آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

بما رواه أحمد في مسند ابن عباس لو كان لابن آدم واديان من ذهب وكذا ما يأتي من رواية الترمذي عن انس. وايضا إن تمنى الوادي والواديين والثلاث ليس بذنب يحتاج إلى التوبة إذن فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة «ويتوب الله على من تاب» وإن شئت ان تستزيد مما في هذه الرواية من التدافع والاضطراب فاستمع إلى ما رواه الحاكم في المستدرك ان أبا موسى الأشعري قال كنا نقرأ سورة نشبهها بالطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وذكر في الدر المنثور انه أخرجه جماعة عن أبي موسى. وأضف إلى ذلك في التدافع والتناقض ما أسنده في الإتقان عن أبي موسى ايضا قال نزلت سورة نحو براءة ثمّ رفعت وحفظ منها ان الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو ان لابن آدم واديين لتمنى إلى آخره. وأسند الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص) لو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ ان يكون له ثان ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وها أنت ترى روايات عائشة وجابر وانس وابن عباس تجعل حديث الوادي والواديين من قول رسول الله وتمثله. فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. ومع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول (ص) ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزّه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة.

(الأمر الثالث) ومما الصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي الرواية عن ذر عن أبيّ ان سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة او هي أطول منها وان فيها أو في أواخرها آية للرجم وهي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وفي رواية السياري من الشيعة عن أبي عبد الله بزيادة قوله بما قضيا من الشهوة. وفي رواية الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد عن عمر كما سيأتي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» وفي رواية أبي امامة ابن سهل ان خالته قالت لقد أقرأنا رسول الله (ص) آية الرجم «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ونحو ذلك رواية سعد بن عبد الله وسليمان بن خالد من الشيعة عن أبي عبد الله (ع). ويا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن وكرامته ان يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة بدون ان يذكر السبب وهو زناهما اقلا فضلا عن شرط

٢١

الإحصان. وان قضاء الشهوة أعمّ من الجماع والجماع اعمّ من الزنا والزنا يكون كثيرا مع عدم الإحصان. سامحنا من يزعم ان قضاء الشهوة كناية عن الزنابل زد عليه كونه مع الإحصان ولكنا نقول ما وجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما» وليس هناك ما يصحح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر ولا على وجه يصح تقديره وإنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) لأن كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ. والزنا بمنزلة الشرط. وليس الرجم جزاء للشيخوخة ولا الشيخوخة سببا له. نعم الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية. ولعلّ في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله هل يقولون في القرآن رجم. وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد ان يقيد الأمر بالشيخ والشيخة مع اجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى. وان يطلق الحكم بالرجم مع اجماع الأمة على اشتراط الإحصان فيه. وفوق ذلك يؤكد الإطلاق ويجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة والشهوة الذي يشترك فيه المحصن وغير المحصن. فتبصر بما سمعته من التدافع والتهافت والخلل في رواية هذه المهزلة. وأضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد من ان عمر قال قبل موته بأقل من عشرين يوما فيما يزعمونه من آية الرجم لو لا ان يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» واخرج الحاكم وابن جرير وصححه ايضا ان عمر قال لما نزلت أتيت رسول الله (ص) فقلت اكتبها «وفي نسخة كنز العمال» اكتبنيها فكأنه كره ذلك. وقال عمر الا ترى ان الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد وان الشاب إذا زنا وقد أحصن رجم. فالمحدثون يروون ان عمر يذكر ان رسول الله كره ان تكتب آية منزلة وعمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم. وفي الإتقان أخرج النسائي ان مروان قال لزيد بن ثابت ألا تكتبها في المصحف قال ألا ترى ان الشابين الثيبين يرجمان وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال لا تستطيع انتهى. فزيد بن ثابت يعترض عليها. ولما رأوا التدافع بين قول عمر اكتبها لي وبين قول النبي لا تستطيع قالوا أراد عمر بقوله ذلك ائذن لي بكتابتها وكأنهم لا يعلمون ان عمر عربي لا يعبر عن قوله ائذن لي بكتابتها بقوله اكتبها لي ومع ذلك لم يستطيعوا ان يذكروا وجها مقبولا لقوله (ص) لا تستطيع. وفي رواية في كنز العمال عن ابن الضريس عن عمر قلت لرسول الله اكتبها يا رسول

٢٢

الله قال لا أستطيع. واخرج ابن الضريس عن زيد بن اسلم ان عمر خطب الناس فقال لا تشكوا في الرجم فإنه حق ولقد هممت ان اكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال أليس اتيتني وانا استقرئها رسول الله فدفعت في صدري وقلت كيف تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر انتهى. فهذه الرواية تقول ان عمر لم يرض بانزال شيء في الرجم. وليت المحدثين يفسرون حاصل الجواب من أبي لعمر وحاصل منع عمر لأبي عن استقرائها ، واخرج الترمذي عن سعد بن المسيب عن عمر قال رجم رسول الله (ص) ورجم ابو بكر ورجمت ولو لا اني اكره ان أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف. فعمر يقول ان كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب الله وهو يكرهها ـ فقابل هذه الروايات الأربع إحداهن بالأخرى واعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدثين. وإذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال صحيفة : ٩٠ و ٩١ فإنك تزداد بصيرة في الاضطراب والخلل

