الأساس في التفسير - ج ٧

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٧

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٢٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٣
٤

المجموعة الثالثة والأخيرة

من قسم المئين وهو القسم الثاني من أقسام القرآن

وتشمل سور

(طه ، الأنبياء ، الحج ، المؤمنون ، النور ، الفرقان ، الشعراء ، النمل ، القصص)

كلمة حول هذه المجموعة :

بهذه المجموعة ينتهي قسم المئين ، وهو القسم الثاني من أقسام القرآن ، ويتألف من ثلاث مجموعات :

المجموعة الأولى : فصلت في سورة البقرة من أولها إلى آخرها ، ثم جاءت المجموعة الثانية ففصلت في سورة البقرة من أولها إلى آخرها ، ثم جاءت هذه المجموعة لتفصل كذلك في سورة البقرة من أولها إلى آخرها ، وكأن هذه المجموعات الثلاث ، ثلاث موجات ، كل منها تندفع لتغطي قطاعا من الأرض ، وهكذا موجة بعد موجة. وقد رأينا كيف غطت المجموعتان السابقتان سورة البقرة ، وكيف فصلتا آيات فيها مع امتدادات معاني هذه الآيات ، وها هي المجموعة الثالثة تفعل الشىء نفسه.

تأتي سورة طه ـ كما سنرى ـ لتفصل معنى موجودا في الآيات الخمس الأولى من البقرة وهي : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)

وتأتي سورة الأنبياء لتفصل معنى موجودا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

وتأتي سورة الحج لتفصل معنى موجودا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

٥

وتأتي سورة المؤمنون لتفصل معاني موجودة في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

ثم تأتي سورة النور لتفصل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)

ثم تأتي سورة الفرقان لتفصل قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.)

وتأتي سورة الشعراء والنمل والقصص لتفصل معاني موجودة في قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)

وسنرى بالتفصيل كيف أن كل سورة فصلت ما ذكرناه ، وكما قلنا من قبل في وصف المجموعات السابقة فإنك لو نظرت إلى الآيات من سورة البقرة التي فصلتها هذه المجموعة من السور ، لرأيتها مترابطة مع بعضها يكمل بعضها بعضا ، ويأخذ بعضها بحجز بعض.

ويلاحظ أن المجموعة تبتدىء بسورة مبدوءة ب (طه) وتنتهي بثلاث سور مبدوءة على الترتيب ب (طسم) و (طس) و (طسم).

٦

إن وجود الحرف (ط) في بداية أول سورة من المجموعة ، ووجوده في بدايات السور الأخيرة منها ، ثم عدم تكراره مرة أخرى في أوائل السور ، يوحي بأن هذه السور مجموعة واحدة. ووجود الحرف (ميم) بعد الطاء والسين في سورة الشعراء ، والقصص ، يوحي بالصلة بسورة البقرة المبدوءة ب (الم) ، والابتداء بحرف (الطاء) بينما سورة يونس بدأت بالألف ، وسورة البقرة بدأت بالألف ، يوحي بأن هذه المجموعة ليست بداية قسم وإنما هي متأخرة عن بدايته ، وقد رأينا من خلال المعاني أنها المجموعة الثالثة والأخيرة من القسم الثاني ، ثم إنه بعد هذه المجموعة تأتي أربع سور كلها مبدوءة ب (الم) نفس الأحرف التي بدأت بها سورة البقرة ؛ مما يوحي بقوة أن ما بعد هذه المجموعة قسم جديد ، فتكون هذه نهاية قسم.

وكما قلنا من قبل : فإنه ليس أمامنا في هذا النوع من الكلام إلا معالم يستأنس بها ، وإلا انسجام المعاني مع ما نذكره دون تكلف ، ولعل هذا وهذا كافيان للتدليل على أن اتجاهنا في فهم فهم الوحدة القرآنية ، والسياق القرآني صحيح.

٧
٨

سورة طه

وهي السورة العشرون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الثالثة من

قسم المئين ، وآياتها مائة وخمس

وثلاثون آية وهي

مكية

٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

١٠

كلمة في سورة طه ومحورها :

لاحظنا أن سورة آل عمران قد فصلت الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، واستدللنا على ذلك ، بأن سورة آل عمران بدئت ب (الم) وانتهت بقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كما أن الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة بدأت بقوله تعالى (الم) وانتهت بذكر كلمة الفلاح (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

ونجد الآن ظاهرة مشابهة في سورة طه ، فإنها تبتدىء بقوله تعالى : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) وتنتهي بقوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) لاحظ كلمة (أنزلنا) في بدايتها ، وكلمة (اهتدى) في نهايتها ، وتأمل الآيات الأولى من سورة البقرة :

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لاحظ كلمة (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وكلمة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) لترى الصلة واضحة بين سورة طه ، وبين الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة.

