره ، فإنّه بالغ عاقل ، وليس ثمّ مانع إلّا عدم القصد إلى العقد حين إيقاعه ، وهو مجبور بلحوقه له بالإجازة ، فيكون كعقد الفضولي ، حيث انتفى القصد إليه من مالكه الذي يعتبر قصده حين العقد ، فلمّا لحقه القصد بالإجازة صحّ .. وبهذا يظهر ضعف ما قيل هنا من انتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا» إلى أن قال :

«ويمكن أن يقال : إن القصد من المكره حاصل ، دون من سبق ـ أي المجنون والمغمى عليه والسكران ـ لأنّ غير العاقل لا يقصد إلى اللفظ ، ولا إلى مدلوله. بخلاف المكره ، فإنّه باعتبار كونه عاقلا قاصد إلى ما يتلفظ به ، ويفعله بشعوره ، لكنه بالإكراه غير قاصد إلى مدلوله. وذلك كاف في صلاحيته وقبوله للصحة .. ومثله القول في عقد الفضولي .. ولا يتحقق منه قصد مدلوله أعني نقل الملك والتسليط على التصرف وغيرهما من أحكام العقد ..» (١).

فالشهيد الثاني قدس‌سره أبطل دعوى انتفاء القصد في المكره أصلا ورأسا كما هو الحال في النائم ، وأثبت القصد إلى اللفظ ، ونفاه عن المدلول.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٥ ـ ١٥٦.

١٦٦

نعم (١) ذكر في التحرير والمسالك في فروع المسألة ما يوهم ذلك (١). قال في التحرير : «لو اكره على الطلاق فطلّق ناويا فالأقرب وقوع الطلاق

______________________________________________________

إلّا أن تنظيره بالفضولي شاهد على أنّ مقصوده بالقصد إلى المدلول هو القصد الجدّي إلى حصول أثر العقد في الخارج. وأما قصد التمليك في اعتبار نفسه فمتحقق حال العقد ، وهذا ما أصرّ عليه المصنف أيضا.

(١) استدراك على ما استظهره من عبارة المسالك. وغرضه أنّه قد توهم عبارة أخرى في المسالك ـ وكذا عبارة التحرير ـ بعدم قصد المكره مدلول إنشائه أصلا. أمّا العلّامة فلدلالة كلامه على أنّ المكره على الطلاق لو قصد الطلاق بانت منه زوجته ، ومقتضاه أنّ منشأ بطلان إنشاء المكره فقد قصد المدلول فيه ، فلو قصده صحّ ، لخروجه عن حدّ الإكراه موضوعا.

وأمّا الشهيد الثاني فلموافقته للعلامة ، حيث قال في فروع طلاق المكره : «الرابع : لو قصد المكره إيقاع الطلاق ففي وقوعه وجهان ، من أنّ الإكراه أسقط أثر اللفظ ، ومجرّد النية لا تعمل. ومن حصول اللفظ والقصد وهذا هو الأصح».

وترجيحه للصحة شاهد على تمشّي القصد من هذا المكره الناوي لوقوع الطلاق ، ومفاده استناد بطلان طلاق المكره إلى فقد النيّة والقصد إلى المدلول.

وهذا بظاهره ينافي ما تقدّم منه وما نسبه إليه المصنف من «وجود قصد المدلول في المكره ، وإنّما المفقود قصد الوقوع خارجا وطيب النفس».

ولذا ناقش صاحب الجواهر قدس‌سره في كلام الشهيد الثاني قدس‌سره بمنع المبنى ، وأنّ المكره قاصد للمعنى ، حيث قال : «قلت : مرجع ذلك إلى أنّ الإكراه في الظاهر ، دون الواقع ، وقد تكرّر من العامة والخاصة خصوصا الشهيد الثاني في المسالك والروضة في المقام وفي البيع : أنّ المكره حال الكراهة لا قصد له للمدلول ، وإنّما هو قاصد للفظ خاصة. وفيه منع واضح ، ضرورة تحقق الإنشاء والقصد منه ، ولذا ترتّب

__________________

(١) راجع تحرير الأحكام ، ح ٢ ، ص ٥١ ، مسالك الأفهام ، ج ٩ ، ص ٢٢.

١٦٧

إذ لا إكراه على القصد» (١) انتهى.