هذا ومما يصادم هذه الروايات ويكافحها ما روي من أن عليا (ع) لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال اجلدها بكتاب الله وارجمها بسنة رسوله كما رواه احمد والبخاري والنسائي وعبد الرزاق في الجامع والطحاوي والحاكم في مستدركه وغيرهم. ورواه الشيعة عن علي (ع) مرسلا فعلي (ع) يشهد بأن الرجم من السنة لا من الكتاب

الأمر الرابع

مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في الإتقان والدر المنثور انه اخرج الطبراني والبيهقي وابن الضريس ان من القرآن سورتين «وقد سماها الراغب في المحاضرات سورتي القنوت» ونسبوهما الى تعليم علي (ع) وقنوت عمر ومصحفي ابن عباس وزيد بن ثابت وقراءة أبي وأبي موسى (والأولى منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك انتهى. لا نقول لهذا الراوي ان هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن ولا سوقه فانا نسامحه في معرفة ذلك ولكنا نقول له كيف يصح قوله يفجرك وكيف تتعدى كلمة يفجر وايضا ان الخلع يناسب الأوتان إذن فما ذا يكون المعنى وبماذا يرتفع الغلط (والثانية منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدان عذابك بالكافرين ملحق انتهى. ولنسامع الراوي ايضا فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى

٢٣

ولكنا نقول له ما معنى الجدّ هنا أهو العظمة او الغنى او ضد الهزل او هو حاجة السجع نعم في رواية عبيد نخشى نقمتك وفي رواية عبد الله نخشى عذابك وما هي النكتة في التعبير بقوله ملحق. وما هو وجه المناسبة وصحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأن عذاب الله بالكافرين ملحق بل ان هذه العبارة تناسب التعليل لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله لأن عذابه بالكافرين ملحق.

الأمر الخامس

ومما الصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب انه نسب الى الشيعة انهم يقولون ان إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي (ع) واهل بيته (ع) «منها» هذه السورة وذكر كلاما يضاهي خمسا وعشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة أسلوبه الملفق فمن الغلط «واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلفه» ماذا اصطفى من الملائكة وماذا جعل مّن المؤمنين وما معنى أولئك في خلقه. ومنه «مثل الذين يوفون بعهدك اني جزيتهم جنات النعيم» ليت شعري ما هو مثلهم. ومنه «ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» ما معنى هذه الدمدمة وما معنى بما استخلف وما معنى فبغوا هارون ولمن يعود الضمير في بغوا ولمن الأمر بالصبر الجميل. ومن ذلك «ولقد اتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون» ما معنى اتينا بك الحكم ولمن يرجع الضمير الذي في منهم ولعلهم. هل المرجع للضمير هو في قلب الشاغر. وما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون. ومن ذلك «وان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب وبه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» قل ما محل قوله هل يستوي الذين ظلموا وما هي المناسبة له في قوله وهم بعذابي يعلمون. ولعل هذا الملفق تختلج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة الزمر وفي آخرها (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فأراد الملفق أن يلفق منهما شيئا بعدم معرفته فقال في آخر ما لفق هل يستوي الذين ظلموا ولم يفهم انه جيء بالاستفهام الانكاري في الآيتين لأنه ذكر فيهما الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله والقانت آناء الليل يرجو رحمة ربه فهما لا يستويان ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.

٢٤

وان صاحب فصل الخطاب من المحدثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ وانه ليعدّ أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة ومع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من اين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة. وفي أي كتاب لهم وجدها أفهكذا يكون النقل في الكتب ولكن لا عجب (شنشنة أعرفها من أخزم) فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني ومقدمة ابن خلدون وغير ذلك مما كتبه بعض الناس في هذه السنين والله المستعان

قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن

ولا يخفى ان شيخ المحدثين والمعروف بالاعتناء بما يروى وهو الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد. اعتقادنا ان القرآن الذي أنزله الله على نبيه (ص) هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا انا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب انتهى. وحمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه أخر. وفي أواخر فصل الخطاب من كتاب المقالات للشيخ المفيد قدس‌سره إنه قال جماعة من أهل الإمامة انه (أي القرآن) لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين (ع) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله. وعن السيد المرتضى قدس سرّه قوله بعدم النقيصة وان من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها. وفي أول التبيان الشيخ الطوسي (قده) أما الكلام في زيادته ونقصه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات غير انه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الاعراض عنها انتهى. وتبعه على ذلك في مجمع البيان وفي كشف الغطاء في كتاب القرآن المبحث الثامن في نقصه لا ريب انه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن واجماع العلماء في كل زمان ولا عبرة بالنادر وما ورد من اخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها إلى ان قال فلا بد من تأويلها بأحد وجوه. وعن السيد القاضي نور الله في كتابه مصائب النواصب ما نسب إلى الشيعة الإمامية من