فإذا نظرنا إلى مضمون السورة ، وإلى كونها تقص علينا من نبأ موسى عليه‌السلام ، وإلى قوله تعالى فيها (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ..) وإلى قوله تعالى فيها : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وصلة ذلك كله بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.) وإذا نظرنا إلى قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وصلة ذلك بقوله تعالى (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وإلى وجود قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) وصلة ذلك بإقامة الصلاة.

فإننا لم نبعد إذا قلنا إن محور سورة طه هو الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة وقد كنا رأينا من قبل أنه عندما تفصل سورة ما (مكانا) من سورة البقرة فليس معنى هذا أن تفصله كله ، بل قد تفصل جزءا منه ، لأن جزءا منه قد تفصله سورة أخرى ، أو

١١

لأن جزءا منه لا يحتاج لتكرار. وقد رأينا حتى الآن أن الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة فصلتها سورة آل عمران نوع تفصيل. ثم جاءت سورة يونس ففصلت الآية الأولى منها نوع تفصيل ، والآن تأتي سورة طه لينصب تفصيلها على الآية الرابعة والخامسة بشكل مباشر أي على قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وسنرى في القسم الثالث من أقسام القرآن ـ قسم المثاني ـ كيف أن سورا كاملة تفصل الآية الثالثة من هذه الآيات الخمس ، أو تفصل الآيات الخمس تفصيلا جديدا أو تفصل ما فصلته سورة أخرى ، ولكن بشكل آخر ، ومعان أخرى ، وبأسلوب آخر ، وجرس جديد ، ومن تأمل مثل هذا فقط ، وكيف أن القرآن قد عرض للموضوع الواحد عشرات المرات ، كل مرة ضمن سياق خاص ، وبجرس خاص ، عرف أن مثل هذا لا يدخل ضمن طاقة البشر ، ولا علمهم ، ولا بيانهم ، ولا إمكانياتهم ؛ فسبحان الله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد إمام الأولين والآخرين ، وسيد المرسلين ، الذي خصه الله بهذا القرآن المبين.

تتألف السورة من مقدمة ، ثم من قصة موسى عليه‌السلام على ثلاثة مراحل ، ثم فاصل ، ثم قصة آدم عليه‌السلام ، ثم خاتمة.

تتحدث مقدمة السورة عن حكمة إنزال القرآن ، وتعرفنا على الله منزل هذا القرآن ، ثم تحدثنا عن نبوة موسى عليه‌السلام وجولته الأولى مع فرعون ، ثم تحدثنا السورة عن الجولة الثانية مع فرعون ، ثم تحدثنا السورة عن مرحلة من مراحل حياة موسى عليه‌السلام مع بني إسرائيل ، ثم تأتي فاصلة تتحدث عن هذا القرآن ، وعن كونه يقص علينا من أخبار الماضين ، وعن جزاء المعرضين عنه ، وعن بعض خصائصه ، ثم تأتي قصة آدم عليه‌السلام لتصل كذلك إلى موضوع جزاء الإعراض عن كتاب الله ، ثم تأتي الخاتمة لتناقش المعرضين ، وتأمر المستجيبين ، وتقيم الحجة على المعاندين ، فهي تدفع الإنسان في الطريق إلى الإيمان بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتدفعهم إلى الإيمان باليوم الآخر لتوصلهم إلى الهدى والفلاح ؛ فهي كما قلنا تفصل بشكل مباشر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

١٢

نقول :

١ ـ قال الألوسي في تقديمه لسورة (طه) : (وتسمى أيضا سورة (الكليم) كما ذكر السخاوي في جمال القراء ، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية. واستثنى بعضهم منها قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) الآية.

وقال جلال السيوطي : ينبغي أن يستثنى آية أخرى ، فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال : أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا إلا برهن ، فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال : «أما والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) الآية انتهى.

ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها. وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي ، وخمس وثلاثون كوفي ، وأربع حجازي ، وآيتان بصري ، ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال : أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم‌السلام. وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، وبعضها بين البسط والإيجاز ، كقصة إبراهيم عليه‌السلام ، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه‌السلام ، وأشار إلى بقية النبيين عليهم‌السلام إجمالا ، ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه‌السلام التي أجملها تعالى هناك ، فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب ، وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ، ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه‌السلام الذي وقع في (سورة مريم) مجرد ذكر اسمه ، ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في سورة مريم كنوح ، ولوط ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، واليسع ، وذي الكفل ، وذي النون ، عليهم‌السلام ، وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى ، وهرون ، وإسماعيل ، وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين. وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه‌السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ، ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة ، كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا. وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة ، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي الله تعالى عنهم أن سورة طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه

١٣

ربط أول هذه بآخر تلك : أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين. وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها.

أخرج الدارمي. وابن خزيمة في التوحيد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الشعب. وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تبارك وتعالى قرأ (طه) و (يس) قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل عليها هذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا». وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه).

٢ ـ وقال صاحب الظلال في تقديمه للسورة : (تبدأ هذه السورة وتختم خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان وظيفته وحدود تكاليفه .. إنها ليست شقوة كتبت عليه ، وليست عناء يعذب به. إنما هي الدعوة والتذكرة ، وهي التبشير والإنذار. وأمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره. المهيمن على ظاهر الكون وباطنه ، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها. الذي تعنو له الجباه ، ويرجع إليه الناس : طائعهم وعاصيهم .. فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر ، ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون.

وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه‌السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر ، مفصلة مطولة ، وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى ـ وموقف الجدل بين موسى وفرعون ، وموقف المباراة بين موسى والسحرة .. وتتجلى في غضون القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه ، وقال له ولأخيه : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.)

وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة ، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته وهدايته له. وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار.

وتحيط بالقصة مشاهد القيامة. وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم. حيث يعود الطائعون إلى الجنة ، ويذهب العصاة إلى النار ، تصديقا لما قيل لأبيهم آدم ، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان).

وقد آن أوان عرض السورة :

١٤

مقدمة سورة طه

وتتألف من ثماني آيات ، وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

التفسير :

(طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.) أي بل لتسعد ، فالذين يظنون أن اتباع القرآن شقاء واهمون وخاطئون وكاذبون ، ففي الآية دعوة إلى الإيمان بالقرآن ورد على مزاعم الكافرين في شأنه وتذكير بالنعمة في إنزاله. قال قتادة تعليقا على الآية : (لا والله ما جعله شقاء ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة) ثم ذكر الله حكمة من حكم إنزاله فقال : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى.) أي لكن أنزلناه تذكرة لمن يخاف الله ، أو لمن يؤول أمره إلى الخشية.

قال ابن كثير : (إن الله أنزل كتابه ، وبعث رسوله ، رحمة رحم بها عباده ؛ ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر أنزل الله به حلاله وحرامه). أقول : دلت الآيتان على أن السعادة في التزام كتاب الله ، ولا سعادة بدونه ، وهو موضوع ستفصله السورة كثيرا ـ كما سنرى ـ وعلى أن هذا القرآن من خصائصه أنه

١٥

مذكر ، فقد عرض كل شىء بصيغة التذكير ، وهذا يفيد أن الحقائق التي عرضها موجودة في الفطرة ، وإنما هو مذكر بها ، ومن ثم فكل شذوذ عنه تعذيب للفطرة نفسها ، ومن ثم فلا سعادة لأحد إلا به.

وفي الآية الأخيرة دليل على أنه لا يتذكر بهذا القرآن إلا من كان في قلبه خشية ، ولا خشية إلا بمعرفة ومن ثم فإن معرفة الله هي الفرض الأول على المكلف ، ولكنها المعرفة المستقرة في القلب ، وليست المعرفة التي تجري على اللسان ، كما دلت الآية الأخيرة على أن القرآن يربي الخشية من الله ، فمن أحس من نفسه ضعف الخشية ، فليكثر من تلاوته ثم قال تعالى : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.) العلى : جمع العليا ، والعليا تأنيث الأعلى ، أي نزل هذا القرآن تنزيلا من الذي خلق الأرض والسموات كلها ، فمن كان هذا شأنه هو الذي أنزل القرآن فكيف لا يكون كتابه للإسعاد ، وكيف لا يذكر عباده بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم ، فمن خلق الخلق لا يهمله ـ خاصة وهو متصف بالرحمة ـ والرحيم لا يترك عباده بلا توجيه يسعدهم ، وهو مالك لكل شىء ، والمالك لا يترك مملوكيه بلا رعاية ، وهو العليم بكل شىء ، ومن كان كذلك فهو الحري بأن تسعد توجيهاته ، وهو المتصف بالأسماء الحسنى ، ومن كان كذلك سيصدر عنه ما هو الأحسن ، ولا يصدر عنه إلا ما يسعد ، وكل هذه المعاني تضمنتها الآيات الأربع الآتية على الترتيب :

فبعد أن ذكر الله : أن الذي نزل القرآن هو الذي خلق السموات العلى قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) استواء ليس كمثله شىء. قال ابن كثير : (من غير تكييف ، ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل).

