آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٣٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ

____________________________________

قد كان من أصعب الأمور على النفوس الأمارة بالسوء. فالإخبار بتصديق يحيي لرسالة المسيح مدح كبير له ، وتمجيد له بطيبه وصلاحه وانه لا تأخذه في الحق لومة لائم ، ولا نزعة نفس أمارة (وَسَيِّداً) السيادة الزعامة وولاية الأمر والسيد من يسود غيره (وَحَصُوراً) في رواية القمي المتقدمة الحصور الذي لا يأتي النساء. ونحوه ما في الدر المنثور مما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس. وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود. وشرعيته ورجحانه ومدحه مختص به إذ لم تعهد شرعيته ورجحانه بنحو نوعي في شريعة إلهية ، واما في شريعة الإسلام فقد تحقق عن الرسول الأكرم (ص) قوله النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ذكر ذلك تنويها بفضل النبوة فإن كل الأنبياء من الصالحين ٣٨ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) في السن. يقال بلغه الكبر والهرم وأدركه الموت تنزيلا لهما منزلة الطالب الذي لا مفرّ منه (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) لأنها لم تلد مدة عمرها. وقال زكريا ذلك مع انه دعا الله أن يرزقه الذرية والولي الوارث إما طلبا للاطمئنان بالبشرى لأن ذلك على خلاف العادة في التناسل من مثلهما. وإما شكرا واعترافا بنعمته في اجابة دعائه على خلاف العادة الجارية في التناسل بمعنى اني وامرأتي في مثل هذا الحال فمن اين يكون لي غلام لو لا قدرتك ورحمتك وعنايتك الخاصة الخارقة للعادة في إجابة دعائي. ذكر ذلك السيد الرضي «رضي الله عنه» في حقائق التأويل (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ٣٩ قالَ) زكريا طلبا لزيادة الاطمئنان بحصول ذلك في العاجل ومعرفة وقت الحمل وإن كان مؤمنا بصدق البشرى وقدرة الله (رَبِّ اجْعَلْ لِي) في الدلالة على حصول الحمل واجابة دعائي علامة و (آيَةً) من آياتك الخارقة للعادة (قالَ) الله له (آيَتُكَ) التي تطلبها هي (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) ولا تقدر على تكليمهم وإن كان لسانك مطلقا في ذكر الله وتسبيحه والصلاة له (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بلياليها ولذا جاء في سورة مريم (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا). ومن الشائع في العربية وغيرها في أمثال هذا المقام دخول الليل في الأيام والنهار في الليالي يقال أقمت في البلد ثلاثة ايام كما يقال أقمت

٢٨١

إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤٠) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤١) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ

____________________________________

فيه ثلاث ليال وشواهد ذلك حتى في اللغة العبرانية وكتب العهدين كثيرة لا يسعها المقام (إِلَّا رَمْزاً) الرمز هو افهام المعنى بنحو من الإشارة. والاستثناء هنا منقطع (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) تسبيح الله تنزيهه وتقديسه. أو وصلّ له النوافل فقد ورد في الحديث كثيرا من طرق الفريقين عن الرسول (ص) والصحابة والأئمة (ع) تسمية صلاة النوافل بالسبحة (بِالْعَشِيِ) وهو من زوال الشمس الى الغروب أواخر النهار (وَالْإِبْكارِ) بكسر الهمزة من حين طلوع الفجر الى وقت الضحى كما في التبيان والكشاف وغيرهما ٤٠ (وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي هذا النوع وان كان القائل واحد (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) قد ذكرنا معنى الاصطفاء وان جهة الاصطفاء تعرف وتؤخذ من قرائن المقام. فالمعنى إذن اصطفاك بأن تقبلك وقبلك من نذر أمك في تحريرك لله (وَطَهَّرَكِ) زيادة على ذلك من الأدناس التي تلحق النساء (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) وقدمك عليهن بالولادة من غير فحل. هذا غاية ما يدل عليه المقام والقرائن من وجهتي الاصطفاءين وقد كرر ذكر الاصطفاء لأجل اختلاف الوجهة فيه. وليس في اللفظ وقرائن المقام دلالة على سيادتها على نساء العالمين. نعم ثبتت لها السيادة على نساء عالمها من السنة. واستفاض بل تواتر من حديث الفريقين عن الرسول الأكرم (ص) ان فاطمة بنته (ع) سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة. ومن ذلك ما رواه احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة والحاكم وابو يعلى والروباني والعقيلي والطبراني وابن عساكر وصاحب الاستيعاب وغيرهم عن حذيفة ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس ، وعائشة ، وفاطمة (ع) عن رسول الله (ص) والأحاديث بذلك من طريق الشيعة كثيرة جدا ٤١ (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قد ذكر معنى القنوت في الآية العاشرة بعد المائة. والتاسعة والثلاثين بعد المائتين من سورة البقرة. والسجود معروف والركوع يطلق على الانحناء المعروف. وقد يستعمل ركع واركع واركعي في الإتيان بركعات الصلاة فيقال لمن صلى ركع ركعات خفيفة او ركع ركعات مطوّلة أي وكوني في زمرة المصلين الكثيري الصلاة ولا

٢٨٢

(٤٢) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٣) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

