آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٩٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ

____________________________________

وانقطاعه اليه ليمنعه ويحفظه بهداه وتوفيقه من محاذير الضلال واتباع الهوى والنفس الأمارة وموبقات المعاصي والأخلاق الذميمة ، ومهالك غضب الله ، وحرمان لطفه وتوفيقه ورضاه والمحقق لهذا الاعتصام بعد مخالفة الهوى والنفس الأمارة هو اتباع دلالة العقل والفطرة وما جاءت به رسل الله في معرفته مع النظر في آياته واتباع مدلولها والإيمان برسله وكتبه. وفي حال الخطاب هو الإيمان بخاتم النبيين وقرآنه واتباعهما فيما جاءا به وبلغه رسول الله حق الاتباع ومن جرى على هذا الاعتصام (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وان هذا الاعتصام لصراط مستقيم يؤهل العبد الى توفيق الله له لسلوك الصراط المستقيم ٩٨ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوا غضبه وما يخاف منه بطاعتكم له (حَقَّ تُقاتِهِ) جاء في سورة البقرة ١١٥ (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ). والأنعام ٩١ والحج ٧٣ والزمر ٦٧ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). والحج ٧٧ (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ). والحديد ٢٧ (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). فالمعنى ما يحق ويليق بجلاله من تقاته ويكون نصب «حق» على النيابة عن المفعول المطلق المضاف اليه لأنه من صفاته. وفي تفسير البرهان عن معاني الاخبار ومحاسن البرقي في الصحيح عن الصادق (ع) يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، ونحوه عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن علي (ع) وفي الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوه منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود. وأخرجه الحاكم ايضا وصححه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (ص) ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ، ومن المعلوم ان الله لا يكلف العبد في مفردات التكاليف بما لا يقدر عليه ولا يجمع عليه منها ما هو فوق ما يقدر عليه ولا يستطيع الإتيان بجميعه. إذن فحق تقاة العبد لله أن يتقيه في جميع ما الزمه به أو كما ذكرت الروايات المتقدمة. وان التكليف الذي هو لطف بالعباد لتكميلهم لا يتنازل عن هذا المقدار والإلزام لا يتساهل فيه. نعم قد يقتضي اللطف والتيسير أو عدم القدرة والاستطاعة من أول الأمر أن لا يكلف ببعض الأفعال او التروك وإن كانت من سنخ الواجبات. وعليه لا يكون الارتكاب لها مما ينبغي أن يتقى الله ويخاف من أجله. وعن قتادة والسدي والربيع ان قوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) منسوخ بقوله تعالى في سورة التغابن ١٦ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كما ذكر روايته في الدر المنثور عن قتادة والربيع. وذكر

٣٢١

وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٩٩) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً

____________________________________

ايضا من اخرج رواية ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. كما ذكر من اخرج عن ابن عباس انها لم تنسخ. وفي التبيان في النسخ قوله وهو المروي عنهما. وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وعن أبي عبد الله (ع). أقول ولم أجد الرواية عن الباقر (ع) نعم عن العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) انها منسوخة بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). والعياشي لم يذكر الواسطة بينه وبين أبي بصير. والمعروف عن العياشي انه يعتمد على الضعفاء وعلى كل حال لا بد من طرح الرواية او تأويل النسخ فيها بنزول المفسر الذي يرفع ما يتوهمه البعض بالنظر السطحي من ان حق التقاة المكلف به ما فوق الاستطاعة. والعجب من الشيخ حيث أشار في تبيانه الى الرواية في مقام سنخ وهو العارف بحقيقة النسخ واشتراط القدرة والاستطاعة في التكليف وتنزيل الاستطاعة في آية التغابن على الاستطاعة العرفية مع انه مخالف لسوق الآية يوجب التهاون بأمر التقوى (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يمكن أن يراد بالإسلام هنا حقّ التقاة وهو الدخول في سلم الله بالطاعة وعدم المحادة له بالمعصية دائما. وهو أمر يمكن أن لا يتصف به المؤمن بالله والرسول ويوم القيامة فالمراد من الآية دوام الاتصاف بهذه الصفة الكريمة حتى الموت وان لا يموتوا إلا وهذه صفتهم الدائمة وسجيتهم المستمرة ومن ذلك طاعة الرسول ومن أمر الرسول بطاعته وموالاته والتمسك به كما اشارت اليه رواية البرهان عن العياشي عن الحسين ابن خالد عن الكاظم (ع). ويمكن أن يكون المراد من الإسلام ما يخالف الكفر ويساوق الإيمان في المعنى فيكون المراد هو الاتصاف بهذه الصفة حتى الموت. والأول اظهر بحسب السوق والأمر بالتقوى حق التقاة. والثاني أنسب بالمعنى المتداول للإسلام ويمكن توجيه التناسب فيه بكون المعنى لازموا التقوى حق التقاة ليندحر عنكم الشيطان ولا تعصوا الله فيطمع فيكم الشيطان ويصرفكم عن الإيمان ولو عند الموت. وفي هذا التخريج نوع تكلف ٩٩ (وَاعْتَصِمُوا) من السقوط (بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي حال كونكم مجتمعين على الاعتصام بحبل الله وما جعله الله سببا عاصما من سقوط الضلال ووباله. وقد دلنا رسول الله (ص) على ما هو من مصاديق هذا السبب والحبل الذي لا يضل من تمسك به بقوله (ص) في حديث الثقلين «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا ـ كتاب الله وعترتي اهل بيتي» واستعير لفظ الحبل في

٣٢٢

وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(١٠٠) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