دلت الآية على أنه جل جلاله في غاية الرحمة ، وفي غاية العظمة ، ومن كان كذلك فإنه حري أن يخشى ، وحري أن يكون كتابه مسعدا ، وموجها ومربيا ثم قال تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) أي ما تحت التراب ، فالكل ملكه ، وإذا كان كل شىء ملكه فهو غني عن أن يشقي أحدا بتوجيهاته. وهو حري أن يسعد بتنزيله ، وهو جدير بأن ينزل كتابا (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي وإن ترفع صوتك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) أي ما أسررته إلى غيرك ، أو ما أسررته في نفسك (وَأَخْفى) ويعلم ما هو أخفى من السر وهو ما أخطرته ببالك ، أو سترته في نفسك للمستقبل ، أو هو ما لم تحدث به نفسك ، ولكنه مستكن فيها ، وهو الذي يسميه علماء

١٦

النفس الآن (اللاشعور) فالله عزوجل الذي يعلم السر والجهر ، وما هو أخفى من السر ، هو الذي أنزل القرآن ؛ فكيف لا يكون القرآن مسعدا؟ إن أي شىء آخر لا يمكن أن يسعد الإنسان سوى هذا القرآن ؛ لأنه وحده الذي يخاطب الكينونة البشرية كلها فيسعدها كلها ، وكل ما سواه يكون إسعاده على حساب إشقاء في جانب آخر. ثم قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.) قال ابن كثير : (أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله لا إله إلا هو ، ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى). وفي ذكر كلمة التوحيد قبل ذكر الأسماء إشارة إلى أنه واحد في ذاته ، ولو افترقت عبارات صفاته ، وإذ كان الله الواحد الأحد المتصف بالصفات الحسنى هو منزل هذا القرآن فكيف لا يكون كتابه مسعدا! وكيف لا يذكر الله عباده بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم. هذه هي المقدمة.

كلمة في السياق :

إن صلة هذه المقدمة بمحور السورة واضح ؛ فالمقدمة أقامت الحجة على أن هذا القرآن يسعد ولا يشقي ، وفي ذلك دعوة للإيمان به ، والمقدمة بينت أنه مذكر لمن يخشى ، فهي دعوة للخشية ، وللتذكر بهذا القرآن ، أي هي دعوة للإيمان ، فالصلة بينها وبين قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) واضحة ، خاصة وقد عرفت على المنزل وهو الله ، وعرفت المنزل وهو القرآن ، وردت على توهمات في شأنه ، كما أن الصلة بين المقدمة وقوله تعالى في سورة البقرة عن القرآن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وبينها وبين قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) واضحة ؛ مما يؤكد أن محور سورة طه هو الآيات الأولى من سورة البقرة ، وسنرى أن الصلة بين مقدمة سورة طه ، وبقية السورة كاملة.

فعند ما نرى مثلا في المرحلة الأولى من قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) التي تشبه قوله تعالى في المقدمة : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) ندرك أن سنة الله الدائمة هي أن يرسل الله رسلا للبشر ؛ ليتذكروا ويخافوا ، فليس بدعا أن ينزل الله القرآن تذكرة لمن يخشى.

ولا نستعجل الكلام عن الصلة بين المقدمة وبقية السورة ، فسنرى هذا شيئا فشيئا.

١٧

والمهم هنا هو التذكير السريع بصلة مقدمة السورة بمحور السورة من البقرة ، وصلتها ببقية سياق السورة.

