آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (١٩٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠٠) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠١) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ

____________________________________

منها والمناسك هنا أفعال الحج لأنها ينسك بها لله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ان من عادة الناس وخصوص العرب ان لا يغيب آباؤهم عن ذكرهم بالافتخار بهم والإطراء بمحاسنهم وإحسانهم أو القسم بهم ونحو ذلك. فالمعنى العام في الآية ان لا تغفلوا عن ذكر الله بعد أداء المناسك. واولى ما يحتج عليهم في ذلك هو انهم لا يغفلون عن ذكر آبائهم إذن فكيف يغفلون عن ذكر الله بما هو اهله وهو الإله العظيم وله المجد والجلال وهو خالقهم وكل نعمة عليهم حتى التي من آبائهم هي منه جلت آلاؤه. بل ينبغي ان يكون ذكرهم لله أشد من ذكر الآباء بنحو يناسب جلال الله ونعمائه. وجاء في التفسير في الروايات ببيان بعض المصاديق العادية في ذكرهم لآبائهم. ففي صحيحة الكافي عن منصور بن حازم عن الصادق (ع) كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم كان أبي كذا وكذا فقال الله (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ). ونحوها ما رواه العياشي عن الباقر (ع) والصادق (ع) وجملة مما رواه في الدر المنثور. هذا وان ذكر الله حق الذكر يساوق ملازمة التقوى ولكن احوال الناس مختلفة يكونون فيها على اصناف ذكر في الآيات بعضها (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) وقد اعرض عن الآخرة ونسيها (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي من نصيب لأنه أعرض عنها ولم يعمل لها ولم يسأل شيئا من خيرها ١٩٩ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) نعمة (حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) نعمة (حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وفي الكافي في صحيحة جميل عن الصادق (ع) رضوان الله والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ٢٠٠ (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) «من» في «مما» بيانية فإن ما سألوه لا ينال بمحض الدعاء (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لعباده من الصنفين المذكورين ٢٠١ (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي ايام التشريق كما في صحيحتي الكافي عن محمد بن مسلم ومنصور بن حازم وصحيحة التهذيب عن حماد بن عيسى عن الصادق (ع)

١٨١

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى

____________________________________

كصحيحتي الوسائل عن قرب الاسناد عن حماد عنه (ع) ونحوهما روايات العياشي ورواية الدر المنثور عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. وذكر الله هو التكبير كما في صحيحتي محمد ومنصور المشار إليهما. وصورته المتفق عليها بين المسلمين كما ذكره في التبيان. الله اكبر. الله اكبر لا اله الا الله والله اكبر الله اكبر ولله الحمد. وزاد أصحابنا تبعا للروايات عن أئمتهم اهل البيت وجمعا بينها. الله اكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الانعام. وهو مستحب على المشهور لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم قال سألته عن التكبير في ايام التشريق أواجب او لا قال (ع) مستحب وان نسي فلا شيئ عليه فالأمر في الآية للاستحباب. ووقته بعد كل فريضة من صلاة الظهر يوم النحر الى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر. فيكون خمسة عشر تكبيرا ولمن ينفر بالنفر الاول بعد الزوال فيكون عشر مرات. واختلف كلام الفقهاء من الجمهور في عدده ولكن مالكا والشافعي في احد أقواله وافقا أصحابنا (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي) ضمن (يَوْمَيْنِ) من تعجل الدين اي تعجل مقامه بمنى في ضمن يومين بتعجل غايته فنفر النفر الاول. ولو كان بمعنى استعجل وعجل او للمطاوعة كما في الكشاف لدلت الآية على جواز النفر في اليوم الاول منها ايضا وهو باطل بإجماع المسلمين. ولأجل جعل التعجل في ضمن يومين اشترط أصحابنا وفقهاء اهل السنة الا أبا حنيفة وأصحابه كونه قبل الغروب من اليوم الثاني فلو امسى حرم عليه النفر الاول (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لهذه الجملة ظاهر لا حاجة الى بيانه لأن في رواية الكافي عن إسماعيل بن نجيح رد عليه ولأن الأحاديث عن الفريقين جاءت على خلافه وهو ان المراد غفرت ذنوبه. منها صحيحة الحلبي في قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وصحيحة عبد الأعلى ورواية ابن عيينة ورواية ابن نجيح ورواية العياشي عن معاوية ابن عمار وعن أبي بصير عن الصادق (ع) ورواه في الدر المنثور عن علي امير المؤمنين (ع) وابن مسعود وابن عمر وابن عباس في احدى الروايتين فيكون حاصل المراد من الآية الكريمة فمن أتمّ حجه بالتعجل او التأخر غفرت ذنوبه فإنه لا أثر لخصوص عنواني التعجل والتأخر في غفران الذنوب. ومن هذا الوجه وكون التعجل إتماما للحج يعرف جوازه وانه (لِمَنِ اتَّقى) النساء والصيد كما هو المشهور بين الإمامية باعتبار الاختصاص بالأمرين المذكورين والمجمع عليه

