آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٤) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي

____________________________________

وسخطه عليهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا يعطف عليهم برحمته (وَلا يُزَكِّيهِمْ) بالعفو والمغفرة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٧٤ وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي من اهل الكتاب (لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) زيادة على ما نابه من التحريف أي يفتلون ألسنتهم ويحرفونها في قراءتهم الى ما ليس فيه (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ) نوع (الْكِتابِ) مطلقا بل هو زيادة وتحريف جديد منهم (وَيَقُولُونَ) في غلوائهم في الضلال والكذب على الله فيما لووا اليه ألسنتهم بالكذب منهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انه كذب منهم وافتراء على الله ٧٥ (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ) يرسله الله هاديا لعباده الى الحق و (يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) في مجمع البيان أي العلم وفي الكشاف الحكمة. ولكن كل منهما بعيد عن اللفظ. فالظاهر انه سيطرة الرسالة والدعوة والإرشاد (وَالنُّبُوَّةَ) في بيان الحقائق (ثُمَ) بعد هذا كله (يَقُولَ) ذلك المبشر الرسول (لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) ومما يدل عليه هذه الآية أمور ثلاثة ـ الأول ـ ان البشر المتكون في الرحم تدريجا جمادا بلا روح. ثم تتعلق به الروح. ثم يولد ضعيفا فقيرا في جميع أحواله لا علم له. ثم يتدرج في المعرفة والخروج من الجهل ومشابهة البهائم شيئا فشيئا. ويعيش على فقره وضعفه في جميع أموره يتألم ويجوع ، ويعطش ويحزن ويخاف ويضطهد. هذا كيف يعقل وكيف يتوهم المتوهم أن يكون إلها واجب الوجود خالقا ـ الثاني ـ انه وإن اتفق لبعض البشر الناقصين أن يطغى بفساده ونقصه ويدعي الإلهية ويدعو الناس الى عبادته. ولكن ليس من السائغ والممكن في المعقول أن يكون البشر الموصوف في الآية يدعو الناس الى عبادته ويدعي الربوبية والإلهية. فإن الله هو الحكيم العليم بما يكون من عباده. فكيف وهو القدوس يخالف حكمته وعلمه ويؤتي الكتاب والحكم والنبوة لمن يعلم انه يدعو الى الشرك تعالى عن ذلك ـ الثالث ـ الإخبار بأن ذلك لم يقع ولا يقع لأنه من المستحيل على جلال الله. فتكون الآية

٣٠١

مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ

____________________________________

الكريمة دالة ببرهانها الواضح على بطلان دعوى من ادعى الإلهية والربوبية للبشر. وبطلان الدعوة إلى عبادة البشر وردا وتوبيخا على ذلك. وهذا كله بعمومه شامل للنصارى ويكون ردا وتكذيبا لهم فيما ينسبونه إلى المسيح في إنجيل يوحنا ١٠ : ٣٣ ـ ٣٦ من انه ادعى الإلهية واستشهد بالعدد السادس من المزمور الثاني والثمانين. وما ينسبونه أيضا في اناجيل متى ٢٢ : ٤١ ـ ٤٦ ومرقس ١٣ (٣٥ ـ ٣٨ ولوقا ٢٠ : ٤١ ـ ٤٥ من انه ادعى الربوبية محتجا بقول داود في أول المزمور العاشر بعد المائة «قال الرب لربي» مع ان في الاستشهاد تحريفا معنويا ظاهرا وفي الاحتجاج الثاني تحريف لفظي لما في المزامير العبرانية فإن ترجمته الصحيحة «قال الله لسيدي» وماذا تنفع المزامير إذا ذكرت مستحيلا في المعقول لا ينطلي على العارف بالله وقد ذكرنا من ذلك شيئا في الجزء الأول من كتاب «الهدى» صفحة ١١٥ و ١١٦ و ١٩٨ والجزء الأول من «المدرسة السيارة» صفحة ٧٣ من الطبعة الثانية. وتكون الآية ايضا توبيخا لهم على تناقضهم في قولهم ان المسيح بشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة وتعمد أي اغتسل على يد يحيى بن زكريا غسل التوبة ونزل عليه الروح بشكل حمامة كما تصرح بهذا كله أناجيلهم. وقولهم انه «وحاشاه» ادعى الإلهية والربوبية. ومعنى ذلك دعوة الناس لأن يكونوا عبادا له (مِنْ دُونِ اللهِ) فإن دعوة البشر إلى عبادته جحد في الحقيقة لمقام الإلهية وتحويل لواجب الله من العبادة له إلى غيره من البشر (وَلكِنْ) البشر المنوه بفضيلته في الآية يقول للناس (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) في النهاية الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة. وفي التبيان والقاموس والنهاية كما يقال دم بحراني منسوب إلى البحر وهو قعر الرحم أو البحر المعروف لسعته. وكما يقال رقباني لعظيم الرقبة كما في التبيان والقاموس ولحياني لعظيم اللحية ولعله إلى هذا يرجع تفسير الربانيين بالعلماء الفقهاء او الحكماء الأتقياء او الحكماء العلماء وفسرت هذه الكلمة ايضا بمدبري امر الناس في الولاية بالإصلاح كربان السفينة أخذا من الربان الذي يرب امر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه. ويدفع هذا الأخير أولا ان مقتضاه ان يقال ربانين بلا نسبة «وثانيا» ان الرسول لا يقول لكل الناس كونوا مدبرين لأمر الناس في الولاية بالإصلاح بل ان مقام الولاية بالإصلاح والتدبير انما يكون لآحاد مخصوصين من الناس وسوق الآية

٣٠٢

بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٦) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٧٧) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ

____________________________________

لا يناسب التخصيص. والتفاسير المتقدمة لم ينظر فيها الى اللفظ وانما أخذت من مخايل معناه فالرباني هو المتعلق في أحواله ومعارفه واعماله بالانتساب الى الله مولاه رب العالمين فيما يحبه ويرضاه وهذا هو الجامع لدعوة الرسول للناس وإصلاحها (بِما كُنْتُمْ) اي بمقتضي ما كنتم (تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) في الدين وتعاليم الوحي ٧٦ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) عطف على يقول للناس المنفي بمفاد «ما كان» (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) من دون الله فإنه كفر بالله (أَيَأْمُرُكُمْ) وكيف يأمركم (بِالْكُفْرِ) ويدعوكم اليه (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) داخلون في سلم الله بالإيمان به وتوحيده. وهو رسول الله العليم الحكيم والداعي إلى الله فكيف يصدر منه ما يحيله العقل على رسل الله وأنبيائه ٧٧ (وَإِذْ) واذكر في الكتاب. او تكون «إذ» ظرفا لقوله تعالى فيما بعد (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ)(أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) في الآية وجهان وروايتان ـ أحدهما ـ ان يكون الميثاق للنبيين على قومهم كما تقول إذا عاهدت الله اني قد جعلت علي عهد الله وميثاقه. ويكون الميثاق للنبيين باعتبار تبليغه لأممهم وتوثيقه عليهم وان كان الله آخذه بوحيه وامره للنبيين بأخذه على قومهم. ففي التبيان روى عن أبي عبد الله يعني الصادق (ع) انه قال (ع) تقديره وإذا أخذ الله ميثاق امم النبيين بتصديق نبيها والعمل بما جاء به وانهم خالفوهم فيما بعد وما وفوا به وتركوا كثيرا من شريعته وحرفوا كثيرا منها وكذا في مجمع البيان. وفي تفسير صاحب المنار عن الصادق (ع) هو على حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) فالخطاب للنبي والمراد أمته عامة. ثم ذكر عن شيخه محمد عبده نسبة ذلك إلى الصادق. أقول ولم أجد الرواية في العاجل مسندة. نعم في تفسير البرهان عن العياشي عن حبيب السجستاني عن الباقر (ع) ما يرجع إلى نحو ما ذكر في التبيان روايته. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس ان اصحاب عبد الله (يعني ابن مسعود) يقرءون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس انما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. واخرج ابن

٣٠٣

لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ

____________________________________

جرير عن علي امير المؤمنين (ع) في قوله تعالى (قالَ فَاشْهَدُوا) يقول فاشهدوا على أممكم بذلك وأنا معكم من الشاهدين. وعلى هذا يكون الخطاب فيما بعد للأمم «وثانيهما» أخذ الميثاق من النبيين ويكون الخطاب فيما بعد لهم كما هو مؤدى تفسير القمي وروايته عن الصادق (ع). ونحوها رواية البرهان عن سعد بن عبد الله عن الصادق «ع» وعن صاحب كتاب الواحدة عن الباقر «ع». ورواية ابن جرير عن علي «ع» ايضا. ورواية ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ايضا. وعليه يكون الخطاب فيما بعد للنبيين والترجيح بعد تدافع الروايات والنظر الى سوق الآية الكريمة انما هو للوجه الأول. والميثاق هو العهد الموثق. وهو كالنذر والقسم في دخول اللام على جوابه تقول عاهدت الله لئن كان كذا لأفعلن كذا. ونذرت أو لله علي او حلفت أو أقسمت أو والله لئن كان كذا لأفعلن كذا. واللام الأولى كالثانية في كونها لتلقي القسم ونحوه بالجواب يؤتى بها مع الشرط تثبيتا لدخول الشرط في حيز القسم والعهد وتقوية لتلقيهما بالجواب لأن الشرط قيد الجواب ومن متعلقاته كقوله تعالى في سورة التوبة ٧٦ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ). كما جرى ذلك في القرآن الكريم في العهد والقسم الظاهرين والمقدرين ومن ذلك (أَقْسَمُوا بِاللهِ) في نحو خمسين موردا. ويشبه دخول هذه الأولى على الشرط لتقوية الربط دخول همزة الاستفهام الافكاري على الشرط مع ان المستنكر عند الكفار بالبعث إنما هو جواب الشرط كما في سورة الاسراء ٥٢ (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) ونحوه الآية المائة وغير ذلك. وقد يكتفى باللام الأولى عن الثانية كقوله تعالى في سورة الحشر ١٢ (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) فإنها لام القسم ومما يدل على ذلك قوله تعالى (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) كما يكتفى بدخول همزة الاستفهام على الشرط مع ان المستنكر هو جوابه كقوله تعالى في سورة مريم ٦٧ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا). وقد يكتفى باللام الثانية كقوله تعالى في سورة المائدة ٧٧ (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا وان الذي أخذ به الميثاق هو قوله تعالى (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) والصحيح ان اللام الأولى هي التي تدخل على اداة

٣٠٤

وَلَتَنْصُرُنَّهُ

____________________________________

الشرط لتلقي الميثاق و «ما» شرطية نحو قوله تعالى في سورة الأعراف ١٧ (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي كلما اتيتكم يا امم النبيين من كتاب يبشر بالنبوة اللاحقة وحكمة تعرفون بها حكمة إرسال الرسول ودلائل صدقه وصرتم بذلك على بصيرة من الرسالة اللاحقة ثم جاءكم بعد هذا رسول دلت الدلائل على صدقه في دعواه الرسالة من الله وهو مصدق لما معكم من البشرى اي يكون مصداقها الذي تصدق به باعتبار انطباقها التام عليه ووضوح الدلالة على رسالته. او مصدقا لما معكم من معارف الإلهية والتوحيد ونبوة الأنبياء الكرام. فلا تمتنع رسالته كما هو الغالب في دعاة الضلال إذ يخالفون دين الحق فيما يرجع إلى الإلهية والتوحيد والمعاد. والميثاق في الآية هو قوله تعالى (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي ذلك الرسول. هذا : وقيل ان اللام في «لما» للابتداء و «ما» موصولة لا اداة شرط وهو مبتدأ وخبره لتؤمنن به ويدفعه ـ أولا ـ ان الميثاق كالقسم مما يعتنى بربطه بالجواب وتلقيه بروابط القسم فلا ينقض هذا الغرض بلام الابتداء التي لها الصدر في الكلام ولا يجمع بين المتنافرين وهما ربط العهد وتلقيه مع قطعه بلام الابتداء ـ وثانيا ـ ان الإيمان بما أوتوه من كتاب وحكمة يجب من أول ما يجيئهم به نبيهم إذن فلا معنى لترتبه بثم على مجيء رسول آخر. وكذا الكلام في «لتنصرنه» ان أعيد ضميره على ما أوتوا من كتاب وحكمة ـ وثالثا ـ لا يصح افراد الضمير في الخبر إلا إذا كان المراد بالكتاب والحكمة شيء واحد وهو بعيد وإلا فاللازم تثنية الضمير ـ ورابعا ـ إذا جعلنا «لتؤمنن» خبرا لقوله تعالى (لَما آتَيْتُكُمْ) وكذا «لتنصرنه» فما هي اللام فيهما فإنها حينئذ لا تصلح ان تكون رابطة لجواب العهد والميثاق ولا مزحلقة لأن المزحلقة مختصة بخبر «ان» و ـ خامسا ـ لو قيل ان مساق الآية هو للذي آتيتكم من كتاب وحكمة لتؤمنن به ثم ان جاءكم رسول لتنصرنه فتكون جملة جاءكم وما بعدها فرد آخر من جنس الميثاق المأخوذ لقلنا ـ أولا ـ من أين لنا بالشرط في «ثم ان جاءكم» وليس هناك على قولكم شرط معطوف عليه ـ وثانيا ـ ان القرآن الكريم يجل عن مثل ما تفرضون من الكلام المعقد والمتداخل الأجزاء تداخلا يهون دونه قول الشاعر :