____________________________________

الآية للإشارة الى ان عدم الاعتصام به يوجب السقوط في مهواة الضلال والهلكة (وَلا تَفَرَّقُوا) عن حبل الله والاعتصام به (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي ولتكن نعمة الله المذكورة على ذكركم دائما فإن لكم فيها موعظة وعبرة تدعوكم الى الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وتزجركم عن التفرق عنه. وذلكم (إِذْ كُنْتُمْ) في جاهليتكم (أَعْداءً) بحسب قبائلكم بل والكثير من آحادكم (فَأَلَّفَ) الله ببركة الإسلام والرسول (بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) عليكم بهذا التأليف (إِخْواناً) كعادة الاخوان الاشقاء في كونكم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة (وَكُنْتُمْ) في شرككم وعدوانكم واعمالكم الجاهلية (عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي طرف الحفرة وحافتها مشرفين على السقوط فيها ما بينكم وبينه إلا الموت وهو قريب منكم (فَأَنْقَذَكُمْ) وأنجاكم (مِنْها) في الكافي عن الصادق (ع) فأنقذكم منها بمحمد (ص) ونحوه عن العياشي عن الصادق (ع) ايضا ونحوه ما في الدر المنثور عن الطستي عن ابن عباس وهو تفسير جلي (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) ومنها التأليف بين قلوبكم بعد تلك العداوات الشديدة والأحقاد المتوغلة في قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ومنها انقاذكم من تلك الضلالات المشرفة بكم على الخلود في درك الجحيم يبينها لكم (لَعَلَّكُمْ) تنتبهون و (تَهْتَدُونَ ١٠٠ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) اللام للأمر و «منكم» للتبعيض فالوجوب كفائي منوط بحصول الغرض كما في التبيان. والحكم في الآية كسائر التكاليف لطف عام لجميع الناس وإن كان الخطاب متوجها الى المسلمين لأنهم حينئذ هم المصغون الى خطاب الوحي والمتلقون لشرائعه بترحيب الإيمان. وفي التبيان وقيل «من» لتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس مثلها في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ). أقول يعني ان «من» تفيد هنا ما يسمى في الاصطلاح بالتجريد نحو رأيت منك أسدا وليكن لي منك صديق ، وكقول الزعيم لأصحابه لينهض منكم جيش ولينتظم منكم صفوف إذا أراد نهوضهم وانتظامهم بأجمعهم أي كونوا جميعا

٣٢٣

أمة يدعون الآية (ويدفعه أولا) ان هذا خلاف الظاهر والمتداول من لفظ «من» وليس في المقام قرينة تصرفها من التبعيض اليه ومما يشهد للتبعيض او يدل عليه معتبرة مسعدة بن صدقة المروية في الكافي والخصال والتهذيب وفيها ان الصادق (ع) استشهد للتبعيض بالآية ـ وثانيا ـ ان هذا المعنى يصرف وجه الكلام عن الأمر لبعض المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع حاجتهم الى اللطف بهذا الإصلاح. بل يكون وجهه هو أمرهم ونهيهم لغيرهم. وهذا مما يأباه عموم لطف الآية ومجد إصلاحها وكرامة شريعتها. فالظاهر إذن من لفظ «من» وسوق الآية هو التبعيض. ولذكر الأمة جهتان ـ الأولى ـ بيان ان هذا المقام توصلي يراد منه حصول الغرض بمن يحصله وليس بتعبدي واجب على كل احد على كل حال بل قد يسقط الوجوب عن كثير من الناس لعدم تأثيرهم او غير ذلك مما ذكر في شروطه ـ الثانية ـ الاشارة الى ان هذا المقام يحتاج غالبا في تأثيره الى التعاضد والتعاون وإذا ترك المتصدي وحده او شك أن تحول وحدته دون نهوضه ودون التأثير فيجب تحصيل الأثر بالمعاونة والاجتماع «والخير» معروف وهو ما هدى اليه العقل السليم أو دلّ على فضيلته الشرع. وقد تكفل الدين الحنيف والشرع الشريف ، والقرآن الكريم بالدلالة على كل خير كالإسلام والإيمان والمعارف الدينية. وكرامة الطاعة واتباع الحق والعدل والتزين بالأخلاق الفاضلة ، واسباب التكميل والتهذيب وترويض النفس والسعادة ، وفضيلة العلم ، ونظام الاجتماع ، والمدنية ، والصلاح والإصلاح ، وانك إذا تتبعت القرآن الكريم والسنة الشريفة تجد الدعوة الى ذلك والأمر بها جارية على أحسن نهج وأعمه وأنفعه ، وأوضحه وأوفقه بالحكمة. و «المعروف» هو ما يعرف العقلاء والمتشرعة رجحانه في حسنه من دلالة العقل او الشرع ، و «المنكر» ما أنكره واستبشعه العقلاء والمتشرعة لدلالة العقل أو الشرع على رداءته. وفي الكافي والتهذيب مسندا عن الباقر (ع) في حديث ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضته عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر الحديث. وقد شدد الإنذار في السنة والنكير على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهدد بعقاب الدنيا ووباله قبل الآخرة. فمن ذلك ما روي في الكافي وعقاب الأعمال والتهذيب مسندا عن الرضا (ع) كان رسول الله (ص) يقول إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف

٣٢٤

والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله (١) وذكر في كنز العمال من اخرج نحو معناه عن حذيفة وأبي بكره وجرير عن رسول الله (ص) وعن الرضا (ع) ايضا لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر او ليستعملن الله عليكم شراركم (٢) فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم (٣) وذكر في كنز العمال من اخرج هذا المعنى ونحوه عن ابن مسعود وحذيفة. وأبي هريرة وعائشة عن رسول الله (ص). وقد جمع في الوسائل وكنز العمال في باب الأمر بالمعروف جملة من الأحاديث فلتراجع. وفي المقام مسائل ـ الأولى ـ انه وان كان الظاهر بحسب اللغة كون الدعوة والأمر والنهي ما كان باللسان. ولكن المعلوم من مغزى الآية وفحواها ووجهة إصلاحها وقرائنها من الشريعة هو ان المراد ما يكون باعثا على الانقياد لفعل المعروف ورادعا عن المنكر من القول والفعل والوسائل المحصلة لذلك حتى الإلجاء لكن بعض الوسائل الفعلية تحتاج إلى الاذن من ولي الأمر سلطان الوقت او من ينوب منابه ـ الثانية ـ ذهب الشيخ في التبيان والحلي في السرائر وحكي عن المرتضى والحلبي والقاضي والطوسي في التجريد والعلامة وكثير من غيرهم ونقلت حكاية الشيخ له عن جماعة انهما يجبان على الكفاية بمعنى انهما يجبان على كل مكلف لم يفقد شرط الوجوب لكنهما يسقطان بقيام من به الكفاية او نهوضه لهما مع المراعاة بحصول الغرض. وهذا هو المفهوم من المقام وأمثاله مما يكون التكليف فيه لغرض يتعلق بغير المكلف. وهو الظاهر من الآية ورواية مسعدة المشار إليها. وفي نهاية الشيخ والوسيلة وحكى عن بعض المتأخرين انهما من فروض الأعيان وذكر في المختلف احتجاج الشيخ له بالآية وبعض الروايات الواردة في الباب «ويدفعه» ان الآية ظاهرة في فرض الكفاية والروايات لا تنافي ذلك. هذا وإذا احتاج الواجب الى تعاون جماعة وجب على كل مكلف به أن يهيأ نفسه للانضمام الى من يعاونه بل ويدعو الى ذلك ـ الثالث ـ يشترط في وجوبهما جواز التأثير.

