آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٤) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٥) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٦) فَبِما رَحْمَةٍ

____________________________________

بيده أمر الحياة والموت لا كما يزعمون بكفرهم. فكم من حاضر وهو في صحة ودعة قد أماته الله وكم من مسافر وغاز يقاسي الشدائد والأهوال ويرده الله سالما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) يا ايها الذين آمنوا أو يا ايها الناس (بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء منها ولا من وجوهها فاتقوا الله في اعمالكم ومنها أقوالكم ١٥٤ (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) لكان لكم الجزاء العظيم ووقع اجركم على الله ومن اجركم المغفرة والرحمة ومن ذا الذي لا يحتاج إليهما و (لَمَغْفِرَةٌ) من مصاديق المغفرة (مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) من مصاديق الرحمة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا ١٥٥ (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) يا ايها الناس (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وعدا مؤكدا بلامي القسم ولا تفوتونه بل يجازيكم بأعمالكم ان خيرا فخير وان شرا فشر. او ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله لإلى الله تحشرون وعليه تقدمون فيوفيكم أجوركم ١٥٦ (فَبِما رَحْمَةٍ) قال في التبيان ان «ما» زائدة جاءت مؤكدة للكلام وزاد في مجمع البيان بإجماع المفسرين. ودعواه الإجماع في غير محلها فقد حكى في التبيان عن الحسين بن علي المغربي ان «ما» بمعنى «أي» أي بأي رحمة. وحكاه ابن هشام عن جماعة وان أورد عليه ما لا يرد وفي حواشي المغني للشمني عن أبي البقا عن الأخفش وغيره وحكى نقله ايضا عن ابن كيسان. وقال السيد الرضي في حقائق التأويل ولأبي العباس المبرد مذهب انا اذهب اليه وهو انه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن الا لمعنى مفيد وقال الرضي ايضا ان «ما» معناها تفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم. ومرجعه إلى ما قاله الحسين واليه يرجع اختيار الرازي ان المعنى فبأي رحمة. والمقصود أيّ المفيدة للتفخيم كما تقول أيّ رجل هذا. وكثير ممن ذكرنا متقدمون على مجمع البيان وهم أساطين الفن وصيارفة اللغة والمرجع في أمثال ذلك. وقال الرازي في تفسيره قال المحققون دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام احكم الحاكمين غير جائز : وقال عنتر في معلقته

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت علي وليتها لم تحرم

فإن معنى «ما» معنى «اي» التعجبية لغرض التفخيم وكرامة قنصها بكرامتها ظاهر من

٣٦١

مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٧) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(١٥٨) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ

____________________________________

الشعر وقال الفند الزماني :

أيا طعنة ما شيخ

كبير يفن بال

إلى ان قال : تفتيت بها إذ ك

ره الشكة أمثالي

فإن قوله تفتيت بها يدل على ان «ما» للتعجب بتعظيم أمر الشيخ في طعنه وقال الفرزدق :

ناديت انك ان نجوت فبعد ما

يأس وقد نظرت إليك شعوب

أي بعد أيّ يأس شديد. هذا والذين رأيناهم يقولون بزيادة «ما» في الآية يقولون انها زيدت للتأكيد. أفلا قائل يقول لهم على أي وجه يكون التأكيد ولماذا يؤكد. نعم يجدون لها معنى لا تنطبق عليه قواعدهم القاصرة المستحدثة فيلتجئون إلى تسميته بالتأكيد (مِنَ اللهِ) عليهم بل على سائر البشر (لِنْتَ لَهُمْ) وصرت تحتملهم وتعطف عليهم في اختلاف آرائهم وأحوالهم ومما يصدر منهم مما لا يرتضى لكي ينضموا إليك ويهتدوا بهداك فيقام عمود الدين وتنتظم جماعة الإسلام وتنقمع شوكة الكفر والضلال (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) فسره في التبيان والكشاف بالجافي قاسي القلب وهو نحو من أنحاء ما ذكره اللغويون (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وتفرقوا عنك ولكنك على خلق عظيم وبالمؤمنين رؤوف رحيم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الذي يعرض أي واستصلحهم واستمل قلوبهم بالمشاورة. لا لأنهم يفيدونه سدادا او علما بالصالح. كيف وان الله مسدده (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(فَإِذا عَزَمْتَ) على ما أراك الله بنور النبوة وسددك فيه (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه ١٥٧ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ويكلكم إلى أنفسكم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) شبه جل شأنه في خذلانه لهم باستحقاقهم الخذلان بمن اعرض عنهم وجاوزهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) واليه يكون التجائهم ١٥٨ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) بفتح الياء والغلول هو الخيانة في الغنيمة. والمعنى لا يقع الغلول من الأنبياء وما وقع هذا من أحدهم

٣٦٢

وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٥٩) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

____________________________________

لأنهم معصومون وأمناء الله. وأورد في الدر المنثور روايات عن ابن عباس وفي تفسير البرهان عن الصدوق بسند فيه جهالة عن الصادق (ع) ان الآية نزلت في شأن قطيفة حمراء فقدت من الغنيمة يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول الله «ص». وفي الرواية عن الصادق «ع» فأظهر الله رسوله على القطيفة ونزلت هذه الآية. وفي الروايات عن ابن عباس تعارض (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويفضحه الله به من أول حشره (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي توفى جزاء ما كسبت عند ما يكون الحساب والجزاء فيوفى جزاء ما كسب من الغلول وغيره كما توفى كل نفس جزاء ما كسبت ان خيرا فخير وان شرا فشر تجزاه وافيا أي تاما ما لم يتب المذنب في الدنيا ويتوب الله عليه فيكون كمن لا ذنب له (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بجزاء المسيء بغير ما كسب ولا ينقص جزاء المحسن ١٥٩ (أَفَمَنِ اتَّبَعَ) في اعماله وأقواله وتروكه ودينه وانقياده بالطاعة والاقتداء والاهتداء والاتباع لمن جعل الله ولي امره وفي معاملته مع الناس ومداخلته في أمورهم الخاصة وما يعود إلى الهيئة الاجتماعية (رِضْوانَ اللهِ) بأن نظر في كل أمر من هذه إلى رضا الله فيه بحسب ما يدل عليه دين الحق وشريعة الله. ونور الحق المبرأ من الأهواء. ورشاد الفطرة وحاسب نفسه فيه وجعل رضوان الله مقصوده الأصلي ومتبوعه الوحيد الذي يسير به في نهج الحق والصراط المستقيم والسعادة العظمى. قال من رأينا كلامه من اللغويين والمفسرين الرضوان كالرضا مصدر رضي : لكن الظاهر من موارد الاستعمال كونه اسم مصدر وان معناه أوفر من معنى الرضا. وهل يكون المتبع لرضوان الله على ما ذكر (كَمَنْ باءَ) أي رجع بسوء اعماله ومعاصيه ونكوصه عن النهج القويم (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وصار بذلك عضوا فاسدا وبيئا في المجتمع البشري (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ولعمر الحق ان هذا التعليم الفائق على إيجازه ليضمن اتباعه وسلوك نهجه فضيلة الصلاح وفوز السعادة الفردية والاجتماعية وان كل تخلق بالأخلاق الحسنة لا تقوم حياته بروح الاتباع لرضوان الله انما هو كصورة المرآة وظل زائل ، وسراب خادع ، ولئن راقت صورته المموهة فإنما هو للهيئة الاجتماعية كالسم في