١٨٢

وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٣) وَإِذا تَوَلَّى

____________________________________

باعتبار الدخول في كل ما يحرم على المحرم كما عن ابن سعيد او ما يوجب عليه الكفارة كما عن ابن إدريس وأبي المجد كما ورد في خصوص النساء والصيد صحيحة حماد بن عثمان وروايته الأخرى كما في التهذيب وصحيحة جميل ومعتبرة ابن المستنير عن الصادق (ع) وبه جاءت احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس والمراد اتقاء المحرم وما يحرم عليه في حجة مما يكون بين النساء والرجال سواء كان رجلا او امرأة. وهناك روايات أخرى من الفريقين لم يأخذ بمضمونها الإمامية وعلى ذلك إجماعهم مضافا إلى ان قوله تعالى ذلك (لِمَنِ اتَّقى) لا يستقيم تفسيره بالتقوى المطلقة بعمومها لأن حصولها إلى حين النفر لا يتفق إلا للمعصوم فلا يبقى موقعا للامتنان بغفران الذنوب إذا كان ذلك قيدا له وكذا لا يبقى مورد للتخفيف على سائر الناس كما يعرف من روايات الفريقين بأجمعها إذا كان قيدا لجواز النفر كما لا يستقيم تفسيره بمطلق حصول التقوى ومصداقها في الماضي إذ لا فائدة على ذلك في هذا القيد فإن كل من له حج قد حصل منه مصداق للتقوى فلا بد من ان يراد بذلك تقوى خاصة وهو ما بينته الروايات المتقدمة وبالنظر إلى هذا الذي ذكرناه يسقط كثير من الأحاديث (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) مقتضى سوق الآية هو انه لا تتكلوا على غفران ما مضى من ذنوبكم بسبب الحج بل اتقوا الله فيما بقي من أعماركم وتحققوا وليكن على علمكم وذكركم دائما انكم الى الله لا محالة تحشرون فيحاسبكم على اعمالكم ويجازيكم فاستعدوا لذلك بالتقوى وتزودوا منها فإنها خير الزاد ٢٠٢ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) وتستحسنه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بيعجبك أي يظهر الإيمان والصفاء وحسن الصحبة ويقول ان ذلك في قلبي (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) بضم الياء من اشهد أي يقول اشهد الله على ذلك ولازمه دعوى ان الله عالم بذلك (وَ) الحال (هُوَ) خصم لك وللايمان و (أَلَدُّ الْخِصامِ) في ذلك. واللدد هو الشدة في الخصومة والألد صفة مشبهة نحو أعمى العين واعورها أي شديد الخصومة. يقال خصم ألد وخصوم لدّ كقوله تعالى في سورة مريم (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) ٢٠٣ (وَإِذا تَوَلَّى) من الولاية بأن تصير له ولاية

١٨٣

سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٤) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ

____________________________________

وتسلط (سَعى فِي الْأَرْضِ) السعي الاسراع في المشي قيل والعمل ومنه قوله تعالى في سورة النجم (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). وفي سورة الدهر (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً). وظني ان ذلك من المعنى الأول وكني به عن العمل (لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) المراد بالحرث هنا الزرع لأنه تحرث له الأرض. والنسل ما يتولد بالتناسل. والناس نسل آدم وعن تفسير العياشي عن الحسين بن بشار عن الرضا (ع) قوله النسل هم الذرية والحرث الزرع وعن زرارة عن الصادق والباقر النسل الولد والحرث الأرض وهذا يرجع إلى تفسيره بالزرع وفي مجمع البيان وروي عن الصادق ان الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس. وأظن انه اخذه من تفسير القمي ففيه قال الحرث في هذا الموضع الدين. وهذا الكلام لا دلالة فيه على انه رواية عن الصادق (ع) (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ولا يعين عليه ولكن يمهل ذلك الساعي ويملي له ٢٠٤ (وَإِذا قِيلَ لَهُ) اي لذلك المفسد (اتَّقِ اللهَ) ولا تفسد (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) التي يراها لنفسه (بِالْإِثْمِ) واجتماع اتباعه معه على الضلال اي استولى عليه اعتزازه بالإثم اي بالتعاضد الباطل على الباطل والآثام فيأنف من قول القائل له اتق الله وفي التبيان أخذته العزة من اجل الإثم الذي في قلبه من الكفر. وقيل أخذته العزة أي دعته العزة إلى الإثم كما تقول أخذت فلانا بأن يفعل أي دعوته إلى ان يفعل ونحوه قال في الكشاف (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) اي فليكن محسوبة في عاقبة جهنم (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) الذي مهده لنفسه بسوء اعماله هي ٢٠٥ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) في التبيان شرى باع. وفي الكشاف يبيعها أي يبذلها في الجهاد أقول ويمكن ان يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الرابعة والثمانين أي يشتري نفسه بالأعمال الصالحة ابتغاء لمرضات الله عليها وهي سعادتها التي تشترى لها. وفي التبيان وروي عن أبي جعفر يعني الباقر (ع) انه قال نزلت في علي (ع) حين بات على فراش رسول الله (ص) لما أرادت قريش قتله (ص). ورواه في البرهان وغاية المرام عن تفسير العياشي باسناده عن ابن عباس وعن جابر عن الباقر (ع) ورواه الشيخ الطوسي

١٨٤

في اماليه بأسانيده من رجال اهل السنة وغيرهم عن زين العابدين وابن عباس وانس وأبي عمرو بن العلا وعن أبي اليقظان عمار عن رسول الله (ص) وفي مجالسه عن أبي ذر ان امير المؤمنين احتج في الشورى بأن الاية نزلت في شأنه. وفي غاية المرام رواه ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي وابن عقده والبرقي وابن فياض والعبدكي والصفواني والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي رافع وهند بن أبي هاله. ورواه من أهل السنة الحافظ ابو نعيم عن ابن عباس. والثعلبي في الجزء الأول من تفسيره. ورواه ايضا في تفسيره وابن عقبة في ملحمته وابو السعادات في فضائل العشرة بأسانيدهم عن أبي اليقظان عمار. ورواه الغزالي في باب الإيثار من الاحياء بالنحو المفصل في مباهاة الله لجبرائيل وميكائيل بعلي ونزول الآية في شأنه وكذا أورده الرازي والنيسابوري والشيرازي في تفاسيرهم وعن ابن الأثير في الإنصاف في جمعه بين الكشاف والكشاف ورواه في الفصول المهمة عن الاحياء ورواه الثعلبي ايضا باسناده عن السدي. وروى الحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيص المستدرك واخطب خوارزم موفق في مناقبه والحمويني في فرائده وفضائل الصحابة بأسانيدهم عن زين العابدين (ع) قال أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب عند مبيته على فراش رسول الله (ص) وروى احمد في مسنده بطريق صحيح والحاكم في مستدركه وصححه على شرط البخاري ومسلم وذكر روايته عن أبي داود والطيالسي وغيره ورواه النسائي في خصائصه صحيحا واخطب خوارزم في مناقبه والذهبي في تلخيصه وصححه والحمويني في كفاية الطالب والسمط الاول من فرائده عن ابن عباس في حديث وشرى علي نفسه ولبس ثوب النبي (ص) ونام مكانه وقد كان رسول الله (ص) البسه برده وكانت قريش تريد ان تقتل النبي (ص) الحديث. هذا وفي الكشاف لم يذكر هذه الرواية وفسر يشري نفسه بقوله يبيعها ويبذلها في الجهاد ثم ذكر الرواية في صهيب وانه اشترى نفسه وافتداها من مشركي قريش بماله. وهذا لا يناسب تفسيره بيبيعها ويبذلها وإنما يناسب ذلك ما روي في شأن امير المؤمنين (ع) في بذل نفسه ومبيته على فراش الرسول ليفديه بها. والعجب من السيوطي فإنه مع طول باعه في الحديث واستقصائه في الدر المنثور للأحاديث المتعلقة بالتفسير حتى الشواذ والمناكير ومع ذلك لم يذكر ما استفاض من طرقهم في نزول هذه الآية في شأن امير المؤمنين ومبيته على الفراش وروى نزولها في شأن صهيب او مع أبي ذر أو مع غيرهما. وان ما يرويه صهيب من قول النبي (ص) له ربح