____________________________________

ينحصر المعنى بصلاة الجماعة ٤٢ (ذلِكَ) أي قصة امرأة عمران ومريم وزكريا وبشرى الملائكة لهما (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ومن ذلك اختصامهم في كفالة مريم وإلقاء أقلامهم للقرعة على كفالتها (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) للقرعة لأخذ النتيجة منها وهي انه (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في ذلك حتى تراضوا على القرعة بالأقلام فلست تذكر للناس ما حضرته ورأيته. ولا هو مدوّن في الكتب المتداولة عند اهل الكتاب فضلا عن انك لا تقرأ كتابا ولم تمارس درسا ولا تعلما ولم يكن في قومك وبلادك شيء من العلم وفي هذا حجة على انه وحي من انباء الغيب من الله. وقد روى في الدر المنثور وغيره في إلقاء الأقلام وكيفيته روايات لا تنهض حجة ٤٣ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الظاهر ان «إذ» هنا بدل او عطف بيان لإذ المتقدمة في الآية الأربعين. فإن الظاهر هو ان قولي الملائكة في الآيتين كانا عند كبر مريم في زمان واحد او زمانين متقاربين يليق اعتبارهما حينا واحدا كالسنة ونحوها. واما إبدالها من إذ يختصمون فبعيد جدا لأن الاختصام كان بحسب الظاهر في صغر مريم والبشرى في كبرها عند حملها بالمسيح واعتبار الزمانين في مثل ذلك حينا واحدا بعيد (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) سمي عيسى بالكلمة لأنه تكون في رحم أمه من غير فحل بل بكلمة الله وهو قوله «كن» وذلك كناية عن إرادته التكوينية بدون اسباب ومعدات فالمسيح بمنشئه كلمة من عند الله. ولأنى المراد بالكلمة هو الذكر جيء بالضمير في «اسمه» مذكرا باعتبار المعنى. والمسيح لقب لعيسى وابن مريم نسبة له ولكن يصح في التوسع أن يقال اسمه المسيح عيسى بن مريم. ولعل تسميته بالمسيح مأخوذة من العادة الاسرائيلية في الزعيم الروحاني يمسحه للزعامة الروحانية من هو قبله من الزعماء فصار ذلك لقبا للزعيم الروحاني فكان المسح وسام الروحانية كالتتويج للملك. ونص على نسبته لأمه لبيان ان نسبته في الولادة منحصرة بأمه ردا على من يسميه ابن الله. ولعل من ذلك ما اتفقت عليه الأناجيل في حكايتها عن كلام المسيح انه يعبر عن نفسه بابن الإنسان ليكون

٢٨٣

وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ

____________________________________

ذلك ردا على من يزعم انه ابن الله بحسب الولادة (وَجِيهاً) أي ذا جاه (فِي الدُّنْيا) مستجاب الدعوة مختارا للرسالة قدوة للمؤمنين متبوعا للصالحين مظهرا للمعجزات والكرامات (وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ٤٤ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) بالأمور الإلهية وما ينفعهم حال كونه (فِي الْمَهْدِ) وجملة يكلم حالية معطوفة على «وجيها» كجملة ومن المقربين ، ومن كلامه في المهد ما ذكر من أول الآية الحادية والثلاثين الى آخر الرابعة والثلاثين من سورة مريم المكية (وَ) يكلم الناس بالأمور الإلهية وتبليغ الرسالة حال كونه (كَهْلاً) وفي ذلك بشرى لمريم بأنه (ع) يبلغ زمان الكهولة واشارة الى انه لا يبقى بين الناس الى زمان الشيخوخة. والمعروف انه (ع) أرسل الى الناس وهو ابن ثلاثين ورفع الى السماء بعد ثلاث سنين (وَمِنَ الصَّالِحِينَ ٤٥ قالَتْ رَبِّ أَنَّى) ومن أين (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ) الحال اني (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لعلّ مرجع سؤالها الى ان ولادتها هل تكون على جاري العادة بالتزويج. ومن هو زوجها الذي تلد منه لأن الولادة على غير العادة أمر غريب عجيب (قالَ كَذلِكِ اللهُ) أي الله كذلك يرزقك على خلاف العادة المقدرة وإن لم يمسسك بشر فإنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كيف شاء انه (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قد مضى الكلام في هذا في الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة البقرة ٤٦ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) الواو عاطفة وجملة يعلمه للحال معطوفة في نسق الأحوال على وجيها. والمراد بالكتاب اما مصدر كتب أي الكتابة بيده واما كتاب غير التوراة والإنجيل او نوع الكتب وذكرت التوراة والإنجيل لأهميتهما من باب عطف الخاص على العام (وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ) وهي في الأصل اسم للكتاب الذي أنزل على موسى (ع) وهو في العبرانية اسم للشريعة. نعم جرى الاصطلاح أخيرا على ان كتب اليهود التي تسمى بالعهد القديم تسمى بالتوراة. والظاهر انه اصطلاح لا اعتداد به في هذا المقام (وَالْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب الواحد الذي أنزل عليه (ع). ويقال ان معناه في اليونانية القديمة «التعليم» (وَ) حال كونه (رَسُولاً) من الله (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) باعتبار ابتدائه بهم في

٢٨٤

أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

____________________________________

الدعوة (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) لما كانت دعوى الرسالة تؤيد بالحجة عليها كان ذكر المعجز يجعل الكلام كالصريح بما معناه حال كونه يقول لهم حجتي اني جئتكم. وقد ذكرنا (١) ان الحذف لما يدل عليه الكلام بسياقه باب من أبواب البلاغة عند العرب (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) المراد نوع الآية وما يكون حجة على الرسالة وإن كان ما جاء به آيات متعددة (أَنِّي) المصدر المنسبك من «ان» وجملتها بدل من آية او خبر لضمير محذوف يعود على آية والتقدير هي اني (أَخْلُقُ) وأصور (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) وليس في ذلك آية فإن تصوير الطين مقدور للبشر (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً) حقيقيا (بِإِذْنِ اللهِ) وخلقه له طبرا والحجة بإظهار الله لهذا المعجز على يد المسيح وفي التبيان ومجمع البيان في التفسير انه صنع من الطين كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طائرا. ورواه في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير عن ابن جريح وابو الشيخ عن ابن عباس ولا ينهض شيء من ذلك حجة (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) وهو الذي يولد أعمى او مطلق الأعمى (وَالْأَبْرَصَ) وهو معروف (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وفعله وإنما نسب الإبراء والاحياء اليه لأنه السبب ببركته ودعائه في ظهور هذا المعجز من الله على يده. وفي جمع الموتى دلالة على تعدد صدور الاحياء من الله بسببه. وفي الصافي في الكافي والعياشي عن أبي عبد الله (ع) وذكر احياء عيسى لصديقه. ورواه ايضا في الدر المنثور والقصة تشبه أن تكون قصة «اليعازر» المذكورة في إنجيل يوحنا (وَأُنَبِّئُكُمْ) من الغيب (بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) مما لا يدري به غيركم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) كافية في إرشادكم بدلالتها القاطعة الى الإيمان بأني رسول الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وانه بلطفه يرسل رسله لهداية عباده الى الصلاح ودعوتهم الى السعادة. وانه جل شأنه يمتنع على قدسه اظهار المعجز على يد الكاذب. او ان كانت لكم ملكة الإيمان بما تقوم به الحجة وتشهد له الآيات. لا ممن استحوذ عليهم الشيطان وأضلهم

__________________

(١) في تفسير سورة البقرة قبل الآية الثامنة والعشرين

٢٨٥

(٤٧) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٨) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٤٩) رَبَّنا آمَنَّا

