آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

____________________________________

كتب اليهود انه كان أطول من كل بني إسرائيل من كتفه فما فوق (قالُوا أَنَّى) من أين (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) وفي تفسير القمي أو روايته أنه كان من سبط بنيامين (١) قلت وتاريخ اليهود يذكر في أواخر سفر القضاة ان سبط بنيامين قد صدرت من بعضهم بادرة قبيحة فأراد بنو إسرائيل ان يؤدبوا هؤلاء فحماهم سبطهم فحاربهم باقي الأسباط حتى نكلوا بهم فصار سبط بنيامين بعد ذلك سبطا قليلا مستحقرا فيما بين بني إسرائيل (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ليؤسس به ملوكيته وادارتها (قالَ) لهم نبيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً) أي سعة (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) يدبر بعلمه المملكة وشؤون القتال ويملأ ببسطة جسمه الأبصار هيبة تناسب الملوك ومخائل القوة والشجاعة (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فلا اعتراض لكم في ذلك (وَاللهُ واسِعٌ) في فضله ورحمته أي واسع الفضل والرحمة (عَلِيمٌ) بما تقتضيه الحكمة في كل مقام ٢٤٧ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) في مقام الاحتجاج والدلالة على ان طالوت يكون ملكا عليهم وذلك باصطفاء الله له (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) والحجة التي تعرفون بها ذلك (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الصندوق في مجمع البيان انه كان في ايدي اعداء بني إسرائيل غلبوهم عليه لما مرج امر بني إسرائيل وحدث فيهم الأحداث ثم انتزعه الله من أيديهم ورده على بني إسرائيل تحمله الملائكة وروى ذلك عن أبي عبد الله (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في تفسير القمي عن الرضا (ع) انها ريح

__________________

(١) قال الطنطاوي في الجزء الأول من تفسيره صفحة ١٩٠ في كلام بني إسرائيل مع نبيهم في هذا المقام «قالوا ان طالوت ليس من بيت لاوي بيت النبوة ومنه موسى وهارون ولا من بيت يهوذا بيت الملك ومنه داود وسليمان» ـ إلى ان قال فأجابهم وأقول يا للعجب متى كان من قبل ان يملك طالوت لبيت يهودا ملك ومملكة ومتى كان قبل طالوت داود وسليمان ملكين لكي يذكر بنو إسرائيل ملوكيتهما لنبيهم وكيف والذي يعرف من القرآن هو ان داود لما قتل جالوت كان رعية في جند طالوت وانظر إلى كلام المفسر في صفحة ١٩١ ويقول الله في سورة النمل وورث سليمان داود ولم يذكر ان الاشراف من بني إسرائيل احتجوا بسبطين من اسباطهم بل قالوا نحن أحق بالملك منه. وهل كان ذكرهم لملك يهوذا وداود وسليمان تنبئا عن المستقبل؟! إذن اي مؤرخ ذكر هذا التنبؤ منهم وما هي قيمته التاريخية؟!

٢٢١

وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ

____________________________________

من الجنة لها وجه كوجه الإنسان ونحوه في مجمع البيان والدر المنثور عن امير المؤمنين وفي رواية معاني الأخبار عن يونس عن الرضا (ع) روح الله لكن في اصول الكافي في صحيح محمد ابن مسلم عن الباقر (ع) السكينة الإيمان. ونحوه في صحيح حفص وهشام عن الصادق ونحوه في صحيح أبي حمزة عن الباقر وزاد في قوله تعالى (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) قال هو الإيمان ونحوه في صحيح جميل عن الصادق (ع) والظاهر ان هذه التعبيرات تشبيهات وإشارات بحسب حال المورد والخطاب والمخاطب فلعل السكينة أمرا يوجب الامنة والطمأنينة جعله الله في التابوت ليسكن اليه بنو إسرائيل فقد كان لهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحروب وفي التبيان انه الأولى واستظهر نحو ذلك في مجمع البيان وهو احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) من آثار النبوة (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) الجملة حال من يأتيكم وفي روضة الكافي في معتبرة عبد الله بن سليمان (١) عن الباقر (ع) في التابوت ما لفظه «والملائكة كانت تحمله على صورة البقرة» أقول وعلى تقدير صدور هذا المروي عن الإمام (ع) يكون ما في كتب اليهود صورة لما ذكره (ع) من الحقيقة. ففي الفصل السادس من كتاب صموئيل الاول في الآية وخرق العادة في رجوع التابوت وهو ان المشركين لما انتهبوا التابوت من بني إسرائيل أصابهم بلاء من الموت والأمراض فأرادوا أن يردوا التابوت ويستعلموا من حاله وكرامته انه هل هو الذي سبب عليهم ذلك البلاء من الله فتبانوا على ان يجعلوه في عجلة ويربطونها ببقرتين مرضعتين صعبتين لم يعلهما نير وبعد ذلك يرجعون عنهما ولديهما إلى البيت فإن سارت البقرتان بالعجلة على الهدو والاستقامة عرفوا ان هذا الأمر الخارق للعادة من حال البقرتين إنما هو من آيات الله لبيان كرامة التابوت فسارت البقرتان بالتابوت والعجلة على أحسن استقامة ومعرفة للطريق إلى أن اوصلتا التابوت إلى بلاد بني إسرائيل وبمقتضى الآية الكريمة والرواية الشريفة ان الملائكة كانت تتولى حمل التابوت بهذا الحمل الخارق للعادة في تلك الصورة الظاهرية من تسخير البقرتين وفي مجمع البيان ذكر شيئا فيه شبه لهذا ولم ينسبه إلى

__________________

(١) فإن الكافي يرويها بالسند الصحيح عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان وقد شهد النجاشي وابن أبي داود والعلامة بأن يحيى ثقة صحيح الحديث وقد ذكره عبد الله من اصحاب الباقر ولم يخدش فيه بشيء