وبعض المعاصرين بنى هذا الفرع على تفسير القصد بما ذكرنا من متوهّم كلامهم (٢) ، فردّ (٣) عليهم بفساد المبنى ، وعدم (٤) وقوع الطلاق في الفرض المزبور.

ولكن المتأمّل يقطع بعدم إرادتهم لذلك (٥) ، وسيأتي ما يمكن توجيه الفرع

______________________________________________________

الأثر عليه مع الإكراه بحقّ من تعقب الإجازة بالعقد .. إلخ» (١).

واعترض المصنف على الجواهر بأنّ حكم العلامة والشهيد الثاني «لو طلّق ناويا صحّ» وإن أوهم خلوّ المكره عن قصد المنشأ. ولكن بعد تصريح المسالك بمساواة عقد المكره والفضولي في الصحة بتعقب الإجازة ـ وكونهما قاصدين للمدلول ـ لا بدّ من رفع اليد عن ظاهر عبارته المنقولة وتوجيهها ، ولا سبيل للأخذ بظاهرها من إرادة مجرّد اللفظ دون المدلول.

(١) لأنّ القصد فعل النفس وتحققه منوط بمباديه ، ولا يعقل الإكراه عليه ، وإنّما يتعلق الإكراه بأفعال الجوارح.

(٢) وهو قصد اللفظ المجرّد عن المعنى.

(٣) يعني : أنّ صاحب الجواهر قدس‌سره ردّ على الشهيد الثاني والعلّامة ـ في حكمهما بصحة الطلاق المزبور ـ بفساد المبنى ، ووجه فساده كون المدلول مقصودا ومرادا للمكره ، وإنّما المفقود طيب النفس به.

(٤) بالجر معطوف على ـ بفساد ـ اى وبعدم وقوع الطلاق في ما لو اكره على الطلاق ، فطلّق قاصدا للبينونة.

(٥) أي : لعدم قصد المكره مدلول اللفظ ، كما يوهمه عبارتا التحرير والمسالك.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٥.

١٦٨

المزبور به (١) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : في قوله : «بقي الكلام في ما وعدنا ذكره من الفرع المذكور في التحرير ..» إلخ ، فراجع (ص ٢٥٣).

__________________

(*) لا يخلو كلام الجواهر من وجه ، بعد ملاحظة شتات كلمات الشهيد الثاني قدس‌سره ، فإنّه وإن ساوى بين المكره والفضولي من جهة ، ولكنه بعد نقل عبارة الدروس ـ وهي جملة : فلو اكره حتى ارتفع قصده لم يؤثر الرضا ـ قال : «لكن يبقى في هذا كله إشكال من وجه آخر. وهو : أنّ الهازل قد حكموا بفساد عقده ، ولم يذكروا لزومه لو لحقه الرضا به. وظاهر حاله أنّه قاصد إلى اللفظ دون مدلوله ، لأنّه بالغ عاقل. فاللازم حينئذ إمّا إلحاقه بالمكره في لزوم عقده مع لحوق الرضا ، أو إبداء الفرق بكونه غير قاصد للفظ. وفيه تأمّل» (١). وهذه الجملة ظاهرة بل صريحة في إنكار قصد المدلول الإنشائي في كلّ من الهازل والمكره ، فهما سيّان من هذا الحيث.

فالإنصاف الحكم بتهافت كلام الشهيد الثاني ، وليس هناك ظهور في بعضه وإجمال في بعضه الآخر حتّى يتيسّر الجمع بينهما بحمل المجمل على الظاهر. فما نسبه إليه في الجواهر ليس متوهّم كلام الشهيد ، بل هو ظاهره لو لم يكن صريحه.

ثمّ إنّه ينبغي تفصيل الكلام في مسألة عقد المكره ، فنقول وبه نستعين : من شرائط المتعاقدين الاختيار ، بمعنى إيقاع مضمون العقد عن طيب النفس ، بحيث يكون القصد المزبور ناشئا عن طيب نفسه ، لا عن إكراه الغير عليه ، فيكون طيب النفس غير أصل قصد إيقاع المضمون الذي هو مقوّم لمفهوم العقد ، فهذا شرط شرعي زائد على ما يعتبر في حقيقة العقد عرفا ، فالمفقود في بيع المكره هو طيب النفس بما أنشأه ، لا الاختيار ، فإنّه حاصل بقصد وقوع المنشأ ، فإنّ هذا القصد الحاصل من ترجيح الوجود على العدم في نظر المختار الموجب لميل النفس إليه المتعقب بتعلق الإرادة والقصد به عين الاختيار لوقوع المنشأ ، وهذا الميل هو المعبّر عنه بطيب النفس.