____________________________________

الهوى كما قال الله في سورة الأنعام ١١١ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) ـ ١٢٤ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) ٤٧ (وَمُصَدِّقاً) أي وجئتكم حال كوني مصدقا (لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي لما تقدمني (مِنَ التَّوْراةِ) «من» بيانية (وَلِأُحِلَ) عطف على مصدقا (لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في التوراة مما زال عنه مقتضى التحريم. ولعل منه ما في قوله تعالى في سورة النساء ١٥٨ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كرر ذكر الآية تأكيدا في الحجة وتمهيدا لقوله (فَاتَّقُوا اللهَ) وتحذروا من غضبه وعقابه بما يقيكم من ذلك كطاعته والإيمان بآياته وشهادتها لرسله (وَأَطِيعُونِ) فإني أدعوكم الى الله والى سبيل سعادتكم في الدنيا الآخرة (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وإلهنا جميعا وخالقنا ومدبر أمورنا واليه مرجعنا وإني وإياكم عباده لا إله إلا هو (فَاعْبُدُوهُ) واخضعوا له خضوع العبد لإلهه. ومن عبادته أن لا تشركوا به شيئا (هذا) أي تقوى الله وعبادته وطاعة الرسول في دعوته الى الله وتوحيده ودين الحق (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يهتدي من ضل عنه ٤٨ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) بآيات الله ورسالته (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي في الدعوة اليه بالإيمان به وبآياته وما أرسل به رسوله (قالَ الْحَوارِيُّونَ) في العيون مسندا عن الرضا (ع) انهم سموا حواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) في الدعوة الى دينه والجهاد في سبيل الحق (آمَنَّا بِاللهِ) ولا نكفر ككفرهم (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) داخلون في سلم الله لا نحاده ولا نخالف أوامره ونواهيه ولا نعانده فيما أمر به من الدعوة الى سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم التفتوا الى التشرف بخطاب الله والاعتراف له بنعمة الإيمان والدعاء بدوام توفيقهم لذلك فقالوا ٤٩ (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى فيما جاء به من عندك (فَاكْتُبْنا) بتوفيقك وتثبيتك (مَعَ الشَّاهِدِينَ)

٢٨٦

بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ

____________________________________

بالحقّ الدائبين على ذلك. ثم التفت القرآن الى حال الذين أحسّ عيسى منهم الكفر بقوله تعالى ٥٠ (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) بعض اللغويين فسر المكر بالخديعة. وفي التبيان «والمكر وان كان قبيحا فإنما اضافه الله الى نفسه لمزاوجة الكلام كما قال (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). والثاني ليس باعتداء وإنما هو جزاء» ونحوه في مجمع البيان. وكأنهم نظروا في ذلك الى ان الكثير من استعمال الناس للفظ المكر هو فيما يساوق استعمالهم للفظ الخديعة من الإنسان لإيصال الضرر المحرم الى غيره وبذلك يكون قبيحا. ولكن استعمال القرآن الكريم وبعض الموارد يرشد الى ان المكر هو اعمال خفية على الغير في معاملته على غفلة منه عنها. وقد جاء في القرآن الكريم منسوبا الى الله بدون مزاوجة كقوله تعالى في سورة الأعراف ١٩٧ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) وقال الله هنا وفي سورة الأنفال ٣٠ (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فأطلق لفظ الماكر عليه جل شأنه وعلى غيره يعني الظالمين بلفظ واحد ولا يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معا. وعموم المجاز يأباه المقام. وقد ورد في الدعاء في خطاب الله «ولا تمكر بي في حيلتك» بدون مزاوجة. وفي نهاية اللغة «وفي حديث الدعاء اللهم امكر لي ولا تمكر بي». واما ما أسنده ابن بابويه عن الرضا (ع) من قوله ان الله لا يمكر ولكنه يجازي على المكر فإن في سنده جهالة وإهمال ويمكن أن يريد نفي المكر بالمعنى الذي يساوق الخديعة لإيصال الضرر القبيح كما ذكرناه. والا فإن عرض الرواية على ما ذكرناه من القرآن كما أمرنا به اهل البيت يوجب الوثوق بعدم صدورها عنهم عليهم‌السلام. هذا ولعل المراد من مكرهم ما يذكر من انهم قالوا لملكهم ان عيسى يطلب الملك لنفسه فوافقهم على صلبه وقتله. والمراد من مكر الله هو إلقاء شبه المسيح على غيره ورفعه الى السماء. وفي تفسير القمي مسندا عن الباقر (ع) ان المسيح قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي فقال شاب أنا يا روح الله فقال فأنت هوذا. ونحوه في رواية الدر المنثور مما أخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وروى عن وهب بن منبه مما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير ان الذي القى عليه شبه المسيح

٢٨٧

(٥١) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(٥٢) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ

____________________________________

وصلب هو الذي كان من أصحابه وأخذ من اليهود ثلاثين درهما فدلهم على المسيح ليقتلوه. ونحوه في التفسير الذي أبطلنا نسبته للإمام العسكري (ع). كما حكى نحو ذلك في إنجيل برنابا وانه يهوذا الاسخريوطي. والله العالم. ولعل السر في هذا التشبيه هو انه لو غيب عنهم المسيح ورفع إلى السماء في الخفاء لا تهموا اهله والمؤمنون به بإخفائه فعمهم البلاء وكثر فيهم القتل والتنكيل وفضيحة النساء طلبا لإظهاره. ولو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس لاستحكمت شبهة ألوهيته وسرت حتى إلى بعض المؤمنين والله خير الماكرين فإن مكره وتدبيره الخفي لا يكون إلا جاريا على الحكمة لا يفوته اللطف بالعباد ٥١ (إِذْ) ظرف لمكر الله (قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي آخذك من بين الناس ومن عالم الأرض وقد مضى الكلام على ذلك في الفصل الرابع من المقدّمة (وَرافِعُكَ إِلَيَ) قال جل شأنه (الي) وهو لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان تكريما للمسيح وتفخيما لغاية الرفع من الأرض التي فيها الكافرون والفساق الى السماء الممحضة لتسبيح الله وتقديسه فكنى عن ذلك برفعه إلى الله (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اي من رجس قربهم والابتلاء بمجاورتهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اما النصارى فليسوا ممن اتبع المسيح كيف وقد أشركوا بالله وألهوا المسيح ، وثلثوا الآلهة ولم يبقوا لهم شريعة وأن أناجيلهم وكتبهم لتقول ان المسيح لم يبطل شريعة التوراة بل هم من بعده أبطلوها. وأن الذين اتبعوه على دين الحق ملة ابراهيم انما هم المؤمنون الموحدون حق التوحيد من قومه ومن بعدهم المسلمون بدعوة رسول الله. وعبر بالماضي باعتبار المؤمنين من قومه فإن جنس الذين اتبعوه قد مضى له التحقق باعتبار بعضه فهم فوق الذين كفروا مستمرين على ذلك (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) بالحشر جميعا (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والإيمان وشريعة الحق ٥٢ (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) كما ابتلوا بذلك البلاء العظيم من القتل العام والذلة الشاملة في