٢٢٢

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

____________________________________

إمام. وذكر في شرح روضة الكافي شيئا من تاريخ ابن الأثير وغيره من المفسرين وأقول ان تفاسير هذه الأمور اما ان تؤخذ عن النبي (ص) او الإمام وإلا فلا لأن المؤرخين بل والمفسرين كما ذكرناه في المقام الثالث من الفصل الرابع من المقدمة ان منهم من يأخذ من النقل الافواهي المتقلب بالتحريف من اهل الكتاب الراجع إلى كتبهم من العهد القديم وهي التي كانت في ازمنة المفسرين والمؤرخين باللسان العبراني والبابلي واليوناني وهي ممنوعة عن غير اليهود والنصارى ويحرم في مذهب الفريقين ان يمكنوا منها حتى العوام منهم لكن بعد ان ظهرت في النصارى فرقة الانجيليين ترجموها بكل لسان ونشروها في البلاد فهذه الكتب على ما فيها من التحريف أقل تحريفا من الأنقال المأخوذة عنها بالنقل الا فواهي الذي لم يبن على الحفظ والأمانة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اخباري بإتيان التابوت حال كونه تحمله الملائكة (لَآيَةً لَكُمْ) تعرفكم نعمة الله وقدرته لتطيعوه وتعرفكم صدقي وإن طالوت جعله الله ملكا عليكم كل ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وآياته ودلالتها حق الإيمان في تفسير القمي بسند صحيح عن الرضا (ع) كان إذا وضع التابوت بين المسلمين والكافرين فإن تقدم التابوت رجل لا يرجع حتى يقتل أو يغلب فأوحى الله إلى نبيهم ان جالوت «وهو رئيس المشركين وشجاعهم» يقتله من يستوي عليه درع موسى اسمه داود بن اسى «وفي كتب اليهود في العبرانية «يسي» وكان اسي راعيا وكان له عشر بنين أصغرهم داود فلما جمع طالوت بني إسرائيل للحرب بعث إلى اسي ان احضر ولدك فلما حضروا دعا واحدا واحدا منهم فألبسه درع موسى فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه فقال لأسي هل خلفت من ولدك أحدا قال نعم أصغرهم تركته في الغنم فبعث اليه فلما دعي أقبل ومعه مقلاع فناداه ثلاث صخرات في طريقه يا داود خذنا فأخذها في مخلاته فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود ٢٤٨ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) اي فلما ملك وجند جنوده في معسكره وفصل بمعنى انفصل بجنوده عن المعسكر ومحل التجمع وسار إلى محل الحرب (قالَ) لجنوده (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) في طريقكم ليتبين مطيعكم من عاصيكم (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) اي من اصحابي

٢٢٣

وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ

____________________________________

المطيعين ولا من حزب الله (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أي يذوقه (فَإِنَّهُ مِنِّي) اي من اصحابي ومن حزب الله (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) واحدة (بِيَدِهِ) فإنه مسامح في ذلك (فَشَرِبُوا مِنْهُ) وعصوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وفي تفسير القمي عن الصادق (ع) ان الذين لم يشربوا ولم يغترفوا كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ونحوه عن تفسير العياشي عنه (ع) وذكر في الدر المنثور رواية ذلك عن البراء وابن عباس (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم جنده الذين شربوا والّذين لم يشربوا لأنهم كلهم كانوا مؤمنين غير مشركين وان عصى بعضهم (قالُوا) أي قال نوعهم لا كلهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وفي روضة الكافي في الصحيح عن الباقر (ع) كما روى في تفسير القمي عن الصادق (ع) ان الذين اغترفوا قالوا هذا القول والذين لم يغترفوا هم الذين قال الله فيهم (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) اي الذين لم يلههم الأمل بل قربوا الموت في كل حين إلى ظنهم شوقا إلى لقاء الله برفع الحجاب الشهواني كما قدمناه في الآية الثالثة والأربعين قالوا من قوة إيمانهم وثبات عزمهم وحسن ظنهم بالله. والمؤمن ينظر بعين الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة وفرقة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) ونصره (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ٢٤٩ وَلَمَّا) تهيأوا للقتال و (بَرَزُوا) في موقف الحرب (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا من الطاعة والتفاني في سبيل الله بل (قالُوا) في التجائهم إلى الله ودعائه بالتوفيق والتسديد والنصر لإظهار دين الحق (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) الا فراغ الصب شبهوا الصبر بالماء الذي يعمهم يصبه عليهم فطلبوا من الله التوفيق للصبر الكثير المجدي بحيث يكون كما يصب عليهم الصبر صبا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) على الحق والجهاد في سبيلك (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) إعلاء لدين الحق ٢٥٠ (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) المأثور ان هزيمة الكفار كانت بعد ان قتل داود جالوت

٢٢٤

وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ

____________________________________

ولكن أخر ذكر القتل ليجري ما ذكر لداود من الفضائل على نسق واحد فإن ذلك ابلغ في تمجيده واظهر بيانا لعظمة النعمة عليه (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) المهيب (وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كفصل القضاء والنبوة والزبور وعمل السابغات (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) عن الطغيان والإفساد العام (بَعْضَهُمْ) بدل من الناس (بِبَعْضٍ) آخر (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) فإن الله جلت حكمته خلق الناس مختارين في أفعالهم ومن الغايات ان يتمتعوا في الأرض ويحصل منهم النسل ويلد الكافر المؤمن والفاجر الصالح وقد علم الله انه يكون في الناس أمثال يزيد ومسلم بن عقبة والحجاج وإذا خلّى السبيل لامثال هؤلاء ملأوا الأرض فسادا وأفسدوها وان إهلاك المفسد والانتقام منه في الدنيا لا يرتدع به من يريد الفساد العام بل يعدون كل ذلك من سنن الكون ومقتضيات الأسباب العادية كالموت الذي لم يردع الناس عن غيهم وان قاربوه بالشيخوخة والمرض فكان من الرادع لهم امر الله للمؤمنين بدفاع المفسدين ووجود المنازعين من الناس للمفسدين في أغراضهم فكان ذلك وما وقع من مغلوبية المفسدين ومقهوريتهم عند النزاع دافعا من الله لشمول الفساد وكان حذر المفسدين من صولة القوة وثورة النزاع وفوز الخصوم رادعا نوعيا في الغالب يوقف الفساد عن طغيانه العام (وَلكِنَّ اللهَ) تفضل على العالمين بأن منع عموم الفساد في الأرض بدفع الناس بعضهم ببعض مع بقاء الحكم على مواقعها فالله جلت آلاؤه (ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ٢٥١ تِلْكَ) اي قصص الأمور المذكورة (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) وعلى حقيقتها بالوحي الإلهي (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) من الله الى الناس لتخرجهم من الظلمات الى النور ٢٥٢ (تِلْكَ الرُّسُلُ) انثت الاشارة باعتبار الجماعة (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) إياه وفضله بتكليمه له كموسى ورسول الله فقد ورد مستفيضا عن الصادق (ع) ان التغير الذي يعتريه (ص) عند الوحي انما هو عند تكليم الله له بدون توسط جبرائيل كما روى

