هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

واعترضنا عليه (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّ في هذه المسألة جهتان :

الأولى : أنّهم اعتبروا قصد مدلول العقد في صحته ، وأرسلوه إرسال المسلّمات ، بل عن التذكرة : الإجماع عليه.

لكن عدّه شرطا لا يخلو من مسامحة ، لأنّ الشرط إنّما يطلق على الأمر الخارج عن حقيقة المشروط ، وقصد مدلول العقد مقوم له ودخيل في حقيقته ، وليس أمرا خارجا عن حقيقته حتى يصح إطلاق الشرط عليه. فلو عبّر عنه بأنّه مقوم عرفي كان أولى.

وكيف كان فالبيع ـ سواء كان بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المشهور عند الأصوليين وغيرهم ، أم كان بمعنى إظهار أمر نفساني بمبرز أم كان بمعنى الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي ، سواء أمضاه العرف والشرع أم لا ، وسواء كان ، في العالم شرع وعرف أم لا ـ لا يتحقق في الخارج إلّا بالقصد الذي هو أمر نفساني مع إظهاره بمبرز خارجي ، فبانتفاء أحدهما ينتفي الآخر ، لانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه.

والحاصل : أنّ جعل القصد من شروط العقد أو المتعاقدين ثم الاستدلال عليه بالإجماع لا يخلو من المسامحة ، إذ ليس القصد شرطا شرعيا حتى يستدل عليه بالإجماع الذي هو دليل على الحكم الشرعي.

الجهة الثانية : أنّ المحقق صاحب المقابس قدس‌سره قال : «إنّ في اعتبار تعيين المالكين اللذين يتحقّق النقل والانتقال بالنسبة إليهما وجوها وأقوالا».

وملخص الكلام فيه : أنّه هل يعتبر في صحة البيع تعيين المالك ومن يقع عنه البيع ، سواء أكان عن نفسه أم غيره؟ ثم على فرض اعتباره هل يلزم تعريفه للمشتري ، وكذا تعريف المشتري للبائع أم لا؟ فهنا مقامان :

الأوّل : في اعتبار تعيين من يقع عنه البيع.

والثاني : في اعتبار تعريف كل من البائع والمشتري للآخر.

أما المقام الأوّل فتفصيل البحث فيه : أنّ الكلام تارة يكون في البيع الشخصي

١٤١

.................................................................................................

__________________

واخرى في البيع الكلي.

أمّا البيع الشخصي فتعين المالك ثبوتا يغني عن تعيينه إثباتا بالقصد أو اللفظ أو كليهما ، فتعيينه ليس مقوما ولا شرطا للبيع ، إذ ليس البيع إلّا اعتبار المبادلة بين المالين في أفق النفس ، وإبرازه بمبرز خارجي من اللفظ وغيره. ولا ريب في أنّ هذا المعنى يتحقق بدخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوّض ، وبالعكس ، من دون حاجة إلى تعيين مالك الثمن أو المثمن ، لعدم قيام دليل تعبدي على اعتبار التعيين ، مع حصول المعنى العرفي للبيع بدون التعيين.

ولا فرق فيما ذكرناه بين صدور العقد من المالكين ومن غيرهما كالوكيل والولي والفضولي ، فالقصد إلى العوض وتعيينه يغني عن قصد المالك وتعيينه.

نعم يعتبر في صحة البيع أن لا يقصد خلاف مقتضى العقد ، كأن يشترط دخول الثمن في ملك غير البائع ، أو المثمن في غير ملك المشتري ، فإنّه يرجع في الحقيقة إلى عدم قصد البيع ، لأنّ حقيقة البيع متقومة بمبادلة المالين ، فإن لم يرجع قصد الخلاف إلى عدم قصد البيع ، فهو يتصور على صور :

إحداها : أن يقصد رجوع نتيجة البيع وفائدته إلى شخص آخر ، كما إذا قصد التمليك للغير بعد تحقق البيع ، كأن يشتري شيئا لولده ، أو خبزا من الخبّاز بقصد إعطائه إلى الفقير ، أو اشتراط ذلك على الخبّاز ، فإنّ المبيع في هذه الموارد ينتقل إلى المشتري ، ثم منه بناقل شرعي إلى غيره. ولا إشكال في صحة البيع في هذه الموارد.

ثانيتها : أن يقصد الخلاف من باب الادّعاء وعقد القلب على كون غير المالك مالكا تنزيلا وتشريعا ، كما في بيع اللصوص والغاصبين ما يبيعونه من الأموال المسروقة والمغصوبة.

ثالثتها : أن يقصد الخلاف من باب الخطاء في التطبيق كالوكيل في بيع أموال غيره ، بتخيّل كون العين الفلانية مملوكة للموكل ، فباعها له ، ثم ظهر كونها ملكا لشخص آخر.

١٤٢

.................................................................................................

__________________

وفي هاتين الصورتين يتحقق البيع للمالك ، غاية الأمر أنّ نفوذه يتوقف على إجازته.

والكليّ في المعيّن والكلي الثابت في ذمة شخص خاص في حكم المبيع الشخصي في عدم لزوم تعيين المالك ، لتعينه فيهما كتعينه في الشخصي.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه ـ من عدم اعتبار تعيين من يقع له العقد في صحة البيع ـ إنّما يكون في العقود التي ليس قصد المالك ركنا فيها كالعقود المعاوضية التي يكون الركنان فيها العوضين كالبيع ، فإنّ حقيقته المبادلة بين المالين.

