الأساس في التفسير - ج ٨

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٨

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٣
٤

القسم الثالث من أقسام القرآن

قسم المثاني

ويتضمّن سور

العنكبوت ، الرّوم ، لقمان ، السّجدة ، الأحزاب ، سبأ ، فاطر ، يس ،

الصّافات ، ص ، الزّمر ، غافر ، فصّلت ، الشّورى ،

الزّخرف ، الدّخان ، الجاثية ،

الأحقاف ، محمّد ، الفتح ،

الحجرات ،

ق ،

٥
٦

قال ابن كثير : (قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن أحمد ابن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السبع الطول مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضّلت بالمفصّل». هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير فيه لين. وقد رواه أبو عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، فذكره ، والله أعلم. أقول : وقد وصف الغماري هذا الحديث بالحسن) أ. ه.

ومن خلال در استنا للقرآن نجد فعلا أن للقرآن أقساما :

فالقسم الأول الذي يشمل السبع الطوال ، تجده يشكل نوعا من التكامل والتفصيل.

والقسم الثاني المبدوء بسورة يونس ، والمنتهي بسورة القصص ، يشكّل نوعا من التكامل والتفصيل.

إنك عندما تبدأ تتلو سورة يونس تحسّ من خلال أوائل السورة أنك أمام قسم جديد ، وعندما تنتهي من سورة القصص تجد نفسك أنك أمام قسم جديد يبدأ ب (الم) ....

إلا أنّ أيّ قسم لاحق لا يعني انفصالا عن قسم سابق بل كل قسم يفصّل معاني على حسب نظام معيّن ، ونسق معيّن ، هو النسق الذي خص الله عزوجل به سورة البقرة ، مع تكامل الأقسام مع بعضها.

وقد رأينا أن الحديث الشريف الذي مرّ معنا قد ذكر أربعة أقسام : قسم الطول ، وقسم المئين ، وقسم المثاني ، وقسم المفصّل ، وفي اجتهادنا أنّه بسورة القصص ينتهي القسم الثاني ـ قسم المئين الذي جاء بعد قسم الطول ـ وبقي عندنا قسم المثاني ، وقسم المفصّل ، وللعلماء خلاف حول المفصّل من أين يبدأ. قال صاحب نيل الأوطار : (قال في الضياء : هو من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر القرآن ... وذكر في القاموس أقوالا عشرة : من الحجرات إلى آخره ... أو من الجاثية ، أو القتال ، أو ق ،

٧

أو الصافات ، أو الصف ، أو تبارك ، أو الفتح ، أو الأعلى ، أو الضحى ، ونسب بعض هذه الأقوال إلى من قال بها قال : وسمّي مفصلا لكثرة الفصول بين سوره أو لقلة المنسوخ) وقال في مراقي الفلاح ـ أحد كتب الحنفية ـ : (والمفصّل هو السبع السابع ، وقيل : أوله ـ عند الأكثرين ـ من سورة الحجرات ، وقيل : من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من الفتح ، أو من ق. فالطوال (أي طوال المفصّل) من مبدئه إلى البروج ، وأوساطه منها إلى (لم يكن) وقصاره منها إلى آخره ...).

ومن الاختلاف الكثير في المفصّل نعلم أنّ المسألة اجتهادية ، وأكثر الأقوال أن المفصّل من بعد الحجرات ، وعلى هذا القول فإن (ق) تكون من المفصّل إلا أننا نستبعد ذلك ؛ لأنّنا نرى أن (ق) جزء مما قبلها ؛ فهي امتداد للحواميم ؛ بدليل أن سورة الشورى مبدوءة ب (حم عسق) وسنبرهن على هذا الموضوع فيما بعد ، ومن ثمّ فإنّنا نرى أن المفصّل هو من بعد (ق) فهو إذن من سورة (الذاريات) فهو يشمل أربعة أجزاء ونيّفا ، وذلك يعدل السبع إلا قليلا من مجموع القرآن.

ولا شك أنّ الأقوال القائلة بأن بداية المفصّل من (الضحى) أو من (الأعلى) ليست صحيحة ، لأنّه من المتعارف عليه أن سورة الملك يطلق عليها اسم (تبارك المفصّل) ، وقد ورد ذلك في بعض الأحاديث ، وأن الأقوال القائلة بأنّ ابتداء المفصّل من (إنا فتحنا) ، أو من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مردودة ؛ لأنّها قبل (ق) وهذا موضوع سنراه فيما بعد مع أدلته ، وكذلك القول بأن بداية المفصّل من الجاثية مردود ؛ لأن الجاثية من الحواميم ، فهي جزء من مجموعة ، بل هي آتية في وسط مجموعة وليست بداية لقسم.