٢٨٨

(٥٣) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٤) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٥) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٥٧) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ

____________________________________

حادثة طيطوس وبقوا بعد ذلك للقتل والجزية وذلة المحكومية ٥٣ (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ) الله وفيه التفات من التكلم في مقام الإرهاب بسطوته الى الغيبة في مقام ثقة المؤمنين بالجزاء (أُجُورَهُمْ) وذلك اشرف الغايات (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ٥٤ ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) بالوحي يا رسول الله (مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ) أي القرآن (الْحَكِيمِ). ولما ذكر الله ولادة المسيح من مريم من غير فحل على خلاف العادة. وقد أثار الضلال من ذلك شبهتين بين الناس إحداهما تهمة اليهود لمريم والثانية زعم النصارى انه ابن الله. فلذلك احتج على الفريقين بما يعرفونه ويعترفون به من خلقة آدم فما ذا يقول اليهود في آدم. وماذا يقول النصارى فيه فقال جل وعلا ٥٥ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) في تصرف القدرة الإلهية بولادته بما هو بشر على خلاف العادة (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ) وصوره (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) بشرا حيا (فَيَكُونُ) لم يقل جل شأنه «فكان» لأن الماضي لا يدل على لزوم ترتب الكون على ان يقال «كن» بل هو يعم الترتب اتفاقا بل هذا هو الظاهر والقدر المتيقن منه فجيء بالمضارع ليدل على الملازمة وانه جلت قدرته إذا قال لشيء كن فإنه يكون لا محالة ٥٦ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي الاخبار بأحوال المسيح هو الحق من ربك (فَلا تَكُنْ) ايها السامع (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين. او يكون الخطاب لرسول الله (ص) على النحو الذي ذكرناه في الآية الثانية والأربعين بعد المائة من سورة البقرة ٥٧ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي في عيسى زاعما انه إله وابن الله متشبثا بولادته من غير فحل. والمحاجة تبادل الاحتجاج. والحجة أعم من البرهان الصحيح والجدل الفاسد كما أشرنا اليه في سورة البقرة ١٤٤ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) المعقول والمحسوس والموحى به من ان الله جل شأنه واحد لا يكون ثلاثة ولا شريك له في الإلهية ولا يلد. وان البشر الجسماني المتحيز المتغير الذي يجوع ويتألم ويبكي ويحزن ويحتاج لا يعقل ان يكون إلها. وان خلق الله للحيوان

٢٨٩

فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ

____________________________________

والإنسان لا يتوقف على التولد من ذكر وأنثى كما هو المعروف في الفار والدجاج وتتم العبرة بخلق آدم (فَقُلْ) لهم قطعا للمعاذير وحسما لإصرارهم على الغي والضلال بعد ما جئت به من الحق والحجة القاطعة مما جاءك من العلم هلم الى المباهلة والدعاء بأن يلعن الله الكاذبين في دعاويهم ويبطش بهم ويهلكهم ويخزيهم (تَعالَوْا نَدْعُ) أنا وأنتم لهذه المباهلة وعاقبتها المخوفة أهم من يحافظ الإنسان على سلامته وحفظ شرفه وصونه ومقامه في الحياة (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) والمقصود أهم من ينسب الى الشخص من النساء في مقام الاهلية والرابطة العرضية اللازمة كالأم والأخت والبنت دون الزوجة التي تدنو بكلمة التزويج وتبعد بكلمة الطلاق (وَأَنْفُسَنا) أي وندع أنفسنا ولا بد من أن يكون الداعي غير المدعو والمراد هو الشخص الذي يرى داعيه ان وجوده في الأثر والمزايا والفضيلة والغاية بمنزلة وجوده في ذلك أو اقرب الناس إلى مقام وجوده وما يطلبه من غاية وجوده وبذلك يقول هذا نفسي بتنزيل صحيح ومجاز مقبول (وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نحن أو نحن وهم أي ندعو باللعن (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ) والمراد نكاله وعقابه الدنيوي (عَلَى الْكاذِبِينَ) وقد اتفقت الرواية في شأن النزول ان نصارى نجران (١) وفد بعض من زعمائهم الروحانيين على رسول الله (ص) في المدينة فاحتج (ص) عليهم في أمر عيسى وانه بشر رسول من الله وليس بإله كما يزعمون فلم ينيبوا الى الحق بدلالة الحجة النيرة فأمر الله رسوله أن يدعوهم الى المباهلة فدعاهم بمقتضى الآية الكريمة فقال بعضهم لبعض ان جاءنا بأهله وخاصته فهو على يقين من أمره فلا تباهلوه. فغدا (ص) عليهم للميعاد ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم. وفي حديث مسلم والترمذي والحاكم وابن المنذر

__________________

(١) نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة. والمخلاف في لغة اليمن كالكورة والصقع في غيرها وكالرستاق في العراق. وذكرت لتنصر أهلها اسباب لا يعول على نقلها ولا تلائم الحقيقة بصحتها. وفد اساقفتهم على رسول الله (ص) فدعاهم الى المباهلة فلما صار الغد أبوا وصالحوه سنة عشرة من الهجرة وكتب لهم بذلك كتابا ويروى انه لما ولي ابو بكر أمضاه ولما ولي عمر اجلاهم واشترى منهم أموالهم