وأمّا إذا لم يكن كذلك كعقد النكاح الذي يكون الركنان فيه الزوجين ـ اللذين هما بمنزلة العوضين في البيع ـ فلا بدّ من تعيينهما حال العقد ، لعدم حصول الغرض بصيرورة الرجل زوجا لامرأة مبهمة ، وبصيرورة المرأة زوجا لرجل مبهم.

وكذا الموقوف عليه والموهوب له والموصى له والوكيل ، فإنّ هؤلاء من أركان الوقف والهبة والوصية والوكالة ، فلا يتحقق شي‌ء منها بدون القصد إلى هؤلاء ، وبدون تعيينهم هذا.

وأمّا البيع الكلي فلا بدّ فيه من تعيين البائع وقصده ، لا من جهة اعتبار التعيين في المبيع ، بل من جهة أنّ الطبيعي لا مالية له ، كذا أفيد.

لكن الإنصاف أنّ له ماليّة ، لأنّها من لوازم الطبيعة. فالوجه في اعتبار الإضافة أنّ الكلي غير المضاف إلى شخص يلغو اعتبار ملكيته لأحد ، إذ حال من اعتبر له ومن لم يعتبر له على حدّ سواء ما لم يضف إلى ذمة معيّنة. والمفروض أنّ البيع تبديل شي‌ء بشي‌ء في جهة الإضافة ، ومن المعلوم أنّ الكلي بما هو كلي غير مضاف إلى أحد حتى يكون تبديله بشي‌ء من قبيل تبديل شي‌ء بشي‌ء في جهة الإضافة ، فلا يتحقق المبادلة بين المالين في الكلي غير المضاف إلى ذمّة معيّنة.

والحاصل : أنّ الملكية المطلقة غير المتعلقة بشي‌ء لا يعقل أن توجد ، فلا بدّ من تعلقها بشي‌ء وما لا ثبوت له لا شيئية له ، فلا يعقل أن يكون طرفا للملكية أو الزوجية

١٤٣

.................................................................................................

__________________

أو غيرهما. فعدم تعلق الملكية بالمبهم ليس لأجل عدم الدليل على صحة العقد على المبهم ، بل لأجل عدم وجود للمبهم وعدم شيئية له ، فلا يعقل أن يكون طرفا للملكية أو الزوجية أو غيرهما.

وأمّا طلاق إحدى الزوجات أو عتاق مملوك من المماليك ، فهما ـ مضافا إلى كونهما منصوصين ـ إنما يصحان فيما إذا تعلّق الإنشاء بالمتعين الواقعي في علمه تعالى ولو بعنوان ما يقع عليه سهم القرعة ، أو ما يختاره فيما بعد ، بحيث يكون المختار عنوانا مشيرا إلى ما هو المتعين واقعا المعلوم عنده تعالى.

وكذا بيع أحد الصيعان ، فإنّ المبيع هو الصاع المتعين واقعا المعلوم عنده سبحانه وتعالى.

وأمّا الوصيّة بأحد الشيئين أو أحد الأشياء أو لأحد الأشخاص ، فإن كانت عهدية فمرجعها إلى إيكال الأمر إلى الوصي ، فيكون من قبيل الواجب التخييري. وإن كانت تمليكية فمع قصد التعيين ـ بنحو ما ذكرنا ـ صحّت الوصية ، وإلّا كانت صرف لقلقة لسان.

والحاصل : أنّ الإنشاء الذي لا تعيّن له إلّا بنفس هذا الإيجاد لا يعقل أن يتعلق بالمبهم ، إذ لا معنى لإيجاد المبهم.

فتلخص : أنّ الكلّي ما لم يضف إلى ذمة معيّنة ليس قابلا للمعاوضة ، هذا في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات ، فمقتضى الإطلاق كون الكلي مضافا إلى ذمة نفس العاقد ، لانصراف الإطلاق إليه ما لم يصرّح بالخلاف ، فيلزم به في مقام النزاع والترافع. وكذا الحال في الثمن إن كان كلّيا ، فإنّ الإطلاق منصرف إلى قابل العقد ، فيلزم به في مقام الترافع.

١٤٤

.................................................................................................

__________________

وأمّا المقام الثاني : ـ وهو الذي أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : وأما تعيين الموجب لخصوص المشتري وبالعكس ـ فحاصله : أنّه هل يعتبر في صحة البيع أن يعرف المشتري مالك المبيع ، بأن يعرف أنّ العاقد الموجب هل هو مالك المبيع أم وكيله؟ أم لا يعتبر إلّا تعيين البائع بحسب قصد الموجب للعقد ، وتعيين المشتري بحسب قصد القابل للعقد.

والحاصل : أنّ تعيين المالكين للعوضين ثبوتا عند الموجب والقابل هل هو كاف أم لا بدّ من معرفة كل من المالكين للآخر إثباتا؟

الظاهر الأوّل ، لأنّ مقتضى إطلاق الأدلة «كأوفوا بالعقود ، وأحل الله البيع ، وتجارة عن تراض» ونحوها عدم اعتبار ذلك ، بعد وضوح صدق العقد العرفي على العقد الذي لم يصرّح فيه بمالكي العوضين. وكذا في الهبة والنكاح وغيرهما ، من دون فرق في ذلك بين العقود التي يكون الركنان فيها المتعاقدين كالنكاح وبين غيرها ، فيصح أن تزوّج المرأة نفسها لمن قصده القابل من نفسه أو غيره المعيّن عنده.

وكذا يصح أن يقبل قابل عقد الهبة لنفسه ، أو غيره من دون توقف صحة الهبة على معرفة الواهب بكون القابل هو المتهب أو غيره.