١٨٥

وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً

____________________________________

البيع لا يناسب بذل ماله ولا تناسب الآية إفلات أبي ذر من أهله. فإن قيل ان الآية مدنية فكيف يكون نزولها في مبيت علي (ع) على الفراش في مكة قلت ان حادثة المبيت كانت حين خرج رسول الله (ص) من مكة مهاجرا فنزلت الآية بعد ذلك في تمجيد علي (ع). وايضا لم يكن بين ما يروونه من شأن صهيب مع قريش وبذل ماله وبين مبيت علي (ع) على الفراش إلا يوم ونحوه فكيف ناسبت الآية المدنية شأن صهيب ولم تناسب شأن امير المؤمنين في مبيته على الفراش (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وهذه التتمة وامتنانها انما تناسب شأن امير المؤمنين (ع) ورأفة الله به في حفظه بجبرائيل وميكائيل من قتل قريش كما فيما أشرنا اليه من روايات أبي نعيم والثعلبي وابن عقبة وأبي السعادات والغزالي والرازي وغيرهم ٢٠٦ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) فيما حضرنا من كتب اللغة السلم بكسر السين وسكون اللام الصلح والمراد منه الملائمة وعدم الحرب لا عقد المصالحة الذي يؤثر السلم. وتؤنث حملا على نقيضها الحرب كقوله تعالى في سورة الأنفال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها). وقال العباس بن مرداس

السلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

ومن الغريب ما رواه في الدر المنثور من ان المراد بالسلم شرائع الإسلام وما ذكره من سبب النزول. وان المخاطبين هم اهل الكتاب. أو ان المراد بالسلم الإسلام. كما اغرب من نقل عنه في الكشاف ان المخاطبين هم المنافقون كما اغربوا بتفسير السلم بالطاعة كيف والآية والتي بعدها يناديان بأنهم نوع المؤمنين بالله ورسوله محمد (ص) وقد كانوا حين الخطاب بالآية ومدة حياة الرسول مستوسقين بأجمعهم للسلم فيما بينهم اذن فما ذا الذي أمروا بأن يدخلوا فيه ما هو الا عنوان يضمن لهم دوام السلم بعد الرسول (ص) ويحكم انتظامه ولم نجد لهذا العنوان بيانا وتفسيرا معقولا إلا ما ورد عن اهل البيت (ع) ففي الكافي بسنده عن عبد الله بن عجلان عن الباقر (ع) في تفسير السلم في الآية قال (ع) في ولايتنا. وكذا رواية سعد بن عبد الله القمي بسنده عن الفضيل عنه (ع) ورواية ابن شهرآشوب عنه (ع) ورواية العياشي عن الكلبي عن الصادق عنه (ع). وفي امالي الشيخ بسنده عن محمد بن ابراهيم عن الصادق (ع) قال في ولاية علي بن أبي طالب وكذا رواية ابن شهرآشوب عن زين العابدين عليه‌السلام

١٨٦

وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٧) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ

____________________________________

والصادق (ع) ورواية العياشي عن أبي نصير عن الصادق (ع). وفي معناها روايات أخر عن العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن الباقر (ع) والصادق (ع). وروايته عن جابر عن الباقر (ع) وروايته عن مسعدة عن الصادق عن أبيه عن جده عليهم‌السلام. ولعمر الحق ان ولاية علي (ع) والأئمة من آل الرسول لهي اشرف انواع السلم وأعظمها بركة. بها يستوسق السلم العام بين المسلمين بعد الرسول (ص) وبها يستحكم نظامه ويقر قراره ولو تمسك كافة المسلمين بها لما حدثت الحروب الطاحنة كحروب البصرة وصفين والنهروان وكربلا والحرة وغيرها. ولما ذهب خيار المسلمين اضاحي لقساوة زياد وابنه والحجاج وأشباههم فإنا لله وانا اليه راجعون. و «كافة» بمعنى جميعا حال من ضمير الجماعة في ادخلوا ولا محصل لكونه حالا من السلم خصوصا مع ما ذكرناه من حال المسلمين في عهد رسول الله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الخطوات جمع خطوة أي لا تتبعوا اثره وتخطوا على خطاه في الضلال ولا تنقادوا على أثره بغوايته (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لعداوته. وهل تخفى عداوته. وها أنتم بأقل التفات تعلمون انه يغريكم بكل قبيح ويوقعكم بغوايته في كل شر ومكروه ٢٠٧ (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) ومنها قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). وتأكد بيانه بتواتر الأحاديث من الفريقين في ان المراد من اهل البيت هم علي والزهراء وذريتهما صلوات الله عليهم. وقوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). وغير ذلك من الآيات المأثورة تفسيرها في فضل علي (ع) وزعامته وولائه كما مضى ويأتي ان شاء الله وما تواتر لفظا او معنى من أحاديث الفريقين في فضل علي (ع) وولايته وامرته على المؤمنين. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في إنفاذ امره واظهار الحق بلا إلجاء ٢٠٨ (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي نوع الناس ان كان المقصود من الآية أحوال القيامة وأهوالها. وان كان المقصود أهوال أواخر الزمان فالمراد بعض الناس واهل ذلك الحين (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) نسبة الإتيان إلى الله مجاز أي يأتيهم آثار قدرته وعظمته وسلطانه القاهر كما