__________________

(١) وقاع كوقائع جمع واقعة وهي النازلة الشديدة. ويحتمل أن تكون مصدر واقع بمعنى حارب كحراب بمعنى المحاربة.

(٢) أي لا يحول بلطفه دون استيلائهم عليكم بل يخذلكم ويترك أمرهم لمجرى الأسباب العادية والمقادير فكنى عن ذلك بالاستعمال لما للطفه جلت آلاؤه من الأثر في صد الأسباب عن مجاريها

(٣) سموا خيارا بظاهر الحال فإنهم عصاة بتضييعهم لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذا لا يستجاب دعاؤهم

٣٢٥

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠١) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٢) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ

____________________________________

وحكي على ذلك الإجماع بل يدل عليه العلم بأن وجوبهما إنما هو لتحصيل الائتمار والانتهاء. وعلى ذلك لا يجبان إلا أن يحرز إصرار المأمور على ترك المعروف والمنهي على فعل المنكر. بل ربما يصادف ذلك اهانة التائب وهي مفسدة. ومع الشك فالأصل عدم الوجوب خصوصا مع احتمال المفسدة المذكورة ولزوم الاحتراز عن الإهانة للغير إلا بحق ومن أجل ذلك يتوقف الأمر والنهي على معرفة المعروف او المنكر فإن كان الجهل من حيث الشرع وجب التعلم بوجوب تعلم الأحكام الشرعية وإن كان من حيث الاشتباه الخارجي فالأصل البراءة مع لزوم الاحتراز عن اهانة الغير إلا بحق ـ الرابعة ـ أن لا تكون فيهما مفسدة من نحو ما تقدم أو ضرر يرجح الحذر منه على مصلحتها بحسب المورد الخاص. والتفصيل موكول الى كتب الفقه (وَأُولئِكَ) الواو للاستئناف والمشار إليهم هم الذين يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على النحو المطلوب (هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠١ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) عما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح والفلاح (وَاخْتَلَفُوا) بحسب أهوائهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواضحات من أدلة الحق فتولوا عنها بضلال أهوائهم (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والواو يحتمل أن تكون للاستئناف ويحتمل أن تكون عاطفة على أولئك هم المفلحون. وفي العطف مناسبة المقابلة والتقسيم في النظم ١٠٢ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) في التبيان ما ملخصه ان العامل في «يوم» عظيم ـ ويجوز أن نعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم. وتبعه على كلامه بحروفه في مجمع البيان. وفي الكشاف نصب «أي يوم على الظرفية» بالظرف وهو «لهم» او بإضمار «اذكر» أي على انه مفعول لا ظرف وتبعه على ذلك الرازي في تفسيره. ولكن ارتباط الآيات في النظم وذكر ابيضاض الوجوه واسودادهما على ترتيب الفلاح والعذاب في الآيتين المتقدمتين يناسبهما ان يكون «يوم» ظرفا لفلاح المفلحين وعاقبة المتفرقين. وقيل ان ابيضاض الوجوه كناية عن رونق بشرها واسودادها كناية عن حالة خزيها نحو قوله تعالى في سورة النحل ٦٠ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) وهذا

٣٢٦

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٣) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٤) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٦) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

____________________________________

القول كما في مجمع البيان عدول عن حقيقة اللفظ بلا ضرورة. بل يكون البياض بحقيقته وسنا نوره سيماء تكريم وبشرى للصالحين المقربين ويكون السواد باظلامه وتشويهه وسم خزي ونكال لأولئك البعداء (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) في التبيان ومجمع البيان والكشاف وتفسير الرازي ان جواب «اما» محذوف تقديره فيقال لهم أكفرتم. أقول ويقرب عندي أن يكون الجواب من نحو فهم في عذاب أليم ونقمة من غضب الله كما يدل عليه قوله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) ويناسبه قوله تعالى في الآية الاخرى (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ومن نحو هذا الحذف في القرآن الكريم كثير وفائدته التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول. وهو باب واسع في البلاغة قد ذكرنا شيئا من شواهده في الآية الثامنة والعشرين من سورة البقرة. ثم خوطبوا بنحو الالتفات في التوبيخ والتقريع بقوله تعالى (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) بسبب ما كنتم تكفرون ١٠٣ (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وكفى بذلك في رفعة النعيم وسعادته ١٠٤ (تِلْكَ) أي ما قدمناه من آيات المواعظ والحجج والإرشاد والنعيم والعقاب (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) الثابت من مضامينها ومنه الوعيد والعقاب فإنه على الحق والعدل واستحقاق المجرم لارتكابه ما أرشده الله الى تركه أو تركه لما أرشده الله الى فعله بأنواع الإرشاد والترغيب والتنفير. فإن الله يريد للإنسان صلاحه وسعادته بالاستقامة والطهارة الاختيارية (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ١٠٥ وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لأنه إله العالم ومدبره وخالقه وكل ما عداه محتاج اليه في ذاته وأموره فكل أمر من شؤون العالم يرجع اليه. وكرر اسم الجلالة للإيماء الى وجه رجوع الأمور اليه لما في اسمه المقدس من معنى الإلهية والسلطان العام ١٠٦ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الأمة الجماعة ويقال

٣٢٧

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ

____________________________________

للمسلمين أمة محمد (ص) باعتبار انهم جماعته الذين آمنوا به (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وللكلام في الآية مقامان ـ الأول ـ ان المترائي من الآية ان «كان» ناقصة تدل على ان مضمون خبرها قد كان في الزمان الماضي وانقضى وانقطع. ومن أجل ذلك ذكر في الدر المنثور عشرة أكثرهم من اهل الصحة عندهم منهم الحاكم في مستدركه اخرجوا عن ابن عباس في ذلك انه قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله الى المدينة. واخرج بعضهم عن عمر قال تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وعن عمر ايضا لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا ولكن قال كنتم في خاصة اصحاب محمد (ص) ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. وفي حقائق التنزيل وروي عن الحسن «أي البصري» ان ذلك اشارة الى الصحابة دون من بعدهم ممن تغيرت حاله ، واختلفت أوصافه. وفيه ايضا روي عن الحسن انه كان يقول هكذا والله كانوا مرة وبعض المسلمين كان يقول أعوذ بالله ان أكون كنتيا (١) أقول وهذا كله ينظر الى مفاد كان الناقصة ولكن لم يعط معناها حقه فإنها لو كانت في الآية ناقصة لكانت دالة على انقطاع الصفة التي في خبرها وتبدلها وباعتبار كون الخطاب فيها للمسلمين تكون من أشد التوبيخ والتقريع بسوء العاقبة لمن كان موجودا من المسلمين حين نزول الآية وخطابها وقد كان البارز منهم حينئذ جل الكبار من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. فكيف يخاطب القرآن هؤلاء الأكابر وغيرهم من الأمة في وقت النزول بما يؤدي الى انهم منسلخون حينئذ من صفات الآية قد انقطعت عنهم بعد ما كانوا حائزين لكرامتها. ولا