فوائد :

١ ـ هل يعني قوله تعالى (السَّماواتِ الْعُلى) أن هناك سموات دنيا ، وأنه يشير إلى ما هو أعلى منها؟ نلاحظ أنه يمر معنا في كتب العهد القديم مثل هذا التعبير : (هو ذا للرب إلهك السموات وسماء السماوات والأرض وكل ما فيها) تثنية (١٠). مما يشير إلى أن هناك سموات ، وهذه السموات لها سماوات ، فكأن هناك سموات خاصة للأرض ، ولهذه السماوات سماوات فوقها ، فهل الآية تشير إلى هذا المعنى؟. الشىء الذي وضحناه في بداية سورة البقرة أن السموات السبع المذكورة في القرآن قريبة من الأرض ، ومغيبة عنا ، فهي دون المجرات والله أعلم ، فإذا صح ما اتجهنا إليه يمكن أن نفهم من قوله تعالى (وَالسَّماواتِ الْعُلى) أن المراد من ذلك هذه المجرات وما فوقها مما هي فوق السموات السبع ؛ لأن العلى جمع العليا ، والعليا تأنيث الأعلى ، فهي إشارة إلى سموات أعلى من غيرها.

نقول هذا مع احتمالنا أن الآية تشير إلى السموات السبع والله أعلم.

٢ ـ قال النسفي في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : (والمذهب قول علي رضي الله عنه : الاستواء غير مجهول ، والتكييف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة).

وقال الألوسي بمناسبة هذه الآية : (و «العرش» في اللغة : سرير الملك ، وفي الشرع : سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم‌السلام ، فوق السموات مثل القبة ، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لطم وجهه فقال : يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ادعوه فقال : لم لطمت وجهه؟ فقال : يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول : والذى اصطفى موسى على البشر. فقلت : يا خبيث ، وعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأخذتني غضبة ، فلطمته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخيروا بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى عليه‌السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور». وعلى أن له

١٨

حملة من الملائكة عليهم‌السلام قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ).

وما رواه أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عزوجل من حملة العرش إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة». وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس ، ونهكت الأموال ـ أو هلكت ـ فاستسق لنا ، فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ، ونستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه ؛ شأن الله تعالى أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله ، إن الله تعالى فوق عرشه. وعرشه فوق سماواته ، لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب».

وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض». وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا ، مع نفي التشبيه والتجسيم ، منهم الإمام أبو حنيفة ، والإمام مالك ، والإمام أحمد ، والإمام الشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وسعد ابن معاذ المروزي ، وعبد الله بن المبارك ، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، والترمذي ، وأبو داود السجستاني ، ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال : لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشىء من ذاته ، ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ، ولا يقول فيه برأيه شيئا ، تبارك الله تعالى رب العالمين.

وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت الشافعي يقول : لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ، ولا الرؤية والفكر ، فنثبت هذه الصفات ، وننفي عنها التشبيه ، كما نفى

١٩

سبحانه عن نفسه فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة ، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل ، وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض ؛ حيث قال فيها : والذي نرتضيه رأيا ، وندين به عقدا ، اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات ، مع أنهم كانوا لا يألون جهدا فى ضبط قواعد الملة ، والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة ، وقد اختاره أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين ، ومقالات الإسلاميين ، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة ، وهو آخر مصنفاته فيما قيل. وقال البيضاوي في الطوالع : والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء يعني المتشابهات ـ ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى).

٣ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَما تَحْتَ الثَّرى) يذكر ابن كثير كلاما مرجعه إما إلى الإسرائيليات ، وإما إلى حديث رواه من لا يساوي شيئا ، ومن ثم أضربنا عن نقله ، إلا أننا نذكر أن علم الجيولوجيا المعاصر ، أثبت أن في الأرض طبقات ، وقد اكتشف منها حتى الآن خمس طبقات ، كل طبقة تختلف عن الأخرى ، ولا زالت نواة الأرض مجهولة حتى كتابة هذه السطور فيما نعلم ، ولا ندري إذا كانت ستنكشف عن كونها أكثر من طبقة» هذا ما أخبرني به الأخ الدكتور حسن زينو المختص في علم الجيولوجيا.

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَالسَّماواتِ الْعُلى) قال ابن كثير : وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره «أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام».

أقول : هذا دليل لنا على ما ذهبنا إليه أن السموات السبع قريبة لنا ، فهي أقرب لنا نسبيا من مجرات هذا الكون البعيدة ؛ إذ بعض تلك المجرات تبعد عنا آلاف السنين الضوئية كما يذكرون ، وهذا يرجح كون السموات السبع دون المجرات ، وأنها مغيبة عنا وهو ما اتجهنا إليه في هذا التفسير.

٥ ـ ذكر ابن كثير سببا لنزول قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) وعلق

٢٠