٢٥

وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم. وعن الشيخ البهائي وايضا اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه والصحيح ان القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا ويدل عليه قوله تعالى (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم امير المؤمنين عليه‌السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك في عليّ وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية وانما الكلام في النقيصة والمعروف بين أصحابنا حتى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة ايضا. وعنه ايضا عن الشيخ علي بن عبد العالي انه صنف في نفي النقيصة رسالة مستقلة وذكر كلام الصدوق المتقدم ثمّ اعترض بما يدل على النقيصة من الأحاديث وأجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه .. هذا وان المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها باعداد المراسيل عن الأئمة عليهم‌السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع ان المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد. وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يئول به إلى التنافي والتعارض وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع ان القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة انفار وقد وصف علماء الرجال كلا منهم اما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. واما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. واما بأنه كذاب متهم لا أستحل ان اروي من تفسيره حديثا واحدا وانه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه‌السلام. واما بأنه كان غاليا كذابا. واما بأنه ضعيف لا يلتفت اليه ولا يعوّل عليه ومن الكذابين. واما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ. ومن الواضح ان أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا. ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة ان ننزلها على ان مضامينها تفسير للآيات أو تأويل او بيان لما يعلم يقينا شمول عموماتها له لأنه أظهر الافراد وأحقها بحكم العام. أو ما كان مرادا بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل. أو ما كان هو المورد للنزول. او ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. وعلى احد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد

٢٦

فيها انه تنزيل وانه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه‌السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من انه كان في مصحف امير المؤمنين عليه‌السلام او ابن مسعود وينزل على انه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل. ومما يشهد لذلك قول امير المؤمنين (ع) للزنديق كما في نهج البلاغة وغيره ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل. ومما أشرنا اليه من الروايات ان المحدث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج اربع روايات ذكرت ان كلمة (بولاية علي) مثبتة في مصحف فاطمة وهكذا هي في مصحف فاطمة (ع) ولا يخفى ان مصحفها عليها‌السلام انما هو كتاب تحديث بأسرار العلم كما يعرف ذلك من عدة روايات في اصول الكافي في باب الصحيفة والمصحف والجامعة وفيها قول الصادق (ع) ما فيه من قرآنكم حرف واحد. وما أزعم ان فيه قرآنا كما في الصحيح والحسن (ومنها) ما في الكافي في باب ان الأئمة عليهم‌السلام شهداء على الناس في صحيحة بريد عن أبي جعفر (ع) وروايته عن أبي عبد الله (ع) من قولهما (ع) في قوله تعالى (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) نحن الأمة الوسطى. وفي شرحه عن امير المؤمنين عليه‌السلام ونحن الذين قال الله (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). إذن فما روي مرسلا في تفسيري النعماني وسعد من ان الآية أئمة وسطا لا بد من حمله على التفسير وان التحريف إنما هو للمعنى (ومنها) كما رواه في الكافي في باب ان الأئمة هم الهداة عن الفضيل سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيهم. ورواية بريد عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال رسول الله (ص) المنذر ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به النبي (ص) والهداة من بعده عليّ (ع) ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد. ونحوها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) ورواية عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر عليه‌السلام ان رسول الله (ص) المنذر وعليّ الهادي وبمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق أبي هريرة وأبي برزة وابن عباس وطريق امير المؤمنين (ع) وصححه الحاكم في مستدركه. وإذا أحطت خبرا بهذا فهل يروق لك التجاء فصل الخطاب في تلفيقه وتكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخرة وعن الداماد في حاشية القبسات من قوله ان الأحاديث من طرقنا وطرقهم متضافرة بأنه كان التنزيل انما أنت منذر لعباد وعليّ

٢٧

لكل قوم هاد انتهى. هذا الشعر الذي ينشده المداحون ولا يرضى العارف باللغة العربية ان ينسب اليه نظمه ولا أظنك تجد من طرقنا وطرق اهل السنة غير ما سمعته أولا وهو غير ما نقله فاعتبر (ومنها) رواية الكافي عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قوله عزوجل (رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يعنون بولاية علي (ع) وهذا صريح في كونه تفسيرا فهي حاكمة ببيانها على ضعيفتي أبي بصير في ظهورهما بأن لفظ «بولاية علي» محذوف من الآية ويسري البيان من رواية أبي حمزة إلى أمثال ذلك (ومنها) رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى في سورة البقرة (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ). مخرجات. ولا أظن إلا انك تقول ان الحاق الإمام (ع) لكلمة مخرجات انما هو تفسير للمراد من كلمة. إخراج. لا بيان للنقيصة من القرآن الكريم ولكن فصل الخطاب أورده بعنوان البيان للنقيصة فاعتبر (ومنها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في أول باب منع الزكاة وفيها ثمّ قال (ع) هو قول الله عزوجل (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني ما بخلوا به من الزكاة فالرواية كالصريحة بأن لفظ «من الزكاة» إنما هو تفسير من الإمام لا من القرآن فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عزوجل. (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ). من الزكاة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وصارفة لها عن كونها بيانا للنقيصة. (ومنها) صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في باب نص الله ورسوله على الأئمة واحدا بعد واحد. وفيها : فقلت له ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (ع) وأهل بيته في كتاب الله قال فقولوا لهم ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم بسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر لهم ذلك. وكذا قال (ع) في الزكاة والحج. ومقتضى الرواية تصديق الإمام (ع) لقول الناس ان الله لم يسم عليا في القرآن وإن التسمية كانت من تفسير رسول الله (ص) في حديث من كنت مولاه وحديث الثقلين. ويشهد لذلك ما رواه في الكافي ايضا في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر عليه‌السلام ورواية أبي الجارود عنه (ع) ايضا ورواية أبي الديلم عن أبي عبد الله (ع) انهما تلوا في مقام الاحتجاج وعدم التقية قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ولم يذكرا في تلاوة الآية كلمة «في عليّ» وهذا يدلّ على انّ ما روي في ذكر اسم علي (ع) في هذا المقام بل وفي غيره إنما هو تفسير وبيان للمراد في وحي القرآن بكون التفسير والبيان جاء به