٢٢٥

وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ

____________________________________

مسندا في محاسن البرقي وعلل الشرائع وتوحيد الصدوق وإكمال الدين وامالي الشيخ بل ان أحاديث المعراج عن رسول الله (ص) ناطقة بأن الله كلمه وناجاه وناداه كما في تفسير القمي وبصائر الدرجات وعلل الشرائع وامالي الصدوق وامالي الشيخ بأسانيدهم عن الكاظم والصادق والباقر وامير المؤمنين وابن عباس كما روى اهل السنة ذلك في حديث المعراج (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) المعجزات (الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبرئيل (وَلَوْ شاءَ اللهُ) ان يلجئ عباده على عدم الكفر والعصيان له ووافق ذلك حكمته لفعل فانه هو القادر القاهر و (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من أممهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ولم يكن ذلك لأجل خفاء الحق على احد الفريقين (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) بسبب اتباع الهوى من بعضهم (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بالله وبما جاءه من البينات (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) واتبع هواه فاقتتلوا (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) ولكن ليجزي المؤمنين جزاء المجاهدين في نصر الحق (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) مما يقتضيه اللطف والحكمة ٢٥٣ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ان أريد الإنفاق الواجب كما هو ظاهر الطلب فهو الزكاة إذ لا يعهد انفاق عام واجب غيرها ولا تخافوا الفقر في انفاقكم فإن ما عندكم انما هو من رزق الله وهو رازقكم فاغتنموا الفرصة في أموالكم في دار الدنيا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) فتبتاعون ما ينفعكم فيه (وَلا خُلَّةٌ) تجديكم فيه ان لم تكونوا من الذين اتقوا الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وقدموا لأنفسهم (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) كما في سورة الزخرف (وَلا شَفاعَةٌ) الا لمن اتخذ عند الله عهدا والا بإذن الله ولمن ارتضى كما أشرنا اليه في سورة الفاتحة في الشفاعة (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم إذ لم يتركوا لأنفسهم لذلك اليوم وسيلة تؤهلهم لرحمة الله لهم ونجاتهم

٢٢٦

(٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

____________________________________

٢٥٤ (اللهُ) اسم وعلم لواجب الوجود آله العالمين جل وعلا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الإله هو الذات المقدسة المتصفة بصفات الإلهية كوجوب الوجود والعلم والقدرة والخالقية وغيرها فلا شيء متصفا بصفات الإلهية ويستحق ان يسمى إلها وله تحقق الا الله (الْحَيُ) الثابتة له صفة الحياة والدائمة بدوام ذاته ووجوب وجوده لذاته ومعنى الحي واضح ظاهر (الْقَيُّومُ) مبالغة في من قام بالأمر فإنه جلت آلاؤه هو القائم بإيجاد العالم وتدبيره والمبالغة باعتبار العموم والدوام (لا تَأْخُذُهُ) لا تغلبه وتستولي عليه (سِنَةٌ) بل (وَلا نَوْمٌ) السنة من الوسن وهو النعاس الذي لا يبلغ النوم ولكنه يغلب ويوجب الذهول والغفلة عن القيام بما يقام به من الأمور. والنوم معروف ويجوز ان لا تغلب السنة ولا تستولي بل يطرء النوم فيغلب ولكن الله جل شأنه زيادة على انه لا تأخذه ولا تغلبه سنة لا يأخذه ولا يغلبه على قيوميته نوم وان كان أقوى من السنة بكثير (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) من الموجودات (وَما فِي الْأَرْضِ) جميعا حتى السموات والأرض كما تقول الملك له وتحت نفوذ ملوكيته ما في العراق اي حتى ارض العراق وحدودها كما اكتفى القرآن في هذا المعنى المتعارف في المحاورة العرفية بقوله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كما في نحو ثمانية عشر موردا (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن كل ما في السموات والأرض له ومن خلقه فليس هناك من يتوهم كما يقول المشركون ان له استحقاقا طبيعيا للشفاعة والتأثير لتوهم تأليهه مع الله بأحد الوجوه التي يتوهمونها ومنها الولادة والمظهرية تعالى الله عما يقولون لا إله الا هو وانما تكون الشفاعة لعبد مقرب بإذن الله له بها تشريفا له وإعلاء لقدر عباده الصالحين المطيعين له وترغيبا للناس في الطاعة وما لها من علو الدرجات (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) اي الملائكة والجن والإنس من العقلاء الذين يصح نفي الشفاعة عنهم وإثباتها لهم بوجه والمراد مما بين أيديهم وما خلفهم ما مضى وما هو آت (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) اي مما يعلمه (إِلَّا بِما شاءَ) وعلّمه لعباده وفتح لهم باب إدراكه (وَسِعَ

٢٢٧

وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ

____________________________________

كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) روى الصدوق في توحيده بسنده عن المفضل عن الصادق (ع) ان العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه أنبياءه وحججه والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا وبسنده عن حفص بن غياث عنه (ع) عن الكرسي في الآية قال (ع) علمه وبسنده عن عبد الله بن سنان عنه (ع) في الكرسي او العرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره وفي مجمع البيان ان هذا مروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وفي التبيان وهو مروي عنهما وفي الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوه عن ابن عباس وذكر جماعة أخرجوه عن أبي الاشعري قال الكرسي موضع القدمين وله اطيط كاطيط الرحل. وجماعة اخرجوا عن ابن مسعود عن رسول الله (ص) في المقام المحمود قال ذلك يوم ينزل الله على كرسيه يأط منه كما يأط الرحل الجديد من تضايقه. وجماعة اخرجوا عن عمر عن رسول الله انه قال ان كرسيه وسع السموات والأرض وان له أطيطا كاطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ما يفضل منه اربع أصابع. هذا ولما بين الله جل شأنه ان له ما في السموات والأرض شاء ان يبين احاطة علمه وسلطة تدبيره بجميع ما هو له وملكه فناسب التقريب لادراكنا القاصر بالتمثيل بالجسمانيات المألوفة لنا فشبه الإحاطة والسلطة بما لو كانت بحسب التخييل في كرسي الملك. وعلى ذلك جرى تعبير الأئمة عليهم‌السلام في السموات والأرض انها في الكرسي (وَلا يَؤُدُهُ) يثقله ويشق عليه (حِفْظُهُما) اي النوعين من السموات والأرض وكيف (وَهُوَ الْعَلِيُ) في شأنه وقدرته وعلمه (الْعَظِيمُ) في سلطانه وجلاله ٢٥٥ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قد مر تفسير الدين في الآية التاسعة والثمانين بعد المائة وليس الدين بشيء يخفى على الناس مجد حقيقته وكرامة كماله لكي يراد منهم بالإكراه كيف وهو دين الفطرة مستقيم صراطه واضح منهجه مشرقة ارجاؤه منيرة اعلامه بينة آياته هادية دلائله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) بدلالة العقل والفطرة وتتابع المعجزات وتوارد الحجج وان تعامى عنها المعاند له حتى أعمى عناده قلبه وعين بصيرته (فَمَنْ) يخالف هواه ويتبع عقله وبينات فطرته و (يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الطاغوت مأخوذ من الطغيان. وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم ثمان مرات ففي بعضها يكون مسماه خبرا للجمع ويعود عليه ضمير الجمع كما في (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ

٢٢٨

وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها

____________________________________

يُخْرِجُونَهُمْ) في الآية. وفي بعضها الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة كما في (يَعْبُدُوها) في التاسعة عشرة من سورة الزمر. وفي بعضها ضمير المفرد كما في الثالثة والستين من سورة النساء. وفي بعضها أشير اليه بهؤلاء كما في الرابعة والخمسين من سورة النساء. وفي النهاية والقاموس تكون للواحد والجمع وذكر اللغويون انه يقال طاغوت للصنم والشيطان ورأس كل ضلال. والطاغوت مأخوذ من الطغيان اما باعتبار كونه سببا كبيرا لطغيان الضلال كالأصنام. وفي النهاية ومنه الحديث هذه طاغية دوس وخثعم اي صنمهم ومعبودهم وأما باعتبار طغيانه في اغوائه وتمرده ودعوته الى الضلال كالشيطان ورؤساء الضلال. ففي كل مقام من القرآن الكريم يراد من الطاغوت ما يناسب سوقه. والمناسب للمقام هو الأصنام او دعاة الشرك او الشياطين ومعنى يكفر بالنسبة لكل من الأخيرين يخالفه في اغوائه بالشرك ويتبرأ منه ومن اتباعه (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) اي احكم تمسكه (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التي هي أوثق العرى فإنها (لَا انْفِصامَ لَها) ابدا وليس في الإيمان بالله منشأ تردد او ريب او وهن في الحجة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم في الإيمان به (عَلِيمٌ) بنياتكم ٢٥٦ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) اي هو المدبر الأولى والاحق بتدبيرهم فيما هو الأصلح لهم بلطفه وان كان لطفه جلت آلاؤه بالدلالة والإرشاد عام لكل البشر ولكن خص الذين آمنوا بالذكر لأنهم لم يعاندوا الحق ولم يخرجوا أنفسهم عن الأهلية لتوفيق الله لهم الى الحق والإيصال الى المقام السامي فهو (يُخْرِجُهُمْ) بتوفيقه (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الضلال والمعاصي (إِلَى النُّورِ) نور الهدى والطاعة ٢٥٧ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) وعاندوا الحق واخرجوا أنفسهم عن الأهلية للطف الله وولايته في تدبير شؤنهم بالتوفيق والتسديد وقد تولوا الطاغوت فهم اذن (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) الظاهر من الضمير ارادة المغوين على الكفر والمغرين بالضلال كالشياطين ورؤوس الضلال فإنهم يخرجونهم (مِنَ النُّورِ) نور التوفيق والوصول الى الحق (إِلَى الظُّلُماتِ) ظلمات الخذلان والكفر والضلال (أُولئِكَ) الكافرون (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

٢٢٩

خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

____________________________________

فِيها خالِدُونَ ٢٥٨ أَلَمْ تَرَ) المراد الم تعلم كما ذكرنا قريبا (إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) المحاجة تشمل الجدل وإن كان داحضا. والظاهر ان المحاج هو النمرود الملك. وفي مجمع البيان ان هذه المحاجة. كانت قبل إلقاء ابراهيم في النار عن الصادق قلت ولم أجد روايتها. وفي تفسير القمي لا بعنوان الرواية والدر المنثور عن السدي انها بعد ذلك. وقد جرّأه على محاجة ابراهيم بالباطل طغيانه وعتوه وبطره (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) اي لأن الله أتاه الملك في الدنيا واملى له فحاجّ ابراهيم (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ) والهي هو (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ) نمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) قيل انه صرف الكلام عن وجهه حيث قال له إبراهيم كيف تحيي وتميت قال اعمد الى رجلين قد وجب عليهما القتل فأخلي عن واحد واقتل الآخر فأكون قد أحييت وأمت قال القمي في تفسيره لا بعنوان الرواية وأورد نحوه في الدر المنثور رواية عن ابن عباس أقول مقتضى الآية ومحاجة نمرود لإبراهيم في ربه هو انه لم يدع كونه شريكا لله ليقول انا ايضا احيي وأميت مثل الله ويغالط في ذلك بان يقتل احد الشخصين ويستحيي الآخر بل انه ينكر رب ابراهيم ويدعي الإلهية لنفسه فيكون قوله أنا احيي وأميت مصادرة جزافية يريد بها الاحياء والموت اللذين قالهما ابراهيم فأراد ابراهيم ان يسد باب المصادرات بالدعاوي السخيفة الباطلة ولذا (قالَ إِبْراهِيمُ) ان كنت قادرا على الاحياء والإماتة كما تزعم (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) والقادر على الاحياء والإماتة قادر على التصرف بالشمس (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي نمرود الكافر بالله أو نوع الذي كفر من الحاضرين نمرود واذنابه وبهت بالبناء للمفعول فهو مبهوت (وَاللهُ لا يَهْدِي) اي لا يوفق ولا يوصل بلطفه (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بل يتركهم وأهواءهم. ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا تتعلق أغراضه الكريمة في نهجه المجيد بالقصص من حيث تاريخيتها وإنما يذكرها للموعظة وضرب المثل وغير ذلك من الأغراض الحميدة فكأنه قيل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) إلى آخر الآية فإن من