إنّ المفصّل في اجتهادنا يبدأ بسورة الذاريات ، وسنبرهن على ذلك أكثر من مرّة ، وعلى هذا فالقسم الثالث من أقسام القرآن ـ والمسمّى بالمثاني ـ يكون من سورة العنكبوت إلى نهاية سورة (ق).

ومن تسمية القسم الثالث بالمثاني ندرك أن هناك معاني ستثنّى وتثنّى فيه. ومن ثمّ

٨

فإننا سنلاحظ ـ كما لاحظنا في القسم الثاني ـ أنه مؤلف من مجموعات ، كل مجموعة تؤدّي دورها فيه ضمن السياق القرآني العام.

ونحب ابتداء أن نسجّل ملاحظات ، ندرك من خلالها لم سمي هذا القسم بالمثاني ، إنّك تجد في المجموعة الأولى من هذا القسم والتي هي ـ كما سنرى ـ تمتدّ من سورة العنكبوت حتى نهاية سورة (يس) أربع سور مبدوءة ب (الم) ، بينما قسم الطول لم ترد فيه (الم) إلا مرّتين ، مرة في سورة البقرة ، ومرة في سورة آل عمران.

وفي هذه المجموعة ترد سورتان مبدوءتان ب (الحمد لله) بينما لا نجد في قسم الطول إلا سورة واحدة هي الأنعام مبدوءة ب (الحمد لله) ، ولا تجد في قسم المئين إلا سورة واحدة مبدءوة ب (الحمد لله) هي الكهف.

ونجد في قسم المثاني سبع سور مبدوءة ب (حم) ؛ مما يشير إلى وحدة الزمرة ، ووحدة معانيها. من مثل هذه الملاحظات نعرف بعض السرّ في تسمية هذا القسم بالمثاني.

لقد استأنسنا في تحديدنا لأقسام القرآن بنصوص وبعلامات ثمّ بالمعاني ، فمثلا وجود (الم) في بداية سورة العنكبوت ، وعدد آيات سورة القصص ، كل ذلك كان عاملا من عوامل تحديد بداية قسم المثاني ، ونهاية قسم المئين ، والمعاني هي التي أكملت الدليل كما رأينا وكما سنرى.

يتألف قسم المثاني من خمس مجموعات ، كل مجموعة تفصّل في سورة البقرة نوع تفصيل ، فهي تبدأ في تفصيل الآية الأولى منها ثمّ وثمّ ، ثمّ تأتي المجموعة الثانية ، فتبدأ التفصيل من البداية وهكذا ، وذلك كذلك سبب من أسباب تسمية هذا القسم بالمثاني ، وسنرى كيف أن المعاني هي التي ستحدّد لنا بدايات المجموعات ونهاياتها. ولنبدأ بعرض المجموعة الأولى من قسم المثاني.

٩
١٠

المجموعة الأولى

من القسم الثالث من أقسام القرآن

المسمّى بقسم المثاني

وتشمل سور :

العنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة ،

والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ،

ويس

١١
١٢

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المثاني :

تفصّل هذه المجموعة في سورة البقرة ككل مجموعة ، فالسور الأربع الأول منها تفصّل في مقدمة سورة البقرة ؛ فكما أنّ سورة آل عمران مبدءوة ب (الم) وفصّلت مقدمة سورة البقرة ، فكذلك هذه السور الأربع كلها مبدءوة ب (الم) ، فإنّها تفصّل مقدمة سورة البقرة ، وامتداداتها في السورة ، ثم تأتي سورة الأحزاب ، فتفصّل الحيّز الذي فصّلته سورتا النساء ، والمائدة بآن واحد ، أي أنها تفصّل من سورة البقرة من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...) (الآية : ٢١) إلى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : إلى نهاية الآية (٢٧) فهي تفصّل ما فصّلته سورتا النساء والمائدة ، ولكنّه تفصيل جديد وبشكل جديد سنراه.

ثم تأتي سورتا سبأ وفاطر ، فتفصلان ما فصلته سورة الأنعام ، أي : تفصلان قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة : ٢٨ ، ٢٩).

سورة سبأ تفصل بشكل رئيسي الآية الأولى ، وسورة فاطر تفصل بشكل رئيسي الآية الثانية ، وتتكاملان مع بعضهما في تفصيل الآيتين ، ولكن بشكل جديد سنراه.

ثم تأتي سورة (يس) لتفصّل آية في أعماق سورة البقرة ، فتفصل ما فصلته (الطاسينات) وهو قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة : ٢٥٢) ولكنه تفصيل جديد وبشكل جديد سنراه.