٣٦٣

(١٦٠) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ

____________________________________

الدسم : وحكى في التبيان ومجمع البيان والدر المنثور حمل الآية على موارد خاصة ولا مستند لذلك في مخالفة ظاهر الآية في العموم الا أقوال سعيد بن جبير ، والضحاك وابن جريح ومجاهد وفي تفسير البرهان عن الكافي بسند فيه ضعف وعن العياشي مرسلا عن عمار عن الصادق «ع» ان الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة عليهم‌السلام. والرواية لا تنهض حجة على الحصر. نعم هم صلوات الله عليهم في هذه الأمة اظهر الأفراد وأعلاهم درجة ١٦٠ (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) في التبيان والمجمع تقدير الآية هم ذووا درجات. المؤمنون ذووا درجات رفيعة والكفار ذووا درجات خسيسة وفي الكشاف نسب هذا إلى القيل «وقال قبله ولم يبين مرجع الضمير أي هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات» : يعني انهم شبهوا في تفاوتهم بالدرجات فأخبر عنهم بها على نحو الاستعارة كما يقال زيد اسد بالنظر إلى الشجاعة وهو باب من أبواب البلاغة واولى من التقدير وأظهر والرازي في تفسيره جعل عود الضمير على خصوص من اتبع رضوان الله اولى واستدل لذلك بوجوه اربعة لا تنهض حجة نعم في رواية عمار المشار إليها ما يقتضي ذلك بوجه آخر لو كانت حجة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ١٦١ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأنعم عليهم بالنعمة العظيمة (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ) ليبتدئ بهم بحسب الحكمة في الدعوة العامة لجميع البشر (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) اضافة الأنفس إليهم باعتبار العربية والقومية والنشأة معهم بحيث يكونون مطلعين على أحواله ووجوه كماله وملكاته الفائقة في الصدق والأمانة ونحو ذلك مما يقتضي ركون النفس اليه ويدعو إلى تصديقه والإقبال على الإيمان به. ويعرفون بكونه منهم لسانه ومحاوراته وينقادون اليه ولا تمنعهم نخوة العربية وعصبية القومية من ان ينقادوا اليه لو كان من غير العرب. فكان من عظيم اللطف بالعرب والمنة عليهم ان سهل عليهم طريق الإيمان برسول الله بجعله منهم فرفع بذلك ما يقتضيه جهلهم ونخوة القومية والعربية من المعاثر. ومن منه جلت آلاؤه ان جعل الدليل على الرسالة ومعجزها بلغتهم كما ذكرنا ذلك في المقدمة في حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن الكريم. فصار الرسول «ص» (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) آيات الله من القرآن فيفهمون معانيها واشاراتها بدون ترجمة تعسر عليهم (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ) بتلاوته

٣٦٤

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٢) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٣) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٤) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا

____________________________________

وتبليغه وخطبه ومواعظه وبيانه (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا) الواو للحال و «ان» المكسورة مخففة من المثقلة تفيد التأكيد والتحقيق لأنهم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل ان يبعث فيهم ويؤمنوا به (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من حيث المعارف والشريعة والأخلاق والصلاح والعدل والمدنية : يا ايها المسلمون من اصحاب احد بحسب نوعكم ١٦٢ (أَوَلَمَّا) خالفتم امر الرسول واخليتم مراكزكم للجهاد وانهمكتم بالغنيمة وفررتم ذلك الفرار و (أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) لم تكن اصابتكم في أول جهادكم وثباتكم مع عافية المشركين المحاربين لكم بل (قَدْ أَصَبْتُمْ) من المشركين (مِثْلَيْها) فقد قتل منهم في بدر واحد مثلي ما قتل منكم في يوم أحد. او ان مصيبة المشركين في يوم بدر بقتلاهم واسراهم مثلا مصيبتكم في يوم أحد (قُلْتُمْ) جواب لما (أَنَّى هذا) الذي أصابنا ومن اين جاءنا تقولون ذلك استيحاشا واستعظاما (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) إذ خالفتم الرسول وأسرعتم إلى الغنيمة. او إذ خالفتم الرسول كما رواه في الدر المنثور عن ابن عباس. او إذ طمعتم في وقعة بدر بفداء الأسرى وأنذركم رسول الله بأنه يقتل منكم بعددهم فرضيتم كما في الدر المنثور انه أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن علي امير المؤمنين عليه‌السلام وفي مجمع البيان وهو المروي عن الباقر «ع». ان الله قادر على ان ينصركم كنصر بدر وأعز منه كما رأيتم مظهر النصر في أول الحرب يوم احد (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٦٣ وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) من قتل وجراح (فَبِإِذْنِ اللهِ) وتقديره للحرب والجهاد في سبيله لينال الشهادة من فاز بها (وَ) فيه غاية اخرى وهي تمييز الطيب بجهاده من الخبيث بنفاقه ورجوعه من الجيش (لِيَعْلَمَ) ليثبت علمه الأزلي التابع ويقارن في استمراره وجود المعلوم (الْمُؤْمِنِينَ) الذين اتبعوا رسول الله للجهاد ١٦٤ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) وهم عبد الله بن أبي سلول واتباعه (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) عن قومكم وبلادكم وحفائظكم ان لم تكن لكم رغبة في