٢٣٠

(٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ

____________________________________

الناس من يكون في عناده وضلاله ومكابرته للحق الواضح كهذا روى القمي في تفسيره والطبرسي في احتجاجه عن الصادق (ع) انه ارميا النبي وفي تفسير البرهان عن امير المؤمنين (ع) انه عزير وفي الدر المنثور عن امير المؤمنين وصححه الحاكم وعن ابن عباس بعدة طرق انه عزير فلا مساغ لصاحب الكشاف في اختياره ان صاحب القصة كافر وقد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند اليه الكشاف في دعواه (وَهِيَ خاوِيَةٌ) أي ساقطة أعاليها كقوله في سورة الحاقة (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ عَلى عُرُوشِها) أي سقوفها ويقال العرش للسرير وارادته هنا ممكنة. وقيل معنى خاوية خالية وفي المصباح والقاموس خوت الدار خلت من أهلها لكن يكون على هذا في اعراب على عروشها تكلف بعيد عن كرامة القرآن (قالَ أَنَّى) كيف (يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) في رواية القمي في تفسيره عن الصادق فنظر إلى السباع تأكل الجيف فقال أنى يحيي الله هذه بعد موتها. وفي رواية الدر المنثور عن ابن عباس في ذكر القرية قد باد أهلها ورأى عظاما فقال (أَنَّى يُحْيِي) الآية ولا يخفى ان الظاهر من لفظ يحيي وموتها وقصة موت القائل واحيائه والاحتجاج عليه بذلك هذه كلها تشير وتومي إلى المشار اليه بكلمة «هذه» وهي الأجساد او العظام واستغنى عن ذكرها بدلالة المقام وإشارات الآية كما في قوله تعالى قبل آيات (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) وكثير من نحو ذلك (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) لا يخفى ان الظاهر من الآية هو المعنى الحقيقي للموت مع ان رواية القمي عن الصادق (ع) ورواية الدر المنثور التي صححها الحاكم عن امير المؤمنين ورواياته الأخر عن ابن عباس والحسن ووهب هذه كلها صريحة في ان هذا الشخص قد مات وتلاشت اجزاؤه وتفرقت فأحياه الله بأن جمعها وكسا عظامه. ولكن المفسر المصري المعاصر قال ما حاصله ان الإماتة والموت هنا عبارة عن فقد الحس والإدراك وهو المسمى بالسبات لا مفارقة الروح للبدن ولم يحضرني الجزء الأول من تفسيره لكي أراه ماذا يقول فيما مر من قوله تعالى ٥٣ (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ) في موتك هذا (قالَ

٢٣١

لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ

____________________________________

لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) وقد أظهرت المشيئة الإلهية لك شيئا من خارق العادة ودلائل القدرة على احياء الموتى وان تفرقت أوصالهم (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتأثر بالسنين المتطاولة فإن مقتضى العادة ان تتابع عليه تغييرات السنين الى ان تلاشيه في أثناء المائة عام فبهذه القدرة يحيي الله الموتى (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) تكرار الأمر بالنظر يشير إلى انتقال الكلام الى وجهة اخرى تدل على طول لبثه في الموت وهي ان حماره قد أفنته السنين وبادت اجزاؤه وتفرقت عظامه كما صرحت به الروايات المشار إليها (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) اي امتناك وبعثناك بعد البلا لترى بالعيان كيف يحيي الله الموتى ولنجعلنك آية وموعظة للناس في احياء الموتى وقدرة الله. وهذا ظاهر من وجود واو العطف وسياق الكلام (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاي المعجمة وضم النون الاولى اي نجعلها بعد تفرقها بالبلا يرتفع وينشز بعضها الى بعض بالتركيب. وقد نصت الروايتان المشار إليهما على عظامه وعظام حماره. واما عظام اهل القرية فلم يعرف احياؤها (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ما ذكر (قالَ أَعْلَمُ) يعرف من انه لم يقل الآن علمت انه عالم بذلك وانه يعلم بالعلم المستمر وبهذه المشاهدات تأكد علمه (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣٦٣ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) جرت في ذلك شؤون ويدل على تلك الشؤون ويفسرها ما في الآية وهو (قالَ) الله له بالاستفهام التقريري (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بقدرتي على احياء الموتى واني أحييها و (قالَ) ابراهيم (بَلى) اني مؤمن بذلك (وَلكِنْ) للعيان اثر كبير في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب فطلبت الرؤية (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ويزداد يقيني بسبب المشاهدة بما آمنت به كما في رواية الكافي في أول باب الشك من أصوله والصحيحة عن المحاسن (قالَ) الله له وإذا كنت تطلب الرؤية (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وسكون الراء بمعنى املهن واجمعهن إليك. وقيل معناه فقطعهن ولكن لا معنى لتعليق إليك به واما

٢٣٢

ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا

____________________________________

تعليقها بقوله تعالى (فَخُذْ) مع وجود الفاصل الكثير والتفريع بالفاء فلا مساغ له في فصيح الكلام. والأخذ ليس مساوقا للإمالة والضم اليه بل هو أعم (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وهذا كاف في الدلالة على سبق الأمر بالتقطيع. وقد تعددت الروايات الصحاح والمعتبرة عن الباقر والصادق والرضا عليهم‌السلام في ان الجبال كانت عشرة كما احصى غالبها في الوسائل في باب الوصية بالجزء (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) وقد اكتفى بذكر هذا الوعد عن ذكر الوقوع لما هو معلوم من قدرة الله وانه لا خلف لوعده (وَاعْلَمْ) اي وليتأكد علمك (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) بقدرته (حَكِيمٌ) في اعماله ٣٦٠ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) اي ان المثل الذي يضرب لهؤلاء في جزائهم المضاعف من الله ونتيجة إنفاقهم المباركة هو (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) اي كالمثل الذي يضرب بحبة (أَنْبَتَتْ) من اسناد الفعل الى بعض أسبابه (سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) وليس ذلك فرضا موهوما كأنياب الأغوال بل هو كثير مشاهد مرئي وإن كان قليلا بالنسبة إلى نوع الزرع الكثير وكثيرا ما يشاهد ان الحبة يخرج منها اكثر من سبع سنابل بل وعشر وعشرين وكثيرا ما شوهد في قطرنا في السنبل القوي الجيد من الحنطة والشعير تبلغ الثمانين حبة (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) بحسب نيته وإخلاصه وإقباله على الخير (وَاللهُ واسِعٌ) في رحمته وقدرته وجزائه (عَلِيمٌ) بأعمال عباده ونياتهم فيها ووجوهها ولا يخفى ان سبيل الله غير مختص بالجهاد. وفي مجمع البيان ان الآية عامة في النفقة في أبواب البر وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) قلت وإن قوله تعالى (وَاللهُ واسِعٌ) مع سوق الآية يعطي ان الجزاء المضاعف غير مختص بالإنفاق بل يعم اعمال الخير كلها كما روي في محاسن البرقي في صحيحة عمر بن يزيد وعن امالي الشيخ وتفسير العياشي في معتبرة الوابشي عن أبي عبد الله (ع) ٢٦١ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) بعد إيصاله لمن أعطوه إياه (مَنًّا) المن معروف