١٨٧

وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢٠٩) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١٠) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

____________________________________

يقال لمن جاءه جيش الملك بسطوة سلطانه جاءك الملك. وظلل جمع ظلة وهو ما اظلك. والغمام معروف. وظلل الغمام يحتمل ان تكون مجازا في الشدائد التي تدهمهم وظلمات الأهوال كما يظلم الجو بالغمام (وَالْمَلائِكَةُ) فاعل بالعطف ليأتي واسناد الآيتان إليهم لا مانع من حقيقته. وفي روايات الدر المنثور في الآية ما يعسر تأويله ويستحيل مؤداه لأنه تجسيم وفيه نسبة التحين في المكان إلى الله جل شأنه (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) فإنه لا راد لقضاء الله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وهو وليها يرجعها اليه سلطان إلهيته القاهر ووجوبه وإمكان ما سواه وحاجته في جميع أحواله اليه جل سلطانه ٢٠٩ (سَلْ) يا رسول (بَنِي إِسْرائِيلَ) على وجه التقرير والتوبيخ على تمردهم وكفران النعم (كَمْ آتَيْناهُمْ) أي أظهرنا لهم (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) واضحة تهديهم إلى الحق وتوضح لهم سبل الرشاد في التوحيد ووحي التوراة من الله ونبوة رسول الله ووحي قرآنه وحظوا من تلك الآيات وبينات دلائلها وإرشادها بالنعمة العظمى ولكن بدلوها وكم قابلوها بالارتداد والجحود والعباد وكفران النعمة (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) كمجيء تلك الآيات البينات فبشره بالعقاب الشديد (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ٢١٠ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) زينها الشيطان وأهواء النفس الأمارة كما في قوله في سورة الأنفال والنحل والنمل والعنكبوت. وقيل ان الله زينها لهم بأن خلق فيها الأشياء المرغوبة المعجبة. وليس بشيء لأن خلق هذه الأشياء إنما هو للناس عامة لا لخصوص الذين كفروا. وفي الكشاف يجوز ان يكون الله زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها أو لأنه أمهلهم قلت وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الانعام (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) وفي سورة النمل (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) ولكن هذا مجاز لا يصار اليه إلا بحسب اقتضاء الدليل (وَيَسْخَرُونَ) أي الذين كفروا (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) اما لأجل فقرهم او لأجل ايمانهم بالآخرة ورجائها أو لأجل اقدامهم على تحمل الشدائد بسبب الإيمان (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) فوق الكافرين الساخرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) في نعيم الجنان ورفعة

١٨٨

وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ

____________________________________

الرضوان. وهل المراد بالذين اتقوا هم الذين آمنوا او الاشارة إلى أن ما كل الذين آمنوا ينالون الدرجات الرفيعة يوم القيامة كما ورد في الحديث المستفيض المروي في صحاح اهل السنة وغيرها عن رسول الله (ص) انه يؤخذ ببعض أصحابه يوم القيامة ذات اليمين وذات الشمال فيقول أصحابي أصحابي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. الله هو العالم بالمراد (وَاللهُ يَرْزُقُ) بالكرامة ورفعة الدرجات (مَنْ يَشاءُ) من عباده بحسب الأهلية واستحقاق الكرامة (بِغَيْرِ حِسابٍ) ولا حد محدود والله ذو الفضل العظيم ٢١١ (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) لا تفرق بينهم فيما يرجع إلى نحلة او شريعة. وفي التبيان روى عن أبي جعفر «الباقر (ع)» انه قال كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا فبعث الله النبيين انتهى والمراد لا مهتدين كل الاهتداء في المعارف لأن الفطرة إنما تهدي إلى أصل الإلهية والتوحيد وشيء من صفاته جل شأنه. ولا توصل إلى المعاد الجسماني بالخصوصيات التي جاء بها القرآن الكريم ولا إلى الشريعة. ولا ضلالا بكل الضلال. إذن فهم ضلال في مطلق القول لضلالهم عن كثير مما تراد منهم معرفته والاهتداء اليه. وفي رواية العياشي عن مسعدة عن الصادق (ع) قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى قال (ع) لم يكونوا على هدى بل على فطرة الله التي فطرهم عليها. وهذا كله ينطبق على ما أسنده الكافي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (ع) في الآية قال كان قبل نوح أمة ضلال فبعث الله النبيين. وكذا في رواية العياشي عن يعقوب عنه (ع) وفي روايته عن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) كان هذا قبل نوح كانوا ضلالا. وروايته عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن الباقر (ع) والصادق (ع) كانوا ضلالا. ولم يرو عن أهل البيت انهم كانوا كفارا. نعم اضطربت الروايات كما في الدر المنثور عن ابن عباس ففي بعضها قوله على الإسلام كلهم وقريب منه ما رواه عن أبي بن كعب وفي بعضها من طريق العوفي قال كانوا كفارا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) برضوان الله وجزائه ونعيم الآخرة لمن آمن بالله واتقاه وعمل صالحا (وَمُنْذِرِينَ) لمن خالف كل ذلك او بعضه بغضب الله ونكاله ويوم القيامة وعذابه الأليم المهين (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي نوع الكتاب الإلهي الذي