والوجه في ذلك صدق حقائق هذه العقود بدون تعيين من له هذه العقود في مقام الإثبات بعد تعيينه ثبوتا ، لأنّ حقيقة البيع هي اعتبار التبديل بين مالين ، وحقيقة الهبة هي اعتبار ملكية العين الموهوبة لشخص ، وحقيقة الزواج هي اعتبار عدلية أحد الزوجين للآخر. ولا ريب في تحقق هذه الحقائق بالصيغ المزبورة ، مع عدم معرفة الموجب بمن قصده القابل ، ولا معرفة القابل بمن قصده الموجب من نفسه أو غيره ، فإنّ معرفة خصوصيات الأشخاص ليست دخيلة في ماهية العقد عرفا ، ولا في صحتها شرعا.

فالمتحصل : أنّه لا دليل على معرفة الأشخاص إثباتا بعد تعيينهم ثبوتا ، هذا.

١٤٥

.................................................................................................

__________________

ثم إنّ هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : إذا قصد الموجب الإيجاب لشخص المخاطب بنحو التقييد وقصد القابل القبول لغيره كموكله ، فالظاهر فساده ، لأنّ ما أنشأه الموجب لم يقع عليه القبول ، فالتطابق المعتبر بين الإيجاب والقبول مفقود. فإذا زوّجت المرأة نفسها من المخاطب ، وقبل المخاطب لغيره ، لم يصح هذا التزويج ، لعدم ورود القبول على ما وقع عليه الإيجاب.

وكذا إذا باع متاعا بثمن في ذمّة شخص المخاطب ، فقبل المخاطب لغيره لم يصح البيع ، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول.

نعم إذا كان عدم التطابق بين الإيجاب والقبول لأجل الخطاء في التطبيق صحّ العقد. كما إذا قصد البائع البيع لشخص المشتري بثمن شخصي بزعم أنّه ملك المشتري ، ولكن كان الثمن ملكا لموكّله ـ لا لنفس المشتري ـ صحّ البيع ، لأنّهما قاصدان لحقيقة البيع. وقصد خصوص المشتري إنّما كان خطأ ، فلا عبرة به. نعم إذا كان قصد خصوص المشتري من باب التقييد كان من قبيل تخلف الشرط ، فللبائع الخيار ، هذا.

الأمر الثاني : هل يجوز للموجب توجيه الإيجاب إلى المخاطب ، وقبول المخاطب لغيره مع عدم علم الموجب بذلك؟ وهل يجوز أيضا للموجب أن يسند الإيجاب في ظاهر الكلام إلى نفسه ، لكن قصد وقوعه عن غيره مع عدم علم القابل بذلك ، بل زعم كون الإيجاب لنفس الموجب ، أم لا يجوز؟

والفرق بين هذه الصورة وسابقتها هو صحة المخاطبة مع القابل في فرض عدم علم الموجب بكونه هو المشتري أو غيره. وكذا القابل بالنسبة إلى الموجب. وعدم الصحة في الصورة الأولى لقصد الموجب خصوص المشتري.

وحاصل ما أفاد في المتن : أنّ هنا صورا.

إحداها : أن يعلم من الخارج عدم لحاظ خصوصية للمتعاقدين ، كما في العقود

١٤٦

.................................................................................................

__________________

المعاوضية ، فإنّ الملحوظ في البيع غالبا هو العوضان من دون خصوصية لمالكيهما ، فلا مانع حينئذ من رفع اليد عن ظهور «كاف» الخطاب في مثل قوله : «بعتك» في كون المشتري نفس المخاطب لا غيره ، لأنّ الغلبة المزبورة قرينة نوعية على صرف كاف الخطاب عن ظاهره ، وإرادة الأعم منه ومن غيره ، فهذه القرينة توجب انقلاب الظهور الأوّليّ بالثانوي. فمعنى قوله : «بعتك» إيجاب البيع للأعم من المخاطب وغيره. وكذا ظهور «تاء» المتكلم في «بعت» في كون إنشاء الإيجاب لنفسه ، فإنّه يتبدل هذا الظهور ـ بالقرينة المزبورة ـ بظهور ثانوي في الأعم من نفسه وموكله مثلا. فلو قال : «بعتك الدار» مثلا ، ثم انكشف أنّ المشتري كان وكيلا عن غيره لم يكن به بأس ولم يضر ذلك بالتطابق.

الصورة الثانية : أن يعلم من الخارج لحاظ خصوصية المخاطب كما في النكاح والوقف والوصية ونحوها ، ففي مثلها يكون ظاهر الخطاب متبعا ، لعدم ما يوجب رفع اليد عنه ، ضرورة عدم قرينة على صرف ظهور الخطاب وإرادة الأعم من المخاطب وغيره. فلو قال : «زوجتك فلانة» وقبل المخاطب لغيره لم يقع النكاح ، لعدم التطابق المعتبر بين الإيجاب والقبول.

الصورة الثالثة : إذا لم يظهر من الخارج أنّ الموجب قصد المخاطب بشخصه حين الإيجاب ، أو قصد الأعم منه ومن غيره ـ كأن يكون وكيلا عن شخص ـ لم يصحّ القبول من الموكل ، بل لا بد من القبول لنفسه ، لأنّ الشبهة مصداقية لا مفهومية ، فلا يصح التمسك بالعمومات لصحته.

توضيحه : أنّ مفهوم البيع ـ وهو المبادلة بين المالين ـ من المفاهيم الواضحة ، والشّك إنّما يكون في مصداقية الإيجاب الخاص مع القبول عن الموكّل للبيع ، إذ مع إرادة خصوص المخاطب لا يكون مصداقا للبيع ، فلا يشمله ما دلّ على وجوب الوفاء

١٤٧

.................................................................................................