٢٣٣

وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا

____________________________________

وهو ان يتطاول المعطي على من أعطاه بأنه أعطاه ومنه قوله ألم أعطك ألم أحسن استطالة عليه لا في مقام ما يرجح من التنصل من القطيعة والبخل (وَلا أَذىً) بسبب الإعطاء (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بيان لأن الجزاء المضاعف المذكور في الآية السابقة هو اجر للمنفقين على إنفاقهم وذلك اهنأ في نفوس العامة وفيه ترغيب لهم وان كان تفضل الله اهنأ عند الخواص وأقرب الى الكرامة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٢٦٢ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) في الاعتذار غير منكر ولا مستوحش كأن يتلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه والدعاء له (وَمَغْفِرَةٌ) لما يصدر منه من الحاف أو إزعاج في المسئلة (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌ) يغني السائل من سعته ولكنه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل (حَلِيمٌ) فعليكم يا عباده بالحلم والغفران لما يبدر من السائل. وقد أكد الله إرشاده في امر الإنفاق والصدقة فقال جلت آلاؤه ٢٦٣ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وتكونوا قد أنفقتم أموالكم ولم تبقوا لكم عند الله شيئا من الأجر والثواب فإن مفسدة المن والأذى ورذيلتها تذهب بفضيلة صدقاتكم وإن قصدتم بها القربة في حينها فأنتم في ذلك (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء والمراءاة مأخوذة من الرؤية وهو ان يعمل الإنسان العمل لا لحسنه ولا لوجه الله بل لأن يراه الناس تباهيا به (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لكي يطلب ما عند الله (فَمَثَلُهُ) اي مثل المرائي المنافق الذي لا يؤمن بالله في انه لا خير فيه ولا في إنفاقه (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) الصفوان كالصفا هو الصخر الأملس (عَلَيْهِ تُرابٌ) يخيل انه ارض نافعة صالحة للنبات (فَأَصابَهُ وابِلٌ) اي مطر عظيم القطر شديد الوقع فجرف ذلك التراب عن ذلك الصفوان (فَتَرَكَهُ) صفوانا مجردا (صَلْداً) أي صلبا أملس لا يصلح لنتيجة (لا يَقْدِرُونَ) أي المراؤون بانفاقهم الذي أشير اليه بالآية (عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) على فائدة

٢٣٤

وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

مما أنفقوه وكان مما كسبوه وتعبوا في كسبه وجمعه فلا يقدرون لا على شيء من عينه ولا من ثوابه فذهب عليهم بريائهم ونفاقهم هدرا وذلك أشد لحسراتهم (وَاللهُ لا يَهْدِي) ولا يوصل إلى الهدى بتوفيقه (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فإنهم أخرجوا أنفسهم بنفاقهم عن اهليتهم للتوفيق ٢٦٤ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ولأن يثبتوا أنفسهم على طاعة الله وطلب رضاه. فإن بذل المال عند نوع الناس صعب وان سهلت عليهم العبادات البدنية ويقال ان نوع الأعراب كانوا يستصعبون الزكاة ويعدونها كالاتاوة فالذين يسمحون بأموالهم وينفقونها ابتغاء مرضاة الله يكون لهم من الغايات الحميدة تثبيت أنفسهم على الطاعة وعمل الخير. ودخول «من» الجارة على أنفسهم مع انها مفعول للتثبيت مثله شايع في اللغة كقولهم روض من عريكته وهزمن عطفه ولعل السر في ذلك ان هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها وثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال العزيز عندها فهو يجعل من مقاصده في الإنفاق تثبيتها على طاعة الله وابتغاء مرضاته بالنسبة للمستقبل من الأزمان والحالات وبهذا الاعتبار يكون هؤلاء المنفقون الكرام كأنهم يثبتون من أنفسهم بعضها فمثلهم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) بستان (بِرَبْوَةٍ) ارض مرتفعة لأنها تكون ازكى شجرا واحسن ثمرا وأنقى هواء لسلامتها من وخامة المستنقعات ونز الأرض وإضرار ذلك بالشجر والثمر (أَصابَها وابِلٌ) تقدم تفسيره ومن المعلوم ان سقي المطر للبستان بل كل زرع احسن لتنميتها وجودة تربتها من كل سقي (فَآتَتْ أُكُلَها) اي ثمرها المأكول (ضِعْفَيْنِ) لما تؤتيه إذا سقيت بغيم المطر (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) يكفيها في ذلك لجودة منبتها وان كان مطرا صغير القطر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) ومنه انفاقكم بحسب نياتكم (بَصِيرٌ) ثم كرر المثل في الزجر عن ابطال الصدقة بالمن والأذى بقوله تعالى ٢٦٥ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) وكيف يود ومن ذا الذي يود (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ومن حيث بهجة منظرها ودوام سقيها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