٢٩٠

والبيهقي عن سعد ان رسول الله (ص) قال اللهم ان هؤلاء أهل بيتي فأبى أولئك أن يباهلوه وعاهدوه على الجزية. وفي رواية ابن اسحق والثعلبي والكشاف والرازي وأبي السعود وغيرهم في تفاسيرهم والمالكي في الفصول المهمة ان اسقف نجران قال اني لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا. وفي حديث جابر كما في مستدرك الحاكم واسباب النزول للواحدي وغيرهما «أبناؤنا الحسن والحسين. ونساؤنا فاطمة. وأنفسنا علي بن أبي طالب» وفي صواعق ابن حجر اخرج الدارقطني ان عليا (ع) يوم الشورى احتج على أهلها فقال أنشدكم بالله هل فيكم أحد اقرب إلى رسول الله (ص) في الرحم مني ومن جعله نفسه وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري قالوا اللهم لا. الحديث أقول والقدر المشترك في الأحاديث هو ان رسول الله (ص) دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين (ع) ليباهل بهم نصارى نجران رواه الفريقان بأسانيدهم عن جماعة من الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيت. ففي كتب اهل السنة أخرجه مسلم والترمذي في جامعيهما وابو نعيم في الدلائل والبيهقي في سننه وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم في مستدركه وابن مردويه والثعلبي في تفسيره والواحدي في اسباب النزول وابن اسحق في المغازي وموفق بن احمد وابن المغازلي والحمويني والمالكي في فصوله والسيوطي في الدر المنثور وغيرهم بأسانيدهم عن سعد بن أبي وقاص وجابر وابن عباس وعليا اليشكري وجد سلمة. وعن الشعبي والحسن والسدي ومقاتل والكلبي. بل ذكره جل المفسرين وقل ما يخلو من روايته كتاب تفسير. وفي كتب الشيعة أخرجه القمي في تفسيره والمفيد في اختصاصه والصدوق في العيون والشيخ في اماليه عن علي امير المؤمنين (ع) وعن أبي ذر (رض) ان عليا (ع) احتج بذلك يوم الشورى. وسعد بن أبي وقاص والحسن السبط (ع) وجد محمد بن المنكدر والصادق والكاظم والرضا والهادي عليهم‌السلام. فهذا الحديث مروي بالأسانيد المتعددة عن تسعة من الصحابة وخمسة من التابعين وستة من أئمة اهل البيت (ع) : ونتيجة الآية الكريمة والحديث القطعي هي ان الله عزوجل امر رسوله بأن يسمي علي نفسه ليبين للناس انه ثانيه من أمته في الفضيلة والغاية الكريمة والولاية العامة والزعامة الكبرى والقيام بأمر الأمة والدين وسياسته والإمامة التي هي دعوة ابراهيم في قوله «ومن ذريتي». وهل ترى غير الواجد لهذه المزايا يأمر الله رسوله بأن يسميه نفسه. ألا ترى انه لا يصح لأحد يعرف كيف يتكلم ان يقول

٢٩١

عن شخص آخر انه نفسي إلا إذا كان ذلك الشخص في نظر القائل ثانيه في مزاياه والوجه المطلوب منه وثقته في ذلك. ولعمر الحق ان هذا أمر جلي. ولقد تكرر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان هذا المعنى المتجلي من قوله «وأنفسنا» كما امره الله وشرحه بعبارات متناسبة في الإيضاح واقامة الحجة فهي «نور على نور» كقوله (ص) لعلي (ع) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي وقوله (ص) في ذلك المشهد العظيم في غدير خم مخاطبا للمسلمين «ايها الناس ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» فلما قالوا اللهم بلى قال على النسق آخذا بضبع علي (ع) «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» وغير ذلك مما يضيق عنه هذا المقام. وهو مدون في كتب الفريقين كالشمس رأد الضحى. هذا وان ابن تيمية في كتاب منهاج السنة قد اعترف بصحة الحديث الدال على ان نفس رسول الله (ص) في الآية هو علي (ع) ولكن حاول ان يمنع ما أشرنا الى وجهه الوضاح من الدلالة على امتياز امير المؤمنين بالفضيلة ومقام الإمامة في الأمة والزعامة الكبرى فقال ما ملخصه ان المراد بالأنفس في الآية هو من يتصل بالقرابة والقومية واستشهد لذلك بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). (لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ). (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ). فقل له ان اضافة النفس قد تقع باعتبار نوع من الرابطة كالقرابة والجامعة القومية. فيقال أنفسكم وأنفسهم كما يقال رجالكم ورجالهم وانفس البلدة والمملكة. ولكن هل يخفى ان النفس إذا جعلت مقابلة للأقرباء بل اقرب الأقرباء كما في الآية وفي قوله تعالى في سورة التحريم ٦ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وفي سورتي الزمر ١٧ والشورى ٤٣ (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) فلا تكون النفس مستعملة إلا على وجه الحقيقة في نفس الإنسان الذي أضيفت اليه كما في آيات التحريم والزمر والشورى. او على وجه المجاز والاستعارة لمن ينزل بما أشرنا اليه من وجوه الشبه بحسب كل انسان بمنزلة نفس الإنسان الخاصة به كما في هذه الآية لما ذكرناه من الدعوة والرواية الصحيحة المستفيضة المتفق عليها. ومن الظرائف ان ابن تيمية فطن إلى انه لو كان التعبير بالنفس ناظرا إلى القرابة لدعي العباس عم الرسول وأولاده وأمثالهم من بني هاشم فإنهم كانوا مسلمين مهاجرين في المدينة لأن وفد نجران جاء في السنة العاشرة أو التاسعة من الهجرة ولأجل ما فطن له قال في التخلص منه لأن العباس لم يكن من السابقين ولا كان له اختصاص بالرسول كعلي واما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي انتهى فانظر إلى اضطراب هذا الرجل فإنه

٢٩٢

بعد الاطناب في المغالطة والغفلة عن مقابلة النفس بأقرب الأقرباء رجع إلى الاعتراف بأن المقام مقام امتياز في الفضل الديني وكرامة المقام الأرفع بحيث يناسب ان يأمر الله رسوله بأن يعبر عن علي لأجل ذلك بأنه نفسه. ولا يخفى ان هذا ليدل على أقصى ما تسعه الاستعارة ووجه المجاز في التفوق بالكمال والولاية العامة بعد ما يختص بالرسالة تفوقا تلزمه الإمامة بعد رسول الله (ص)