٢٨

جبرائيل من عند الله بعنوان الوحي المطلق لا القرآن (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (ومنها) رواية الفضيل عن أبي الحسن الماضي (ع) في باب النكت من التنزيلفي الولاية من الكافي قال قلت (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) قال يعني امير المؤمنين (ع) قلت تنزيل قال (ع) نعم فإنه (ع) ذكر امير المؤمنين (ع) بقوله يعني بعنوان التفسير وبيان المراد والمشار اليه في قوله تعالى هذا فقوله في الجواب «نعم» دليل على ان ما كان مرادا بعينه في وحي القرآن يسمونه عليهم‌السلام تنزيلا. فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات فصل الخطاب بما حشده من الروايات التي عرفت حالها اجمالا وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدست اسرارهم. فإن قيل ان هذه الرواية ضعيفة وكذا جملة من الروايات المتقدمة قلنا ان جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية وأشد منها ضعفا كما أشرنا اليه في وصف رواتها على ان ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لأولي الألباب

الفصل الثالث في قراءته

ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد فلم يؤثر شيئا على مادته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له ولو في بعض النسخ ولم يسيطر عليه ايضا ما روي من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري ومستدرك الحاكم مسندة عن النبي (ص) وعلي (ع) وابن عباس وعمر وأبي وابن مسعود وابن عمر وعائشة وابى الدرداء وابن الزبير وانظر اقلا الى الجزء الأول من كنز العمال صفحة ٢٨٤ ـ ٢٨٩ نعم ربما اتبع مصحف عثمان على ما يقال في مجرد رسم الكتابة في بعض المصاحف في كلمات معدودة كزيادة الألف بين الشين والياء من قوله تعالى (لِشَيْءٍ) من سورة الكهف وزيادتها ايضا في (لَأَذْبَحَنَّهُ) من سورة النمل ونحو ذلك في قليل من الكلمات. وان القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة او نقصها ومع ذلك ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا. فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة. وان كلا من القراء هو واحد لم تثبت عدالته ولا ثقته يروي عن آحاد حال غالبهم مثل حاله ويروي عنه آحاد مثله. وكثيرا ما يختلفون في الرواية عنه. فكم اختلف حفص وشعبة في الرواية

٢٩

عن عاصم. وكذا قالون وورش في الرواية عن نافع. وكذا قنبل والبزي في روايتهما عن أصحابهما عن ابن كثير. وكذا رواية أبي عمر وأبي شعيب في روايتهما عن اليزيدي عن أبي عمر. وكذا رواية ابن ذكوان وهشام عن أصحابهما عن ابن عامر. وكذا رواية خلف وخلاد عن سليم عن حمزة. وكذا رواية أبي عمر وأبي الحارث عن الكسائي. مع ان أسانيد هذه القراءات الآحادية لا يتصف واحد منها بالصحة في مصطلح اهل السنة في الاسناد فضلا عن الإمامية كما لا يخفى ذلك على من جاس خلال الديار. فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة. هذا وكل واحد من هؤلاء القراء يوافق بقراءته في الغالب ما هو المرسوم المتداول بين المسلمين وربما يشذ عنه عاصم في رواية شعبة. إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم والمعمول عليه بين عامة المسلمين في اجيالهم الى خصوصيات هذه القراءات. مضافا الى انا معاشر الشيعة الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم.

ولعلّما تقول ان غالب القراءات السبع او العشر ناش من سعة اللغة العربية في وضع الكلمة وهيئتها نحو عليهم وإليهم ولديهم بكسر الهاء أو ضمها مع سكون الميم او ضمهما. ونحو تظاهرون بفتح الظاء او تشديدها. فعلى أي قراءة قرئت أكون قارئا على العربية. ولكن كيف يخفى عليك ان تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها ان تتبع ما أوحي الى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد فعليك أن تتحراه بما يثبت به وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة.

ولا تتشبث لذلك بما روي من ان القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن.

اما أولا فقد قال في الإتقان في المسألة الثانية من النوع السادس عشر اختلف في معنى السبعة أحرف على أربعين قولا وذكر منها عن ابن حيان خمسة وثلاثين. وما ذاك إلا لوهن روايتها واضطرابها لفظا ومعنى. وفي الإتقان ايضا في أواخر النوع السادس عشر وقد ظن كثير من العوام ان المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح (واما ثانيا) فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي (ص) نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجرا وآمرا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها وأمثالا فأحلوا حلاله. وروى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنزل القرآن على سبعة