__________________

بالبيع ، لكونه من التشبث بالعام في الشبهة المصداقية.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّه إذا أحرز أنّ الموجب قصد خصوص المخاطب صحّ القبول للموكل.

وإذا أحرز أنّه قصد الأعم من كونه هو القابل أو موكله صحّ القبول حينئذ لنفسه أو عن موكّله.

وإذا لم يحرز قصده أصلا فلا يجوز القبول إلّا لنفسه دون موكّله ، إلّا إذا كان الغالب عدم لحاظ خصوصيّة المتعاقدين في ذلك العقد كالبيع ، فإنّ الغالب عدم لحاظ خصوصيتهما.

الأمر الثالث : إذا قصد الموجب الإيجاب لموكل المخاطب ، فهل يجوز له الإنشاء بلفظ الخطاب ، كأن يقول : «بعتك» قاصدا البيع لموكله؟ أو يقول : «زوجتك» قاصدا التزويج لموكله؟ الظاهر عدم صحة ذلك إلّا فيما إذا كان اللفظ ظاهرا عرفا في المنشأ ، لأنّ المعتبر في العقد أمران :

الأوّل : الاعتبار النفساني ، والثاني إبرازه خارجا بما هو مبرز له عرفا ، فإن لم يكن مبرزا له كذلك كإبراز المبادلة بين المالين بلفظ «ضربت ونصرت» لم يصح ذلك.

وعلى هذا فلا يصح إبراز علقة الزوجية بين المرأة وموكّل القابل بلفظ «زوّجتك» لأنّه ليس مبرزا لتلك العلقة بين المرأة وموكّل القابل ، بل هو مبرز لتلك العلقة بين المرأة ونفس القابل. فالأمر الثاني وهو المبرز العرفي مفقود هنا ، فلا يصح العقد. هذا في عقد النكاح.

وأمّا في عقد البيع فلا يبعد أن يكون «بعتك» مبرزا عرفا لإنشاء البيع للمخاطب الأعم من كونه بنفسه مشتريا أو وكيلا عن غيره ، فلا يكون «بعتك» حينئذ ظاهرا في خلاف مقتضى المعاوضة الحقيقية أعني انتقال كل من العوضين إلى من انتقل عنه

١٤٨

.................................................................................................

__________________

العوض ، فإنّ مقصود الموجب نقل المبيع إلى موكل القابل ، ونقل الثمن عنه إلى الموجب. لكن مقتضى قوله : «بعتك» نقل المبيع إلى نفس القابل ، ونقل الثمن من القابل إلى البائع. فمقتضى ظاهر العقد مخالف لما قصده البائع.

نعم لو ثبت دعوى ظهور «بعتك» في الأعم من المخاطب وغيره صحّ ، كما أنّ ثبوتها غير بعيد. فيفرّق حينئذ بين «بعتك» وبين «زوجتك» و «وهبتك» لثبوت الدعوى المزبورة في الأوّل دون الأخيرين ، هذا.

فالمتحصل : أنّه مع العلم بمبرزية «بعتك» للأمر الاعتباري النفساني للأعم من المخاطب صحّ البيع مع قبول المشتري الإيجاب لموكّله. وإمّا مع العلم بعدم مبرزيّته للأعم أو الشك في مبرزيته لم يصح البيع ، لأصالة عدم تحققه.

١٤٩

مسألة (١):

ومن شرائط المتعاقدين (*) الاختيار. والمراد به (٢) القصد إلى وقوع

______________________________________________________

الشرط الثالث : الاختيار ، بطلان عقد المكره

(١) الفرق بين هذه المسألة وسابقتها أنّ القصد المعتبر في تلك المسألة كان للعقد ، بحيث لا يتحقق إلّا بالقصد إلى اللفظ والمعنى ، والقصد المعتبر في هذه المسألة هو كون القصد إلى اللفظ والمعنى ناشئا من طيب النفس والرضا.

وبعبارة أخرى : هذه المسألة تتضمن اعتبار منشأ ذلك القصد المقوّم للعقد ، وأنّه لا بدّ أن يكون منشؤه طيب النفس ، فان لم ينشأ عن الطيب لم يصح العقد وإن لم يكن جبر وإلجاء.

(٢) فسّر الاختيار «بقصد وقوع المنشأ عن طيب النفس» ومراده أنّ الاختيار يطلق تارة على الإرادة والقدرة على كلّ من الفعل والترك ، في قبال المضطرّ والمجبور

__________________

(*) الظاهر أن التعبير بشرائط الإنشائيات أولى من التعبير بالمتعاقدين ، لأنّ ذلك أشمل ، لشموله للعقود المتقومة بطرفين وللإيقاعات القائمة بطرف واحد ، كالطلاق والعتق والجعالة ـ على قول ـ ضرورة أنّ الاختيار بالمعنى المزبور معتبر في جميعها. ولعلّ التعبير بالمتعاقدين لأجل كون مورد البحث البيع المعدود من العقود.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المسلوب إرادته ، كحركة يد المرتعش ، وكالصائم المكتّف الذي يصبّ الماء في حلقه بحيث لا قصد له إلى الشرب أصلا ، وهو مقهور في فعله بنحو لا يصحّ إسناد الفعل إليه ، بل يسند إلى القاهر والحامل له.