وما مثله في الناس إلا مملكا

ابو امه حي أبوه يقاربه

٣٠٥

قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(٧٨) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٧٩) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً

____________________________________

فلا مناص عما ذكرناه من التفسير ويكون عموم الخطاب باعتبار من يدرك دعوة الرسول الثاني من الأمم وهكذا. وان رسول الله محمد خاتم النبيين (ص) هو اظهر افراد الرسل في هذا الميثاق لتكرر البشرى به في كتبهم بشرى تشرف على الصراحة في تعيينه بأقرب ما يفهمه البشر الجاهل بالغيب في تعيين من يأتي في المستقبل. ولظهور الدليل على رسالته وكتابه وبقائه في جميع الأزمان وهو القرآن الكريم ودلائل الرسالة فيه كما أشرنا اليه في الفصل الأول من المقدمة. ومن نصره (ص) نصر من هو نفسه ووصيه في أمته ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى وصاحب عهد الغدير ووصية الثقلين وغير ذلك عليّ عليه‌السلام ، وعلى هذا الوجه ينزل بعض ما جاء في ذلك من الروايات (قالَ) أي الله جل اسمه للنبيين (أَأَقْرَرْتُمْ) بذلك بين الأمم في تبليغكم إياه لهم (وَأَخَذْتُمْ) على أممكم (عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) اي عهدي وميثاقي (قالُوا) أي النبيون (أَقْرَرْنا) بذلك بين اممنا وباعتبار ان قولهم هذا جواب للاستفهام التقريري ينحل إلى قولهم أيضا وأخذنا عليهم على ذلك عهدك واصرك (قالَ) الله للنبيين (فَاشْهَدُوا) على أممكم بهذا الميثاق (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ٧٨ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) من الأمم عن هذا الميثاق واعرض عنه وكفر بمن يأتي من الرسل وخصوص خاتمهم البينة حججه والساطع برهانه والعام الباقي معجزه (فَأُولئِكَ) المتولون (هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن حجاب الايمان والطاعة ٧٩ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) بتوليهم عن عهد الله ودين الحق الإيمان بالله ورسوله وكتابه وبمحادتهم لله بهذا التولي وخروجهم عن طاعته وهذا الاستفهام انكار عليهم وتسفيه لهم والحجة قوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ) اي والحال انه جل شأنه دخل في سلمه وانقاد اليه (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والانس والجن (طَوْعاً وَكَرْهاً) بفتح الكاف قيل انه من الكراهية أي طائعين وكارهين. وقيل من الإكراه اي طائعين ومكرهين. كظاهر قوله تعالى في سورة النساء ٢٣ (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي اكراها. والثاني هو المناسب في الآية للمقابلة بالطوع وهو مقتضى الروايات المذكورة في تفسيري البرهان والدر المنثور عن

٣٠٦

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٠) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ

____________________________________

الصادق (ع) والكاظم وابن عباس وما ذكر في مجمع البيان انه المروي عن أبي عبد الله (ع) والمراد من الكره ما كان في الابتداء فإن غالب الذين اسلموا كرها داموا على الإسلام على طوع ورغبة. وعطف الكره بالواو التي هي للجمع إنما هو باعتبار المجموع وإن اختص قسم بالطوع وقسم بالكره والأمر فيه ظاهر. لكن مع تفسير الإسلام بالاعتراف بالإلهية والتوحيد والتدين بدين الحق يكون ذكر من في الأرض انما هو باعتبار البعض وهو من دان بالإسلام فإن الكثير ممن في الأرض في كل زمان لم يسلم. وحينئذ قد يخفى وجه الحجة على الإنكار بقوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ) فالظاهر ان الإسلام في الآية بمعنى يعم الانقياد لله في معرفته ودينه وتكوينه وقضائه. وحينئذ لا ينفك عن مصداق ذلك من في السماوات والأرض بل جميع المخلوقات من وجه او وجوه. والمراد من الإسلام كرها هو ما لا تكون ارادة المسلم ورغبته علة كالانقياد للتكوين والقضاء والمعرفة التي تبعث إليها الفطرة على حين غفلة من ضلال الهوى فإنك ترى الإنسان حتى المادي المعطل إذا اصابته نائبة تنقطع فيها وسائله ان نفسه تفزع في الخلاص من تلك النائبة إلى من يراه قادرا على دفعها عنه بقدرته القاهرة رغما على الأسباب العادية. وهذا هو الإله القادر ، وهو الله جل شأنه. وكالدخول في دين الإسلام بالإكراه في أول الأمر. ويكون الحاصل ان الله الإله الذي انقاد له كل شيء ومن ذلك الملائكة والانس والجن (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في يوم القيامة بعد ان لا يبقى إلا هو. هذا الإله هل يصح لهم ان يبتغوا غير دينه. وعلى هذا يكون ما أشرنا اليه من الروايات الواردة في تفسير الآية واردة باعتبار بعض المصاديق من الإسلام ٨٠ (قُلْ) يا رسول الله أنت ومن يجب عليه اتباعك لا نبغي غير دين الله بل (آمَنَّا بِاللهِ) الذي لا إله الا هو وبدينه دين الحق كما انزل في كتبه المقدسة على رسله (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ببركة الوحي إليك وبركة رسالتك (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم قبائل بني إسرائيل المنتسبين الى أولاد يعقوب فيمكن ان يكون المراد بالانزال عليهم باعتبار الانزال على أنبيائهم نحو قوله تعالى في الآية (أُنْزِلَ عَلَيْنا) و ٦٥ (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وفي سورة البقرة ٨٥ (بِما

٣٠٧

وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨١) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٢) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٣) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٤) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