٣٠

أحرف آمر وزاجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل. وروى ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الانباري عن ابن عباس عنه (ص) ان القرآن على اربعة أحرف حلال وحرام الحديث. وأسند السنجري في الابانة. عن علي (ع) انزل القرآن على عشرة أحرف بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام (واما ثالثا) فقد جاء في روايات السبعة أحرف بأسانيد جياد في مصطلحهم ما يعرفك وهنها وإلحاقها بالخرافة ففي رواية احمد من حديث أبي بكرة ان النبي (ص) استزاد من جبرئيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف قال يعني جبرئيل كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب. وزاد في حديث آخر نحو قولك تعال واقبل وهلم واذهب واسرع واعجل. ونحوه في رواية الطبراني عن أبي بكرة. وفي الإتقان اخرج نحوه احمد والطبراني عن ابن مسعود واخرج ابو داود في سننه عن أبي عن رسول الله (ص) الى قوله حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلا شاف كاف ان قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة او آية رحمة بعذاب. وفي كنز العمال فيما أخرجه احمد وابن منيع والغساني وابن أبي منصور وابو يعلى عن أبي عن النبي (ص) ان قلت غفورا رحيما او قلت سميعا عليما او عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة او رحمة بعذاب. واخرج ابن جرير عن أبي هريرة عنه (ص) ان هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. واخرج احمد من حديث عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا او عذابا مغفرة. فانظر الى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس (واما رابعا) ففي الروايات ما يقطع سند القراءات السبع فعن ابن الأنباري في المصاحف مسندا عن عبد الرحمن السلمي قال كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة. وعن ابن أبي داود مسندا عن أنس قال صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم كان يقرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وروى ايضا ان أول من قرأ ملك يوم الدين هو مروان ابن الحكم (واما خامسا) وهو فصل الخطاب فقد روى من طرق الشيعة في الكافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (ع) ان القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الروايات. وأرسل الصدوق نحوه في اعتقاداته عن الصادق (ع) وفي الكافي ايضا في الصحيح

٣١

عن الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (ع) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة أحرف فقال (ع) كذبوا. ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. ويؤيد ما ذكرناه رواية السياري له ايضا عن الباقر والصادق (ع)

الفصل الرابع في تفسيره

وللحاجة اليه مقامات (الأول) في مفردات ألفاظه وبيان معناها في العربية ـ قد أنزل القرآن الكريم على افصح لغات العرب وأكثرها تداولا ومألوفية لنوع العرب فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلا نادرا لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الإنسان كما يروى في الأبّ والقضب في قوله تعالى في سورة عبس (وَفاكِهَةً وَأَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً). ولكن لما تشرفت الأمم من غير العرب بالإسلام وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول ان صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم لمعانيها. ولا زال ذلك يزداد يوما فيوما حتى سرى داؤه إلى بعض الخواص. ولاستراحتهم في ذلك الى الاتباع والتقليد أثر غير هين

إذن فيرجع في التفسير لمفردات ألفاظه الشريفة الى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب ولغتهم. وان للتدبر في أسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلا كبيرا في ذلك. واما محض الركون الى آحاد اللغويين تعبدا بكلامهم وتقليدا لآرائهم فذاك مما لا مساغ له. فان الأغلب أو الغالب مما يستندون اليه في أقوالهم ما هو إلا الاعتماد على ما يحصلونه بحسب افهامهم وتتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال. ألا ترى كم يشهد بعضهم على بعض بالخطإ والوهم

ومن شواهد ما ذكرناه ما وقع في تفسير اللمس والمسّ من الاضطراب والخبط. ففي النهاية مسست الشيء إذا لمسته بيدك. وفي القاموس لمسه مسه بيده ومسسته أي لمسته. وفي المصباح مسسته أفضيت اليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال قبل ذلك لمسه افضى اليه باليد. هكذا فسروه. وقال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشيء وقال لمست مسست وكل ماس لامس. وقال الفارابي اللمس المس. وفي التهذيب عن أبن الاعرابي اللمس يكون مس الشيء وقال في باب الميم المس مسّك الشيء بيدك. وقال الجوهري اللمس

٣٢

المس ثمّ قال في المصباح وإذا كان اللمس هو المس فكيف يفرق الفقهاء بينهما انتهى. ولعلك تذعن بأن الفقهاء احذق في استفادة المعنى من تتبع موارد الاستعمال وذلك لما اعتادوه وشحذوا به أذهانهم من بذل الجهد بالبحث والتحقيق فإن الفرق بين معنيي اللمس والمس واضح بحكم التبادر والتتبع لموارد الاستعمال. وغير خفي ان المعروف والمتبادر تبادرا يجزم معه بعدم النقل عن المعنى اللغوي الأصلي هو ان اللمس هو الإصابة بما به الإحساس من البدن بقصد الاحساس للملموس لا خصوص اللمس باليد ولا مطلق المس نعم كثير من موارد اللمس ما يكون باليد باعتبار انها آلة عادية وأقوى إحساسا. كما ان المس هو مطلق الإصابة لا بقصد الاحساس وقد صرح جماعة من أساطين علمائنا بأن معنى المس لغة بل وعرفا هو ما ذكرناه كما في المعتبر والمنتهى وروض الجنان والحدائق بل والمهذب البارع وأظن ان الذي يحقق في مراجعة العرف والتبادر وتتبع موارد الاستعمال قديما وحديثا لا يشك في ان معنى اللمس هو ما ذكرناه أولا.