واخرى على الرّضا الذي هو أمر نفساني مغاير للقدرة على كلّ من الفعل والترك. وهو أمر زائد عليه ، بمعنى أنّه بعد تحقق إرادة فعل في الخارج ـ وعدم إجبار عليه ـ تصل النوبة إلى كونه صادرا عن طيب النفس ، أو عمّا يقابله من الإكراه الذي يتحقق بتحميل الغير وتوعيده ، كما في تهديد الصائم بإيراد ضرر على نفسه أو طرفه أو ماله لو لم يتناول المفطر بيده.

والفرق بين المعنيين إسناد الفعل إلى المباشر المكره على ما يفعل ، لصدور الفعل عن إرادته وإن لم يكن راضيا به ، بخلافه في المجبور الفاقد للإرادة.

والمقصود بالبحث اشتراط العقد بالاختيار بمعناه الثاني المقابل للمكره ، بعد الفراغ عن تحقق الإرادة والقصد إلى الفعل فيه.

ولعلّ تفسير الاختيار بطيب النفس ناظر إلى ردّ ما أفاده صاحب الجواهر في بعض كلامه من انتفاء كلا الأمرين ـ وهما ارادة معنى العقد والرضا به ـ في المكره ، فهو غير مريد للعقد ، ولا راض به ، حيث قال في بيان الدليل على بطلان بيع المكره : «وإلى ما دلّ على اعتبار الرّضا وطيب النفس في صحة المعاملة وآثارها من الكتاب والسنة. وإلى : معلومية اعتبار إرادة معنى العقد من ذكر لفظه ، ضرورة عدم كون التلفظ به سببا للعقد على كل حال حتى لو وقع ممّن لم يرد العقد به ، إذ لا عمل إلّا بنيّة. ومن المعلوم انتفاء إرادة معنى العقد من المكره ، لعدم تصور الإكراه عليه» (١).

ومقتضاه انتفاء الاختيار في عقد المكره ـ بكلا معنييه من الإرادة وطيب النفس ـ وحينئذ يشكل بما أفاده المصنف قدس‌سره من أنّ القدرة المعتبرة في اختيار الفعل

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٥ و ٢٦٦.

١٥١

مضمون العقد عن طيب نفس ، في مقابل الكراهة وعدم (١) طيب النفس ، لا الاختيار (٢) في مقابل الجبر.

ويدل عليه (٣) قبل الإجماع (٤) قوله تعالى : (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ

______________________________________________________

والترك متحققة في المكره ، فتمشّي منه النية والقصد إلى المدلول ، وإنّما المفقود فيه هو طيب النفس ، ولذا فسّر قدس‌سره الاختيار بالرضا دفعا لتوهم تفسيره بالأعم منه ومن القدرة التكوينية التي تبقى فاعليّة النفس معها على حالها ، هذا.

وكيف كان فقد تعرّض المصنف قدس‌سره في هذه المسألة أوّلا لمعنى الإكراه إجمالا ، ثم للدليل على عدم موضوعية عقد المكره للصحة الفعلية ، ثم لمباحث اخرى أكثرها موارد تعيين تحقق الإكراه ، وبعضها ناظر إلى تفصيل ما يعتبر في الإكراه من أمور ثلاثة ، وبعضها إلى ما نسب إلى الشهيدين قدس‌سرهما من عدم كون المكره قاصدا للمدلول ، وسيأتي البحث عنها بالترتيب إن شاء الله تعالى.

(١) بالجرّ معطوف على «الكراهة» ومفسّر لها.

(٢) بالرفع معطوف على «القصد» يعني : ليس المراد بالاختيار ـ في عقد المكره ـ ما يقابل الجبر ، فالمختار هناك هو المتحرّك بإرادته ، وفي المقام هو المتحرّك بإرادته عن طيب النفس.

الدليل على بطلان عقد المكره

(٣) أي : على اعتبار طيب النفس والرضا بمضمون العقد ، وغرضه إقامة الدليل عليه بعد الإشارة إلى معنى الإكراه.

(٤) تكرّر كلّ من التعبير ب «قبل الإجماع ، بعد الإجماع» في كلمات المصنف قدس‌سره. ولعلّ مراده بالقبل وفاء الأدلة بالحكم الشرعي ، واحتمال استناد المجمعين إليها ، فيكون اتفاقهم محتمل المدركية ، ومثله غير كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام أو عن حجة أخرى وراء ما استندوا إليه من الكتاب والسنة.

١٥٢

تَراضٍ) (١) (١). وقوله : «لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه (٢)» (٢) وقوله عليه‌السلام في الخبر المتّفق عليه بين المسلمين (٣) : «رفع أو وضع عن أمّتي تسعة أشياء أو ستة» ومنها «ما اكرهوا عليه».

______________________________________________________

ومراده ب «بعد الإجماع» اعتماد المجمعين على قرائن أخرى غير ما بأيدينا من الأدلة ، فيكون اتّفاقهم حجة ـ بناء على حجية الإجماع المنقول ـ لكشفه عن حجة معتبرة ، هذا.

ولمّا كانت أدلّة المسألة واضحة وكان المحتمل قويّا استناد المجمعين إليها ، فلذا أتى بلفظ «قبل الإجماع» لتكون هذه الأدلة هي المعوّل عليها.

وكيف كان فالإجماع هو الدليل الأوّل على بطلان عقد المكره في الجملة ، ففي الجواهر : «بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل الضرورة من المذهب» (٣).

(١) هذا ثاني الأدلة ، والآية صريحة في اعتبار الرّضا بالتجارة المجوّزة لأكل المال. والمكره فاقد للرضا ، فيبطل عقده وتجارته.

(٢) هذا ثالث الأدلة ، والتقريب واضح.