١٨٩

بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ

____________________________________

يجيء به الرسل من الأنبياء من عند الله فيحتمل ان يراد بالنبيين خصوص الرسل الذين ينزل عليهم كتاب ويحتمل ان يراد بهم مطلق الأنبياء وعبر بانزال الكتاب معهم باعتبار انزاله على الرسل منهم فكان منزلا مع نوبة بعثتهم عليهم‌السلام أنزله الله (بِالْحَقِ) أي ليبين الحق ويوضح للناس نهج الهدى في دينهم وشرائعهم. ومن غايات ذلك وفوائده ان يكون مرجعا وحكما فاصلا في الاختلاف وباعتبار هذه الغاية الشريفة قال جلت آلاؤه (لِيَحْكُمَ) ببيانه (بَيْنَ النَّاسِ) أي مطلق الناس لا خصوص أولئك المذكورون ولو كانوا هم المراد لقيل ليحكم بينهم (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ودعاهم إلى الاختلاف فيه جهلهم واهواؤهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي في الكتاب (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) واختلفوا فيه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) من محكماته المعتضدة بدلالة العقل وفي هذه الجملة دفع لما يتوهم من ان الكتاب كيف يحكم بين الناس مع ان كل فرقة من الأمة الواحدة في خصامها الديني والمذهبي مع الفرقة الأخرى تحتج بالكتاب الجامع بين الأمة وتدعي دلالته على ما تقول به فقال الله تعالى ما معناه ان الكتاب المنزل للأمة بحسب الحكمة بلسان البشر ولسان تلك الأمة ومحاورتها وان كان فيه صريح محكم وظاهر بالوضع ومجاز ظاهر المعنى بالقرائن اللفظية او العقلية البديهية لكن صريحه ومحكمه وبيناته لا تبقي مجالا للتوهم. بل هي واقفة بالمرصاد لتلاعب الأهواء بظاهره ومجازاته فلم يختلفوا لخفاء دلالته واشكالها بل وقع الاختلاف (بَغْياً) حاصلا (بَيْنَهُمْ) وانحرافا من بعضهم عن الحق وزيغا إلى البغي ليموه الباغون أمرهم بالتشبث بالمتشابهات (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بحقيقة الإيمان وأوصلهم بتوفيقه (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) وتأييده باللطف لأنهم اهل لذلك بإيمانهم وتدبرهم في الكتاب (وَاللهُ يَهْدِي) ويوصل إلى الحق (مَنْ يَشاءُ) ممن هو اهل للطفه وتوفيقه جلت نعماؤه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ويجوز ان تحمل الآية على الاختلاف في نفس الكتاب وكونه منزلا من الله ويكون المراد من البينات هي المعجزات والدلائل على صدق الرسول ونزول الكتاب من الله ٢١٢ (أَمْ حَسِبْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) وتنالوا درجاتها الرفيعة جزاء ومكافاة

١٩٠

حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا

____________________________________

للأعمال الصالحة بدون إخلاص ثابت وصبر وثبات على نصر الدين وشدائده وبدون تمحيص للصادق من الكاذب (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الحجرات ١٧ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران ١٣٦ أي ولما يجاهد المجاهدون منكم ويصبر الصابرون فيكون الله قد علم بعلمه التابع في الأزل انهم سيجاهدون ويصبرون باختيارهم رغبة فيما عند الله ونصرا لدين الحق (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من أنصار الحق من الأمم والمثل بمعنى مثل بكسر الميم اي تمتحنون وتبتلون وتصبرون كما امتحنوا وصبروا. والذي أتاهم وصبروا عليه هو ان (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ) من البؤس ضد النعماء (وَالضَّرَّاءُ) من الضر ضد السراء أصابهم ذلك ومسهم بألمه لا مجرد عروض ذلك (وَزُلْزِلُوا) بهيجان الابتلاء والمحن واضطراب الأحوال ولكن الصابرين منهم ثبتوا على شدّتهم في أمر الدين ولم يهنوا بل دام بهم ذلك الحال وهم على صبرهم وثباتهم (حَتَّى) يفزع الرسول والمؤمنون إلى نصر الله ويستنزلون نصره ورحمته و (يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) دعاء واستنصارا لرغبتهم في ظهور دين الحق. فكونوا مثلهم واصبروا واثبتوا أيها المسلمون ولكم البشرى بالنصر (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ٢١٣ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ) في جوابهم ما يعرفهم ما ينفقونه وهو ما كان خيرا نافعا يراد به الإحسان ووجه الله. وما يبين مواضعه لئلا يكون إنفاقهم تضييعا للأموال ومستلزما للمفاسد (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) الناحيتين من الوالدين الأب والجد والأم والجدة (وَالْأَقْرَبِينَ) للمنفق وقدموا على مطلق الأقارب ممن في اعطائهم صلة الرحم بيانا لأهميتهم وتقديمهم عند مساواتهم للغير في سائر المزيات ودوران الأمر (وَالْيَتامى) اليتيم هو الصغير الذي لا أب له (وَالْمَساكِينِ) الفقراء (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المحتاج في سفره وان كان له مال لا يصل اليه (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وان أسررتم به فإنه لا تخفى عليه خافية ولا يضيع

١٩١

مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٤) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٥) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

____________________________________

أجر المحسنين ٢١٤ (كُتِبَ) وفرض (عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) فرض كفاية لتنالوا فضيلة الجهاد ونصر الدين ويحظى بعضكم بكرامة الشهادة وحياتها الحسنى (وَ) الحال (هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الكره بالضم مصدر بمعنى المكروه كراهة طباع وإن رغب فيه المخلصون في نصر الإسلام (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأحسن أثرا وعاقبة في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم وما هو شر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) بذلك فيختار لكم بلطفه وتوفيقه ما هو خير ٢١٥ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) ذكر القمي في تفسيره في سبب نزولها ما حاصله ان سرية لرسول الله يرأسها عبد الله بن جحش وافوا ببطن نخلة عيرا لقريش فقتلوا عبد الله بن الحضرمي وغنموها وأسروا أسيرين وكان ذلك في أول يوم من رجب من الأشهر الحرم. وذكر في الدر المنثور رواية عن جندب بن عبد الله وفيها ان اصحاب رسول الله (ص) شكوا أن ذلك اليوم من رجب او من جمادى وفيما ذكره عن ابن عباس انهم كانوا يظنون ان تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب ولم يشعروا. ونحوه ما رواه عن أبي مالك الغفاري. وعن الزهري وأبي مقسم. واضطرب ما ذكر روايته عن عروة في ذلك وتدافع. وفي الكافي في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الصادق (ع) في ان اليوم يتبع الليلة الماضية لا الآتية قال (ع) لأن اهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا قد دخل الشهر الحرام انتهى والرواية تشير إلى القصة. والمعنى يسألك المشركون على سبيل الإنكار او المسلمون على سبيل الاستفهام عن الشهر الحرام قتال فيه. قتال بدل اشتمال من الشهر الحرام (قُلْ) ما معناه ان ترك القتال في الشهر الحرام إنما هو وسيلة لنوع من احترام الناس وتسكين للشر واما إذا كان الناس هم الهاتكون للحرمات فأولئك لا حرمة لهم ولا كرامة فكيف يستنكر قتال المشركين في الشهر الحرام وهم الطواغيت المحادون لله ورسوله والمؤمنين دائما وفي الشهر الحرام ولهم (قِتالٌ(١) فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ) للناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ولا يزالون على هذا