__________________

(١) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٧.

١٦٩

.................................................................................................

__________________

وعليه فاعتبار القصد إلى المنشأ في حقيقة الإنشاء راجع إلى اعتبار عدم الإكراه ، لا إلى اعتبار طيب النفس ، لكفاية الشرط السابق في اعتباره ، لأنّ الإنشاء متقوم بقصد وقوع المنشأ ، فبدون القصد لا يتحقق الإنشاء.

ودعوى عدم القصد في عقد المكره أصلا غير مسموعة ، إذ مع عدم العقد كيف يكون عقد المكره بالحق صحيحا ، والمكره بغير الحق صحيحا بالرضا اللاحق؟ فالقصد المقوم للعقدية موجود في عقد المكره ، وإلّا لم يكن عقدا قابلا للصحة بالرضا اللاحق.

فالمتحصل : أنّ المعتبر في صحة العقد عدم الإكراه. وأمّا الرضا بمضمون العقد وطيب النفس به المتوقف عليهما قصد الإنشاء فهو مما لا بدّ منه في تحقق عنوان العقد.

ومنه يظهر أنّ الإكراه مانع شرعا ، لا أنّ طيب النفس شرط كذلك ، فإذا قصد اللفظ والمعنى وأنشأ المعنى باللفظ فقد تحقّق العقد ، وهو نافذ ، ويترتب عليه الأثر ، إلّا إذا وقع عن إكراه. فلو شك في تحقق الإكراه ينفى بالأصل ، ويحكم بصحته. وهذا بخلاف ما إذا كان طيب النفس شرطا ، فلا يحكم بصحته إلّا إذا أحرز هذا الشرط.

نعم إذا شكّ بعد العقد في أنّه هل صدر عن إكراه أم عن طيب النفس فمقتضى أصالة الصحة صحّته في ظاهر الشرع ، من غير فرق في ذلك بين شرطية الطيب ومانعية الكراهة.

ثمّ إن تنقيح البحث في هذه المسألة يتوقف على التعرض لجهات :

الاولى : أنّه قد حكي اتفاق كلمة الأصحاب على بطلان عقد المكره. وأمّا العامة فقد اختلفت كلماتهم في ذلك. فعن الحنابلة «يشترط في البيع أن يكون العاقدان مختارين ظاهرا وباطنا ، فإذا كانا مختارين في الظاهر فقط كأن اتفقا على بيع عين لأحدهما فرارا من ظالم يريد اغتصابها ، فإنّ هذا البيع يقع باطلا ، ولا ينعقد ، لأنّهما وإن تعاقدا باختيارهما ظاهرا ، ولكنهما في الباطن لا يريدان هذا البيع ، ويسمّى بيع التلجئة والأمان. أمّا إذا باع شيئا فرارا من ظالم ونحوه من غير أن يتفق مع المشتري على أنّ هذا بيع تلجئه وأمانة ، فإنّ البيع يقع صحيحا ، لأنّه صدر من غير إكراه في هذه الحالة».

وعن الحنفية «أنّ عقد المكره ينعقد فاسدا ، ولكن يصح بالإجازة».

١٧٠

.................................................................................................

__________________

وعن الشافعية «أنّ بيع المكره لا ينعقد رأسا إلّا إذا قصد إيقاع العقد ونواه حال الإكراه ، فإنّه في هذه الحالة لا يكون مكرها».

وعن المالكية «أنّ الإكراه الذي يمنع نفاذ البيع هو الإكراه بغير حق» هذا.

ثمّ إنّ العلامة قدس‌سره في التحرير قال : «لو اكره على الطلاق فطلق ناويا فالأقرب وقوع الطلاق» وقد يستظهر من هذه العبارة ما أفاده جماعة ، منهم الشهيد الثاني قدس‌سره ـ في عبارته المتقدمة في التوضيح ـ من أنّ المكره غير قاصد للمدلول.