(٣) هذا رابع الأدلة ، وقد جمع المصنف قدس‌سره بين روايتين :

إحداهما : رفع الست ، وهي بلفظ : «رفع عن هذه الأمة ستّ ، الخطأ ..».

وثانيتهما : رفع التسع ، وهي رواية الصدوق في التوحيد والخصال ، وهي بلفظ «رفع عن أمّتي تسع خصال» ورواها الكافي بلفظ «وضع عن أمّتي».

وبعض أسناد الرواية وإن كان محلّ بحث ، إلّا أنّ صدور المضمون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محرز ، لقول المصنف : «المتفق عليه بين المسلمين». مضافا إلى ما ذكرناه في الأصول من

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٢٩.

(٢) عوالي اللئالي ، ج ٢ ، ص ١١٣ ، ح ٣٠٩.

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٦٥.

١٥٣

وظاهره وإن كان رفع المؤاخذة (١) ، إلّا (٢) أنّ استشهاد الامام عليه‌السلام به في

______________________________________________________

الاعتماد على طريق الصدوق التي فيها أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، فراجع (١). هذا من حيث السند.

وأمّا الدلالة فالمرفوع هو المؤاخذة على المجهول والحسد والخطأ والإكراه ، وهذا أجنبي عن بطلان عقد المكره ، لأنّ نفي العقوبة على الإكراه ـ كما في المكره على فعل حرام ـ أمر ، وبطلان إنشاء المكره أمر آخر.

ولكن يرفع اليد عن الظهور ـ في رفع خصوص المؤاخذة ـ بقرينة ما ورد في بعض الأخبار من نفي الحكم الوضعي المترتب على الفعل الإكراهي ، كالبينونة المترتبة على الطلاق المكره عليه ، وكالحرية المترتبة على العتق المنشأ لا عن طيب النفس.

وعليه فنفي هذه الآثار في مورد الإكراه كاشف عن عدم كون المرفوع عن الأمّة خصوص العقوبة الأخروية ، بل المرفوع كل أثر يترتب على الفعل سواء أكان في العاجل أم الآجل. وصحة العقد والإيقاع الإكراهيين تقتضي ترتب الأثر المطلوب عليهما ، فهي مرفوعة بحديث الرفع ، هذا.

(١) في قبال رفع جميع الآثار ، أو الأثر المناسب لكلّ من التسعة ، كما أفاده في بحث البراءة ، فراجع الرسائل.

(٢) يعني : أنّ الاستدلال بحديث «رفع التسعة» على بطلان عقد المكره لا يتم إلّا بضميمة استشهاد الإمام في معتبرة البزنطي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وضع عن أمّتي ما أكرهوا عليه» (٢) على رفع أثر طلاق المكره وعتقه ، وهو البينونة والحرية. فكذا يقال بعدم تأثير بيع المكره في النقل والتمليك.

__________________

(١) منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١ و ٢ و ٣. وروى حديث رفع التسعة بلفظ «وضع» عن الصدوق أيضا في ج ٥ ، ص ٣٤٥ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٢ ، وحديث رفع الست عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ، في ج ١٦ ، ص ١٤٤ ، الباب ١٦ من كتاب الايمان ، ح ٣.

١٥٤

رفع بعض الأحكام الوضعية يشهد بعموم المؤاخذة فيه (١) لمطلق الإلزام عليه (٢) بشي‌ء.

ففي صحيحة البزنطي عن أبي الحسن عليه‌السلام : «في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام :

لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا» (١).

______________________________________________________

(١) أي : في الخبر.

(٢) أي : على المكره بشي‌ء ، فيرفع عنه كلّ إلزام شرعي ، سواء أكان تكليفيا كوجوب الكفارة على حنث الحلف ، أم وضعيّا كالصحة في العقد والإيقاع ، أم غيرهما كالعقوبة الأخروية ، فلو قال مكرها : والله إن فعلت كذا فزوجتي طالق ، أو : فعبدي حرّ ، أو ما أملكه فهو صدقة في سبيله تعالى» لم ينفذ ، ولم يترتب عليه حكم الحلف المنشأ عن طيب النفس.

فإن قلت : لا يتجه التمسك بصحيحة البزنطي لإثبات كون المرفوع بحديث رفع التسعة مطلق المجعول الشرعي ، لا خصوص المؤاخذة الأخروية ، وذلك لأنّ الحلف على الطلاق والعتاق والصدقة باطل عندنا مطلقا سواء أكان الحالف مختارا أم مكرها عليه. وهذا يوجب وهن أصالة الجدّ في استدلال الإمام عليه‌السلام بفقرة «ما أكرهوا عليه» على بطلان الحلف في حال الإكراه خاصة.

وبعبارة أخرى : استناد بطلان الحلف المزبور إلى وجود المانع ـ وهو الإكراه ـ متفرع على تمامية المقتضي يعني صحة أصل الحلف على الطلاق. ومع فرض تسالمهم على البطلان مطلقا لا مقتضي للصحة حتى يتشبث بحديث «رفع الإكراه» على بطلانه في هذه الحال. فلعلّه عليه‌السلام اتّقى في تمسكه بحديث الرفع لإثبات فساد هذا الحلف الإكراهي ، ولم يحكم ببطلانه حتى في حال الاختيار.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٣٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، ح ١٢.