____________________________________

أُنْزِلَ عَلَيْنا) ومعنى «على» في على ابراهيم وعلى الأسباط واحد وانما الاختلاف بالاعتبار. ويمكن ان يراد بالأسباط أنبيائهم كموسى ومن بعده (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) من كتاب وحكمة وكرامة ومعجزة (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الايمان ولا تصرفنا الأهواء والعصبية القومية عن الإيمان ببعضهم (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله (مُسْلِمُونَ) في جميع ذلك ٨١ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) لله (دِيناً) ومن اظهر مصاديقه الانقياد لما جاء به رسول الله خاتم النبيين (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) غير الإسلام وكيف يقبل منه الضلال (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ٨٢ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) ويوصل الى الحق بلطفه وتوفيقه (قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا) معطوف على معنى الفعل في «إيمانهم» أي بعد أن آمنوا وشهدوا (أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواضحات الدلالة على رسالته وحقيقة الإيمان فإن هؤلاء قد أخرجوا أنفسهم بتمردهم على الله عن أهليتهم للطفه وإيصالهم الى الهدى بتوفيقه (وَاللهُ) جلت حكمته (لا يَهْدِي) ولا يوصل بتوفيقة (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المتمردين بظلمهم بل ٨٣ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) أي طردهم عن رحمته (وَالْمَلائِكَةِ) بالدعاء عليهم باللعنة (وَ) كذا لعنة (النَّاسِ أَجْمَعِينَ) وفي هذا إذن للناس بلعنهم وطلب لذلك ٨٤ (خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة وطرد الله لهم عن رحمته (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ (١) الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة أو لا يمهلون يوم القيامة عن العذاب ٨٥ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) في الدنيا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) اعمالهم أي عملوا الصالحات (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بالرضا والثواب لأنه غفور رحيم وأقيمت العلة في التفريع مقام المعلول للتأكيد ولبيان ان هذه المغفرة ليست مما يرجى اتفاقه بل

٣٠٨

(٨٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٨٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ

____________________________________

هي لازمة في رحمة الله ولطفه لأنه غفور رحيم لكل من هو أهل المغفرة والرحمة. قيل ان الآيات نزلت في الحارث بن سويد رجل من الأنصار ارتد وتاب وتاب الله عليه. وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). أقول ولم أجد الرواية مسندة. والروايات في الدر المنثور في هذا المقام متدافعة ٨٦ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وقال جل شأنه في سورة النساء ٢١ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي بمقتضى حكمته ولطفه في الدعوة الى الصلاح وقطع مادة الفساد ورحمته بعباده (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) من عمرهم لا في آخره عند الموت الذي كان يرونه بعيدا (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأن توبتهم عن اهتداء وندم حقيقي. لا لانقطاع آمالهم من الحياة وشهواتها واهوائها عند معاينة الموت وانكشاف الحقائق «حكيما» في قبول التوبة ٢٢ (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وعاين ما عاين فانقطعت عنه لذلك دواعي الهوى ونزعات النفس الأمارة الى الضلال (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) وقال جل اسمه في سورة يونس في شأن فرعون ٩٠ (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ٩١ «الآن» يا فرعون حينما انقطعت عنك آمال الطغيان التي سولت لك ادعاءك للربوبية فعصيت وأفسدت وكفرت بآيات الله (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ): والظاهر اجماع المسلمين على قبول التوبة الصادقة قبل حضور الموت وحينما تكون دواعي الهوى ونزعات النفس الأمارة تبعثه على القبيح ويصدها عقله وتوبته وخوفه من الله وتقواه. فتكون واردة في توبة الذين كفروا بعد إيمانهم عند معاينة الموت أو ماتوا وهم كفار ، وفي يوم القيامة يحاولون التوبة. وربما يرشد الى ذلك العدول عن قوله تعالى لا تقبل توبتهم الى قوله (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) الذي هو نص على النفي في المستقبل مع ان قبول التوبة مقارن لها. فيكون في ذلك اشارة الى ان توبتهم المستقبلة المتأخرة عن حياتهم العادية وآمالهم فيها لن تقبل منهم (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) مدة حياتهم قبل معاينة الموت بل وعندها ٨٧ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً)

٣٠٩

مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٨٨) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٨٩) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ

____________________________________

دخلت الفاء في الخبر لخروج المبتدإ باعتبار صلته مخرج الشرط. وذكر ملأ الأرض ذهبا لأنه غاية ما يعظم في عين الإنسان نوعا من المال والبدل والوسيلة للخلاص فلا ينفعه ذلك لو تصدق به ونحو ذلك لأن اعمال الكافر حابطة لا يستحق بها الجزاء ممن كفر به (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) وقدمه بعنوان الفداء وهذا غاية ما يدخل في تصور نوع الإنسان من التهويل والتخويف (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ)(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) على الله. يا ايها المؤمنون ٨٨ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) ويكون انفاقكم برا يرضاه الله بأن تنفقوا الشيء الزهيد الذي لا ترضونه بل (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وترغبون بماليته فإن قصدكم التقرب الى الله إنما يظهر ببذلكم لوجهه الكريم ما لا تستحقرونه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء منه ولا من نياتكم في إنفاقه وهو مجازيكم عليه ويضاعف لكم الجزاء كما وعدكم بذلك في القرآن الكريم فلا تخشوا أن يفوتكم من انفاقكم وإخلاصكم في النية شيء ٨٩ (كُلُّ الطَّعامِ) أي أصول المطعومات (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) أي يعقوب (عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ) متعلق بحرّم وقيل بتعلقه بقوله تعالى (حِلًّا) ويدفعه لزوم الفصل باجنبي وهو جملة «إلا ما حرّم» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد والإيهام. نعم يفهم من قوله تعالى (كانَ حِلًّا) انه من قبل أن تحرمه التوراة بتنزيلها (أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) على موسى. وللتنبيه على تفسير الآية ثلاث مقدمات ـ الأولى ـ قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره هذا الكلام حكاية عن اليهود ولفظه لفظ الخبر. أي انه كلام اليهود ومن دعاويهم الكاذبة. وهو في الآية في مقام الاستفهام الانكاري وحذفت منه اداة الإنكار لدلالة قوله تعالى (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ). (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ). كما حذفت اداة الاستفهام لدلالة المقام عليها في قوله تعالى في سورة البقرة ٧٤ (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) وقوله تعالى في سورة الشعراء ٢١ (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) على الصحيح من تفسير ذلك بإنكار موسى على فرعون ولو كان هذا