لكن الظاهر أنّ هذا الاستظهار في غير محله ، لأنّ العلّامة يريد عدم تحقق الإكراه عند إمكان التورية ، ولذا لو لم يورّ المطلق صحّ طلاقه ، لأنّه ناو له. فالعلّامة قدس‌سره يعتبر في الإكراه عدم إمكان التورية. وسيأتي تفصيل محتملات كلام العلّامة قدس‌سره في (ص ٢٥٣) فانتظر.

وأمّا عبارة الشهيد الثاني فقد احتمل فيها وجوه :

الأوّل : ما ربما يكون ظاهر عبارته من عدم القصد للمكره والفضولي ، نظير الهازل.

وفيه أوّلا : أنّه خلاف الوجدان ، لكونهما قاصدين للمعنى قطعا. بشهادة أنّ الإكراه قد يقتضي الدهشة ، فيضطرّ المكره إلى قصد إيقاع مضمون الإنشاء ، فضلا عن قصد مدلول اللفظ.

وثانيا : أنّ البناء على خلوّ المكره عن القصد يوجب ركاكة الاستدلال على بطلانه بما دلّ على اعتبار الرّضا وطيب النفس ، أو حديث رفع الإكراه ونحو ذلك ، لأنّ صحة التمسك بها منوطة بصدق العقد على عقد المكره حتى يكون وجه بطلانه فقدان شرطه.

وأما مع عدم صدق العقد عليه لا وجه للتمسك المزبور.

وثالثا : أنّ لازمه عدم قابلية عقد الفضولي والمكره حينئذ للنفوذ بالإجازة ، إذ لا عقد حقيقة حتى ينفذ بالإجازة.

كما أن لازمه عدم صدق العقد حتى لو كان الإكراه بحقّ أو لحقه الرضا.

ودعوى كون الصحة في هذين الفرضين تعبديا ـ لا بعنوان البيع مثلا ـ في غاية الضعف.

١٧١

.................................................................................................

__________________

الثاني : أن لا يكونا قاصدين لمضمون العقد ، وهو الأثر الشرعي ، لأنّهما حيث يعلمان بعدم ترتب الأثر على عقدهما شرعا وعرفا لم يتمشّ منهما قصد ترتب الأثر على عقدهما.

وفيه : أنّه إن أريد بالمضمون اعتبار المتعاقدين فهو موجود في أفق النفس بعد قصد اللفظ والمدلول كما هو المفروض.

وإن أريد به اعتبار العقلاء أو الشارع ، ففيه أوّلا : أنّ عدم قصدهما لذلك مختص بما إذا كانا عالمين بفساد عقدهما. وأمّا إذا لم يكونا عالمين به فيتمشّى منهما هذا القصد. خصوصا في الفضولي المعتقد لكون المال ملك نفسه ، ثمّ تبيّن أنّه لغيره وأنّه أخطأ في التطبيق وباع مال غيره باعتقاد كونه مال نفسه.

وثانيا : أنّه لا دليل على اعتبار قصد ذلك في صحة المعاملة ، ولذا تصح المعاملة من غير المتدينين أيضا الّذين لا يعتقدون بالشرع فضلا عن قصدهما للإمضاء الشرعي. فهذا الاحتمال ممنوع أيضا.

الثالث : أن يراد بالعبارة ما احتمله المحقق النائيني قدس‌سره «من عدم كونهما قاصدين لما هو ظاهر كلامهما ، فإنّ ظاهر قول الموجب ـ بعت ـ هو أنّه مالك للبيع ، وأنّه بداعي طيب النفس لا بإكراه الغير. والمشتري يستظهر منه ذلك ، والمفروض أنّ البائع لإكراهه ليس كما استظهره المشتري ، من قول البائع : بعت» (١).

وفيه أوّلا : أنّه ليس دائما كذلك ، إذ قد يكون هناك قرينة على الفضولية وعلى الإكراه ، ومع هذه القرينة كيف يكون اللفظ ظاهرا في ذلك؟

وثانيا : أنّ قصد خلاف هذا الظاهر لا دليل على كونه مفسدا للعقد.

وبالجملة : لم يظهر معنى صحيح لكلام الشهيد من أنّ المكره والفضولي قاصدان

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٨٢.

١٧٢

.................................................................................................

__________________

إلى اللفظ دون مدلوله ، فيردّ علمه إليه قدس‌سره.