٣٦٥

قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٥) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٦) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٧) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ

____________________________________

الجهاد في سبيل الله (قالُوا) في التعلل والنفاق مع ان العدو نزل بعدته وعديده بساحتهم وهو يتغيظ حنقا. والقتال معلوم بمجاري العادة واحوال العرب (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) وكذبوا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ) بنفاقهم (أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق والتحيز للكفر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ١٦٥ الَّذِينَ) صفة للذين نافقوا (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي في شأن إخوانهم بحسب القبيلة والقومية (وَقَعَدُوا) الجملة اما حالية بإضمار «قد» على رأي البصريين والفراء او بعدم الإضمار على رأي الكوفيين والأخفش. واما معطوفة بالواو التي هي لمطلق الجمع أي قعدوا عن القتال ورجعوا من الجيش إلى المدينة (لَوْ أَطاعُونا) بالقعود وعدم الذهاب إلى الحرب (ما قُتِلُوا) وقولهم هذا يرجع إلى جحودهم لكون أمر الموت او القتل بيذ الله وبتقديره وقضائه بل ينسبونهما إلى اسباب يمكن دفعها والتحرز عنها. فكأنهم لا ينظرون إلى انه كم شجاع يقذف نفسه في وطيس الحرب ولهوات الموت ثم يرجع إلى اهله بإذن الله سالما. وكم من صحيح وادع في اهله قد طرقه الموت بإذن الله في مأمنه (قُلْ) يا رسول الله لهم في رد زعمهم ان كان الموت مما يستدفع ويتحرز منه (فَادْرَؤُا) وادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم ومغزى قولكم لو أطاعونا ما قتلوا ١٦٦ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) على ما يتوهم المتوهمون من بطلان ادراكهم وصيرورتهم كالجمادات. والخطاب صورته للرسول الأكرم ومنحاه تعليم الناس (بَلْ) هم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) القادر الرحيم (يُرْزَقُونَ) ما يتنعمون به في تلك الحياة السعيدة والعالم الحميد حال كونهم ١٦٧ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من النعيم ويعرفون احوال اهل الدنيا ويسرون بصلاحهم ونجاتهم به من استحقاق العقاب (وَيَسْتَبْشِرُونَ) عطف على فرحين (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ

٣٦٦

خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٦٨) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٩) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ

____________________________________

خَلْفِهِمْ) بالموت او الشهادة اي يستبشرون بسعادتهم بصلاحهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة اي بأن لا خوف عليهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في يوم الجزاء ١٦٨ (يَسْتَبْشِرُونَ) حال آخر كفرحين (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عليهم في نعيمهم (وَفَضْلٍ وَ) ب (أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) بل يوفيهم جزاءهم ١٦٩ (الَّذِينَ) مبتدأ (اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) إذ دعاهم الرسول إلى اتباع جيش المشركين في رجوعهم من حرب احد ارهابا لهم فلبوا دعوته (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بتلك النكبة وكثرة الجراح فتبعوهم مع رسول الله إلى حمراء الأسد وهو سوق للعرب على ثمانية أميال من المدينة ورجعوا ولم يلاقوا حربا(١)(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) اعمالهم في الحياة

__________________

(١) وعلى هذا اكثر ما وجدناه من حديث الفريقين كما هو المحكي عن اكثر المفسرين. والمأثور ان وقعة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة في يوم الأحد السادس عشر من شوال وخرجوا باستجابتهم إلى حمراء الأسد يوم الاثنين ومكثوا فيها إلى الأربعاء ثم انقلبوا على وجههم هذا إلى المدينة وقد تكرر في الأحاديث انهم خرجوا وهم جرحى من حرب احد «والوجه الثاني» ما في الدر المنثور عن ابن شهاب ومجاهد وعكرمة في احدى روايتيه ان الآية نزلت في خروج رسول الله بمن معه لموعد أبي سفيان في غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة. وفي التبيان روى ذلك عن أبي جعفر (ع) وفي مجمع البيان رواه ابو الجارود عن الباقر (ع). وابو الجارود ضعيف. والذي اعتمد عليه القمي في تفسيره هو الأول وكذا الشيخ في التبيان ونسب الثاني إلى القيل. وكانت غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة في شعبان في رواية الدر المنثور عن مغازي ابن عقبة ودلائل البيهقي وفي تاريخ ابن جرير عن ابن إسحاق. وفي ذي القعدة رأس الحول من وقعة احد عن الواقدي.

وقد كان ابو سفيان جعل الموعد مع رسول الله يوم احد لاعادة الحرب هو بدر في العام المقبل كما عن ابن إسحاق. وعن مجاهد قال ابو سفيان موعدكم بدر حيث قتلتم إخواننا. وسميت غزوة بدر الصغرى غزوة السويق لأن أبا سفيان وجيشه خرجوا من مكة للحرب فلما سمعوا باستعداد رسول الله (ص) للقائهم في الموعد فشلوا ورجعوا من «مجنة» من ناحية مر الظهران أو مما فوق ـ

٣٦٧

أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ

____________________________________

الدنيا ودار العمل أي جعلوا أعمالهم حسنة نحو قوله تعالى (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) الجملة خبر «الذين» وكم وكم ينبغي للإنسان ان يتحذر ويلازم التقوى ، ويراقب عاقبته ، ويحاسب نفسه في ايام عمره ويتحرى الإخلاص لله في اعماله فإن هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول في تلك الشدة وذلك القرح لم يجر شكر الاستجابة والوعد بالأجر لجميعهم على رسله بل قسمهم مفاد الآية في تبعيضها إلى اللذين أحسنوا منهم واتقوا وإلى عيرهم وخص الوعد بالأجر بالقسم الأول. فيكون الثناء والأجر في حقيقة الأمر في هذه الآية واللتين بعدها إنما هو للبعض وان كانت صورته جارية على نوعهم. كما جرى مثل ذلك في الآية الأخيرة من سورة الفتح في قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وذكر الثناء الجميل إلى أن قال جل وعلا (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فقسمهم بكلمة «منهم» ايضا ذلك التقسيم المرعب وكشف بتقسيم هاتين الآيتين عن حال الإطلاق او العموم في غيرهما وابان ان جريانه في نفس الأمر إنما هو على البعض لا الكل ويا للأسف وفي الكشاف ان «من» في «منهم» للتبيين مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا. وحكى ابن هشام في المغني نحوه عن ابن الانباري. ومن الغريب ممن يعد من النوابغ في النحو والعربية والخبرة بكرامة القرآن الكريم في فصاحته وبلاغته وكيف يخفى عليه انه يلزم في «من» التي لبيان الجنس ان يكون ما تبينه فيه إبهام في جنسه ويكون في مجرورها بيان يرفع ذلك الإبهام ويتكفل بإيضاح المراد ويصح ان يحمل على ما يبينه حملا مفيدا ببيانه. إذن فما ذا في قوله تعالى «منهم» من الإيضاح الجديد الرافع للإبهام وما هي الفائدة في البيان في قول القائل الذين أحسنوا منهم واتقوا : وحكى في تفسير المنار عن استاذه اختياره لكون «من» في الآية للتبعيض لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج إلى حمراء الأسد يعني ان الضمير في «منهم» يعود إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة أقول وهذا