١٥٥

والحلف (١) بالطلاق والعتاق وإن لم يكن صحيحا عندنا من دون الإكراه أيضا ، إلّا أنّ مجرّد استشهاد الامام عليه‌السلام ـ في عدم وقوع آثار ما حلف به ـ

______________________________________________________

ولمّا لم يحرز أصالة الجد في استشهاده بحديث الرفع يشكل إثبات عموم المرفوع للآثار الدنيوية كالبينونة في طلاق المكره. ويبقى حديث رفع التسعة على ظاهره من رفع خصوص المؤاخذة الأخروية ، ولا وجه للتمسك به على بطلان إنشاء المكره ، هذا.

قلت : إنّ الحلف على الطلاق وإن كان باطلا عندنا في حال الاختيار أيضا ، لكنه لا يمنع قرينية صحيحة البزنطي على كون المرفوع مطلق المجعول الشرعي كالبينونة والحرية والملكية.

وجه عدم المنع : دوران الأمر بين كون التقية في أمر واحد وهو تطبيق الامام عليه‌السلام «رفع ما اكرهوا عليه» على بطلان الحلف على الطلاق ـ حال الإكراه ـ بأن يكون رفع الإكراه رفعا لكل أثر مترتب على الفعل المكره عليه ، سواء أكان مؤاخذة أخروية أم أثرا وضعيّا دنيويّا. وبين كون التقية في أمرين ، أحدهما التطبيق المزبور. والآخر نفس الكبرى ، بأن يكون تعميم الرفع تقيّة أيضا.

وقد تقرّر في محله : أنّه كلّما دار الأمر بين مخالفة أصالة الجد في مورد أو في موردين تعيّن الاقتصار على مورد واحد.

وعليه يحكم بأنّ نفس الكبرى صدرت لبيان الحكم الواقعي ، وهو عموم المرفوع ، فتكون الصحيحة قرينة على ما يراد من حديث رفع التسعة ، وعدم كون المقدّر خصوص المؤاخذة. فطلاق المكره باطل ، أي : أنّ البينونة المترتبة على طلاق المختار مرفوعة عنه واقعا أي غير مجعولة شرعا ، هذا.

(١) مبتدأ ، خبره جملة : «إلّا أن مجرّد ..» وهو دفع دخل تقدّم بيانهما بقولنا : «فان قلت .. قلت».

١٥٦

بوضع «ما اكرهوا عليه» يدلّ (١) على أنّ المراد بالنبوي ليس خصوص المؤاخذة والعقاب الأخروي (٢).

هذا كله مضافا إلى الأخبار الواردة (٣) في طلاق المكره ، بضميمة عدم الفرق (٤).

ثم إنّه (٥) يظهر من جماعة منهم الشهيدان : أنّ المكره قاصد إلى اللفظ

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «إلّا أن مجرّد». وقوله : «أيضا» يعني : في حال الاختيار.

(٢) فالآثار الدنيوية مرفوعة أيضا.

(٣) هذا دليل خامس على بطلان عقد المكره ، وهو عدّة من النصوص الواردة في بطلان طلاق المكره وعتقه ، بضميمة وحدة المناط بين عقود المكره وإيقاعاته.

كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «سألته عن طلاق المكره وعتقه؟ فقال : ليس طلاقه بطلاق ، ولا عتقه بعتق» (١).

ورواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : سمعته يقول : لو أنّ رجلا مسلما مرّ بقوم ليسوا بسلطان ، فقهروه حتى يتخوّف على نفسه أن يعتق أو يطلّق ففعل ، لم يكن عليه شي‌ء» (٢).

(٤) يعني : عدم الفرق بين الطلاق والعتق وبين بيع المكره ، فإنّ الإجماع على عدم الفصل بينها يوجب بطلان بيع المكره.

هذا ما يتعلق بالدليل على بطلان المكره.

المراد من جملة «المكره قاصد إلى اللفظ دون مدلوله»

(٥) غرضه دفع ما ربما يتوهم من عبارة جماعة من : «أن المكره غير قاصد إلى المدلول» وبيانه : أنّ المصنف قدس‌سره فسّر الاختيار ـ المبحوث عنه في المقام ـ بالرضا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٣١ ، الباب ٣٧ من أبواب مقدمات الطلاق ، ح ١.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ٢.

١٥٧

غير قاصد إلى مدلوله (١).

______________________________________________________

بمضمون العقد وطيب النفس به ، في قبال الإكراه ، وليس الاختيار هنا بمعنى إرادة مدلول العقد ، فالمكره قاصد لكلّ من اللفظ ومعناه ، والإنشاء والمنشأ. وهذا ربما ينافيه ما ذكره الشهيدان وغيرهما من انتفاء قصد المضمون في المكره ، وإنّما يقصد الألفاظ المعرّاة عن المعاني ، ويتلفظ بها تخلّصا من وعيد المكره. فقوله في مقام الإنشاء : «بعت» ليس معناه «ملّكتك كذا بكذا» بل هو مجرّد لفظ تلفّظ به دفعا للمفسدة المتوعد بها.

هذا ما لعلّه يظهر من كلامهما بالنظر البدوي ، ويترتب عليه عدم قابلية عقد المكره للصحّة بالرضا اللاحق ، إذ لا عقد حقيقة ، لعدم كون المدلول مرادا بالإرادة الجدّية حتى يتعقبه الرضا. وهذا ينافي التزامهم بصحته به.

ولذا تصدّى المصنف لتوجيه عبارة الشهيدين بأنّ المتكلم إن كان جاهلا بمعنى كلامه ـ كالطفل الذي يلقّنه أبوه ألفاظا في مقام التعليم فينطق بها وكالكبير الذي يتعلّم لغة أخرى فيتمرّن بتكرار ألفاظ تقليدا لمعلّمه ـ فلا ريب في أنّ مثلهما قاصد لنفس الألفاظ بأدائها بوجه غير ملحون ، ولا قصد للمعنى أصلا ، لفرض الجهل به ، فهو نظير التلفظ بلفظ مهمل فاقد للمعنى ك «ديز» مثلا.