وقد عرفت في (ص ١٦٩) أجنبية كلام العلامة في طلاق المكره عما أفاده الشهيد من عدم قصد المكره والفضولي لمدلول العقد ، فلا معنى لاستظهار رأي الشهيد من كلام العلّامة فراجع. فلا يمكن عدّ العلامة ممّن أنكر قصد المكره لمدلول العقد.

وقد ظهر مما بيّنا فساد ما أفاده الفاضل النراقي قدس‌سره من استناد بطلان البيع الإكراهي إلى عدم وجود ما يدلّ على قصد البيع ، حيث إنّ إجراء الصيغة مع الإكراه لا يكشف عن القصد ، فلا يكون من البيع العرفي ، لعدم كاشف عن كونه مريدا لنقل الملك ، بل الإكراه قرينة على عدم إرادة ظاهر اللفظ ، (١) فتأمّل جيّدا.

الجهة الثانية : أنّ محل البحث في هذه المسألة هو العقد الجامع للشرائط غير الاختيار أي طيب النفس ، فلا بد أن يكون عقد المكره جامعا للشرائط ، إذ لو كان فاقدا للقصد كان بطلانه لعدم القصد ، بل لا عقد حقيقة حتى يتصف بالصحة أو الفساد ، فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، ويكون عقد المكره من فروع المسألة السابقة وهي اعتبار قصد مدلول العقد. ولم يكن الاختيار بمعنى القصد عنوانا آخر ، فلا بدّ أن يراد بشرطية الاختيار طيب النفس ، لا قصد مدلول العقد الذي هو مقوم للعقد.

والحاصل : أنّه يعتبر في عقد المكره جميع ما يعتبر في عقد غيره عدا طيب النفس ، نظير الإكراه على شرب الخمر ، فإنّ الالتفات إلى نفس الخمر والشرب موجود ، والمفقود هو الرضا وطيب النفس. فما عن جماعة منهم الشهيد في المسالك من «أنّ المكره والفضولي قاصدان الى اللفظ لا إلى مدلوله» لا يستقيم بظاهره. وقد مرّ توجيهه بوجوه مع ما فيها من الإشكالات.

__________________

(١) مستند الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٦٧.

١٧٣

.................................................................................................

__________________

الجهة الثالثة : في الدليل على اعتبار طيب النفس في صحة العقد ، بحيث لو لم يكن دليل على اعتبار طيب النفس في المعاملة كان مقتضى القاعدة صحة بيع المكره ، لأنّه عقد عرفي ، فيشمله ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود.

لكن قد استدل على ذلك بوجوه :

الأوّل : الإجماع.

وفيه : أنّ البطلان وإن كان مسلّما ، لكن يحتمل قريبا أن يكون وجهه الوجوه الآتية ، فلا يحصل اطمئنان بإجماع تعبدي في المسألة.

الثاني : قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (١) بتقريب : أنّه سبحانه وتعالى نهى عن تملك الأموال بجميع الأسباب سوى التجارة عن تراض. ومن المعلوم أنّ التراضي ليس هو الإرادة المقوّمة لعقدية العقد كما توهم ، فإنّه مضافا الى كونه خلاف الظاهر يستلزم اللغوية ، بداهة تقوم التجارة بالإرادة ، فذكر التراضي بمعنى الإرادة بعد التجارة يكون لغوا. فالمراد بالرضا هو طيب النفس فالعقد الإكراهي مقرون بالإرادة والاختيار ، وإذا عرى عن القصد عدّ من الأفعال غير الاختيارية.

ثمّ إنّ الفائدة المترتبة على الفعل الاختياري الصادر من فاعله المختار على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يرى الخير المحض في فعله سواء أكان ذلك الخير دنيويا ، كما إذا رأى أن المشتري يشتري ماله بربح كثير. أم أخرويا كما إذا اعتقد بمثوبات جميلة مترتبة على التصدق بماله ، فيختار التصدق به. وفي هاتين الصورتين يختار الفعل بطيب نفسه.

الثاني : أن يرى الفعل خيرا لنفسه بعنوان ثانوي ، كما إذا ابتلى بمرض يتوقف

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٢٩.

١٧٤

.................................................................................................

__________________

علاجه على بيع داره ، وصرف قيمتها في المعالجة ، فإنّ بيع الدار حينئذ وإن لم يكن خيرا له بعنوانه الأوّلي ، إلّا أنّه خير له بالعنوان الثانوي ، لأنّ بيعها مقدّمة لدفع ضرر متوجه إلى نفسه أو نفس ولده. وهذا الضرر أجنبي عن المعاملة ، وليس من ناحية ظالم ونحوه.