١٩٢

وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

____________________________________

الصد منذ ظهرت دعوة الإسلام والتوحيد محادة لله (وَكُفْرٌ بِهِ وَ) صد عن (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلا يخلون سبيل المسلمين اليه (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وهم رسول الله ومن آمن به من اهل مكة بذلك الإخراج المزعج عداوة لله وتوحيده ورسوله ودعوته إلى الصلاح (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) مما تحسبونه كبيرا من قتال المشركين في الشهر الحرام. بل انهم لا يزالون يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن التوحيد ودين الحق بالمخادعة أو ما تيسر لهم من انواع الإيذاء (وَالْفِتْنَةُ) عن الدين (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) مع ان غزوهم وقتالهم إنما كانا لأجل تهديدهم وإرهابهم وردعهم عن أذى المؤمنين فإنهم لا يزالون مصرين على عداوة دين الحق (وَلا يَزالُونَ) في ضلالهم وغيهم (يُقاتِلُونَكُمْ) هذا التفات إلى خطاب المسلمين وفيه مناسبة لأن يكونوا هم السائلين عن قتال المشركين في لشهر الحرام (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) وهذا غرضهم من قتالهم لكم (إِنِ اسْتَطاعُوا) ان يدوموا على قتالكم وفيه بشرى بأنهم لا يستطيعون ولا يدومون (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ) جمع باعتبار معنى «من» (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وسقطت كأنها لم تكن فلا اثر لها ولا كرامة ولا استحقاق مع الكفر والارتداد (فِي الدُّنْيا) باعتبار افتخارهم بأعمالهم في الإسلام او ترتيب آثار لها (وَالْآخِرَةِ) فإن المرتد الذي يموت على الكفر قد أسقط نفسه بكفره عن أهليته للجزاء وان عمل العمل في حينه على وجهه (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) في التبيان والمبسوط روى أصحابنا انه «اي قتال المشركين في الأشهر الحرم» باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة وافتى بذلك في النهاية ولم يحضرني كتاب الجهاد من خلافه والرواية هي مضمرة تهذيبيه وتفسير العياشي عن العلاء بن فضيل وفي طريقها محمد بن سنان. وفي المنتهى انه قول أصحابنا وفي الجواهر لا خلاف فيه عندنا وجعل المضمرة مجبورة بذلك. ولا يعارضه قتال الرسول (ع) عام الفتح لهوازن في شوال والطائف في ذي القعدة لأن الذين قاتلهم ممن هتكوا حرمة الشهر وبدأوا بالقتال بل يدل عليه قوله تعالى في سورة براءة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا

١٩٣

(٢١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٧) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ

____________________________________

الْمُشْرِكِينَ) والتعليق على ذلك ليس من حيث مهلة العهد فانها خاصة وهذه الآية عامة وتلك اربعة أشهر وهذه نحو خمسين يوما ٢١٦ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) حق الايمان ويحتمل ان يراد بهم المؤمنون الذين لم يستطيعوا الهجرة حينئذ وبالمعطوف المهاجرون المجاهدون ويحتمل ان يراد المهاجرون وكرر لفظ الذين للعناية بهجرتهم وجهادهم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) من بلادهم لأجل الإسلام ونصرته. والهجرة مأخوذ من الهجر واختصت شرعا بمن هجر بلاد الشرك في سبيل الإسلام واتباع الرسول (ص) قبل الفتح (وَجاهَدُوا) بذلك جهدهم وطاقتهم واختص ذلك بالحرب الشرعية (فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) جملة أولئك خبر للذين وكفى برجائهم لرحمة الله معرفة بالله وازديادا للخير من فضله ورحمته (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فكأنه قيل ان الله يرحمهم لأنه رحيم فكيف بمن يرجو رحمته بنيته وعمله بل ويغفر لهم ما سلف ويقبل توبتهم ٢١٧ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) في التبيان قال جمهور أهل المدينة كل ما أسكر كثيره فهو خمر انتهى واشتقاقها اما من الاختمار وهو لازم لنوع المسكرات المائعة واما من مخامرتها للعقل. واستفاض من رواياتنا عن رسول الله (ص) والأئمة من اهل البيت انها اسم لكل مسكر كما في صحيح ابن الحجاج عن الصادق (ع) ورواية القمي في تفسيره عن الباقر (ع) والمرسل من طريق والمسند المعتبر عن عامر بن السمط عن زين العابدين (ع) ورواية الهاشمي عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) ورواية الامالي للطوسي بسنده عن النعمان بن بشير عن رسول الله (ص) كما أحصاه في الوسائل في الباب الأول من الأشربة وفي الباب الخامس عشر ايضا عن الباقر (ع) قال قال رسول الله كل مسكر حرام وكل مسكر خمر واستفاضت الرواية عن الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام في ان الفقاع خمر (وَالْمَيْسِرِ) هو القمار واخطأ في المصباح في قوله الميسر قمار العرب بالأزلام ولم يلتفت إلى قوله تعالى في سورة المائدة ٩٠ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ). ولو كانت الأزلام والمقامرة بها عين الميسر لما صح عطفها على الميسر مع الفاصل لكنها عطفت عليه من باب عطف الخاص على العام لما فيه من الأهمية. وفي الكافي مسندا عن الكاظم الميسر هو القمار. وبإسناده عن الباقر عن رسول الله (ص) قيل يا رسول الله ما الميسر