وما عشت أراك الدهر عجبا فإن الشيخ محمد عبده مع تظاهره ورغبته بأن يعرف بحرية الضمير والنزعة. ونزاهة البحث كأنه التفت الى حقيقة النتيجة من الآية الكريمة والحديث وفطن الى ما يرد على شيخه ابن تيمية فيما قاله فأراد ان يسد بابا فتحه الله ورسوله على مصراعيه فقال في درسه على ما ذكره صاحب المنار في تفسيره. ان الروايات متفقة على ان النبي (ص) اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديها ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من اهل السنة ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة «نسائنا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج وابعد من ذلك ان يراد بكلمة «وأنفسنا» علي (ع) أقول لماذا لا يقول العربي نساءنا نظرا إلى الجنس ومجانسة الجمع بالجمع في اللفظ وهو يريد بها بنته لأن ذلك أقرب إلى الحشمة من التصريح بابنته أو لغير ذلك من وجوه الكلام وهل يقول ان النساء لا تطلق إلا على الأزواج. إذن فما ذا يقول بقول القرآن الكريم (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ). (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ). (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ). (أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَ). (وَلا نِسائِهِنَ). وكثير من مثل ذلك ولا حاجة إلى الاستشهاد بشعر العرب. ومما أشرنا اليه من وجوه الكلام هو بيان ان فاطمة (ع) هي الممتازة الوحيدة من ناحية الرسول من عنوان نساء الأهلين في فضيلتها واهميتها ولياقتها لهذا المقام وقد صح واستفاض عن رسول الله (ص) ان فاطمة سيدة نساء العالمين كما أشرنا اليه في تفسير الآية الأربعين. وكذا الكلام في التعبير بأنفسنا وارادة علي (ع) وحده وقد صح واستفاض عن رسول الله (ص) قوله لعلي (ع) أنت مني وانا منك كما رواه البخاري ومسلم عن البراء والحاكم عن علي (ع) والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين. واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حبشي بن جنادة. واحمد والحاكم عن بريده وأبي رافع وابن أبي شيبة وابن جرير عن بريدة. وانه (ص) جعل

٢٩٣

(٥٨) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

____________________________________

عليا كنفسه كما رواه احمد عن عبد الله بن حنطب من قوله (ص) لوفد ثقيف. وما أخرجه ابن النجار من ان ابن العاص سأل النبي (ص) عن حبه لعلي (ع) فقال ان هذا يسألني عن النفس. وفي اللئالئ المصنوعة عن ابن النجار ايضا عنه بسند آخر قال (ص) علي نفسي فمن رأيته يقول في نفسه شيئا. وعن أبي عمر الزاهد في كتاب اليواقيت عنه ايضا بسند آخر فقال (ص) ما ظننت أحدا يسأل عن نفسه. لكن إذا ذكرنا هذه الروايات وأمثالها قيل ان مصادرها الشيعة ومقصدهم منها معروف إلى آخر الكلام المتقدم ويحكم الله وهو خير الحاكمين .. وقد جاء الجمع وارادة الواحد منه في القرآن الكريم. أفلا يكفي من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ونحوه (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ). الى آخره. (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ). إلى آخره. (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ). إلى آخره. (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ). إلى آخره. والمراد من المرسلين في كل من الآيات هو واحد.

ومن أين لنا أن يروى أحاديث المباهلة وأمثالها في فضل علي وأهل البيت مسندة الى عصرنا عن أمثال عمران بن حطان ، ولمازة بن زياد ، وعبد الله بن شقيق ، ونعيم بن هند وجرير بن عثمان ، وأزهر بن عبد الله ، وابراهيم السعدي ، وأمثالهم ممن شهد علماء رجالهم بنصبهم العداوة لأهل البيت (ع) وإن تساهل في امر أحدهم بعض كابن حجر في التقريب قال فيه «يرمى بالنصب» ـ وليت شعري ماذا أبقى هذا الشيخ من الشأن لحديثهم وجوامعهم ومحدثيهم وتفاسيرهم ومفسريهم إذا كان يروج على عامتهم مثل ما زعمه من الوضع ٥٧ (إِنَّ هذا) وهو ما ذكر من ولادة عيسى وخلق الله له واعترافه بأن معجزاته إنما هي بإذن الله وان الله ربه ورب الناس. وأمره بعبادة الله. وغير ذلك مما يدل على ان عيسى بشر مخلوق لله وأمره بيده وطوع قدرته (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) والذي يعترف النصارى به وتذكره كتبهم التي ينسبونها الى الوحي (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) واين المسيح عيسى من الإلهية وقد جرى عليه من الاضطهاد ما جرى. ولم يزل يفزع بالدعاء والخضوع والتضرع الى الله (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ

٢٩٤

(٥٩) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في إلهيته وتقديره وتدبيره. وكل من عداه ذليل في مخلوقيته وحاجته فكيف يكون غير الله إلها معه ٥٨ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن تصديقك واتباع الحق (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإنهم مفسدون يريدون إغواء الناس واضلالهم إفسادا في الأرض والله عليم بهم يجزيهم جزاءهم ٥٩ (قُلْ) يا رسول الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي مستوية بيننا وبينكم في تلاوتنا جميعا لها فيما هو من كتب الوحي او ينسب الى الوحي كما يوجد في توراتكم وأناجيلكم وسائر كتبكم التي تنسبونها الى الوحي من توحيد الله وانه هو الإله والرب المدبر لخلقه وحده لا شريك له. ومن جملة ذلك في توراتكم عن قول الله «لتعلم ان يهوه (١) هو الإله ليس آخر سواه ـ ان يهوه هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل ليس سواه (٢)» «انا أنا هو وليس إله معي (٣)» ونحوه في التوحيد ونفي الشريك في المزمور الثامن عشر ٣١ وفي كتاب اشعيا ٤٤ : ٦ و ٨. وفي سفر التثنية من التوراة ٦ : ٤ وفي إنجيل مرقس ١٢ : ٢٩ يهوه إلهنا يهوه واحد. وفي إنجيل يوحنا ١٧ : ٣ وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك انك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ـ وهذه الكلمة هي أن لا نخضع خضوع العبد لإلهه من حيث انه إله كما هو معنى العبادة و (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) وحده (وَلا نُشْرِكَ بِهِ) في العبادة ونسبة الإلهية (شَيْئاً) ولا نقول لشيء غير الله انه إله (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا) معاشر البشر (بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فان الله إذا قال أنا هو الرب والرب واحد. فإن قولكم ان البشر رب كما قلتم في عيسى يرجع الى جحد ربوبية الله ويكون جعلا للبشر الحادث والخاضع للآلام وحاجة البشرية وكوارثها ربا من دون الله. او يكون المعنى أربابا في المرتبة النازلة عن مرتبة الله كما هو رأي الوثنيين في شركائهم بأي عنوان كان من التنزلات الموهومة. ولا مانع من ان يخاطب اليهود ، والنصارى بأمر مشترك بينهم وفي

__________________

(١) يهوه في العبرانية اسم علم لله جل اسمه كما تصرح به التوراة في سفر الخروج ٣ : ١٥ و ٦ : ٣