__________________

ـ «عسفان» على نحو مرحلتين من مكة فسماهم اهل مكة جيش السويق ويقولون لهم انما خرجتم تشربون السويق.

٣٦٨

(١٧٠) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

____________________________________

لا يصح إذا كان الموصول وهو «الذين» في أول الآية مبتدأ لأن خبره وهو جملة «للذين» يبقى بلا رابط ولذا بنى التلميذ صحة ما قاله استاذه على نصب «الذين» على المدح وأقول ان النصب على المدح مبني على ان يكون الموصول وهو «الذين» صفة للمؤمنين نحو قول الخرنق بنت عفان من بني قيس :

لا يبعدن قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

وليس في هذا النصب على المدح عطف يدل على المغايرة. بل لو كان هناك عطف لما اقتضى المغايرة بل جرى على نهج قوله تعالى في سورة البقرة ١٧٢ (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) وفي سورة النساء ١٦٠ (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) إذن فيعود التبعيض والتقسيم إلى الذين استجابوا ومن أين يعرف؟ ان «الذين» هنا منصوب على المدح فيتأمل في كلام صاحب المنار واستاذه في هذا المقام. وليت شعري ما هذا التكلف في تفسير الآية مع اجماع الأمة على انه ليس كل الصحابة معصومين ١٧٠ (الَّذِينَ) بدل من «الذين» التي هي مبتدأ باعتبار البعض او من المجرورة باللام باعتبار الكل وهو الأظهر (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي بعضهم. قيل ركب من التجار وقيل نعيم بن مسعود الأشجعي (١) وفي التبيان والمجمع وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله اي الباقر والصادق عليهما‌السلام(إِنَّ النَّاسَ) اي المشركين (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) جندا لحربكم (فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) بالله ودين الحق ووجوب نصره والجهاد في سبيله او بوعده بالنصر (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) ناصرا على جموعهم (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) عليهم وفي التبيان والمجمع والكشاف الذي يوكل اليه الأمر. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي رافع ان النبي (ص) وجه عليا (ع) في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم اعرابي من خزاعة

__________________

(١) قبل إسلامه وهو الذي القى التخاذل بين بني قريضة وبين جيش الأحزاب من قريش وغطفان واتباعهم في السنة الخامسة في شوال وبعد ذلك اظهر إسلامه كما هو مأثور في تاريخ غزوة الأحزاب والخندق.

٣٦٩

(١٧١) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٢) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ

____________________________________

فقال ان القوم قد جمعوا لكم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية أقول ويمكن ان يكون امير المؤمنين (ع) مع النفر كانوا في مقدمة الطلب أو طلبوهم من حمراء الأسد ١٧١ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) ولا تخفى دلالة التفريع بالفاء على ان هذا الانقلاب بالنعمة والفضل كان من المسير الذي استجابوا به لله والرسول كما ذكر في الآيتين السابقتين فلا وجه ولا صحة لجعل المراد بالاستجابة هو المسير إلى حمراء الأسد والمراد من الانقلاب بالنعمة والفضل هو الرجوع من غزوة بدر الصغرى في العام الثاني كما في الرواية التي ذكر في الدر المنثور انها أخرجها النسائي وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس وجرى تفسير الكشاف على نهجها في التفريق على خلاف التفريع في الآية الكريمة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من حرب او نكبة (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في استجابتهم هذه. وهنيئا لمن دام على الإحسان والتقوى كما شرطه الله ففاز بسعادة الأجر العظيم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ومن فضله وفقوا لهذه الاستجابة وانقلبوا بنعمة منه وفضل ١٧٢ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) هذا تشجيع للمؤمنين على الاقدام على الجهاد وحاصله ان الذين أرادوا ان تخافوا المشركين بقولهم ان الناس قد جمعوا لكم انما نشأ من تسويل الشيطان ودسائسه في ترويج الضلال فإنه يخوف المؤمنين أولياءه الضالين حماية منه للكفر والضلال (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) تتعدى خاف إلى مفعول واحد تقول خفت الكلب وتتعدى بالتشديد إلى مفعول ثان كما تقول خوفني عمرو الكلب وقد يحذف المفعول الثاني كما تقول خوفني عمرو وقد يحذف المفعول الأول كما تقول خوف عمرو الكلب وكما في الآية فهي كما إذا قيل يخوفكم أولياءه كما يروى من قراءتي ابن عباس وابن مسعود ولكن لفظ «يخوف» في القراءة العامة أعم وأتم من الفائدة في مقام الذم لإبليس وعموم تخويفه للناس أولياءه وعموم أوليائه في النهي عن خوفهم بنحو يفيد البشرى بالأمن من شرهم لا خصوص قريش (فَلا تَخافُوهُمْ) أي اولياء الشيطان فإن الله ناصركم كما وعدكم ليقطع طرفا من الذين كفروا او يكتبهم فينقلبوا خائفين (وَخافُونِ) فإن السعادة في خوف العبد ربه

٣٧٠

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٣) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٤) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ

____________________________________

وتقواه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله ووعده بالنصر وانه يجب ان يطاع في امره ونهيه وانه مالك أمر النفع والضر ، شديد العقاب واليه يرجعون : يا رسول الله ١٧٣ (وَلا يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي يجيء «يحزن» بفتح الياء والزاي للقاصر وبضم الزاي للمتعدي وفي المصباح وهي لغة قريش أقول وعليها استعمال القرآن الكريم كما في هذه الآية وثمانية موارد من سائر السور وعلى هذه اللغة جاء محزون في اسم المفعول في اللغة العامة. والحزن معروف (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ويقتحمون جامحين في وجوه ضلاله ونزغات غيه من دون تريث في اتباع الهوى ومحادة الله والتمرد عليه ولا ترو للنظر في حجج الإيمان ودلائل الحق ، ولا إصغاء إلى داعي الهدى. ومن المعلوم ان هؤلاء وأمثالهم قد خرجوا بتمردهم عن اهليتهم للطف الله ورحمة الرسول فلا يحزن الرسول رحمة لهم بل يحزن لمحادتهم لله وتمردهم على الإيمان به ولذا كانت تسلية الله لرسوله بقوله جل اسمه (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فإن الله غني عن العالمين و «شيئا» واقع موقع المصدر أي شيئا من الضرر ولوقوعه في حيز النفي يفيد العموم. ولأجل ما ذكر من تمردهم ومسارعتهم في الكفر خرجوا عن اهلية اللطف وحرموا أنفسهم خيره فلأجل ذلك (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) أي نصيبا من الخير (فِي الْآخِرَةِ) أي يريد حرمانهم وعبر بالارادة تأكيدا لبيان وقوع الحرمان بأنه تعلقت به ارادة الله وما ربك بظلام للعبيد (وَلَهُمْ) فوق ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) جزاء بما كانوا يكفرون ١٧٤ (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) بعد ما اتضحت حجج الحق وبراهين الإيمان من الفطرة والآيات ودعوة الرسول ونور الدلالة فكان الإيمان بعد ذلك كأنه في حوزتهم فرغبوا فيه وتركوه واختاروا الكفر كما يرغب المشتري عن الثمن ويستبدل به المبيع الذي يرغب فيه. ويحتمل ان يراد منهم في هذه الآية أولئك المسارعون في الكفر فتكون الآية تأكيدا للتي قبلها في الأمر الذي يناسب الحال تأكيده. ويحتمل ان يكون المراد من يعم أولئك المسارعين ومن هو دونهم في التمرد فتفيد الآية عموما وتأكيدا في ضمنه ولعله اظهر (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ١٧٥ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ)

٣٧١

عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٥) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٦) ما كانَ اللهُ

____________________________________

في أعمارهم وترخي لهم في آجالهم لا نعاجلهم بالعقوبة والإهلاك (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اي لكل واحد بحسب نفسه التي هي أعز الأنفس عليه وأولاها بطلبه الخير لها. وليجري الكلام على هذا النص فلا يوهم ان الخير وازدياد الإثم يرجعان إلى المجموع كما لو قيل «لهم» (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) اللام في «ليزدادوا» للعاقبة مثلها في قوله تعالى في سورة القصص ٧ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) والحصر في «إنما» إنما هو باعتبار العاقبة وان الاملاء لهم ليس في عاقبته ما داموا على الكفر خير (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يرون به هوانهم بما كفروا ١٧٦ (ما كانَ اللهُ) في الآية بحسب الأقوال وجوه «الاول» في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ان الخطاب في هذه الآية للكفار وذكر احتمال ذلك في التبيان وكذا في مجمع البيان بنحو تشويش. ولم يذكره في الكشاف وتفسيري الرازي والمنار من اسناده فكأنهم لم يعتنوا به. ومقتضى تفسير أبي السعود ان مختار المحققين غيره. وعليه يكون المعنى يا ايها الكافرون ما كان الله بحسب لطفه بعباده ان يتركهم بلا إرسال رسول ولا دعوة حق ويذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر بل يقيم الحجة وينير البرهان فيؤمن الطيبون وان عاند أشقياء الضلال وطواغيت الكفر فيميز بذلك الخبيث بضلاله من الطيب الذي يختار هدى الإيمان وربما يستشهد لهذا الاحتمال بقوله تعالى في الآية الثانية في طرد الخطاب (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ولكن لا شهادة في ذلك إذ قد جرى أمثاله في خطاب المؤمنين كما في سورة النساء ٥٨ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ١٣٥ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ومحمد (ص) بعد خطاب الذين آمنوا في الآية الثانية وثلاثين ٣٥ (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) والأنفال في خطاب المؤمنين بخمس الغنائم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) وغير ذلك. مضافا إلى ان الظاهر في خطاب القرآن كونه خطابا للمؤمنين وحمله على غيرهم يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة فضلا عن كون السياق في الآيات المتقدمة لخطاب المؤمنين «الوجه الثاني» ان يكون الخطاب للمؤمنين والمراد بالخبيث هم المنافقون كما حكاه في التبيان والمجمع وقال به في الكشاف وبعض

٣٧٢

لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ

____________________________________

كتب التفسير «وعليه» فإن أريد من المنافق هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر من حينه لم يوافق ذلك اصطلاح القرآن الكريم فإنه يجعل المنافقين قسما مقابلا للمؤمنين لا قسما منهم كما في قوله تعالى في هذه السورة ١٦٦ (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) وسورة العنكبوت ١٠ (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) والأحزاب ٧٢ (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والحديد ١٣ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا). «الثالث» وهو الأظهر الأقرب ان يراد بالخبيث هو من تشرف حينئذ بالإيمان ثم يتمرد بكبائر المعاصي والعظائم لأنه كان سلس القياد للهوى والشيطان فيسرع إلى موبقات الآثام والارتداد والانقلاب على الأعقاب والبغي والفساد في الأرض والمروق من الدين فينشأ خبثه عن الامتحان فيكون معنى الآية. ما كان الله وليس من شأنه الكريم وحكمته ولطفه (لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) مطلقا وهم المتشرفون بصفة الإيمان (عَلى ما أَنْتُمْ) ايها الموجودون حين الخطاب من المؤمنين (عَلَيْهِ) من اشتباه الحال في الظاهر (حَتَّى) تصدر أوامره ونواهيه بلطفه وحكمته بالشريعة وأساسياتها في سعادة البشر وإكمال الدين وإتمام النعمة والنظام الصالح ويجري مقاديره بحسب الحكمة فيما يكون عاقبته الابتلاء والامتحان فتسرع النفوس الأمارة التي لم تروض الى اختيارها خبث التمرد والجماح في الغي. ومن آثار ذلك ان (يَمِيزَ الْخَبِيثَ) باسراعه في اختياره لما أشرنا اليه من موبقات الآثام : يميز بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء مضارع ماز بمعنى فرق وبين (مِنَ الطَّيِّبِ) الدائب على طاعة الله واتباع الحق ومخالفة الهوى. ويؤيد هذا الوجه ما في تفسير البرهان عن العياشي عن عجلان بن صالح عن الصادق (ع) (وَما كانَ اللهُ) ولا يليق بحكمته ولطفه وجلال شأنه (لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) في شؤون الشريعة وما أشرنا اليه من أساسياتها وموارد الامتحان لأن ذلك مقام كبير لستم أهلا له بل يخل ذلك بجامعتكم وشؤون الإسلام وان الاعلام بهذا الغيب إنما يليق بحسب الحكمة بمقام الرسول والله أعلم حيث يجعل رسالته ممن هو أهل بكماله الاختياري لها (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) بحسب اهلية الرسول واقتضاء المصلحة وحكمته جلت آلاؤه