وفي هذا القسم يقدم على بيع داره بطيب نفسه ، ويشكر الله تعالى على ما أنعم به خالقه جلّ وعلا من نعمة الدار وبيعها للمعالجة ، أو للإنفاق على عياله أو لأداء الدّين الواجب ، أو لدفع جرائم ثبتت عليه ، أو طلب منه الظالم مالا لا يقدر على دفعه إليه إلّا ببيع داره أو أثاثه مثلا ، من دون أن يجبره الظالم على بيع شي‌ء من أمواله ، بل مورد الإجبار هو دفع المال.

الثالث : أن يرى الفعل خيرا له ، لكونه موجبا لدفع ضرر الظالم الناشئ من ترك الفعل ، لا من جهات خارجية ، كما إذا حمل الجائر شخصا على بيع داره مثلا مع الإيعاد على تركه بقتل أو ضرب أو غيرهما ، فإنّ البيع وإن صدر بمقدماته الاختيارية من التصور والتصديق بفائدته والميل والشوق المؤكّد المعبّر عنه غالبا بالإرادة التي هي تأثير النفس في حركة العضلات ، لكن الفاعل غير راض به كما لا يخفى.

والفرق بين هذا وسابقه ـ بعد اشتراكهما في كون صدور الفعل فيهما بالعنوان الثانوي ـ هو : أنّ الرضا في هذا القسم مفقود ، لأنّ البيع صدر بإيعاد الظالم ، فدفع ضرر الظالم دعاه إلى البيع ، لا طيب نفسه. بخلاف القسم السابق ، فإنّ الداعي إلى البيع ليس إيعاد الظالم على ترك البيع ، بل الظالم أكرهه على إعطاء ألف دينار مثلا ، وتوقّف نجاته من هذه الغرامة على بيع داره ، فيرضى بالبيع بداعي رفع الاضطرار.

نظير ما إذا ابتلى بمرض صعب العلاج كالسرطان والسّل ، وتوقف علاجه على مئونة كثيرة لا يقدر على بذلها إلّا بأن يبيع داره ، فإنّه يرضى بهذا البيع لدفع هذه الضرورة ، أو توقف العلاج على قطع عضو فاسد من أعضائه بحيث لو لم يقطعه سرى

١٧٥

.................................................................................................

__________________

المرض إلى سائر أعضائه ، فيرضى بقطع عضوه ويبتهج بذلك.

بخلاف بيع الدار إذا أوعده الظالم على ترك البيع ، فإنّه لا يرضى بالبيع أبدا ، لأنّ داعيه إلى البيع إيعاد الظالم على تركه.

وقد اتضح ممّا بيّنا : أنّ بيع المكره من قبيل القسم الثالث ، لأنّ البيع الصادر عن إكراه فعل اختياري للمكره ، لكنه فاقد للرضا وطيب النفس ، فبيع المكره تجارة لكنها عن غير تراض ، فيبطل ، إذ المفروض انحصار السبب المملّك للأموال المحلّل شرعا بالتجارة المقرونة بطيب النفس.

الوجه الثالث : ما دلّ من الروايات على «حرمة التصرف في مال غيره إلّا بطيب نفسه» كموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه» (١).

وعن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي عن أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رحمه‌الله عن صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه قال : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» (٢) وغير ذلك من الروايات الدالة على حرمة التصرف في مال الغير.

ومقتضى إطلاقها حرمة جميع التصرفات من الخارجية والاعتبارية ، وبيع المكره لمّا لم يكن مقرونا بالرضا كان حراما.

الوجه الرابع : الروايات الدالة على بطلان طلاق المكره وعتاقه ، كخبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : سألته عن طلاق المكره وعتقه ، فقال : ليس طلاقه بطلاق ولا عتقه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلى ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، ح ٦.

١٧٦

.................................................................................................

__________________

بعتق» الحديث (١). تقريبه : أنّه لإطلاق إلّا مع إرادته وقصده ، فالمنفي هو الطلاق المسلوب فيه الرضا بسبب الإكراه. وبضميمة عدم القول بالفصل بينهما وبين غيرهما من العقود والإيقاعات تدلّ على المطلوب.