ومن شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفي وما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإماتة في معنى التوفي. والكثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران ٤٨ (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) قالوا أي مميتك. وقال بعض مميتك حتف انفك. وقال بعض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وكأنهم لم ينعموا الالتفات الى مادة التوفي واشتقاقه ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة واعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. وإلى ان القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله ان المسيح قال لله (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) ومن كل ذلك لم يفطنوا الى أن معنى التوفي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقاته إنما هو الأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء. وإن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر ٤٣ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ألا ترى انه لا يستقيم الكلام إذا قيل الله يميت الأنفس حين موتها وكيف يصح ان التي لم تمت يميتها في منامها. وكما في قوله تعالى في سورة الانعام ٦٠ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ

٣٣

لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) فإن توفي الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم ثم يبعثهم الله باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد. وكما في قوله تعالي في سورة النساء ١٩ : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهنّ الموت وحاصل الكلام ان معنى التوفي في موارد استعماله في القرآن وغيره إنما هو أخذ الشيء وافيا أي تاما كما يقال درهم واف وهذا المعنى ذكره اللغويون للتوفي في معاجمهم وقالوا ان توفاه واستوفاه بمعنى واحد وأنشدوا له قول الشاعر

ان بني الادرد ليسوا لأحد

ولا توفاهم قريش في العدد

أي لا تتوفاهم وتأخذهم تماما (قلت) لكنّ بين الاستيفاء والتوفي فرقا واضحا من جهة اثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استفعال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ واستدعائه ومعالجته والتوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ولذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي وعدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام والوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) فإنك إن جعلت قوله تعالى (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) معطوفا على الأنفس لم تقدر أن تقول أن معنى يتوفى يميت. وإن قلت ان التوفي في المنام اماتة مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا ومعنى مجازيا ويتعلق باعتبار كل معنى بمفعول ويعطف احد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. وهل يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. وإن جعلت قوله تعالى (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) مفعولا لكلمة «يتوفى» مقدرة يدل عليها قوله تعالى (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) قلنا ان دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام فى كل لغة فكيف يجعل التوفي بمعنى الموت دليلا على توف محذوف هو بمعنى آخر .. إذن فليس الا أن التوفي بمعنى واحد وهو الأخذ تماما ووافيا. إمّا من عالم الحياة. وإما من عالم اليقظة. واما من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح وأخذه ومن الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشيء تاما انتهى وليت شعري ماذا بقي من المسيح في الأرض وماذا تعاصى منه على قدرة الله في أخذه فلا يكون رفعه مشتملا على أخذ الشيء تاما. هذا ولا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه

٣٤

وما صلبوه ولكن شبه لهم ورفعه الله اليه وإن عقيدة المسلمين مستمرة كإجماعهم على انه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى ان ينزل في آخر الزمان فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسر التوفي بالإماتة إلى ان يفسر قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ولكني لا أدري ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في أواخر سورة المائدة «١١٦ و ١١٧ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ـ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ـ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فهل يسوغ ان تفسر هذه الآية بالوفاة بعد النزول وهل يصح القياس في ذلك على قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وهل يخفى ان مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو انه بعد ان توفاه الله وانقطعت تبليغاته في دعوة رسالته وكونه شهيدا على أمته تمحض الأمر ورجع إلى ان الله هو الرقيب عليهم. وان سوق الكلام واتساقه ليدل على اتصال الحالين. وان الرقيب كيفما فسرته إنما يكون رقيبا في وجود تلك الأمة في الدنيا دار التكليف لا الآخرة التي هي دار جزاء وانتقام. ولا تصح الطفرة في المقام من أيام دعوة المسيح لأمته في رسالته وكونه شهيدا عليهم إلى ما بعد نزوله من السماء في آخر الزمان حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلامية لا صاحب دعوة. ومن الواضح أن المراد في الآيتين من الناس الذين جرى الكلام في شأنهم إنما هم الذين كانوا أمة المسيح وفي عصر رسالته ونوبة دعوته وتبليغه ... وأما صرف وجهة الكلام إلى الناس الذين هم في أيام نزوله من السماء فما هو إلا مجازفة فيها ما فيها وتحريف للكلم ... وأما قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) فلم يكن اخبارا ابتدائيا يكون وقوع الفعل الماضي فيه باعتبار حال المتكلم كما في الآيتين بل جاء في سياق قوله تعالى (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ) في حوادث زمان البعث والقيامة ومقدماتها فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين وسياق الكلام يجعله بدلالته في قوة قوله ونفخ حينئذ في الصور فهو على حقيقة الفعل الماضي وباعتبار ذلك الحين كما في قوله (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ). هذا وبعض المفسرين لقوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قال أي مميتك حتف انفك. وأقول ان أراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير فى ورد الاعتراض عليه وان أراد اماتته قبل ذلك وقبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين وإجماعهم في اجيالهم ويرد عليه السؤال ايضا بأنه من أين جاء بالإماتة حتف انفه وماذا يصنع بما جاء في القرآن

٣٥

كثيرا مما ينافي اختصاص التوفي بالموت حتف الأنف بل المراد منه الأخذ بالموت وإن كان بالقتل كقوله في سورة الحج ٥ والمؤمن ٦٩ في أطوار خلق الإنسان من التراب والنطفة إلى الهرم. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل وفي سورة البقرة ٢٣٤ و ٢٤١ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ويونس ١٠٤ (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) والنحل ٧٢ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) والسجدة ١١ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) والأعراف ٣٥ (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) والنساء ٩٩ (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) والنحل ٣٠ ـ ٣٣ (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) والانعام ٦١ (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ومحمد (ص) ٣٩ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) والأنفال ٥٢ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) والزمر ٤٣ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) وإنك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ التوفي مستعملا فيما يراد منه الإماتة حتف الأنف إذن فمن اين جيء بذلك في قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) نعم ابتلى لفظ التوفي ومشتقاته بالأخذ بمعناه يمنة ويسرة حتى ان العامة حسبوها مرادفة للموت حتى انهم يقولون في الذي مات توفى بفتح التاء والواو والفاء بالبناء للفاعل ويقولون في الميت متوفي بكسر الفاء