__________________

(١) يضرب المثل لمن تبدلت حاله وصار يفتخر بما مضى وفقده من صفاته ويسمونه كنتيا وكذا من أعجزه الهرم فصار يفتخر بأحواله في شبابه ويقول كنت كذا وكنت كذا. وقد مرّ عليك قول لبيد بن ربيعة :

«قالت غداة انتجينا عند جارتها

أنت الذي كنت لو لا الشيب والكبر»

وانشدوا :

«فأصبحت كنتيا وأصبحت طالما

وشر خصال المرء كنت وطالم»

أي أقول عند الهرم والعجز كنت كذا وكذا وطالما كان كذا وطالما فعلت كذا وكذا. وقد نصب طالما ورفع على اشتقاقه على سبيل الحكاية اسما من «طالما»

٣٢٨

يقاس المقام بقوله تعالى (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) وأشباهه فإن «كان» في هذه الموارد للاشارة الى انه كذلك منذ الأزل ومن المعلوم ان صفاته الأزلية أبدية ايضا لا يعتريها انقطاع وانقضاء وهذا المعلوم البديهي يصرف «كان» عن مفادها بخلاف هذه الآية ولا أقل من انه لا يساق للمدح والتمجيد ما يعطي بظاهره الذم والتقريع (١) فالوجه أن تكون «كان» في الآية تامة كقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ). مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين مثل قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ). وخير أمة حال من الضمير وجملة أخرجت صفة للأمة بمعنى أظهرت للناس وأخرجت من العدم او الخفاء «المقام الثاني» ان كثيرا من الموجودين حال نزول الآية لم يثبتوا على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وان الأحوال المذكورة في مقتل عثمان وشؤونه وحربي البصرة وصفين تجعل شطرا وافيا من كبار المهاجرين والأنصار على غير صفات الآية وان اعتذر عنهم بالخطإ في الاجتهاد. وقد استفاض عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله او تواتر ان أقواما من أصحابه في يوم القيامة يحال بينهم وبين رسول الله وورود الحوض وينادى بهم الى النار فيقول رسول الله اصحابي فيقال انهم ارتدوا على اعقابهم القهقرى وفي حديث أبي هريرة فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم كما رواه بالأسانيد المتعددة والمعاني المتقاربة احمد في مسنده والبخاري ومسلم وابن ماجه في جوامعهم والحاكم في مستدركه

__________________

(١) وحكى السيد في حقائق التأويل عن الذين أرادوا التخلص مما ذكرنا لزومه لمفاد كان الناقصة أقوالا متفرقة. فعن بعض ان كان زائدة واستشهد بقول الشاعر «على كان المسومة الجياد» وقول الاخر «وجيران لنا كانوا كرام» : وعن بعض ان «كان» بمعنى صار. واستشهد بقوله : «قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها» أي صارت وقال السيد والصحيح في رواية هذا البيت «قد صارت فراخا بيوضها» أقول وما أغرب حمل الآية الكريمة وكرامة القرآن على هذين الوجهين الشاذين الواهيين : وعن بعض ان المعنى وكنتم إذ كنتم خير أمة نحو ما كنت مذ كنت إلا نبيها رئيسا. أقول ومع هذا التحذلق البارد رجع هذا القائل إلى كان التامة : وعن بعض ان المعنى كنتم في اللوح المحفوظ أو في كتب الأنبياء المتقدمة. أقول ومع هذا التحكم والتخرص في تقدير الظرف لا ينفك عن محذور كان الناقصة فهل خرجوا عن هذه الصفة من اللوح المحفوظ وكتب الأنبياء : وعن بعض انه يقال لهم ذلك يوم القيامة ولا يضر انقطاع الصفة حينئذ أي وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم خالدون ، ويقال لهم حينئذ كنتم خير أمة. الآية. وقال السيد في هذا الوجه فضل تعسف واستكراه أقول ومن ذا الذي يرضاه لكرامة القرآن ومجده

٣٢٩

وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١٠٧) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ

____________________________________

والطبراني وغيرهم رووه مسندا عن اثني عشر من الصحابة ورواه البخاري في باب الحوض بأسانيده عن سبعة منهم. هذا واما إذا قلنا ان المراد من الأمة في الآية أمة رسول الله الى يوم القيامة وجرى الخطاب لهم باعتبار الموجودين منهم فما أوسع الخرق في الأمة خصوصا إذا نظرنا الى ايام زياد ويزيد والحجاج وآل مروان وأمثالهم. والى هذا المقام الثاني ينظر ما روي عن ابن عباس وعمر والحسن البصري وإن لم يصادف بعضه محزه. وفي تفسير القمي في الحسن كالصحيح او الصحيح عن الصادق (ع) في مقام الإنكار خير أمة تقتلون امير المؤمنين (ع) والحسن والحسين. الحديث. إذن فلا مناص من أن يكون الخطاب لجماعة مخصوصين ملازمين لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله حق الإيمان. وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر يعني الباقر (ع) انهم اهل بيت النبي (ص). وعن تفسير العياشي عن أبي عمر الزبيري عن الصادق (ع) في الآية يعني الأمة التي وجبت لها دعوة ابراهيم «أي قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)» فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها وهم الأمة الوسطى وهم خير أمة أخرجت للناس. وفي رواية العياشي عن الصادق (ع) هم آل محمد (ص). وعن أبي بصير عن الصادق (ع) إنما أنزلت هذه الآية على محمد فيه وفي الأوصياء من بعده. وفي بعض الروايات انها نزلت خير أئمة : والمراد ان هذا المعنى مراد في التنزيل وإن كان اللفظ أمة كما تقدم مثله في المقدمة في الكلام على روايات فصل الخطاب ويشهد له هنا رواية الزبيري (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) بالله وبآياته ورسوله وقرآنه (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يفوزون بسعادته نعم (مِنْهُمُ) الأناس (الْمُؤْمِنُونَ وَ) لكن (أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) والخارجون بكفرهم من الحجاب وهؤلاء ١٠٧ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) باللسان والتهييج عليكم والتجمع لحربكم فلا يضرونكم في ظهور دينكم وجامعتكم وشوكتكم الإسلامية وانتصاركم وفي هذا بشرى عظيمة غيبية قد تحقق مصداقها على أعزّ الوجوه (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) كما وقع ذلك كله مدة وجود المخاطبين