٣١٠

قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

____________________________________

الكلام اخبارا من الله لما ناسبه تكذيب الله لهم ـ الثانية ـ قيل في تفسير ذلك ان يعقوب حرم على نفسه العروق ولحم الجمل فقالت اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة أي انها تذكر ان إسرائيل حرمه على نفسه ـ الثالثة ـ ان تحريف التوراة الحقيقية كان قبل رسول الله بقرون متطاولة منذ انقطع أثرها بارتدادات بني إسرائيل وتتابع البلايا عليهم فادعى وجودها «حلقيا» الكاهن في زمان «يوشيا» الملك وذكروا تجديد كتابتها من عزرا بعد سبي بابل. كما أشرنا الى ذلك في المقدمة الخامسة من كتاب الهدى (١) فراجعه. كما ذكرنا بعض الشهادات بتحريفها من كتابي «اشعيا» و «ارميا» وهما من كتب وحيهم (٢) فالتوراة في عهد رسول الله (ص) هي نفس التوراة الموجودة في عصورنا فإنها كانت إذ ذاك منتشرة بين الاسرائيليين والسامريين والنصارى في الشرق والغرب والحبشة وغيرهم بلغات متعددة ومنها اليونانية السبعينية والحبشية ولا يوجد بينها إلا اختلاف طفيف فالتوراة الرائجة في عصورنا هي المحرفة التي جادلهم القرآن بها وقال (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) إذن فمعنى الآية ان بعض اهل الكتاب قالوا كل أصول المطعومات كانت جلا لبني إسرائيل قبل أن تحرم التوراة ما حرمته منها ثم استثنوا من ذلك ما زعموا ان إسرائيل حرّمه على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فنزلت التوراة بتحريمه. وهذا كله كذب وافتراء حتى ان توراتهم تكذبهم فيه وتذكر ان المحرمات من الحيوانات البرية والمائية والطيور إنما هي رجس فانها نهتهم عن أن يأكلوا كل رجس كما في العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية ثم نصّت في الفصل المذكور على المحرمات كما نصت عليها في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين. إذن فكيف يكون الرجس حلالا شرعيا قبل التوراة وايضا لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا. بل إنما نذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء الى هذا اليوم. فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل الثاني والثلاثين من سفر التكوين. يا رسول الله ان هؤلاء لا ينتهون عن الكذب إذن فجادلهم بتوراتهم و (قُلْ) لهم في اظهار كذبهم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) في هذه الموارد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإن

__________________

(١) في الجزء الأول من صفحة ١٩ إلى ٣٠

(٢) في الجزء الأول من الهدى صفحة ٣٥ و ٣٦ وغير ذلك من الشواهد الكثيرة

٣١١

قيل ان اليهود يقولون بامتناع النسخ فكيف يدّعون الحل الشرعي قبل التوراة «قلنا» المعروف ان اليهود يزعمون ان الشرع في التوراة منع من نسخ احكامها لأنها أبدية وهذا لا ينافي ادعاءهم هذا فيما قبل. وقد ذكرنا زعمهم وبطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ٢٨٨ ـ ٢٩١ ولو كان اليهود كبعض النصارى يزعمون امتناع النسخ عقلا وانه لا شريعة قبل التوراة لكانت دعواهم هذه باعتبار الحل العادي وعدم الحرمة الشرعية. وقد ذكرنا هذا الزعم وبطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ٢٣٥ ـ ٢٣٩ و ٢٤١ ـ ٢٤٣ وقيل في تفسير هذه الآية وجوها أخر مرجعها الى أن الآية اخبار من الله بأن المطعومات كانت حلا لبني إسرائيل وذكروا لذلك وجوها «منها» ما في الكشاف من ان الآية رد عليهم في دعواهم ان كل الذي حرم عليهم قد كان محرما على نوح وابراهيم ليتخلصوا بهذه الدعوة الكاذبة مما ذكره القرآن انه بظلم من الذين هادوا حرمت عليهم طيبات أحلت لهم. كما في سورة النساء ١٥٨ وببغيهم كما في سورة الأنعام ١٤٧ : ويرد على هذا الوجه انه ليس في الآية ما يشير اليه. وليس في التوراة ما يدل على ان الذي حرم عليهم كان حلالا قبل ذلك ومن الطيبات بل العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية يبين ان المحرمات عليهم رجس ففيه لا تأكلوا كل رجس ثم شرع في ذكر المحرمات التي ذكرت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين. واما الإلية والشحم وزيادة الكبد والكليتين فقد ذكرت التوراة انها توقد على المذبح طعام وقود للرب وان كل الشحم للرب. وفي كل مساكنهم لا يأكلون شيئا من الشحم والدم كما في الثالث من سفر اللاويين فليس في توراتهم ما يكذبهم فيما ذكر لهم من الدعوى ولا ما يدل على انهم حرمت عليهم بظلمهم طيبات أحلت لهم «ومنها» ما في تفسير الرازي وغيره ان اليهود ينكرون وقوع النسخ في الشريعة ويزعمون ان الذي هو الآن حرام كان حراما ابدا وان الذي حرمه إسرائيل كان حراما من لدن زمان آدم (ع) فطلب رسول الله (ص) ان يحضروا التوراة لأنها ناطقة بأن بعض انواع الطعام انما حرم بسبب ان إسرائيل حرمه على نفسه انتهى ملخصا : ويرد على هذا الوجه أيضا انه ليس في الآية ما يشير إلى ورودها في مسألة النسخ ولا يلتفت من مخائلها إلى النسخ أصلا فتنزيلها على ذلك يلحق بالمعميات مع انه ليس في التوراة ان الذي حرم عليهم كان حلالا أو ان ما حرمه إسرائيل على نفسه هو محرم عليهم كما ذكرنا فلا يظهر كذبهم في زعمهم من التوراة. فالوجهان مشتركان في انه ليس لما ذكر فيهما عن

٣١٢

(٩٠) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩١) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٢) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً

____________________________________

بني إسرائيل قول او كلام صريح او مدلول عليه بإحدى الدلالات لكي يمتحنوا فيه بالإتيان بالتوراة وتلاوتها ليظهر كذبهم فيه او صدقهم ٩٠ (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٩١ قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٩٢ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) شعارا لدين الحق ومشعرا لعبادة الله وتوحيده هو الكعبة. كما يحتج لذلك من بعد الطوفان بالتاريخ المتسلسل بين الأجيال وان بيت المقدس مما هو معروف التأخر. وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي (ع) قال كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وفي المستدرك للحاكم بسنده عن خالد بن عرعرة عن علي (ع) نحو هذا المضمون. وروى ابن شهرآشوب ايضا نحوه. واخرج ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير والبيهقي عن أبي ذرّ قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال (ص) المسجد الأقصى. وروى في الكافي مسندا عن الباقر وعن الصادق عليهما‌السلام ان الأرض دحيت من تحت موضع البيت ونحوه عن العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (ع). وفي الدر المنثور اخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت. واخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب واخرج ابن المنذر عن أبي هريرة وذكر نحوه (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) في البرهان عن ابن بابويه في العلل في الصحيح عن الصادق (ع) قال موضع البيت «بكة» والقرية مكة. ونحوه عن العياشي عن الصادق (ع) ولعل موضع البيت يشمل المسجد. وعن العياشي عن الباقر (ع) بكة موضع البيت ومكة الحرم. وفي الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوا عن أبي مالك الغفاري بكة موضع البيت ومكة ما سوى ذلك. وعن ابن عباس مكة من الفج الى التنعيم وبكة من البيت الى البطحاء. و «بكة» مأخوذة من البك وهو الزحم والمدافعة. وروى ان هذا وجه تسميتها كما في الكافي عن الصادق (ع) وعن علل الصدوق بأسانيد صحيحة عن الباقر (ع) والصادق (ع) نحوه (مُبارَكاً) حال. ومظاهر البركة في البيت من الوجهة