وصيغة اسم الفاعل بل يحكى ان أمير المؤمنين عليا (ع) كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميت ويقول من المتوفي بكسر الفاء وأما ما نسب إلى ابن عباس من ان معنى قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) إني مميتك فما أراه إلا كما نسب إلى ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس والثلاثين من إتقان السيوطي من ان نافعا سأله عن قول الله (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي بما يرجع إلى معنى تبهظهم وتثقل عليهم كما قال عمر ابن كلثوم في معلقته. (ومتني لدنة سمقت وطالت روادفها تنوء بما ولينا وكما أنشده اللغويون. إلا عصا ارزن طالت برايتها تنوء ضربتها بالكف والعضد

فذكر ان ابن عباس قال له في الجواب لتثقل أو ما سمعت قول الشاعر

تمشي فتثقلها عجيزتها

مشي الضعيف ينوء بالوسق

أي ينهض بالوسق بتكلف وجهد على عكس المعنى المذكور في القرآن. أفهل ترى ابن عباس يفسر تنوء التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب اليه اعتراض

٣٦

النصارى بأن القرآن جاء بلفظة «لتنوء» في غير محلها. وهل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوء بالوسق ليس يثقل بل ينهض به بتكلف. وهل ترى ابن عباس لا يدري ببيت المعلقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما. كيف وإن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ولكن «حنّ قدح ليس منها» وقد خرجنا عما نؤثره من الاختصار ولكنا ما خرجنا عن المقصود الاصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شيء من الخير والله المسدد الموفق

المقام الثاني

لا يخفى ان القرآن الكريم مبني على ارقى أنحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته مما كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه. وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كل سامع عربي. ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريبا في العامة وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم والتدرب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل ولا وقوف عند الأسماء ولا جمود على قشور القواعد التي مهدها المتدربون في العربية من الخواص اقتباسا بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا وفاتهم من أسرارها وحقائقها الشيء الكثير. وربما أدت بهم وعورة البحث والجمود على التقليد إلى عثرات الوهم أو احجام الشكوك انظر إلى ان جماعة من النحويين كالشراح لألفية ابن مالك وغيرهم قالوا في قول الراجز «جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط» ان التقدير بمذق مقول فيه هل رأيت إلخ ولا يخفى ان الراجز يريد وصف المذق بما يبين حاله وتبدل لونه بكثرة الماء وماذا يجدي فى ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط ولم يفطنوا إلى ان الصفة التي يريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد أشار إليها باستفهامه الذي هو بمنزلة التمثيل الحي لها. فكأنه قال جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان. ومن شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي ومعرفته بفذلكات الكلام

٣٧

اضطرب كلامه وتفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد وهو قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ) ففي سورة الواقعة في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال فأقسم وان «لا» مزيدة مثلها في قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وفي قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس. ولا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم اني افر وقال غوية بن سلمة. ألا نادت امامة باحتمال لتحزنني فلا بك لا ابالي

وفائدتها توكيد القسم وقالوا انها صلة اي زائدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وقال في ذلك كلاما فيه ما فيه وقال والوجه ان يقال هو للنفي والمعنى في ذلك انه لا يقسم بالشيء إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول ان اعظامي له باقسامي به كلا إعظام يعني ان يستأهل فوق ذلك انتهى. ومقتضى بيانه هذا ان يقول إعظاما للمقسم به فإنه أوضح للبيان من مثله. وليته لم يخلط بين دخول «لا» على فعل القسم كما في الآيتين وبين دخولها على حرف القسم كما في بيتي امرء القيس وغوية وغيرهما مما لا يقع جوابه إلا منفيا فإنه واضح الظهور في ان «لا» فيه نافية موطئة لنفي الجواب لتأكيده وسبيلها سبيل قوله تعالى في سورة النساء ٦٨ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ). وفي سورة الحاقة في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) قال اقسام بالأشياء كلها. وفي سورة البلد فى قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) قال اقسم بالبلد الحرام ولم يقل شيئا في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ) في سورة المعارج والتكوير والانشقاق. ومن شواهد ذلك ما سمعته هنا عن صاحب الكشاف في قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) من ان «لا» في لئلا مزيدة وصرّح ايضا بذلك في تفسير سورة الحديد حيث قال (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ليعلم ـ ووافقه على ذلك جماعة فاغتنم اعداء القرآن الكريم من ذلك فرصة فاعترضوا على القرآن بأنه مشتمل على الزيادة اللغوية ولكن الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ٣٥٠ و ٣٥٥ أوضح البطلان في زعم الزيادة كما عليه جماعة من ان المعنى. ان الله وعد الذين آمنوا ويتقون الله ويؤمنون برسوله ان يؤتيهم كفلين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم ومن فوائد ذلك وغاياته ان لا يعلم اهل الكتاب ان الذين آمنوا لا يقدرون على شيء من فضل الله ولأن الفضل بيد الله الآية وليت شعري لماذا لا تنزه جلالة القرآن المجيد وبراعته عن لغوية هذه

٣٨

الزيادة التي لا غاية فيها إلا الإيهام.