٣٣٠

(١٠٨) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١٠٩) لَيْسُوا سَواءً

____________________________________

من المسلمين الى الاستيلاء على الشام وما بعد ١٠٨ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) في قرون عديدة (١) لما يذكر في آخر الآية من سوء اعمالهم (أَيْنَما ثُقِفُوا) وأدركوا وظفر بهم فلا منعة لهم من الذلة (إِلَّا) أن يعتصموا (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) بأن ينقطعوا ويلتجؤا اليه بإخلاص فيغيثهم (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) بأن يدخلوا في عهدهم وذمتهم او رعايتهم وحمايتهم. وسمي ذلك بالحبل لمنعته لهم من السقوط في هاوية الذل (وَباؤُ) بمعنى رجعوا ونحوه (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) لسوء اعمالهم (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) في القاموس من معاني المسكين الضعيف الذليل. وفي المصباح عن ابن الاعرابي الذليل المقهور وفي النهاية مما يدور على المسكين والمسكنة من المعاني الخضوع والذلة. أقول والظاهر هنا ان معنى المسكنة ما تدور حوله هذه المعاني وهو لازم لليهود لانكسار شوكتهم القومية والسياسية وانحلال جامعتهم في ذلك مهما بلغ بعض الأفراد منهم في الثروة والنخوة الجزئية الصورية الموقتة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بتتابع ارتدادهم. وكفرهم بما أوتي المسيح منها (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) القيد للتوضيح والتسجيل لقبيح أفعالهم فإن قتل الأنبياء كله بغير حق (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) حدود الله. وكررت الاشارة تأكيدا لبيان الجهات التي يستحقون بها النكال العاجل والانتقام. هذا شأن النوع من أهل الكتاب في اجيالهم وما كلهم كذلك فإنهم ١٠٩ (لَيْسُوا سَواءً) وعلى وتيرة واحدة في الضلال

__________________

(١) كما يذكر التاريخ من كتب العهد القديم وتاريخ يوسيفوس وغيره ما تمادوا عليه من تتابع الارتداد والكفر من بعد سليمان وقتل الأنبياء وسوء الأعمال في الشرك وما جرى عليهم من آثار الحروب من ملوك آشور ومصر وبابل وطيطوس. وبقيت الآثار على ذلك. والقوم أبناء القوم فقد خلفوهم بالكفر بآيات الله للمسيح فقالوا الأقاويل وفعلوا الأفاعيل حتى اتبعوا ذلك بالكفر بآيات الله لرسوله خاتم النبيين ومنها بشرى كتبهم به وبقرآنه فجهدوا في الكفر والغيّ جهدهم حتى ذاقوا وبال أمرهم

٣٣١

مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٠) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١١) وَما يَفْعَلُوا مِنْ

____________________________________

والغيّ بأجمعهم بل (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ) وجماعة (قائِمَةٌ) للعبادة او كناية عن الاستقامة في الإيمان والطاعة والعناية بوظائف العبادة (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) آناء جمع قيل ان مفرده «أني» بفتح الهمزة او كسرها وسكون النون او «أنو» بالواو أي في ساعات الليل وأوقاته (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) في التبيان ان الواو ليست للحال بل لعطف جملة «هم يسجدون» على جملة «يتلون» أقول أظن الداعي لهذا التفسير حمله للآية على من اسلم من اهل الكتاب وان الذي يتلونه هو آيات القرآن وليس في سجود المسلمين تلاوة. لكن فيه أولا عدم ظهور الفائدة والمنشأ في العدول الى الجملة الاسمية والإتيان بالضمير فإن الحصر لا محل له. وافادة الدوام تحصل من الفعل المضارع وثانيا لم يصح ان الآية نزلت في ابن سلام وأمثاله ممن اسلم من اهل الكتاب بل لم يعهد من هؤلاء اتصافهم بالصفات المذكورة في الآية والتي بعدها. بحيث يستحقون التنويه بها مع ان الآية السابقة وخصوص قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) تدل على ان السياق هو في احوال اهل الكتاب من الأوائل فالمناسب أن يراد المؤمنون منهم لبيان فضلهم وإخراجهم من تلك المذمة العامة. فالمتلو لهم هي آيات كتبهم الحقيقية ولم يعلم انه يمتنع في شريعتهم ان يتلوها في سجودهم. بل يمكن على الوجهين ان يتجه كون الواو حالية بأن يكون المراد يتلون فيما بين سجودهم المتتابع في القيام للعبادة كما يقال يتكلمون وهم يشربون ويحدثون بنعمة الله عليهم ويخاطبون بالموعظة والحث على العبادة وهم يصلون أي فيما بين صلواتهم المتتابعة ١١٠ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) صفة ثانية لأمة (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم المعاد ويعملون على حقيقة الإيمان به (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) بتقواهم وحبهم للخير وطلبهم لرضا الله بلا توان ولا حاجة الى البعث والإلجاء. وما أوضح كلمة «يسارعون» في الدلالة على اختيار الإنسان في أفعاله. وسوق الآية وتمجيدها يدل على ان هذه الصفات صفات ثابتة لهم ناشئة عن ملكات راسخة (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ١١١ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) بل ينوه بفضلهم فيه ويوفيهم الله جزاءه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) مهما

٣٣٢

خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٢) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٣) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

____________________________________

أسروا اعمالهم الصالحة وتقواهم. وقد اقتضت مناسبة المقام والمقابلة توبيخ الكافرين على كفرهم وسوء اعمالهم وبيان خسرانهم وخيبتهم وسوء عاقبتهم فقال عزوجل ١١٢ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقد مرّ تفسير الآية في الآية الثامنة وزيد عليها هاهنا ببيان الخلود في النار وان دلت عليه بالاشارة في قوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ). وان قيل ان هؤلاء الكافرين ربما ينفقون من أموالهم شيئا في صلة الرحم ونفع المحتاجين من الفقراء والمساكين وغير ذلك فلما ذا لا تغني عنهم أموالهم فلقد أزاح الله علة هذه الشبهة بقوله ١١٣ (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) وتضييعهم له فيها بكفرهم وان قصدوا وجها يزعمون انه وجه الله ولكنه ليس بوجه الله الذي كفروا بآياته وأشركوا به ووصفوه بما يجل عنه من الصفات (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) هذا من التشبيه المركب ليتبين منه حال كفرهم مع إنفاقهم في احباطه بما جنوه على أنفسهم ولذا صدّر المثل ببيان المتلف للحرث ليروع الكافرين بعنوانه في صدر المثل. والصر بكسر الصاد هو البرد الشديد او شدة البرد كما نص عليه جل اللغويين والمفسرين وذكر في الدر المنثور جماعة أخرجوه عن ابن عباس من طرق متعددة. وروى الطستي ان ابن عباس استشهد له بقول النابغة الذبياني :