الوجه الخامس : حديث رفع التسعة التي منها الإكراه ، وهو ما رواه حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمتي تسعة الخطاء والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (٢).

تقريب الاستدلال به على بطلان عقد المكره هو : إن الرفع تشريعي ، فكل حكم يؤخذ من الشارع مرفوع في حال الإكراه أي إذا صدر عن إكراه ، من غير فرق بين كون الحكم تكليفيا ووضعيا ، لأنّ الرفع التشريعي يشمل كل ما تناله يد التشريع. ومن المعلوم أنّ الحكم الوضعي كذلك ، فيرفع عند الإكراه ، سواء أكان فعل المكلف متعلقا للتكليف كحرمة شرب الخمر ، أم موضوعا له كالإفطار الذي هو موضوع لوجوب القضاء والكفارة. وكالبيع الذي صدر عن إكراه.

فالإكراه على إيجاد موضوع الحكم كالإكراه على إيجاد متعلّقه كالشرب ، وهذا ما قرّر في الأصول من أن معنى حديث رفع التسعة رفع ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع من الحكم التكليفي والوضعي.

فلا حاجة في الاستدلال به على ما نحن فيه من التشبث باستدلال الامام عليه‌السلام بهذا النبوي على ما رواه أحمد بن أبي عبد الله في المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعا عن أبي الحسن عليه‌السلام «في الرجل يستكره

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٣١ ، الباب ٣٧ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٤ ، ص ١٢٨٤ ، الباب ٣٧ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٢ ، وج ٥ ، ص ٣٤٥ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٢.

١٧٧

.................................................................................................

__________________

على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن أمتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا» (١).

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أمران :

أحدهما : أنّ المعاملة الاضطرارية صحيحة. والتمسك لفسادها بآية التجارة عن تراض والنبوي غير سديد ، إذ المفروض حصول طيب النفس في المعاملة الاضطرارية فالآية لا تشمل البيع المضطرّ إليه.

وأمّا وجه عدم شمول الحديث له فلأنّه وارد مورد الامتنان ، وليس رفع الآثار الوضعية لأجل الاضطرار امتنانا على الأمّة ، بل هو مناف للامتنان.

نعم في رفع الحكم التكليفي كحرمة شرب الخمر إذا اضطرّ إليه منّة على العباد كما لا يخفى.

ثانيهما : أنّ الإكراه بحقّ لا يبطل المعاملة ، وإلّا كان الإكراه لغوا. ويقتضيه أخصية ما دلّ على عدم بطلان المعاملة من حديث رفع الإكراه وذلك في موارد.

منها : إكراه المحتكر على بيع الطعام ، فإنّ المحكيّ عن المهذّب البارع الإجماع عليه ، وعن التنقيح عدم الخلاف في ذلك. وقد وردت جملة من الروايات في ذمّ المحتكر وحرمة الاحتكار ، وكونه من الجرائم الموبقة.

ومنها : أنّ القاضي يحكم ببيع ملك المديون لإيفاء الغرماء حقوقهم ، فإنّ البيع حينئذ صحيح ، لولاية الفقيه على الممتنع.

ومنها : إكراه شخص على بيع ماله للإنفاق على واجبي النفقة من الأب والأم والزوجة وغيرهم ، فإنّ البيع لصرف الثمن في نفقات هؤلاء جائز ونافذ.

ومنها : امتناع الراهن من أداء دينه ، فإنّ الحاكم يجبره على بيع العين المرهونة وأداء دين المرتهن من ثمنها ، فلا يؤثر الإكراه في فساد بيعه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٣٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، ح ١٢.

١٧٨

ثمّ إنّ (١) حقيقة الإكراه لغة وعرفا حمل الغير على ما يكرهه.

______________________________________________________

حقيقة الإكراه ، وما يعتبر في صدقه

(١) هذا شروع في جهة أخرى من جهات البحث في عقد المكره ، وهي تحديد الموضوع أعني به الإكراه ليترتب عليه حكمه ، في قبال الاضطرار والجبر والإلجاء. ومحصله : أنّه لمّا لم يكن للإكراه حقيقة شرعية كان المرجع في معناه إلى العرف ولو باستكشافه من كلام اللغوي ، وقد عرّفه الجوهري بما في المتن ، حيث قال : «وأكرهته على كذا حملته عليه كرها» (١).