٣١٣

وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٣) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً

____________________________________

الدنيوية والوجهة الدينية اظهر من أن تخفى او تجحد. فإنه في ارض ليس فيها مادة ثروة ولا تجارة ولا زراعة ولا صناعة وترى مجاوريه فيها يبلغون عشرات الألوف وهم منذ القرون المتطاولة في الجاهلية والإسلام في سعة من العيش وتمتع في النعم والعز والأمن فيما بين العرب الوحشيين الأشداء العتاة ويفد إليها الألوف العديدة من الحجيج فلا يضيق عليهم العيش. ويذبح في الموسم من كل سنة من أغنام ضواحيها ما يزيد على مائة الف فلا يظهر فيها النقص. واما من الوجهة الدينية فإنه المبارك (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) هدى حال بمعنى هاد ولمزيد هداه قيل هدى كما يقال زيد عدل. ومن بركة هداه ان العرب التفت بإسماعيل وتلقت منه دين ابراهيم وشريعة الختان وعبادة الله بالحج والطواف وان مازج ذلك فيما بعد شيء من ضلال الوثنية بل بقي في حرمه شيء من الحقوق الاجتماعية والمدنية مدة الجاهلية على رغم ما في محيطه من وحشية الاعراب وضلالهم. وكفى ببركة هداه ان صارت مكة مولدا ومظهرا لخاتم الأنبياء وصفوة الرسل ومهبطا للوحي ومبدءا للدعوة الصالحة الى دين الحق دين الفطرة والشريعة المقدسة ونظام الاجتماع والصلاح ومشرقا لأنوار القرآن الكريم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) بدلالتها الجلية على منزلته السامية في الشرف وكرامته عند الله (مَقامُ إِبْراهِيمَ) وهو وما يذكر بعده بدل تفصيلي من الآيات المذكورة. فإن مقام ابراهيم من آيات البيت الباهرة الخالدة وهو الصخرة التي قام عليها ابراهيم الخليل فأثرت فيها قدماه الشريفتان تأثيرا بينا كما تؤثر في الطين الرطب وهذه الصخرة وذلك الأثر محفوظان الى الآن على رغم القرون المتطاولة وتتابع الحوادث وتقلب الأحوال وفي ذلك ايضا آية كبيرة. وقد تقدم شيء من الكلام على المقام في الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة البقرة (١)(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي من دخل بلده

__________________

(١) هذا ولصاحب المنار في الجزء الرابع من تفسيره صفحة ١٣ كلام لم يسمح فيه بأن يكون الأثر في الصخرة أثر لقدمي ابراهيم في الصخر على خلاف العادة بل نسب ذلك الى اعتقاد العرب وشعر أبي طالب في لاميته المعروفة

وموطأ ابراهيم في الصخر وطئة

على قدميه حافيا غير ناعل

والمعروف سماعا ووجادة هو «وطئة» بالواو كما في النسخ المعتمدة ومنها المكتوبة على نسخة كتبها عفيف بن أسعد في المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة من نسخة كتبها الشيخ ابو الفتح عثمان بن جني ـ

٣١٤

وحرمه المعروف. والجملة من اقسام البدل التفصيلي من الآيات معطوفة على مقام ابراهيم أي وأمن من دخل فيه. ولعل «من» جيء بها لتغليب من يعقل على ما لا يعقل. وفي الأمن آيات ظاهرة. فإن العرب على فوضويتهم ووحشيتهم وتهوّرهم في العدوان والنخوة الجاهلية وغلظتهم في ذلك بحيث لا يمنعهم من ذلك ولا يردعهم شريعة ولا وازع روحي ولا سيطرة ولا استقامة أخلاق قد كانوا خاضعين لاحترام من دخل الحرم منقادة نفوسهم لذلك في القرون العديدة في تلاطم أمواج الجاهلية. فضلا عن الإسلام. وليس ذلك من طبع التربة والهواء ولا بنحو الجبر السالب للاختيار. بل لأن العناية الإلهية ألهمت الناس إكراما للبيت الحرام أن يحترموا الحرم ومن فيه. نعم وقع التمرد من جيش يزيد والحجاج ولعل الحكمة في ذلك ان يعرف الناس ان هذا الاحترام ليس من قسر الطبيعة والإلجاء وإنما هو توفيق من الله شمل المشركين ولم يشمل من تمرد على الله وحاده وعاداه. وفي الصحيح او الحسن كالصحيح عن الحلبي عن الصادق (ع) قال سألته عن قول الله ومن دخله كان آمنا قال (ع) إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر الى الحرم لم ينبغ لأحد أن يأخذه من الحرم ولكن يمنع من السوق ولا يبايع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيأخذ وإذا جنى في الحرم جناية أقيم

__________________

ـ وعارضه بها وقرأها عليه كما هو مكتوب فيها برواية أبي هفان المهزمي للقصيدة عن عمه خالد بن حرب عن عبد الله بن العباس بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن امير المؤمنين عليه‌السلام وبدّل «وطئة» بقوله «رطبة» ليستنتج من ذلك ان الصخرة كانت عند ما وطأ عليها طينة رطبة لم تتحجر ثم تحجرت. مع ان الشعر المذكور لو كان على ما ذكره لما دلّ على انها كانت رطبة لم تتحجر بل الظاهر منه انه وطأ الصخرة حال كونها رطبة عند الوطء وهي صخرة إذ صارت كذلك كرامة لإبراهيم وتخليدا لذكره بالمعجز كما ينحوه ابو طالب في شعره. فإن «رطبة» بمقتضى تبديله لو صحت وصح التأنيث فيها إنما هي حال من الصخر ووصف له لا حال من طين قبل استحجاره المحتاج إلى ألوف من السنين. ويا للعجب كيف لم يلتفت إلى ان الحال من «الصخر» لا يصح تأنيثه والطنطاوي مع وضعه المشاهد في تفسيره لم يزد هاهنا على قوله «أي الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت» فلما ذا لم يبين محل «مقام ابراهيم» في الآية من الاعراب وبأي وجه صار بدلا مبينا لقوله تعالى «فيه آيات بينات» أفلم يسمع من التاريخ والحديث وشعر أبي طالب المشهور بآية الأثر لقدمي ابراهيم في الصخرة التي هي مقام ابراهيم. أم صرنا