لا يبردون إذا ما الأرض جللها

صرّ الشتاء من الإمحال كالأدم

وأنشد في الكشاف قول الشاعر :

لا تعدلنّ اتاويين تضربهم

نكباء صرّ بأصحاب المحلات

والحرث هو المزروع في الأرض. والأنسب في فهم قوله تعالى ظلموا أنفسهم انهم ظلموها بزرعه في غير أوان زرعه بحسب الفصول او في غير بلاد زرعه من الأرض (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) باحباط عملهم بكفرهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) باختيارهم الكفر الملقى لهم في هلكة

٣٣٣

(١١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ

____________________________________

العذاب وخسة الوبال وإحباط العمل. ١١٤ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) البطانة خاصة الإنسان والذي يستبطن أمره ويطلع على سره (مِنْ دُونِكُمْ) أي من دون أمتكم وقومكم المؤمنين. وما احسن التعبير عنهم في هذا المقام بهذا الضمير لبيان ان إخوانكم المؤمنين في اتحاد كلمتكم في الإيمان واتحادكم في نصره بمنزلة أنفسكم فكيف تعدلون الى غيرهم بالاختصاص الذي تطلعونهم به على بواطن أموركم وحريم اسراركم في دفاع الكافرين. وكفى بهذا التعبير بيانا لكون المنهي عن اتخاذهم بطانة هم من غير المؤمنين والاية الآتية تدل على انهم المنافقون الذين إذا لقوهم يقولون آمنا و «من» للابتداء متعلقة بقوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا) او بصفة البطانة والأول اظهر. لا للتبعيض أو التبيين كما في التبيان ومجمع البيان ومحكي تفسير الرازي وكذا قول تفسيري الجلالين والمنار «من غيركم» فإن يلزم على ذلك ان يقال ممن دونكم. وقد أوضح جلت آلاؤه للمؤمنين وجه النهي عن اتخاذ هؤلاء بطانة بأنهم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) خبالا مفعول ثان والجملة صفة توضيحية لازمة لهذه البطانة لا تقييدية. وفسروا «لا يألونكم» بيقصرون وهذا لا يناسب تعديها الى مفعول واحد فضلا عن المفعولين كما هو الكثير المسموع من استعمالها فيلزم جعلها بمعنى لا ينقصونكم كقوله في سورة براءة (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً). والخبال فساد الرأي او مطلق الفساد أي يوفونكم الفساد او فساد الرأي بدسائسهم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) عنت أصابه العنت مثل مات ومرض. ومما ذكره اللغويون في العنت فيما يناسب المقام هو الضرر والهلاك. والمشقة ولقاء الشدة. والهلاك ولعل معناه واحد ينطبق بنحو واحد على هذه المعاني أي ودوا ما أصابكم من العنت والظاهر ان جملة ودوا صفة أخرى للبطانة ولو كانت مستأنفة لقيل قد ودوا مثل قوله تعالى (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) بغضاؤهم لكم (مِنْ أَفْواهِهِمْ) وفلتات كلماتهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) مما يسرونه من البغضاء لكم (أَكْبَرُ) مما يبدر من ألسنتهم فهل يصح بعد ذلك للمؤمن المدافع عن دين الإسلام والناهض لإعلاء دعوة الحق ان يتخذ هؤلاء بطانة من دون المؤمنين (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) والدلالات على شأنهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)

٣٣٤

(١١٥) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ

____________________________________

البيان ومرمى الإشارة وواجب العمل على البيان والحذر من أن لا تتخذوا منهم ولا من أمثالهم بطانة ١١٥ (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) «أنتم» مبتدا والظاهر ان «أولاء» نداء يفيد هنا فائدة الاختصاص تأكيدا للومهم في مقام التحريض على التباعد عن أولئك وأمثالهم (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) الظاهر ان الجملة حالية والعامل فيها «تحبونهم» ويجوز ان تكون خبرا ثانيا بالعطف (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) القرآن ولبعض المفسرين في تفسير الكتاب تكلفات (كُلِّهِ) وقد نهيتم فيه قبل هذا عن الركون الى الذين ظلموا كما في سورة هود المكية وفيه (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كما في سورتي البقرة والأعراف المكية. و (الظَّالِمِينَ) كما في سورة الشورى المكية. و (بِالْمُفْسِدِينَ) كما في سورة القصص المكية. و (الْخائِنِينَ) كما في سورة الأنفال. و (بِالْكافِرِينَ) كما في سورة الروم. فهل يسوغ ويحسن منكم ايها المؤمنون بالكتاب كله ان تحبوا من لا يحبه الله لأجل شره (١) والظاهر ان الجملة معطوفة على الخبر أي ها أنتم تحبونهم وتؤمنون بالكتاب كله وكيف تجمعون بين الأمرين وقد سمعتم من الكتاب انه ينهاكم عن الركون الى الذين ظلموا ويوعز لكم ان لا تحبوا هؤلاء وأمثالهم فإن الله لا يحبهم. وفي الكشاف ان الجملة حالية. ويرد عليه وجود الواو وهي لا تدخل على الحالية من المضارع المثبت. وتقدير الضمير لتكون اسمية لا داعي له (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا) بنفاقهم ومخادعتهم (آمَنَّا) بما آمنتم به ونحن معكم ومنكم (وَإِذا خَلَوْا) ولم يكن معهم احد منكم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) من أجل إيمانكم وعلو كلمتكم بظهور الإسلام. وعضّ الأنامل يكون عند شدة الغيظ بحيث لا يتمالك المغتاظ عن ان يعض أنامله ويؤلمها كما قال ابو طالب «يعضون غيظا خلفنا بالأنامل» والحرث بن ظالم المري «يعضون من غيظ رؤوس الأباهم» والأنامل أطراف الأصابع. والأباهم جمع إبهام (قُلْ) لهم يا رسول الله (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) فإن الله معل كلمة الحق وسلطان الإسلام وخاذلكم (إِنَ

__________________

(١) وان الجهل بترتيب النزول ضيع علينا كثيرا مما نزل قبل هذه الآية في التحذير من موالاة أمثال هؤلاء فضلا عن اتخاذهم بطانة. ولعل من ذلك ما في سورة الممتحنة والمجادلة والنساء وغيرها