٣٧٣

فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ

____________________________________

لا بالجبر على اجتباء من لم يكن أهلا ولا تقتضي الحكمة اجتباءه. قال في التبيان و «من» هنا لتبيين الصفة لا للتبعيض لأن الأنبياء كلهم مجتبون انتهى يريد بذلك انها لتبيين جهة الاجتباء بتبيين جنس المجتبى كما في قوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ). (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وكما في قولك عندي عشرون من الدراهم إذا قصدت بالدراهم جنسها المعروض للجمع والعدد دون ما إذا قصدت بها دراهم معينة هي اكثر من عشرين كما أوضحه الشيخ الرضي في شرح الكافية. ولم أجد عاجلا من صرّح بالتبيين هنا في غير التبيان وإن لاح من كلام بعضهم. وان كانت «من» للتبعيض يكون الاجتباء إنما هو بما يفضل به بعض الرسل على بعض لا بأصل الرسالة ويكون المعنى والله يجتبي من بين رسله من يشاء منهم ويفضله بمقام ممتاز من علم الغيب والكرامة ولكن هذا المعنى لا يناسب السياق ولا التفريع بقوله تعالى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيما جاؤا به عند الله لأن الله اجتباهم لذلك (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٧ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فيما أوجبه الله من الإنفاق (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وفي ذلك احتجاج على الباخلين فيما فرضه الله بأن ما يبخلون به إنما هو من عطاء الله والفاضل الزائد على حاجتهم الفعلية (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) «خيرا» مفعول ثان ليحسبن والمفعول هو البخل المدلول عليه بقوله تعالى (يَبْخَلُونَ) أو الذي بخلوا به مما آتاهم الله وعلى كل تقدير يجلوه لمقام مفعوليته وتقديره ضمير الفصل «هو» فلا يقولوا انا حفظنا أموالنا لخيرنا ومنافعنا (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) لما في ذلك من خسة المعصية ورذيلة الشح وسوء الظن بالله ووبال العقاب وحرمان الثواب وخسران فضيلة الطاعة وحسن السماحة والرحمة والاعانة في المجتمع. وفسر ذلك بمنع الزكاة كما رواه في تفسير البرهان عن الكافي في صحيحة محمد بن مسلم وعن الكافي ومجالس الشيخ في معتبرة أيوب ابن راشد عن الصادق (ع). وعن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) وعن ابن سنان عن الصادق عن آبائه عن رسول الله عليهم‌السلام وعن يوسف الطاهري عن الصادق (ع). ورواه في الدر المنثور مما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله (ص). وأخرجه احمد وعبد بن حميد والترمذي ، وصححه. وابن ماجه والنسائي وابن جرير وابن خزيمة وابن

٣٧٤

سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٧٨) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ

____________________________________

المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي (ص) وما أخرجه جماعة وصححه الحاكم ايضا من الحديث الآخر عن ابن مسعود عن النبي (ص). وروى في الدر المنثور ايضا روايات أخر تفسير الآية بغير هذا المعنى ولا اعتداد بها خصوصا ما كانت في البخل على ذي الرحم فإنها لا تناسب التشديد والإنذار بقوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وفيما أشرنا اليه من أحاديث الفريقين ما معناه ان الله يجعل عقاب ذلك ثعبانا في عنقه مطوقا به ينهش به. وما هو من نحو هذا المعنى. فلما ذا يبخلون ولماذا يدخرون وهم عن قريب فانون وتاركون لما بخلوا به (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١٧٨ لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) في الدر المنثور عن ابن عباس من طريق عكرمة ان القائل لذلك «فنحاص» قال ذلك لأبي بكر لما دخل بيت المدارس على اليهود. وعن ابن عباس ايضا من طريق سعيد بن جبير ان اليهود أتوا رسول الله (ص) لما أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فقالوا أفقير ربنا يسأل عباده القرض. فأنزل الله الآية. وبين الروايتين تعارض وفيهما جهات أخر. وفي تفسير القمي قال «رأوا اولياء الله فقراء فقالوا لو كان الله غنيا لأغنى أولياءه» ولا تعرف نسبة هذا النقل الى إمام والله العالم نعم يعرف مما بعد الآية ان القائلين من اليهود (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنحفظ في الثبوت ما قالوا ليلاقوا نكال جزائه. وهذا أبلغ في الوعيد من أن يقال «كتبنا ما قالوا» لأن الكتابة في الماضي ربما تحتمل العفو والتفكير (وَ) نكتب (قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) نسبة قتل الأنبياء إليهم اما باعتبار القبيلة أي ونحفظ على قومهم الذين هم مثلهم في التمرد قتلهم الأنبياء والقوم أبناء القوم. او باعتبار رضا هؤلاء بقتل أسلافهم للأنبياء فيحفظ عليهم إثمهم ونسب إليهم القتل باعتبار القبيلة والأسلاف. ففي الكافي بسند عن مروك عن رجل عن الصادق (ع) ان بين القائلين ان الله عهد إلينا وهم (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) وبين القائلين للأنبياء خمسمائة عام «وأظن ان هذا التقدير على سبيل المثال في الكثرة أو ان الأصل الف وخمسمائة عام»

٣٧٥

وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٧٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٠) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ

____________________________________

فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا ونحوه روايات العياشي عن سماعة وعن معمر وعن محمد بن هاشم عمن حدثه عن الصادق (ع). وفي الدر المنثور ذكر من اخرج عن الشعبي مثل ذلك وعن العلا بن بدر انه سأل عن نسبة قتل الأنبياء إليهم وهم لم يدركوا ذلك فقال بموالاتهم من قتل أنبياء الله (وَنَقُولُ) لهؤلاء (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ١٧٩ ذلِكَ بِما) اي بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ) بفتح الهمزة وتشديد النون (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن الله لا يظلم عباده بعد ان اقتضت حكمته ورحمته ان يخلقهم مختارين في أفعالهم بأن لا يجعل لهم رادعا نوعيا عن الشر من النهي والوعيد والجزاء. او بأن الله لا يظلم من له الحق بل لا بد من ان يجعل له ما يتشفى به من عقاب الجاني او يعوضه عنه لكن الجاني هنا ليس أهلا للتعويض عنه. او بأن الله ليس بظلام يساوي بين الأنبياء وقتلتهم في السلامة يوم القيامة والنجاة ١٨٠ (الَّذِينَ) بدل من «الذين» في الآية المتقدمة (قالُوا) كذبا وافتراء (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) الظاهر ان مرادهم من يدعي الرسالة لا من يعترفون برسالته ويعلقون الإيمان به على ما قالوه. بل قالوا «برسول» مداهنة ومغالطة في الكلام (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) ليدل ذلك باعجازه على صدقه في دعواه الرسالة. في تفسير القمي كان عند بني إسرائيل طست كانوا يقربون القربان فيضعونه في الطست فيجيء نار فتقع فيه فتحرقه. وفي الدر المنثور عن ابن عباس في حديث فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء فأكلته. وهذا وان كان قاصرا عن الحجية لكن ظاهر الآية يقارب الصراحة بأن أكل النار للقربان إنما هو من نحو المعجز الخارق للعادة لا من إحراق البشر له بالنار. وفي صحيح الكافي بسنده عن الباقر (ع) في قصة ابني آدم المذكورة في الآية الثلاثين من سورة المائدة كما عن العياشي في تفسيره قوله عليه‌السلام كان القربان تأكله النار. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة في حديث فنزلت النار فأكلت قربان هابيل. واخرج ابن جرير ايضا عن ابن عباس في حديث فجاءت النار فنزلت فأكلت الشاة : أقول وهذا غير مستحيل عقلا وان كان

٣٧٦

خارقا للعادة (١) ١٨١ (قُلْ) يا رسول الله في بيان كذبهم في كلامهم من انهم يؤمنون بالرسول

__________________

(١) لكن صاحب المنار عدل عما ذكرناه من ظهور الآية المقارب للصراحة وفسرها بما حكاه عن استاذه من قوله يجوز وهو الأظهر ان يكون المعنى ان يفرض «أي في شريعته» علينا تقريب قربان يحرق فقد كان في احكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان بالنار انتهى والتلميذ قبل ذلك في استشهاده ذكر التسعة اعداد الأول من الفصل الأول من سفر اللاويين الى ان قال فمن هنا تعلم انهم كانوا يوقدون النار بأيديهم ويحرقون بها القرابين ولكن اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين اخبارا من خرافاتهم او مخترعاتهم ليودعوها «يعني المسلمين» في كتبهم ويمزجوها بدينهم ولذا تجد في كتب قومنا من الإسرائيليات ما لا أصل له في العهد القديم ولا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن اوائلنا في التفسير وغيره ويرفعه عن النقد والتمحيص ولا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب بني إسرائيل انتهى فلينظر من الجزء الرابع من تفسيره في الصفحة ال ٢٦٧ و ٢٦٨ وليت شعري إذا كانت التوراة الرائجة تعلم منها الأمور ويستشهد بها كما استشهد وأن تمام التمحيص يكون لمن اطلع على كتب بني إسرائيل فلما ذا لم يمحص آراء التجدد ويرفعها إلى النقد بما صرحت به هذه التوراة وكتب العهد القديم من نزول النار من السماء او خروجها من الصخرة بالنحو المعجز الخارق للعادة فتحرق القربان وتأكله كما تذكر انه جرى هذا الخارق للعادة لموسى وهارون كما في العدد الرابع والعشرين من الفصل التاسع من سفر اللاويين. ولجدعون كما في العدد الحادي والعشرين من الفصل السادس من سفر القضاة. ولداود كما في العدد السادس والعشرين من الفصل الحادي والعشرين من سفر الأيام الاول. ولسليمان كما في العدد الأول من الفصل السابع من سفر الأيام الثاني. ولا يليا كما في العدد الثامن والثلاثين من الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول.

ومما يلزم الالتفات اليه هو ان الآية والتي بعدها لا يخفى من سوقهما كما يقتضيه حال هؤلاء الكاذبين المكذبين المتمردين القائلين «ان الله عهد إلينا ان لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار» انهم يريدون بقولهم هذا ان يتعللوا ويستريحوا من دعوة الرسول بأن يعلقوا إيمانهم على أمر يعتقدون بعنادهم انه بعيد إذن فكيف يعلقونه على تشريع إحراق القرابين. فإنهم ان كانوا يعرفون انه رسول الله ويعاندون دعوته تعصبا لم يأمنوا ان يأتي في شريعته بإحراق القرابين وان كانوا يكذبونه لم يأمنوا ان يشرع بزعمهم كذبا ومصانعة لهم. وايضا ان الذي جاءهم وفرض عليهم تقريب قربان يحرق إنما هو موسى على ما تقول التوراة الرائجة ولم يقتل. والقرآن يقول ان الذين جاؤوا بقربان تأكله النار وقتلوهم هم رسل متعددون فلا مساغ لصرف الآية عن ظهورها ـ

٣٧٧

(١٨١) قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(١٨٢) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٣) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٤) لَتُبْلَوُنَّ