١٩٤

قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

____________________________________

قال كل ما تقامر به حتى الكعاب والجوز قيل فما الأزلام قال (ص) قداحهم التي يستقسمون بها وفي رواية العياشي عن الكاظم (ع) عن الصادق (ع) النرد والشطرنج من الميسر وفي الكشاف عن النبي (ص) إياكم وهاتين اللعبتين المشومتين فإنهما من ميسر العجم وعن علي (ع) ان النرد والشطرنج من الميسر وفي الدر المنثور بسنديه عن ابن عباس وابن عمر الميسر القمار وقد خبط الكشاف هاهنا بقوله أولا الميسر القمار وقوله بعد هذا فإن قلت ما صفة الميسر قلت كانت لهم عشرة أقداح وهي الأزلام إلى آخره وقوله بعد هذا وفي حكم الميسر انواع القمار من النرد والشطرنج انتهى هذا وان أسلوب الجواب في هذه الآية والنظر إلى قوله تعالى في سورة المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) والآية التي بعدها ليشعر بأنهم سألوه (ص) وهم يذكرون منافعهما للناس في شرب الخمر وربح القمار ونحو ذلك مما يسوله الهوى فجاء الجواب على سبيل التساهل والتأكيد في الحجة على تحريمهما (قُلْ) يا رسول الله (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ) بالتنكير اشارة إلى مجهوليتها وهوانها (لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما) في الدنيا في الصحة والشرف والمعيشة والسلام مع الناس وفي الآخرة (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وحقيق في لطف الله ورحمته ونظره إلى مصالح عباده وتكميلهم وتهذيبهم في شريعة الحق ان يحرمهما لأجل إثمهما الكبير (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عند فقرهم وغناهم (قُلِ الْعَفْوَ) كل بحسب حاله ففي الكافي مسندا عن الصادق (ع) العفو الوسط اي المقدار المتوسط بين ما يكون إسرافا وما يكون من البخل بحسب حال الشخص. ونحوه رواية العياشي عن جميل عنه (ع) وفي روايته عن عبد الرحمن عنه (ع) قال الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. وعن يوسف عن الصادق والباقر عليهما‌السلام قال الكفاف وفي رواية أبي بصير القصد ولا يخفى انه لم يقيد الإنفاق بكونه في سبيل الله بل هو مطلق الإنفاق وقال اسماء بن خارجه الفزاري لزوجته

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين اغضب

(كَذلِكَ) خطاب لرسول الله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) جمع الضمير باعتبار ان البيان يشمل الامة (الْآياتِ) في امر الخمر والميسر والنفقة وغيرها (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لغاية ان تتفكروا باختياركم فتأخذوا

١٩٥

(٢١٨) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢١٩) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ

____________________________________

بحظكم من الرشد ٢١٨ (فِي) امور (الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لتتبعوا رشدكم وتعملوا بما فيه صلاح الدارين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ) امر (الْيَتامى) في مخالطتهم في أموالهم ففي تفسير القمي في الصحيح عن الصادق (ع) انه لما نزل قوله تعالى في سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) اخرج كل من كان عنده يتيم وسألوا رسول الله عن إخراجهم فأنزل الله ويسألونك عن اليتامى. وفي معناها رواية الدر المنثور المصححة عن ابن عباس (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ) بتولي أمرهم وحفظ أموالهم والإنفاق عليهم منها وحسن تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم (خَيْرٌ) من إخراجهم وضياع أموالهم وأدبهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) في المأكل والمال (فَإِخْوانُكُمْ) في الدين أو في القبيلة او في النسب القريب ولا بأس بمخالطتهم إذا صافيتموهم مصافاة الاخوان واصلحتم (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) الذي يأكل اموال اليتامى ظلما او يضيعها (مِنَ الْمُصْلِحِ) الذي يخالطهم بالإحسان والإصلاح فاطلبوا الجزاء واحذروا العقاب ممن لا تخفى عليه خافية. وقد روي في الكافي والتهذيب وغيرهما شيء من وجوه مخالطتهم فليراجع (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي حملكم على ما فيه مشقة عليكم وكلفكم به من إصلاح امر اليتامى وعدم مخالطتهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في ارادته (حَكِيمٌ) في شريعته يجريها على حكمة العدل والتيسير ٢١٩ (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) في الدر المنثور مما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عمر انه كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية استشهد لتحريمه بهذه الآية. وفي التبيان وهذه الآية على عمومها في تحريم مناكحة جميع الكفار وليست منسوخة ولا مخصوصة. وتبعه في مجمع البيان على هذه العبارة إلى آخرها وزاد بقوله وهي عامة عندنا وأكد ذلك في آخر كلامه بقوله وهو مذهبنا. وفي هذا شك فإن الإجماع الذي ادعاه في الانتصار على حظر نكاح الكتابيات يمكن تأويله ككثير من إجماعاته لأن القمي قال في تفسيره إن الآية منسوخة بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). ونص على الحل والنسخ في تفسير هذه الآية وهي السابعة من سورة المائدة وفي المبسوط نسب التحريم إلى المحصلين من أصحابنا