ومن التفصيل الذي سنراه في هذه المجموعة الأولى من قسم المثاني ندرك سرا من أسرار تسمية هذا القسم باسم المثاني. فما من سورة منه إلا وهي تثنّي تفصيل معنى من المعاني.

فمقدمة سورة البقرة فصّلت من قبل ، وهاهنا يثنى تفصيلها. وهكذا قل في آيات أخرى قد فصّلت من قبل ، وسنرى أن مجموعات هذا القسم كثيرة ، وكلها تثنى فيها بعض المعاني ، وبعض التفصيل مرّة بعد مرّة.

١٣

وهذه المجموعة تتكامل مع بعضها بحيث تؤدّي معنى متكاملا ، فهي مع أدائها دورا في التفصيل الكلي للقرآن فإنّ لها دورها المستقل الذي تؤدّيه بحكم أنّها مجموعة متكاملة. وهكذا كل مجموعة من مجموعات الأقسام. وهكذا كل قسم من الأقسام.

فالمجموعة داخل القسم لها دورها المستقل ، والقسم بالنسبة للقرآن له دوره المستقل ، ولكن المجموعة تؤدّي دورها في تكامل القسم ، والقسم يؤدّي دوره في تكامل القرآن ، ومن خلال هذا يظهر تشابه القرآن مع هذا الكون في حيثية من الحيثيات (١). إنّ هذا القرآن يشبه هذا الكون فهذا أثر قدرة الله ، وهذا أثر صفة الكلام لله ، فكما أن في هذا الكون تكاملا وتناسقا فيهما تظهر وحدته ، فكذلك هذا القرآن فيه تكامل وتناسق فيهما تظهر وحدته ، وكما أنّ الوحدة الكونية لا تنفي وحدة المجموعات ، ولا تنفي أن تؤدّي هذه المجموعات دورا مستقلا ضمن الوحدة الكلية ، فكذلك الوحدة الكلية في القرآن لا تنفي وحدة الأقسام ، ووحدة المجموعات التي تؤدّي دورا خاصا ضمن الوحدة الكلية.

وقد شرحنا موضوع التناسق والتكامل في الكون في كتابنا (الله جل جلاله) تحت عنوان ظاهرة الوحدة. فكل جزء في الكون يكمّل الآخر ، ثمّ مرجع الأشياء كلها إلى وحدة كلية ، وضمن هذه الوحدة الكلية تجد آلافا من الوحدات تؤلف فيما بينها كلّا متكاملا ، فكذلك هذا القرآن.

وكما أنك تستطيع من خلال أجزاء هذا الكون أن توجد ملايين المركبات ، أو تفرز الشىء الواحد وتضمّه إلى بعضه فيخرج معك آلاف الأشياء ، فكذلك هذا القرآن ، إذا ركبت بعض مواضيعه إلى بعضها تجد ملايين المواضيع ، وإذا فرزت مواضيعه كلّا على انفراد تجد ملايين المواضيع وهكذا ، فما أحمق الذين يقترحون أن يكون القرآن على غير ما هو عليه ، أو يعترضون على ما هو عليه ، وما أحمق اعتراضهم على أنه لم تكن المواضيع القرآنية الواحدة بجانب بعضها. إنّ استخراج المواضيع ذات الصبغة الواحدة قد ترك للجهد البشري على مدى العصور ؛ لأن المواضيع التي ينبغي أن تدرج بجانب بعضها تختلف باختلاف العصور ، واحتياجات البشر فيها لا تتناهى ، فإذا كان

__________________

(١) لكن الكون مخلوق ، والقرآن كلام الله الأزلي.

١٤

القرآن يحوي كل المواضيع غير المتناهية التي تحتاجها البشرية ، كما أن الكون يحوي كل الأشياء التي تحتاجها البشرية. وإذا كانت الوحدة فيه كالوحدة في هذا الكون ، فذلك دليل أنه من عند الله ، وهو موضوع سنكرر الكلام فيه شيئا فشيئا حتى نعرف أبعاده.