____________________________________

الذي يأتيهم بما قالوه ودع كذبهم بأن الله عهد إليهم ما زعموه (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) بالمعجزات (بِالْبَيِّناتِ) الدالة على صدقهم في ادعائهم الرسالة ودعوتهم الصالحة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان الذي تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي قتلهم اسلافكم والقوم أبناء القوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم ان الله عهد إليكم وانكم تجرون على عهد الله وتتبعون البينات وعهد الله في الإيمان. هذا ولم اعرف من الحديث من هم الرسل الذين جاؤوا بقربان تأكله النار وقتلهم بنو إسرائيل ١٨٢ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا رسول الله مع ما جئت به من الحجج الباهرة والكتاب المنير فهذا دأب الضالين (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) في حججهم والمعجزات (وَالزُّبُرِ) قيل انها الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) بشرائعه ومعارفه وحكمه ١٨٣ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وفي ذلك تسلية لرسول الله والمؤمنين فإن دنيا هؤلاء الضالين فانية وليس عليكم من أوزارهم من شيء (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الخطاب للمؤمنين كما يتضح من الآية الآتية وفيه بشرى للمؤمنين بأن التوفية بالجزاء التام انما هي في الأجر واما جزاء ما يتفق من السيئات فهو معرض للمسامحة والتكفير والغفران لمن يشاء الله (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي نخي عنها (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) وليس الإدخال في الجنة قيدا زائدا إذ لا واسطة بين الجنة والنار بل المراد انه من يزحزح عن النار يكون من اهل الجنة (فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) التي هي قبل الموت (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي متاع زائل يغتر به المغترون ١٨٤ (لَتُبْلَوُنَ) بلاه وابتلاه بمعنى واحد ويجيء في الخير والشر كما في سور الأعراف ١٦٧ والأنبياء ٣٤ والنمل ٣٩ والفجر ١٤ و ١٦ ومعناه ان يورد عليهم في هذه الحياة الدنيا تكاليف

__________________

الواضح. رقد الجاني الحال إلى ذكر هذا وأمثاله فإني رأيت بعض الناس يمشون في خوارق العادة وراء النزعة العصرية فتنبث من كلماتهم بذور سيئة في منابت السوء

٣٧٨

فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٥) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا

____________________________________

على مقتضى المصالح وتعريضهم للسعادة ومقادير على حسب ما اقتضت الحكمة ان يقدر في هذه الدنيا الفانية من الأسباب. ويكون من غايات ذلك ان تظهر في الوجود اعمالهم في الطاعة والكمال أو في المعصية والشقاء (فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي مشركي العرب (أَذىً كَثِيراً) من شر كلامهم كما يؤثر من كلام بعض اليهود وبعض المشركين وتحريضهم على حرب المسلمين (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) وتمسكتم بالطاعة لله ولم تجزعوا جزعا يبلغ الإثم والأظهر ان يراد مطلق التقوى اللازمة كمطلق الصبر فيما يرد عليهم من التكاليف والمقادير وما يسمعونه من الأذى (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يقال عزم الأمر بنصب الأمر على المفعولية كقوله تعالى في سورة البقرة ٢٢٧ (عَزَمُوا الطَّلاقَ) و ٢٣٥ و (لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ، والعزم يرجع إلى عقد الضمير والجزم في العمل والظاهر انه في الآية من اضافة المصدر إلى مفعوله وان المراد ان الصبر والتقوى يحتاجان إلى حزم وبصيرة وقوة في الإرادة ورسوخ في الفضيلة وثبات في الكمال تؤدي إلى العزم والجزم والعمل ١٨٥ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ومن ذلك بشراه برسول الله وقرآنه كما أشرنا اليه مرارا (فَنَبَذُوهُ) القوه وطرحوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن انهم اعرضوا عنه وتركوه ولم يعملوا به ولم يبينوه وعملوا به ما هو أشد من الكتمان (وَاشْتَرَوْا بِهِ) واستبدلوا به (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا أو نزعات الأهواء (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) إياه ذلك الثمن الخسيس ١٨٦ (لا تَحْسَبَنَ) الضلال المضلين (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) به (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) وهذه الصفة منهم تدل على انهم كانوا يفرحون بما أتوا به مما هو رياء أو تشريع فيزيدون على فساده برذيلة العجب. وروى في الدر المنثور في اسباب النزول ومعنى الآية ما الله أعلم به. والمفعول الثاني ل «تحسين» محذوف للتهويل ولأن يقدره

٣٧٩

فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٧) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٨) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٨٩) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

السامع بما يليق بهؤلاء من ذمهم. وهذا باب من أبواب البلاغة ذكرنا شواهده صفحة ٨١ و ٨٢ ثم فرع على ما أشير اليه من خستهم في الدنيا بعاقبتهم السيئة في الآخرة بقوله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فسر المفازة في التبيان ومجمع البيان والكشاف بالمنجاة وذكر اللغويون في معاني الفوز النجاة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تأكيد في الأخبار بعذابهم والوعيد لهم ١٨٧ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وما فيها من الموجودات وذلك يعم جميع العالم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٨٨ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الذين يلتفتون بقلوبهم وعقولهم إلى ما في ذلك من وجوه الحكم الدالة على انها من صنع الإله الحكيم الواحد القادر وقد تقدم شيء من الإشارة إلى ذلك في الصفحة ١٤٣ و ١٤٤ وفي تفسير الآية السادسة والعشرين من هذه السورة ١٨٩ (الَّذِينَ) صفة لأولي الألباب (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) جمع قائم وهو حال (وَقُعُوداً) جمع قاعد وهو حال ايضا (وَ) مضطجعين (عَلى جُنُوبِهِمْ) إلى الدائبين في ذكر الله في جميع أحوالهم فعن امالي المفيد وأمالي الشيخ عنه بسند جيد عن الباقر (ع) لا يزال العبد في صلاة ما كان في ذكر الله قائما او جالسا او مضطجعا ان الله يقول وتلا الآية. وفي الكافي عن الباقر ايضا قال في الآية الصحيح يصلي قائما وقعودا «أي بالقيام والقعود كالقعود بين السجدتين وللتشهد والتسليم» والمريض يصلي جالسا وعلى جنوبهم المريض الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلي جالسا انتهى والمراد من ذلك بيان بعض المصاديق لكن في الدر المنثور مما أخرجه الفريابي وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في الآية إنما هذا في الصلاة إذا لم يستطع قائما فقاعدا وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبيه (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما في ذلك من عجائب الصنع وآثار القدرة والحكم الباهرة معتبرين بذلك وموقنين انه من صنع الإله القادر الحكيم شاهدين ومعترفين لله

٣٨٠