كتاركة بيضها بالعراء

وملحفة بيض أخرى جناحا

٣١٥

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً

____________________________________

عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة : ونحوها معتبرة حفص. ورواية علي بن أبي حمزة عنه (ع) في السارق والجاني ونحوها صحيحة معاوية بن عمار عنه (ع) في القاتل. وفيها ولا يأوي : وفي الدر المنثور ان جماعة اخرجوا من طرق سعيد وطاوس ومجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس في الآية مثل ذلك. ولا ينافي ذلك ما روي من طرق الفريقين من انه أمن من سخط الله. أو في الآخرة. أو من النار. فإن ذلك يكون بيانا لبعض المصاديق المندرجة في عموم الأمن. وبمقتضى الروايات المتقدمة قال علماء الإمامية من دون خلاف يعرف. وابو حنيفة وصاحباه وزفر واللؤلئي وافقوا الإمامية في قصاص النفس واحتجوا بالآية ويرد عليهم ان الأمن فيها مطلق فإذا قدم على دليل القصاص قدم على سائر أدلة القصاص والحدود لذلك الوجه حتى لو حملنا الخبر في الآية على الأمر مع ان الآية لا تحمل على ذلك ولا يتوقف عليه. بل الآية تدل على جعل الأمن بنحو وضعي عام. وجعله من الله من حيث الشريعة هو اظهر الافراد وأولاها فإن الذهن لا يذعن بأن الله تبارك اسمه يمجد البيت بأن من آياته ان الناس يحترمونه بإلهام وتوفيق منه وهو جل شأنه لا يشرع احترامه في حقوقهم وحقوقه نعم ان الجاني في الحرم قد هتك حرمته فيؤخذ بجنايته في ذلك لقوله تعالى في سورة البقرة ١٨٧ (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) ١٩٠ (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) .. وايضا ان طعام العرب نوعا مما يصطادونه من احناش الأرض وحيواناتها ولهم في الصيد ولع وعادة ومع ذلك يحترمون صيد الحرم ومكة. ومن المستفيض نقله ان الحيوانات لا يقتل بعضها بعضا فيه. ولا تصطاد الكلاب والسباع فيه : ومن آيات البيت ما استفاض نقله من ان الطير لا يعلو عليه في طيرانه بل يحيد عنه يمينا او شمالا (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) الآية جملة مستأنفة فلا يندرج في جملة الآيات البينات للبيت. والحج بالكسر وعن سيبويه انه مصدر وقيل اسم مصدر ومعناه في اللغة القصد بالسفر وغلب على القصد بالسفر الى مكة لنسك الحج المعروف او نقل الى نفس المناسك المخصوصة. ومن استطاع بدل من الناس. والتقييد هنا بالاستطاعة يعرف منه انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف. إذن فهي الاستطاعة العرفية. وذكر في الدر المنثور عن جماعة كثيرين منهم الشافعي والترمذي

٣١٦

وَمَنْ كَفَرَ

____________________________________

وابن ماجة والحاكم قد اخرجوا بأسانيد متعددة عن علي (ع) وابن مسعود وجابر وعائشة وأنس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص ان النبي (ص) سئل عن السبيل في الآية فقال الزاد والراحلة. ومثله عن عمر وابن عباس. وفي رواية عن ابن عباس ان يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير ان يجحف به وقد خالف في ذلك مالك فيمن يقدر على المشي ويمكنه الاكتساب في مسيره ولو بالسؤال. والمروي من طرق الإمامية عن الباقر والصادق والرضا عليهم‌السلام كما أحصاه في الوسائل في تفسير الاستطاعة في الآية بحسب السؤال وما يقتضيه المقام من البيان. بأن يكون له ما يحج به ومن عرض عليه فاستحيى فهو ممن يستطيع وبأن من كان صحيحا في بدنه مخلى في سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع. وبالزاد والراحلة مع الصحة وبالصحة في بدنه والقدرة في ماله. وبالقوة في البدن واليسار في المال. هذا والظاهر عدم الخلاف عندنا في ان من الاستطاعة أن يكون له ما يمون به عياله في طعامهم وكسوتهم وإسكانهم وما يحتاجون اليه في معيشتهم الى رجوعه. وفي التبيان وهو «أي السبيل» عندنا وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع الى كفاية عند العود اما من مال او ضياع او عقار أو حرفة مع الصحة والسلامة انتهى والظاهر دخول ذلك في الاستطاعة العرفية. وروى المفيد في المقنعة عن أبي الربيع الشامي عن الصادق (ع) في الآية فقال ما يقول الناس فقيل الزاد والراحلة فقال سئل ابو جعفر (ع) عن هذا فقال هلك الناس إذن لئن كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما او مقدار ذلك مما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذن فقيل له فما السبيل عندك قال (ع) السعة في المال وهو ان يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى بعض يقوت به نفسه وعياله. ورواه في الكافي والتهذيب والفقيه والعلل بنحو من ذلك والرواية معتبرة في نفسها خصوصا إذا كان ابن محبوب من اصحاب الإجماع ومعتضدة بعمل الشيخين وجماعة من القدماء بها. وروى الصدوق في الخصال بإسناد عن الأعمش عن الصادق (ع) قال : وحج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن وان يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه بعد حجه : فما ذكر في التبيان هو الأقوى والظاهر من الاستطاعة. وتمام الكلام في الحج موكول الى كتب الفقه كما أو كل القرآن امره الى السنة (وَمَنْ كَفَرَ) لا يخفى ان مفاد الآية هو

٣١٧

فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٤) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٥) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ

____________________________________

التوبيخ لمن يترك الحج مع استطاعته والمسلمون من الموبخين بل هم اظهر الافراد في هذا التوبيخ فيكون الكفر كناية عن شدة العصيان بترك الحج وتغليظا على تاركيه في تضييعهم لهذه الفريضة العظيمة الأثر في الدين والإسلام وان المسلم المضيع للحج ليس بكافر حقيقة ولا تجري عليه احكام الكافر حتى بعد موته بل تجري عليه احكام المسلم بإجماع المسلمين. وفي التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (ع) في حديث ومن كفر يعني من ترك. وفي الفقيه عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام في وصية النبي (ص) لعلي (ع) كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة وعدّ تسعة من اصحاب الكبائر كالنمام والزاني والعاشر من وجد سعة فمات ولم يحج. وروى ذريح المحاربي في الصحيح كما في الكافي والمقنعة والتهذيب والمحاسن والفقيه وعقاب الأعمال والمعتبر عن الصادق (ع) ان من استطاع ولم يحج حتى مات فليمت يهوديا او نصرانيا. وفي رواية الشيخ إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا. ومثلها رواية الدر المنثور مما أخرجه سعيد بن منصور واحمد في كتاب الإيمان وابو يعلى والبيهقي عن أبي امامة عن رسول الله (ص). ومما أخرجه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب وابن مردويه عن علي امير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص). ومما أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من قول عمر بن الخطاب. وان عبارة الرواية «فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» لتدل بسوقها على انها للتغليظ في سوء العاقبة وخسران التارك إذ فاته ما للحج من الفضل واللطف على العباد بتعريضهم لثواب هذه الطاعة واقامة هذه الشعائر الدينية التي يعود نفعها الى الناس لفقرهم وحاجتهم الى ذلك ومن عصى وترك عاد الضرر والخسران عليه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) بأجمعهم لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين ولا تنقص منه معصية العاصين ٩٤ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ومن جملتها ما جاء به رسول الله وقرآنه المجيد وما في البيت الحرام من الآيات البينات (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية ٩٥ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) روى الواحدي في اسباب النزول

٣١٨

تَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

والسيوطي في الدر المنثور عن زيد بن اسلم ان الآية نزلت في شاس بن قيس اليهودي لما أمر يهوديا أن يجلس مع الأوس والخزرج ويهيج الأضغان فيما بينهم ويذكرهم الحروب التي دارت فنما بينهم من يوم بغاث وما قبله : ويدفع ذلك مع وهن السند ان ذلك ليس صدا عن سبيل الله وإنما يناسبه التوبيخ على القاح الفتنة وتهييج الشر بين الناس. فالآية الكريمة على رسلها في توبيخ اهل الكتاب على دأبهم في التصدي لإضلال الناس وصدهم عن الإسلام بأنواع الوسائل. والسبيل كالطريق يذكر ويؤنث والأكثر في القرآن تذكيره. وجاء مؤنثا في سورة يوسف ١٠٨ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) وفي هذه لآية (تَبْغُونَها) أي السبيل قال في التبيان ومعناه تطلبون لها عوجا. ونحوه في الكشاف. وحكاه الرازي في تفسيره عن ابن الأنباري وانه مثل وهبتك درهما أي وهبت لك. وصدتك ظبيا أي صدت لك وأنشد :

فتولى غلامهم ثم نادى

أظليما اصيدكم أم حمارا

وفي النهاية في الحديث ابغني أحجارا استطيب بها يقال ابغني كذا بهمزة الوصل أي اطلب لي وابغوني حديدة استطيب بها. وفي لسان العرب قال واقد بن الغطريف كما في ديوان الحماسة وغيره :

لئن لبن المعزى بماء مويسل

بغاني داء إنني لسقيم

وقال الأعشى :

حتى إذا ذرّ قرن الشمس صبّحها

ذؤال نبغان يبغي قومه المتعا

أي يبغي لصحبه الزاد. وفي الصحاح «ليبغيه خيرا وليس بفاعل» أي ليبغي له (عِوَجاً) مفعول لتبغونها ومثله في سور الأعراف ٤٣ و ٨٤ وهود ٢٢ وابراهيم ٣ وفي مجمع البيان في سورة الأعراف ويجوز ان يكون منصوبا على المصدر نحو رجع القهقرى واشتمل الصمّاء ويدفعه ان العوج ليس من معنى يبغون ولا يدانيه فلا يكون مثل هذين المثالين. والمصدر لا ينصب على المصدرية إلا بعامل من لفظه او معناه. وذكر الرازي وجها آخر وهو ان يكون عوجا في موضع الحال والمعنى تبغونها ضالين يعني حال كونكم معوجين. ويدفعه ان لا قرينة ولا حاجة الى تأويل عوجا بمعوجين مضافا الى ان الآية معناها الإنكار على اضلالهم لاضلالهم وقد

٣١٩

وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (٩٧) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ

____________________________________

فسرها بأنهم كانوا يحتالون لإلقاء الشبه بأنواع الحيل فلا موقع للتفسير بكونهم يطلبون سبيل الله حال كونهم ضالين والآية تقول (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فانظر فيها الى آخرها وتدبرها : وفي النهاية العوج بالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والقول. وفي المصباح العوج بالكسر في المعاني واستشهد بكلام أبي زيد. وفي مجمع البيان في سورة الأعراف ٨٤ العوج بالكسر في الدين وكل ما لا يرى. أقول وكأن القائل بذلك لم يقرء قوله تعالى في سورة طه ١٠٥ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ١٠٦ فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) والمعنى تطلبون يا أهل الكتاب بصدكم عن سبيل الله بتزويركم ومخادعتكم وتحريفكم وكتمانكم لما في كتبكم أن تجعلوا سبيل الله عوجاء تطلبون لها العوج وهي الصراط المستقيم بينة الحجج نيرة الأعلام واضحة الدلالة ساطعة البرهان (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) على بشرى كتبكم برسول الله وقرآنه ودينه. أو أنتم شاهدون لدلالة المعجز والآيات البينات على رسول الله ووحي قرآنه وحقيقة دينه القيم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الصد عن سبيل الله ومحاولة الإضلال والله لا يفوته شيء وهو شديد الانتقام ٩٦ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) باعتبار إيتاء الكتاب الحقيقي لأسلافهم قبل تحريفه. والفريق هم المتصدون للإضلال والإغواء والصد عن سبيل الله وتنقادوا لضلالهم بالاتباع الأعمى (يَرُدُّوكُمْ) باغوائهم واضلالهم (بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ٩٧ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) وقد غمرتكم الألطاف ووضحت لكم الحجج (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) وفيها الهدى والرشاد (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وهو نور الهدى والصلاح ومنار الحجة وإمام الإصلاح. وباب الله ووسيلته لخلقه (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) العصمة هو المنع والحفظ مما يحذر. والعاصم هو الحافظ المانع بتسبيبه أو فعله. والمعتصم هو الملتجي الى العاصم واللائذ به ليمنعه ويحفظه مما لاذ والتجأ حذرا منه. وتختلف وجوه الحذر ومحققاته باعتبار شأن المعتصم به ووجهة الحذر. فالاعتصام بالله في هذا المقام هو التجاء العبد

٣٢٠