(٢) سفر التثنية ٤ : ٣٥ و ٣٩

(٣) التثنية ٣٢ : ٣٩

٢٩٥

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٢) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ

____________________________________

الأثناء يذكر ما يخص النصارى. أو ان ذلك شامل لليهود باعتبار قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). كما في سورة التوبة. والظاهر ان المراد يضاهون قول البراهمة والبوذيين وغيرهم في نسبة الابن الى الله باعتبار التنزل في الإلهية. وربما يكون اتخاذ الأرباب هنا على حد قوله تعالى في سورة التوبة ٣١ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ففي الكافي والمحاسن عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) انهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون. وعن المحاسن ايضا عن الصادق (ع) نحوه. ونحوه ما أخرجه الترمذي وجماعة ذكرهم في الدر المنثور في سورة التوبة عن عدي بن حاتم عن رسول الله (ص) وعن جماعة ايضا عن حذيفة وعن المحاسن وايضا بسند فيه إرسال عن الباقر (ع) ما صلوا لهم ولا صاموا ولكن أطاعوهم في معصية الله. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابو الشيخ والبيهقي عن حذيفة وذكر نحوه. وعن العياشي برواياته عن الصادق والباقر (ع) نحو ما ذكرناه عنهما (ع). وفي مجمع البيان عن تفسير الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم في آية التوبة قلت أي لرسول الله انا لسنا نعبدهم فقال (ص) أليس يحرمون ما أحله الله فتحرمونه ويحلون ما حرمه الله فتستحلونه قلت بلى قال (ص) فتلك عبادتهم. وقيل (كَلِمَةٍ سَواءٍ) أي عادلة وما ذكرناه ابلغ في الدعوة واظهر في الحجة. لاستظهارها بالالزام بما في كتبهم واشارتها الى ان الاستواء في هذه الكلمة يشير الى انها من أساسيات كتبهم وأوليات العقل ولباب المعقول ، وبينات البداهة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بسوء اختيارهم وغيهم ولم يقبلوا على هذه الدعوة الوحيدة في الكرامة (فَقُولُوا) لهم أنت يا رسول الله والمسلمون (اشْهَدُوا) واعلموا مما تشاهدونه من حالنا في التوحيد واشهدوا علينا تثبيتا لاعترافنا بالحق وانا على بصيرة من أمرنا (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لله لا نحادّه بالشرك ولا نتخذ غيره ربا ٦٠ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) ويزعم اليهود انه يهودي ويزعم النصارى انه نصراني ، وتتشبثون في حجتكم الداحضة بمجرد الدعاوي المستحيلة. والحال ان غاية التشبثات لليهودية ترجعونها الى رسالة موسى ونزول التوراة عليه. وغاية التشبثات للنصرانية ترجعونها الى رسالة المسيح ونزول الإنجيل فضلا عن ان الرائج من اليهودية والنصرانية إنما هو من البدع التي حدثت بعد موسى

٢٩٦

وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٣) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٤) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٥) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٦) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ

____________________________________

والتوراة والمسيح والإنجيل. وأين ذلك من ابراهيم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) بقرون عديدة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كيف تتكلمون وكيف تدعون ٦١ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) بعينكم أي لا أوجه الخطاب والتوبيخ إليكم باعتبار ما فعله اسلافكم بل أنتم بأنفسكم (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي أخذتم في محاجتكم أمورا معلومة فصرتم تغالطون فيها وتتشبثون بها وذلك كرسالة موسى والتوراة فصرتم تلصقون بها مزاعمكم الفاسدة. وكولادة عيسى من غير فحل وبعض معجزاته فصارت النصارى تزعم من ذلك ان عيسى المولود من مريم إله مع الله (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) بل هو من المستحيلات بلا مغالطة فيه بالتشبث الواهي بأمر معلوم (وَاللهُ يَعْلَمُ) حالكم والحقيقة واضحة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٦٢ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) يقول في الإله (الوهيم) بصيغة الجمع كما ملأوا منه توراتهم الرائجة. وكما كتبوا في كتاب ارميا ٢٣ : ٣٦ الوهيم حييتم يهوه صيباؤت الوهينو» أي الآلهة الاحياء رب الجنود آلهتنا. ولا يقول بفلتات توراتهم في الجرأة على جلال الله. كما في نهي آدم عن الشجرة وحكاية برج بابل ومصارعة يعقوب وغير ذلك مما ذكر بعضه في الجزء الأول من «المدرسة السيارة» (وَلا نَصْرانِيًّا) يثلث الآلهة ويأله البشر وينسخ الشريعة بالكلية بمجرد الاستحسان (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) موحدا بحقيقة التوحيد (مُسْلِماً) أي داخلا في سلم الله في توحيده وحقيقة عرفانه وطاعته (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٦٣ إِنَّ (١) أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على حنيفيته وإسلامه وملته في الدين من الأنبياء والموحدين الصالحين من الناس (وَ) على الخصوص (هذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه فإن هذا النبي من اكبر الداعين الى الإسلام ملة ابراهيم على حقيقتها (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ٦٤ وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ودت بمعنى تمنت. ولو يضلونكم تفسير لها. والاستقبال

٢٩٧

وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٧) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٦٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٦٩) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٠) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ

____________________________________

إنما هو بالنسبة للتمني لا للخطاب (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ يزيد على ضلالها بضلالها في محاولة إضلال المؤمن الموحد على بصيرة من أمره (وَما يَشْعُرُونَ ٦٧ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بأنها من الله بحسب ما تتلونه من كتب وحيكم من التوراة والإنجيل وغيرهما في البشرى بها وبالرسول الذي يأتي بها بحيث يتعين مما تتلونه ارادة هذه الآيات بخصوصها أو المراد وأنتم تشهدون وتعاينون ما يدل على انها من الله ٦٨ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي تجعلون الباطل لباسا على الحق تغطونه به محاولة لحجبه ومخادعة في أمره لتموهوا أمركم (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) به ٦٩ (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الظاهر انهم من اليهود قالوا لبعض قومهم تعليما لهم بمخادعة المؤمنين في محاولة اضلالهم عن الحق (آمِنُوا) أي تظاهروا بالإيمان الصوري (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) أي في أوائله (وَاكْفُرُوا) أي وصارحوهم بالكفر والارتداد (آخِرَهُ) فلعل المسلمين من هذه المخادعة يحسبون ان كفركم به وارتدادكم في يومكم كان عن بصيرة وعلم منكم بانكشاف خطأكم في إيمانكم به وجه النهار و (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بهذه الخديعة عن إيمانهم ويرتدون عن دينهم ، روى القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن الباقر (ع) في هذا المقام رواية ضعيفة بأبي الجارود بعيدة الانطباق على الآية وقالت تلك الطائفة ايضا لقومهم في اغوائهم واغرائهم بالدوام على الضلال وكتمان الحق ٧٠ (وَلا تُؤْمِنُوا) أي ولا تبدوا إيمانكم بما في كتب وحيكم من ان الله يؤتي النبوة والوحي نبيا مثل موسى بنحو يتعين منه نبي المسلمين ولا تعترفوا بذلك (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وكان منكم فإنه يخفيه كما نخفيه (قُلْ) لهم يا رسول الله أتحسبون ان الهدى الى الحق منوط في حصوله وعدمه باعترافكم بما في توراتكم وكتبكم واظهاركم الايمان كلا بل (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) يهدي من يشاء بلطفه ممن لم يتعصب على الحق الى سواء السبيل