٢٣٥

لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا

____________________________________

حال كونه (لَهُ فِيها) زيادة على النخيل والأعناب الذين تكون ثمراتهما فاكهة وغلة وقوتا (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي يستغل ويتفكه بها (وَ) هو في زمان وحال يكون فيهما احرص ما يكون على هذه الجنة حيث انه (أَصابَهُ الْكِبَرُ) والشيخوخة وانقطع عن الكسب وشب فيه الحرص (وَلَهُ) زيادة على ذلك (ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) يحرص على الإنفاق عليهم وعلى توريثهم (فَأَصابَها) أي تلك الجنة العزيزة (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) الاعصار ريح ترتفع بتراب فتلتف وتستدير وتقلع الشجر والنخل بقوتها (فَاحْتَرَقَتْ) تلك الجنة العزيزة بالنار وتلاشت بالاعصار. وإذا كان أحدكم لا يود ذلك بل هو عليه من أعظم المصائب فلما ذا يسلط نار المن والأذى في اعصار جهله ويحرق بها إنفاقه ويبطله مع ان الحاجة إلى ثمراته أشد من الحاجة إلى تلك الجنة من ذلك المحتاج (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي لغاية ان تتفكروا فتعرفوا رشدكم ٢٦٦ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) بالتجارة ونحوها (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) من المعادن وبالزراعة والظاهر ان المراد مطلق الإنفاق في سبيل الله سواء كان في الزكاة أم في غيرها والمراد بالطيب هو غير الردي في ذاته او بحرمته كما فسر بالأمرين المذكورين في روايات الكافي عن أبي بصير عن الصادق (ع) وروايات العياشي عن عبد الله بن سنان وأبي بصير ورفاعة عن الصادق (ع) وعن زرارة وأبي الصباح عن الباقر (ع) ونحوها روايات الدر المنثور ومن ذلك يتأكد ظهور الآية في المعنى الأعم من الطيب بالحل والجودة او بالجودة المقابل للرداءة والخبث (وَلا تَيَمَّمُوا) ولا تقصدوا (الْخَبِيثَ) وتعدلوا اليه عن الطيب مع خبثه بالرداءة أو بالحرمة بالمعنى المقابل للطيب بالمعنى العام المتقدم (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وتجعلون انفاقكم منه مع وجود الطيب واما من لم يعدل عن الطيب إلى الخبيث بل كان كل ماله رديا قبل منه في الزكاة وشكر على الإنفاق منه (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) الواو للحال والجملة لرفع المغالطة في مصداق الخبيث أي انكم لا تأخذونه في حقوقكم وهداياكم وصلاتكم (إِلَّا) ان تتنازلوا وتتساهلوا في

٢٣٦

أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ

____________________________________

رداءته وخبثه و (أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) كناية عن التنازل المذكور كمن يغمض عينيه لئلا يرى خبثه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن انفاقكم على عباده وهو الذي يرزقكم وإياهم وما بكم من نعمة فمن الله (حَمِيدٌ) أي محمود على نعمائه وآلائه العامة ولكنه شرع لكم الإنفاق وطلبه منكم لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة فلا يجرمنكم الشيطان بإغوائه عظيم فضل الإنفاق (٢٦٧ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ويخوفكم به لئلا تنفقوا (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) التي لا يخفى عليكم كونها فحشاء فاعرفوا بهذا عداوته لكم وخبثه وخداعه فيما يعدكم ويخوفكم به (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) لكم فيما فرطتم به (وَفَضْلاً) أي زيادة في نعمته ورحمته (وَاللهُ واسِعٌ) في فضله ورحمته أي واسع الفضل والرحمة (عَلِيمٌ) بانفاقكم ونياتكم فيه (٢٦٨ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) في التبيان ومجمع البيان في معنى الحكمة. وقيل وهي القرآن والفقه وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) انتهى والذي وجدته عن تفسير العياشي عن الصادق (ع) ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين. وفي تفسير البرهان عن الصادق (ع) الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق. وفي الكافي في باب معرفة الإمام في الصحيح عن الصادق طاعة الله ومعرفة الإمام وعن المحاسن نحوه وعن الكافي ايضا عن الصادق (ع) معرفة الإمام واجتناب الكبائر وفي روايات الدر المنثور عن ابن عباس ان الحكمة النبوة او فقه القرآن أو المعرفة به ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله. أقول ولعل ذلك باعتبار ما هو أعم نفعا وأعظم من مصاديق الحكمة فانها ما ينفع من العلم بالحقائق. ومن المؤلم والمؤسف ان اسم الحكمة شاع استعماله «مثلما سمي اللديغ سليما» بالفلسفة اليونانية ومنها مزاعم العقول العشرة تلك المزاعم التي جحدت مقام الله الجليل في الإلهية بنحو لم تجرأ عليه الوثنية بل هي عبارة مموهة عن الطبيعة إذ لم تسمح لله إلا بأنه علل العقل الأول بالتعليل الطبيعي بلا ارادة منه ولا اختيار فلا ارادة ولا خلق ولا مشيئة له ايضا في غير العقل الأول من الموجودات ولا سنخية ولا ربط خلافا لدلالة العقل والقرآن الكريم على ان الله خالق الخلق بمشيئته وان العالم صادر عن خلق وارادة ان التشبثات

٢٣٧

مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ

____________________________________

لهذه المزاعم مردودة بالحل والنقض ولزوم التناقض وسخافة ابتنائها في عدد العقول على موهومات الهيئة القديمة في الأفلاك وحصر عددها بالتسع وقد أشير إلى شيء من ذلك في فصول العقائد لنصير الدين الطوسي قدس‌سره وآخر الجزء الثاني من المدرسة السيارة ومع هذا كله يسمى القائلون بمزاعم العقول بالعرفاء واهل الوصول والمكاشفات «مثلما سمي اللديغ سليما» تعالى الله عما يقولون (مَنْ يَشاءُ) من عباده بحسب جده وما حصله باختياره من كونه أهلا لهذه الرحمة والنعمة والتوفيق لها (وَمَنْ يُؤْتَ) بالبناء للمفعول والجزم باداة الشرط (الْحِكْمَةَ) مفعول ثاني (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ) بما ذكر به من آيات القرآن الكريم في الإنفاق وغيره من الأخلاق والأحكام ويكون له نصيب من الحكمة (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الظاهر في اللب القلب والقرآن ينسب التعقل والتفهم إلى القلب والمراد هنا من لم يعم قلبه بالتمادي على الضلال وغفلة الجهل البسيط وضلال المركب وهو اقبحه فإنه كأنه لا قلب له ولا لب وربما فسر اللب هنا بالعقل وكأنه تفسير بما يئول اليه المعنى المكنى عنه ٢٦٩ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) «ما» موصولة متضمنة معنى الشرط صلتها أنفقتم وعائدها ضمير محذوف يفسره ويبينه «من نفقة» سواء كان الإنفاق في الطاعة ام في المعصية مقرونا بالإخلاص ام بالرياء (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) عطف على أنفقتم. والنذر المشروع ان يقول لله عليّ ان افعل أو أترك كذا. أو لله عليّ ان كان كذا ان افعل أو أترك كذا ويشترط ان يكون المنذور طاعة لله. وقد يكون النذر للطاغوت او في معصية (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) على ما هو عليه ويجازي عليه بجزائه. والجملة خبر للموصول والرابط هو الضمير في «يعلمه» والخبر ساد مسد الجزاء للشرط ولذا دخلت عليه الفاء (وَما لِلظَّالِمِينَ) في إنفاقهم او نذرهم للطاغوت أو في المعصية او في مخالفتهم للنذر الصحيح لله (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم على الله ويعارضونه ويمنعونهم بالقوة من عقابه ٢٧٠ (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) التي يراد بها وجه الله من الواجبة والمندوبة (فَنِعِمَّا هِيَ) اي فإن الصدقة نعم شيئا هي في ذاتها ولا يذهب إلا بداء لها بفضلها إذا لم يعرض عليها بسببه شيء من الرياء أو إذلال المتصدق عليه. واماما ذكره