٣٣٥

(١١٦) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

____________________________________

اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لا يخفى عليه نفاقكم. وذات الصدور كناية عن الخصلة او السريرة او الحالة او العلة المتعلقة بالصدور من نفاق او إيمان ونحو ذلك. على حد قولهم ذات الصدر وذات الرئة وذات الجنب. وعلى ذلك جاء قوله تعالى ١٤٨ (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فالآيتان مثل قوله تعالى في سورة النمل ٧٦ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) ونحوه الآية التاسعة والستين من سورة القصص. والتعبير بذات الصدور وما تكنّ صدورهم إنما هو باعتبار ان الصدر وعاء للقلب الذي هو مرجع لهذه الأمور كما يدل عليه قوله تعالى وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ). كما تقول علم بخبايا الدار أي بما في صناديقها ونحو ذلك. وبما ذكرناه تعرف ما في المصباح المنير من قوله «المعنى عليم بنفس الصدور» وعلى ما ذكرناه من معنى ذات الصدور فسروا قول الشاعر «لتغني عني ذا إنائك اجمعا» بإضافة «ذا» إلى الإناء أي ما يتعلق بإنائك مما فيه من لبن او غيره. وعليه ايضا ما في المصباح المنير انه أنشده ابن فارس في متخير الألفاظ

ونعم ابن عم القوم في ذات ماله

إذا كان بعض القوم في ماله كلبا

اي فيما يرتبط ويتعلق بماله وقال النابغة

مجلتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

المجلة الكتاب اي كتابهم هو ما يرتبط ويتعلق بالإله ووحيه ١١٦ (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) حادثة (حَسَنَةٌ) من حوادث الدنيا تنالون منها خيرا ولو بمسيسها كناية عن قلة نفعها لكم (تَسُؤْهُمْ) لحسدهم وبغضهم لكم ولدين الحق (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) بمعنى تصيبكم فادحة اصابة لا بمجرد المسيس (يَفْرَحُوا بِها) ولا تأخذهم لذلك رقة الجوار او القرابة والاتصال بالقبيلة. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما يحمد الصبر عليه من طاعة الله ونصر دينه وجهاد عدوه وعداوة هؤلاء واذاهم (وَتَتَّقُوا) الله في أوامره ونواهيه (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) بضم الراء وتشديدها لأن مثل هذا المدغم لا يظهر عليه الجزم بالسكون إلا بفك ادغامه نحو (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) وفي هذا وعد للمؤمنين بحماية الله لجامعتهم من ضرر المنافقين (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيحميكم من اعمالهم

٣٣٦

(١١٧) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١١٨) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا

____________________________________

التي يكيدونكم بها. والقراءة المتداولة في المصاحف وبين المسلمين حتى القراء السبعة «يعملون» بالياء المثناة من تحت ولم تذكر بالتاء المثناة من فوق إلا عن الحسن وأبي حاتم ومع ذلك قال في الكشاف «بما تعملون من الصبر والتقوى محيط» ١١٧ (وَإِذْ) في التبيان والمجمع والكشاف ان العامل في «إذ ، اذكر» (غَدَوْتَ) في النهاية الغدوّ هو أول النهار غدا يغدو غدوا. وفي المصباح غدا بمعنى انطلق. والمراد مجموع السير الواقع في أول النهار وصدره (مِنْ أَهْلِكَ) ومحل إقامتك. وفي المجمع انه الخروج الى احد (١) عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (ع). وفي الدر المنثور ذكر من اخرج ذلك عن ابن عباس ومن أخرجه عن عبد الرحمن بن عوف. وهذه الآية والتي بعدها بمزاياهما وخصوصياتهما تعينان ذلك (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) تبوّء المكان بمعنى استقرّ فيه. وبوّأه المقعد أقره فيه. وجملة «تبوء» حال من «غدوت» لأن مجموع السير والبعد عن الأهل في أول النهار وصدره كان من مقارناته وأحواله التبوء للقتال بأن جعل رسول الله (ص) مقاعد للقتال في سفح أحد وجعله في ظهورهم. وجعل في الشعب عبد الله بن جبير مع خمسين من الرماة لئلا يدهمهم المشركون من ناحيته. وأمر الرماة أن لا يبرحوا من مكانهم مهما تطورت الحرب وعواقبها (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما قيل في ذلك الغدوّ في أمر الحرب من كلام المنافقين وكلام الرسول والمؤمنين (عَلِيمٌ) بالنيات وما جرى من الأعمال في تلك الحرب ومقدّماتها ١١٨ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) الفشل هو الجبن وضعف القلب. وفي الدر المنثور ذكر جماعة منهم مسلم والبخاري اخرجوا عن جابر ان الطائفتين هم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأرسله في مجمع البيان عن الباقر والصادق (ع). وفي تفسير القمي نزلت في عبد الله بن أبيّ وقوم من أصحابه اتبعوا رأيه في القعود عن نصرة رسول الله (ص). ويدفعه ان الآية تقول همت ان تفشلا ومن المعلوم ان عبد الله وأصحابه قد فشلوا وقعدوا ونافقوا كما يأتي حالهم من الآية

__________________

(١) احد بضم الألف والحاء جبل على نحو ميل من المدينة في شماليها على طريق العراق

٣٣٧

وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١٩) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

____________________________________

الستين بعد المائة حتى الثانية والستين من السورة (١) وقد قال الله تعالى في الطائفتين (وَاللهُ وَلِيُّهُما) وفي ذلك دلالة على ان الله عصمهما عما همتا به. وقد ذكر في الآيات المشار إليها من ذم الله لعبد الله وأصحابه ومقته لهم شيئا كثيرا وانهم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان وقوله تعالى (إِذْ هَمَّتْ) بدل من (إِذْ غَدَوْتَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه وليهم وناصرهم ولا يهنوا عن نصر الدين بنفاق البعض وخذلانه. كيف ١١٩ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) ذلك النصر الباهر على أعدائكم ذوي العدد المناهز للألف والعدة الكاملة من الخيل والنعم والسيوف والدروع (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) بقلة عددكم إذ كان جميع جيشكم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وبوهن عدّتكم «والمأثور ان معظم سلاحهم جريد النخل وليس معهم من الخيل إلا فرسان. وإبلهم أباعر معدودة يتعاقب عليها بعضهم وبعضهم مشاة ولم يخرجوا باهبة حرب ولا عزة محارب (فَاتَّقُوا اللهَ) في نصر دينه والتوكل عليه وعدم التخاذل بنفاق المنافق (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لغاية ان تشكروا الله على ما يمنحكم من عظائم النعم والنصر الباهر (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ)