في هذا الكون تجد مجموعات ضمن الوحدة الكلية ، كالمجموعة الشمسية بالنسبة لمجرّاتها ، وتجد أقساما تضم مجموعات كالمجرّة بالنسبة للكون ، وتجد الكون بمجموع مجرّاته ، والمجموعة الشمسية تتألف من أجزاء كل جزء يشكّل وحدة مستقلة ضمن وحدة أكبر منها ، وفي الجزء تجد وحدات أصغر منها ، لها دورها المستقل ضمن وحدة كلية ، فكذلك هذا القرآن ، الآية ضمن السورة ، والسورة ضمن المجموعة ، والمجموعة ضمن القسم ، والقسم ضمن القرآن ، لكلّ دوره المستقل ، مع أدائه دوره في الوحدة الأكبر منه ، وهكذا نجد هذه المجموعة التي بين أيدينا ، فلكل سورة منها محلّها ضمن مجموعتها ، ومجموعتها تؤدّي دورا مستقلا ضمن إطار وحدة القسم ، والقسم كله يؤدّي دورا.

تبدأ المجموعة بسور أربع تتحدث عن الإيمان وأثره العملي ، وتبيّن أبعاده ، وتأتي سورة الأحزاب لتأمر بمراعاة معان كثيرة هي بمثابة الطريق للوصول إلى المعاني المذكورة في السور الأربع ، وما تحدّثت عنه السور الخمس يوصل إلى مقام الشكر ، ومن ثمّ تأتي سورة سبأ ، لتتحدث عن الشكر ، وشروط حصوله. ثم تأتي سورة فاطر ، لتبين نقطة البداية في طريق الشكر. ثم تأتي سورة يس ، لتكمّل البناء ضمن الكلام عن مهمة الرسل الذين رسموا طريق الشكر.

وقد كان علينا من قبل أن نتحدّث عن موضوع الدور المستقل للسورة ضمن المجموعة ، والدور المستقل للمجموعة ضمن القسم ، ولكنّا أخرنا الكلام عن ذلك حتى لا يتشعّب الحديث ، ولعلّنا بمناسبة الكلام عن هذه المجموعة نوفّي هذا الموضوع حقّه ، لأن هذه المجموعة تكاد تكون نموذحا واضحا على ذلك.

١٥

والملاحظ أنّ سورا أربعا في هذه المجموعة تبدأ ب (الم) وهذا يشير إلى أنّها تفصّل في مقدّمة سورة البقرة ، وسنرى ذلك بشكل واضح ، كما سنرى أنّ تفصيل كل من السور الأربع لهذه المقدّمة يكمّل تفصيل الأخرى ، فسورة (العنكبوت) مثلا تفصّل في قضايا الإيمان بالغيب وبالكتاب ، ومستلزمات ذلك بشكل أخصّ ، بينما سورة (الروم) تفصّل في قضايا الإيمان باليوم الآخر بشكل أخصّ ، وكلّ من السور الأربع تفصّل في جانب من مقدّمة سورة البقرة ، وفي امتدادات ذلك في سورة البقرة نفسها ، لذلك نلاحظ أن كلّا من السور الأربع قد فصّل في مقدمة سورة البقرة ، وفي آيات منها قد جاءت بعد ذلك ، وكل ذلك سنراه تفصيلا إن شاء الله.

١٦

سورة العنكبوت

وهي السّورة التاسعة والعشرون بحسب الرّسم القرآني

وهي السّورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المثاني

وآياتها تسع وستون آية

وهي مكيّة

وهي السّورة الأولى من زمرة (الم)

في قسم المثاني

١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

١٨

نقول في سورة العنكبوت :

قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة العنكبوت :

(سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر (الجهاد) فيها وذكر (المنافقين) .. ولكننا نرجّح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد ابن أبي وقاص كما سيجىء. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجّح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير. لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.

إنها تبدأ بعد الحروف المقطّعة بالحديث عن الإيمان والفتنة ، وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.

ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها ؛ فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام ، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان ، استعراضا سريعا يصوّر ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال.

ثم يعقّب على هذا القصص وما تكشّف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى ، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها ، وقد أخذها الله جميعا :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.)

ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسّم وهنها وتفاهتها :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.)

١٩

ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ؛ ثم يوحّد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكلها من عند الله. وكلها دعوة واحدة إلى الله. ومن ثمّ يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له ؛ وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.

ويتناقضون في منطقهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ!. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ!. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.) ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين.

وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة ، غير خائفين من الموت ، إذ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ.) غير خائفين من فوات الرزق : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ.)

ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.) فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة ، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام ، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل).

وقال الألوسي في تقديمه لسورة العنكبوت :

(أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك ، وروى القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة. وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة. وفي البحر عن الحبر ، وقتادة أنها مدنية. وقال يحيى بن سلام : هي مكية إلا من أولها إلى قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه ، وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال : قلت : ويضم إلى ذلك (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك. وهي تسع وستون آية بالإجماع ، كما قال الداني والطبرسي. وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه (عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ

٢٠