وفي تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف ١١ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال في الكشاف أيضا «لا» في ان لا تسجد صلة «أي زائدة» بدليل قوله تعالى أي في سورة (ص) ٧٥ (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ومثلها (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) بمعنى ليعلم انتهى. أقول وإن التدبر في آيات الأعراف. وص يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جيء بها في الأعراف للاشارة إلى أمر قد صرح به في آيات ص وذلك ان الفعل قد يكون له مانع من ضد او عذل أو غفلة او عجز أو كل وقد يكون له سبب داع وحامل على تركه ومخالفته الأمر به فسأل الله إنكارا أو توبيخا في سورة ص عن المانع بقوله تعالى (ما مَنَعَكَ) ان تسجد وعن السبب والحامل على المخالفة بقوله تعالى (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) وأشار جل شأنه في سورة الأعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع فكأنه قال ما منعك من ان تسجد وما حملك على ان لا تسجد ولذا وقع الجواب من إبليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على ان لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وكذا الكلام في قوله تعالى في سورة طه ٩٤ (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) فإن التفريع فى قوله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يدل على انه قد سبق السؤال عن المانع عن الاتباع وعن السبب الحامل على المعصية بتركه وأشير اليه بإدخال «لا» ولكن قال في الكشاف لا مزيدة والمعنى ما منعك ان تتبعني. وقال الله في سورة الأنبياء ٩٥ (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وفي الكشاف فسر الإهلاك بالعزم عليه وفسر الرجوع بالرجوع من الكفر إلى الإسلام وهذا مختاره على الظاهر من الوجوه الثلاثة ثم قال فيه و «لا» صلة مزيدة انتهى وليته أبقى الإهلاك على ظاهره وفسر الرجوع بالرجوع إلى الإيمان والتوبة عند مشاهدة آيات الهلاك وأحوال الموت كإيمان فرعون عند الغرق كما في سورة يونس ٩٠. أو كالذين (إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) وكما في سورة النساء ٢٢. وكما ذكره الله في سورة المؤمنين في حال المشركين والظالمين ١٠١ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) فإن قولهم هذا رجوع إلى التوبة ولكنها لا تقبل كما قال الله في الموارد الثلاثة ويكون معنى الآية الكريمة هو ان أهل القرى

٣٩

التي أهلكها الله حرام عليهم بسبب مشاهدتهم لآيات الإهلاك وحضور الموت وممتنع في العادة ومنفيّ بالمرة كونهم لا يرجعون إلى التوبة والإيمان بحسب الفطرة وإن كان لا ينفعهم ويستمرون على ما هم فيه حتى إذا جاءت الساعة وصار يوم القيامة وعاينوا ما كانوا يوعدون قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا.

وقال الله تعالى في سورة آل عمران ٧٣ (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ٧٤ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) ولا يخفى ان قوله تعالى (ولا يأمركم) معطوف على (يقول) المعطوف بثمّ على المنفي بقوله تعالى (ما كان) أي ليس له وإن (لا) هنا نافية يؤتى بها لتثبيت النفي في الأمرين مثلها في قولك ليس لك ان تقوم ولا أن تأكل لئلا يتوهم ان النفي للجمع بين الأمرين والجمع بين القيام والأكل كما قال في الكشاف في ثاني وجهيه في الآية. وقال في الكشاف ان في الآية وجهين أحدهما ان نجعل «لا» مزيدة والمعنى ثمّ يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم ان تتخذوا النبيين والثاني ان نجعل «لا» نافية غير مزيدة والمعنى ما كان لبشر يستنبئه الله ان يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة أي ما كان له أن يجمع بين الأمر والنهي. ويا للعجب ممن سوغ لنفسه في مثل بلاغة القرآن المجيد ان يفسر لا يأمركم بقوله ينهاكم ولو فسر بذلك كلام واحد من الناس لأوسعه من الملام ما أوسعه ـ ولم ينفرد الزمخشري بدعوى زيادة (لا) في هذه الموارد بل ادعى ذلك جماعة من المفسرين والنحويين كما ذكر ابن هشام في المغنى في كلمة «لا» ولو ان زيادة «لا» محققة في كلام العرب متداولة في شعرهم ونثرهم لما ساغ لهؤلاء ان يقولوا بذلك في مثل بلاغة القرآن الكريم ومجدها وفي خصوص الموارد التي ادعوا فيها الزيادة فإن البلاغة بل استقامة الكلام تقتضي تثبيت إثباتها ورفع أوهام النفي عنها لو كانت مثبتة إذن فكيف يقلق مضمونها الشريف بما يوهم النفي ويشوش الكلام. وان المخبر الذي يعرف كيف يتكلم لا يدخل على خبره ما يوهم نقيضه هذا مع اني لم أجد شاهدا ذكروه من الكلام على زيادة «لا» إلا قوله : وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل

ولو كان هذا من شعر العرب وكان المراد منه ما فهموه لجاز أن يضمر فيه وتأمرينني بأن لا أحبه أو وتدعينني إلى أن لا أحبه. ومن غرائبهم استشهاد بعضهم أيضا بقول الشاعر

٤٠