والمستفاد من هذا التعريف توقف صدق الإكراه على اجتماع أمور ثلاثة :

الأوّل : تحميل المكره شيئا مقرونا بالتهديد بإيراد ضرر عليه لو خالفه.

الثاني : أن يكون ما توعّد به مضرّا لا يتحمّل عادة ، سواء أكان الضرر متوجها إلى شخص المكره أو إلى ذويه كالوالد والولد والزوجة. وسواء أكان في النفس أو في الطرف أو في العرض ، أو في المال. فلو أكرهه على البيع مثلا وهدّده بأخذ مال منه لو لم يبع ، ولم يكن دفع ذلك المال مضرّا بحال المكره ـ ليساره وكثرة أمواله ـ لم يتحقق الإكراه.

الثالث : علم المكره أو ظنّه بترتب المتوعد به لو خالف ، بأن يكون المكره قادرا على المؤاخذة ، والمكره مقهورا عاجزا عن دفع الضرر.

فإن اجتمع هذه الأمور تحقق الإكراه ، بمعنى عدم استقلال المكره في التصرف ، أي عدم طيب نفسه بما يصدر منه من فعل ، إذ في تركه مظنة الضرر. وهذا لا ينافي صدوره منه باختياره إمّا دفعا للضرر المتوعّد به من طرف المكره. وإمّا لترجيح أخفّ الضررين على الأشدّ ، كما إذا تضرّر المكره من بيع دار سكناه ، ولكنه يقدم على بيعها ويتحمّل الضرر المادّي ، دفعا للضرر الأعظم المتوعد به كالقتل.

والجامع بين الفرضين عدم رضاه بما يفعله ، لأنّ علمه بتحقق الوعيد أو ظنّه به

__________________

(١) صحاح اللغة ، ج ٦ ، ص ٢٢٤٧.

١٧٩

ويعتبر (١) في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه (٢) مظنون الترتب على ترك ذلك الفعل ، مضرّ بحال الفاعل أو متعلقة نفسا أو عرضا أو مالا.

فظهر (٣) من ذلك أنّ مجرّد الفعل لدفع الضرر المترتب على تركه لا يدخله (٤) في المكره عليه. كيف (٥)؟ والأفعال الصادرة من العقلاء كلّها أو جلّها

______________________________________________________

هو الباعث له نحو الفعل المكره عليه ، لا طيب نفسه به.

وقد ظهر من هذا اعتبار كون نفس الفعل مكرها عليه كالبيع في المثال. وأما إذا أكرهه على دفع مال خطير ، وتوقّف تحصيله على بيع داره فباعها ، لم يكن ذلك إكراها على البيع ، لكون مطلوب المكره نفس المال لا مقدمته وهو البيع. نعم يضطرّ المكره إلى البيع لتسديد حاجته ، ولكنه أمر آخر ، وسيأتي توضيح الفرق بين الإكراه والاضطرار.

(١) هذه الجملة إلى قوله : «أو مالا» جامعة للأمور المتقدمة ، فقوله : «اقترانه بوعيد منه» إشارة إلى الأمر الأوّل ، وقوله : «مظنون الترتب ، إشارة إلى الأمر الثالث. وقوله : «مضرّ بحال الفاعل» إشارة إلى الأمر الثاني.

(٢) الإتيان بكلمة «منه» لأجل إخراج موارد عن حدّ الإكراه نذكر بعضها :

الأوّل : ما إذا طلب المكره شيئا من المكره ، وأخافه من آفة سماوية لو خالف ، بأن قال له : «بعني هذه الدار وإلّا نزلت بك صاعقة أو زلزال مثلا» فإنّ هذا الوعيد لمّا لم يكن من شأن المكره لم يصدق على هذا التهديد حدّ الإكراه.

الثاني : ما إذا كان الضرر المتوعد به فعل شخص آخر غير المكره ، ولكن ذلك الغير لم يحمّل شيئا على المكره ولم يوعّده بضرر.

(٣) هذا متفرع على اعتبار الأمور الثلاثة المتقدمة في تعريف الإكراه ، بضميمة إتيانه بنفس ما أكرهه عليه لا بمقدمته.

(٤) بل يدخله في المضطرّ إليه.

(٥) يعني : كيف يدخله في المكره عليه؟ والحال أنّ الأفعال العقلائية كلّها

١٨٠