٢٣٨

وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ

____________________________________

في مجمع البيان والكشاف من ان المعنى فنعم شيئا ابداءها وحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه واعطي اعرابه فهو تكلف لا يناسب جلالة القرآن الكريم (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) أي وتمكنتم مع اخفائها من إيصالها إلى مستحقيها من الفقراء بحسب الحاجة والأولوية (فَهُوَ) أي الإخفاء (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه ابعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص وحفظ عزة الفقير وحرمة المتعفف (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) اي ويكون الإخفاء سببا لأن يكفر الله عنكم بعض سيئاتكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) مما تبدونه او تخفونه تراؤون فيه او تخلصون به له (خَبِيرٌ) لا يخفى عليه شيء ٢٧١ (لَيْسَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (هُداهُمْ) اي إيصالهم إلى الحق ولا أنت مسئول عن ذلك فإنما عليك البلاغ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) أي يوصل بتوفيقه إلى الحق والعمل الصالح (مَنْ يَشاءُ) ممن هو أهل للتوفيق (وَما تُنْفِقُوا) يا أيها الناس (مِنْ خَيْرٍ) من المال او طيبه وخيره أو سمي خيرا لأنه يقصد به وجه الله وسبيل الخير (فَلِأَنْفُسِكُمْ) يعود النفع من إنفاقه (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي الوجه الذي يتوجه به إلى الله وفي التبيان ابتغاء مرضاة الله وفي الكشاف وطلب ما عنده انتهى وما ذكره إنما هو غاية يقصدها الغالب في عملهم لوجه الله وقد تكون الغاية للأولياء هو ان الله اهل للعبادة كما يروى عن زين العابدين (ع) تصريحه بذلك وإذا لم يثبت ما ذكر في الدر المنثور وغيره من ان السبب في نزول هذه الجملة هو الرخصة لمن امتنع عن الإنفاق على أرحامه المشركين فالظاهر انها خبرية يراد بها تأكيد النهي عن ان ينفقوا إلا ابتغاء وجه الله خالصا من الرياء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوصل إليكم جزاءه تاما وافيا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بنقصه ولا تأخير إيصاله عن محل الحاجة فإنه يصل إليكم في حال أنتم فيه في أشد الحاجة إلى ذلك الجزاء ٢٧٢ (لِلْفُقَراءِ) قال في التبيان ومجمع البيان والكشاف تقديره «النفقة للفقراء» ويدل على ذلك تعدد ذكر الإنفاق في الآيات وكونها مسوقة له وأما تعليق الجار والمجرور بكلمة «وما تنفقوا» في أول الآية فلا يصح لأن

٢٣٩

الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً

____________________________________

الإنفاق إنما يعدى بعلى لا باللام مضافا إلى بعده من حيث الفصل الطويل وعدم الانسجام (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في مجمع البيان قال ابو جعفر يعني الباقر (ع) نزلت في اصحاب الصفة ورواه الكلبي عن ابن عباس انتهى وفي الدر المنثور ذكر انه أخرجه ابن المنذر من طريق الكلبي وأخرجه ابن سعد عن محمد بن كعب القرضي عن ابن عباس. ولفظ الآية عام وإن كان اصحاب الصفة بمقتضى الرواية مورد النزول. والإحصار هو المنع او الحبس الذي يكون من ناحية المحصر. أي منعوا أنفسهم وحبسوها في سبيل الله بسبب معاداتهم للمشركين او لأنهم وقفوا أنفسهم على التجند في سرايا رسول الله وحروبه فحبسوا أنفسهم على انتظار ذلك او على خدمة الدين او طلب العلوم الدينية فهم من اجل ذلك (لايَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للتكسب والاحتراف للرزق بالتجارة ونحوها (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) وترويض أنفسهم على العفة مع شدة الحاجة فإن ملكة العفة قد يغلبها الفقر ودوام الحاجة ولكنها إذا كانت لا تزال مؤيدة بالتعفف وترويض النفس كانت هي الغالبة (تَعْرِفُهُمْ) بما هم فيه من الفقر والحاجة (بِسِيماهُمْ) ومخائلهم ودلائل أحوالهم على الحاجة اي ان سيماهم كافية في تعريف حالهم لا ان معرفتهم بالفقر منحصرة بدلالة السيماء فإن رسول الله (ص) وكثير من الناس كانوا يعرفون حال الكثير من المذكورين بالخبرة والاطلاع والظاهر ان الخطاب في تعرفهم ليس لحصر المعرفة بالرسول بل المعنى يعرف حالهم بسيماهم فهم وان تمادى بهم الفقر (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) في نهاية ابن الأثير من سأل وله أربعون درهما فقد سأل الناس إلحافا وقال الزجاج الحف شمل بالمسألة وهو مستغن عنها. ونحوه في أساس الزمخشري. وفسروا الالحاف ايضا بالالحاح في المسئلة ومعنى الآية لا يسألون نوع الناس مهما احتاجوا ولا يشمل سؤالهم كل من يحتملون اسعافه لهم فيكونوا بذلك ملحفين وملحين بنوع السؤال وإن لم يلحوا في افراده ولا يلزم في فضل المذكورين ان لا يسألوا أحدا أبدا فلا يخدش في تعففهم ان تلجأهم الضرورة إلى ان يذكروا حالهم اتفاقا لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم أو من ينوب عنه. ولا يبعد انه لا ينفك أحد من ان يسأل حاجة ولو من خواصه بل قد يجب ذلك أو يندب ولكن في

٢٤٠