٢٩٨

أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧١) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٢) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ

____________________________________

وجملة «قل ان الهدى» ، معترضة في أثناء كلامهم في الإغواء جيئ بها للتعجيل في تقريعهم وتسفيه رأيهم في غوايتهم (أَنْ يُؤْتى) اي ولا تؤمنوا لغير من اتبع دينكم بان يؤتى (أَحَدٌ) من غيركم (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) باعتبار انبيائكم وكتبكم من النبوة والرسالة والكتاب والشريعة ويكون على وفق ما طلبتموه من موسى فأخبركم بان يقيم نبيا من إخوتكم بني إسماعيل كموسى ويجعل كلامه في فيه (أَوْ) تؤمنوا لهم بأنهم (يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بما أخبركم به في شأن رسول الله وقرآنه كلام الله وان لهم عليكم الحجة عند الله بما تعرفونه من الحق (١) او ان المعنى قل ان الهدى هدى الله بان يؤتي احد الى آخره فتكون جملة ان يؤتى متعلقة بما امر الله رسوله ان يقوله لهم وعلى هذا يكون قوله تعالى قل ان الفضل تكرر للأمر بالقول بدون توسط كلام اجنبي يقتضيه والأظهر هو الوجه الأول. وقد نقل في التبيان ومجمع البيان وجهان آخران لا اعتداد بهما (قُلْ) يا رسول الله في تسفيه رأيهم فيما قالوه وتواصوا (إِنَّ الْفَضْلَ) ومنه الرسالة والشريعة والتوفيق لاجابة الدعوة إليهما ونصرة الدعوة وإعلاء كلمتها وظهور الهدى وفلج الحجة وشوكة دين الحق وانتظام جامعته (بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) في فضله ولطفه ورحمته وقدرته (عَلِيمٌ) بمن هو اهل للرسالة وإيتاء الفضل ٧١ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) بالفضل والهدى (مَنْ يَشاءُ) اختصاصه بذلك من عباده لاهليته لذلك (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ٧٢ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) مر تفسير القنطار في الآية الثانية عشرة (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) تمسكا بحكم العقل والفطرة بقبح الخيانة في الأمانة فإن قبولها عهد بحفظها وردّها وقد نهت شريعة الحق عن الخيانة فيها (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) وهو مثقال شرعي من الذهب يساوي نحو نصف ليرة عثمانية (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) في المطالبة والحجة والقوة (ذلِكَ) اي خيانتهم للأمانة (بِأَنَّهُمْ) في مزاعم ضلالهم (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) في الإثم وحرمة أموالهم

__________________

(١) وقد مضى فى شأنهم مثل هذا المعنى في سورة البقرة ٧١

٢٩٩

بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٢) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

____________________________________

قيل ان المراد من الأميين نوع العرب باعتبار ان الغالب منهم لا يقرءون ولا يكتبون. ويحتمل ان يراد منهم من عدى بني إسرائيل فإنهم ينسبونهم الى الأمة والأمم. ويحتمل ان يريدوا اتباع رسول الله الامي. ولعلهم يغالطون لنفي السبيل بما في توراتهم من انها نهتهم عن الانتقام والحقد على أبناء شعبهم. وعن السعي والوشاية بين أبناء شعبهم. وعن شهادة الزور على قريبهم. فيزعمون من ذلك ان غير الاسرائيلي مهدور الحرمة في الأحكام الاجتماعية العقلية ومن ذلك أداء الأمانة (وَيَقُولُونَ) في نفي السبيل وخيانة الأمانة (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انه كذب منهم. فإنهم مع حكم العقل يقرءون مما بقي في شريعة الحق في توراتهم ان الأمانة يجب ردها مطلقا. وان جحد الأمانة والوديعة خطيئة وذنب. وانهم منهيون عن السرقة والكذب والغدر من دون حصر لهذه الأحكام بالإسرائيلي. كما في الفصل السادس والتاسع عشر من سفر اللاويين ٧٢ (بَلى) عليهم في الأميين سبيل وهم مسؤلون عن الأمانة والوفاء بعهدها. وما أحسن الوفاء بالعهد (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) في كتب اللغة أوفى بمعنى وفى. أقول والمستعمل في القرآن الكريم هو أوفى. وأوفى. وأوف. وأوفوا والموفون ، وكلها من أوفى والظاهر ان الضمير في عهده يعود الى الموصول «من» وقيل يرجع الى لفظ الجلالة من قوله تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ). وهو بعيد مع ان قبول الأمانة لا يتضمن عهدا مع الله وإنما يتضمن عهدا مع صاحبها. وان نفس الوفاء بالعهد محبوب لله ولكن ما كل من أوفى بعهده محبوب لله ، بل من أوفى (وَاتَّقى) الله أي اتقى غضبه وعقابه بالأعمال الصالحة وطاعته في أوامره ونواهيه وكانت له التقوى ملكة ومذهبا (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين ديدنهم المحاذرة من ان يعرض الله بوجهه الكريم عنهم والعياذ بالله ٧٣ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي بعهدهم مع الله (وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً) يتعلق الاشتراء بالثمن كما يتعلق بالمبيع. والثمن في الحقيقة احد المبيعين والعوضين (قَلِيلاً) مهما كان مما تحملهم اهواؤهم لأجله على الحنث ونقض العهد (أُولئِكَ لا خَلاقَ) أي لا نصيب ولا حظ (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) لعله كناية عن مقته لهم

٣٠٠