__________________

(١) قال الطنطاوي في تفسيره ٢ ج ص ١٤٣ س ٢٠ (عليم) بنياتكم وما يصيبكم بترككم مراكز القتال لما انهزم عبد الله بن أبي سلول فهمت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما كانا جناحي العسكر انتهى ومن معلوم التاريخ ان المسلمين ما تركوا مراكز القتال لانهزام عبد الله بن أبي سلول بل لم يكن عبد الله وأصحابه معهم فجاهدوا وغلبوا المشركين وهزموهم فتركوا مراكزهم لانكبابهم على الغنائم من رحال المشركين او كما يزعم هو في الصفحة المذكورة لاتباعهم مدبرّي المشركين وانظر صفحة ١٥٣ ـ ومن المعلوم ايضا ان ابن سلول لم ينهزم هو وأصحابه بل رجعوا من بعض الطريق قبل ان يصل النبي (ص) وأصحابه إلى احد وقبل ان ينظم عسكره ومعسكره ويبوء المؤمنين مقاعد للقتال او يكون لعسكره ترتيب وجناحان. فابن أبي سلول وأصحابه من القاعدين عن الجهاد والتوجه إلى ميدان الحرب لا من المنهزمين .. ومن المعلوم من سياق القرآن الكريم واتفاق التفسير كما ذكره هذا المفسر ايضا صفحة ١٥٦ ان ابن أبي سلول وأصحابه هم الذين حكى الله قولهم بقوله تعالى في الآية ال ١٦٠ لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ ـ ١٦٢ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا : فهم القاعدون الذين لم يتبعوا الجيش للقتال لا من المنهزمين

٣٣٨

(١٢٠) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ(١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ

____________________________________

١٢٠ (إِذْ تَقُولُ) قال في التبيان التقدير اذكر إذ ، وفي الكشاف ظرف لنصركم أقول وهو اولى واظهر (لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) في الثبات والاطمئنان بالنصر (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) وولي أمركم القادر ويبعث لكم مددا لنصركم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ١٢١ بَلى) رد لمضمون النفي في جملة «ألن يكفيكم» (إِنْ تَصْبِرُوا) وتثبتوا (وَتَتَّقُوا) الله فيما تلزم فيه التقوي ومنه الثبات لنصر دين الحق (وَيَأْتُوكُمْ) أي الأعداء المشركون من قريش العادون بعد ما نجت قافلتهم بإتيانهم لحربكم (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) قال في التبيان ومجمع البيان من وجههم هذا ورواه في الدر المنثور عن الحسن وعكرمة والربيع وقتادة والسدي ولم أجد لهذا المعنى أثرا في النهاية والمصباح ولم أعهده في اللغة نعم في القاموس أتوا من فورهم أي من وجههم وقبل أن يسكنوا. وروى في الدر المنثور عن عكرمة ومجاهد وأبي صالح والضحاك «من غضبهم» مأخوذ من الفوران وفورة الغضب وهو غريب واغرب منه ما عن الضحاك من قوله من وجههم وغضبهم وعن ابن عباس من سفرهم هذا. وهو غريب. ومن فسره بالغضب قال ان الآية نزلت في غزوة أحد والمراد غضبهم من يوم بدر أقول والمناسب لو صح في اللغة ان يقال من فورهم ذلك مع ان ظاهر الآية ومناسبة اللتين قبلها وبعدها وروايات الكافي والعياشي بأسانيدهما عن الباقر والصادق عليهما‌السلام انها نزلت في شأن غزوة بدر. وفي الكشاف جعله من الفور ضد التراخي أي من وقتهم هذا القريب. وهذا هو المعروف والمناسب والمتبادر من هذا اللفظ (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) من السيما وهي العلامة. ولعل المراد انهم اتخذوا سيماء البشر ولم يبقوا على صورتهم الأصلية لكن في صحيحة الكافي عن أبي الحسن (ع) وروايته عن الباقر (ع) في تفسير المسومين قال «العمائم» ونحو ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس ١٢٢ (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الأمداد بالملائكة لأن نصره للمسلمين متوقف على الملائكة. كلا. بل لأن أولئك المسلمين ما عدا الخواص بشر ضعفاء ببشريتهم لا يستحكم استبشارهم واطمئنانهم إلا بالمحسوسات الجارية على العادات ككثرة العدد

٣٣٩

إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٣) (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٤) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ

____________________________________

وشوكة المدد فشاء الله برحمته أن يجاري بشريتهم بما تتحقق لهم به البشرى والاطمئنان في حربهم بل والاطمئنان بأنهم على الحق اليقين وان الله معهم فما جعله (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) ايها المسلمون المجاهدون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي بسبب الأمداد المذكور (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ) في أمره (الْحَكِيمِ) في اعماله ونصره وتطييب قلوب المؤمنين وليس النصر من الملائكة ولا من غيرهم ١٢٣ (لِيَقْطَعَ) تعليل للنصر لا لقوله تعالى فيما سبق (نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) كما ذكر في التبيان ومجمع البيان قوله وذكره في الكشاف أول التفسيرين فإنه لا يلايم الترديد والتقسيم في قوله تعالى (ليقطع او يكبت) بل الذي يناسبه هو النصر المطلق الذي يقطع به (طَرَفاً) أي بعضا (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويهلكهم كما في يوم بدر وخيبر ونحوهما (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) كما في يوم الأحزاب وأمثاله. في المصباح كبته اهانه وأذله وكبته لوجهه صرعه. وفي النهاية أذله وصرفه وصرعه وخيبه. وفي القاموس صرعه وأخزاه وصرفه وكسره وردّ العدوّ بغيظه وأذله. وعن الخليل الكبت صرع الشيء على وجهه وحقيقة الكبت شدّة الوهى الذي يقع في القلب وربما صرع الإنسان لوجهه للخور الذي يدخله. وفي التبيان الكبت الخزي ونسب ما عن الخليل الى القيل. وفي الكشاف يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة أقول والمراد من الكبت في الآية معنى تحوم حوله هذه المعاني التي يأخذونها مما تسنح لهم من مناسبة المقام او موارد الاستعمال ولعله نحو مجاز مما ذكر عن الخليل (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) الخيبة معروفة وفسرت بالانقطاع عما امل وهو انسب مما ذكر لها من التفسير ، ١٢٤ (لَيْسَ لَكَ) يا رسول الله (مِنَ الْأَمْرِ) في شؤون الخلق من حيث الإيصال إلى الهدى والتوبة والتعذيب ونحو ذلك (شَيْءٌ) مما يرجع إلى قدرة الله ولا داخل تحت قدرتك فإنك بشر مخلوق وانما الأمر في ذلك لله (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بنصب يتوب أي إذا تابوا وأصلحوا (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بالنصب أيضا إذا لم يتوبوا فيتوب عليهم (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) اختار في الكشاف ان نصب يتوب ويعذبهم بالعطف على «ليقطع» وجملة ليس لك من الأمر معترضة ونسب غيره إلى القيل. وذكره قبله في التبيان أول الوجهين

٣٤٠