وإن كان عالما بمعنى الكلام ـ كما هو شأن أهل كل لسان ولغة ، وكان لفظه مستعملا لا مهملا ـ استحال عدم قصد مدلوله وعدم إرادته الاستعمالية ، وذلك لعدم انفكاك المدلول عن الدالّ. ولمّا كان محلّ الكلام هو المكره الملتفت إلى ما يقوله في مقام الإنشاء فلا بدّ من قصده للمدلول التصوّري.

وعليه فمراد الشهيدين عدم كون الداعي إلى الإنشاء حصول المضمون في وعاء الاعتبار ـ بحكم العرف والشرع ـ ليترتّب عليه الأثر ، بل غرض المنشئ

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٢ ، مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٩٦ ، الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٦ و ٢٢٧.

١٥٨

بل يظهر ذلك (١) من بعض كلمات العلّامة (١).

وليس مرادهم أنّه لا قصد له إلّا إلى مجرّد التكلم كيف؟ (٢) والهازل الذي هو دونه في القصد قاصد للمعنى قصدا صوريّا. والخالي عن القصد إلى غير المتكلم هو من يتكلّم تقليدا أو تلقينا كالطفل الجاهل بالمعاني.

فالمراد (٣) بعدم قصد المكره عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في

______________________________________________________

الفرار من المفسدة المتوعد بها. بخلاف المختار ، فإنّ إنشاءه ، للملكية بقوله : «بعت» يكون بداعي الجدّ وتحقيقها خارجا ، هذا محصّل ما أفاده الماتن في توجيه عبارة الشهيدين قدس‌سرهما ، واستشهد عليه بوجوه سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : خلوّ المكره عن قصد المدلول. ولعلّ مراد المصنف عبارة التذكرة في بيع التلجئة التي هي في معنى الإكراه : «وهو أن يخاف أن يأخذ الظالم ملكه ، فيواطئ رجلا على إظهار شرائه منه ، ولا يريد بيعا حقيقيا» لظهور الجملة الأخيرة في عدم قصد المضمون وهو التمليك ، وإنما يريد اللفظ خاصة. ولعلّ المصنف قدس‌سره أراد كلامه في التحرير ، وسيأتي.

(٢) يعني : أنه كيف يمكن توهم خلوّ المكره عن قصد المدلول؟ مع أنّ الهازل الذي هو دونه في القصد قاصد للمعنى قصدا صوريا. فالخالي عن القصد هو المتكلم تقليدا أو تلقينا كالجاهل بالمعاني. فلا بد من أن يراد بعدم قصد المكره عدم قصده لوقوع مضمون العقد في الخارج ، كسائر العقود التي يقصد بها وقوع مضامينها في الخارج ، لا أن يراد بعدم القصد خلوّ كلامه الإنشائي ـ كقوله : بعت ـ عن المدلول.

(٣) لا يخفى اختلاف كلمات المصنف قدس‌سره في ما هو المفقود في إنشاء المكره ، فيظهر من قوله في أول المسألة في تفسير الاختيار : «القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب النفس في مقابل الكراهة» وجود القصد الجدّي إلى المضمون ، والمفقود هو الرّضا.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٢٦ ، س ٣٢.

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ويظهر من كلامه هنا : «من عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج» انتفاء القصد الجدّي ، ولا تصل النوبة إلى البحث عن وجود الرضا وعدمه.

ويظهر من كلامه بعد أسطر انتفاء كلا الأمرين من القصد والرضا ، لقوله : «ممّا يوجب القطع بأنّ المراد بالقصد المفقود في المكره هو القصد إلى وقوع أثر العقد وعدم طيب النفس به». ولذا أورد السيد عليه بالمناقضة (١).

ولكن يمكن الجمع بينهما بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من أنّ المراد «من عدم قصد المضمون خارجا وعدم طيب النفس به» شي‌ء واحد ، وهذا لا ينافي قصد المنشأ جدّا. وبيانه : أنّ للبيع ـ بنظر المصنف كما تقدم في أوّل البيع ـ مراحل ثلاث :

الاولى : اعتبار الملكية بنظر المنشئ مع الغضّ عن كونه موضوعا لاعتبار العقلاء والشرع.

الثانية : إمضاء العرف لما أنشأه البائع ، لكونه واجدا لما يتقوّم به البيع العرفي من مالية العوضين ونحوها.

الثالثة : إمضاء الشارع ، ومعناه اعتبار المماثل للملكية العرفية.

وعليه ينتفي التهافت بين كلماته ، إذ مراده في أوّل المسألة من إثبات القصد في المكره هو قصد البيع الإنشائي بنظر نفسه ، لا قصد الملكية العرفية والشرعية المنوطة بطيب النفس. ومراده من قوله هنا : «عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج» بقرينة كلمة «الخارج» هو عدم قصده لحصول الملكية الشرعية ، فإنّها لتوقفها على الرضا ليست مقصودة للمكره أصلا. ومراده بالعبارة الثالثة الآتية من انتفاء القصد والرّضا هو القصد إلى تحقق الملكية الشرعية والعرفية ، فيكون عطف «وعدم طيب النفس» على «عدم القصد» من قبيل تعليل انتفاء القصد الجدّي بانتفاء الرّضا (٢).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٢١.

(٢) نفس المصدر.

١٦٠