١٩٦

وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

____________________________________

او إلى بعضهم وقال وقد أجاز أصحابنا كلهم التمتع بالكتابيات ووطأهن بملك اليمين. وتبعه على ذلك في المجمع في تفسير قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). وقد حكى جواز الدوام ايضا عن الحسن والصدوقين من القدماء. ووجه للكلام هنا ان هذه الآية وكذا قوله تعالى في سورة الممتحنة ١٠ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). هل هما منسوختان بقوله تعالى في سورة المائدة ٧ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ـ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ). أم هذه هي المنسوخة. وقد اختلفت الروايات في هذا الشأن وتحرير الكلام في ذلك موكول إلى مباحث الفقه. ويمكن أن يقال ان آية المائدة مختصة بتحليل الكتابيات بنكاح المتعة وذلك لاشتراطه بقوله تعالى (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) فإن هذا الشرط مختص بنكاح المتعة. لا يقال ان هذا منقوض بورود هذا الشرط في الآية العاشرة من سورة الممتحنة في نكاح المؤمنات المهاجرات. لأنا نقول ان ذلك في آية الممتحنة يمكن كما هو الراجح ان يكون بيانا لأن لا يسقط المسلمون مهورهن بالمرة اكتفاء بما أمروا به من إعطاء أزواجهن الأول من المشركين ما أنفقوا عليهن من المهر وحاصل ذلك ان تزوجهم للمهاجرات يكون على عادة الزواج النوعية بدون مقاصة لهن بما اعطي لأزواجهن الأول من أجلهن ولا إسقاط لمهورهن (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ) لكم في الزواج (مِنْ) حرة (مُشْرِكَةٍ) مهما كانت (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ورغبتم فيها (وَلا تَنْكِحُوا) نساءكم (الْمُشْرِكِينَ) قيل ذلك نظرا إلى العادة من ان المرأة يزوجها الولي فيحرم ايضا على المؤمنة ان تزوج نفسها من المشركين (حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ) حر (مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ) يعني المشركين نساء ورجالا (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وان وسوسة الخليط من نحو الزوج او الزوجة من المشركين لها أثر سيّء مخوف يجب التحذر منه (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) ومن ذلك ان يأمركم بأن تتباعدوا عن وسوسة الخليط المشرك (وَ) يدعوكم إلى نيل (الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) في ذلك بسبب هدايته وإرشاده لكم وتوفيقكم للأعمال الصالحة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) بما فيه هداهم والإشارة إلى الحكمة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) اي لغاية أن يتذكروا

١٩٧

(٢٢٠) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ

____________________________________

باختيارهم فتنفعهم الذكرى ٢٢٠ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) المحيض مصدر لحاضت المرأة إذا أخذها الدم المعروف المعتاد للنساء ويجيء المحيض اسما لزمان الحيض ومكانه (قُلْ هُوَ أَذىً) اي قذر كما تقدم في قوله تعالى (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) ان الأذى القمل. ولا بد في قوله (قُلْ هُوَ أَذىً) من نحو من الاستخدام فإن الحيض بمعناه المصدري ليس قذرا يجتنبه الرجال وإنما القذر والأذى هو الدم. ويحسن هذا الاستخدام بشدة الملابسة والاستغناء به عن التصريح باسم دم الحيض المستقذر (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) اي لا تأتوهن في محل الحيض والقذارة وهو الفرج ويمكن حمل المحيض على اسم الزمان فيجب حمل الاعتزال على اعتزال مخصوص يسبق اليه الذهن من المقام وهو الجماع في الفرج ويوضحه التنفير بكون دم الحيض أذى وقذارة. فرع عليه الأمر بالاعتزال. واما مطلق اعتزال النساء في زمان الحيض فهو مخالف لإجماع المسلمين ودعوى الأخذ بالإطلاق بعد التخصيص بما دل عليه الإجماع يلزمها تخصيص الأكثر وهو مستهجن. واما اعتزال ما تحت المئزر كما يقول ابو حنيفة وابو يوسف فلا يساعده وجه من وجوه الآية الكريمة وحديثهم عن عائشة متعارض (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع وهو تأكيد للأمر بالاعتزال (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بتخفيف الطاء كما هو الموسوم في المصاحف المتداولة بين المسلمين يدا عن يد وعليه قراءتهم ولا عبرة بما خرج عن ذلك من بعض القراءات كما ذكرنا في الفصل الثاني من المقدمة. والمعنى حتى ينظفن من ذلك الأذى والقذارة بانقطاع الحيض ونقاء المحل الذي هو الغاية لوجوب الاعتزال وعدم القرب. وهذا هو المناسب لتفريع الأمر بالاعتزال على كون دم الحيض أذى وقذارة وتعليله به وعلى ذلك اجماع الإمامية وأحاديثهم. ووافقهم ابو حنيفة وأصحابه إذا انقطع الدم على العشرة دون ما قبلها وفي هذا التفصيل اضطراب ظاهر (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) لا يلزم أن يكون هذا التفريع تكرارا في بيان الغاية المذكورة في حتى يطهرن بل اللازم في قانون المحاورة بحسب النظر إلى يطهرن بالتخفيف وتطهرن بالتشديد ان يكون تفريعا لأمر آخر وراء تلك الغاية وهو ان الإباحة بالمعنى الأعم المضاد للحرمة تحصل عند غاية التحريم ووجوب الاعتزال وهو النقاء من الحيض. وان الوطء الذي يؤمر به ويطلب

١٩٨

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا

____________________________________

لبقاء النوع وحسن الإلفة بين الزوجين أو يكون مباحا بالمعنى الأخص فهو إذا تطهرن من الأقذار بأن غسلن فروجهن من آثار الدم ولو بغسل الحيض وعلق هذا على تطهرهن جريا على الغالب والا فالغرض يحصل وان سقطن في الماء مثلا بدون اختيارهن (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) في الآية بالاعتزال عنه وعليه رواية الدر المنثور عن ابن عباس وهو المناسب لتعريف ما يؤتى منه. ولا يضر في ذلك التعبير بلفظ من كما حكاه في التبيان عن الفراء. وحكى في التبيان التفسير بقولهم من حيث ما أمر الله به من النكاح دون الفجور كما عن أبي حنيفة. او من حيث أباحه الله دون إتيان الزوجة الصائمة او المحرمة مثلا كما عن الزجاج. والقولان بعيدان من وجوه. ولقد اغرب من قال ان الأمر في أمركم الله هو الأمر التكويني. هذا وان إباحة الإتيان من الفرج بعد الأمر باعتزاله لا تدل على انحصار الإباحة بالوطء فيه بوجه من الوجوه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) في الفقيه والعلل والخصال والكافي وتفسير العياشي في رواياتهم ذكر المتطهرين من الغائط بالماء وان الآية نزلت في ذلك ولعله باعتبار بعض المصاديق ٢٢١ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الحرث في الأصل الكراب مصدر حرث الأرض اي كربها ثم استعمل في الأرض التي تحرث كما في هذه الآية ثم استعمل في نبات الأرض المسبب عن الحرث كما في قوله تعالى (يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ). وفي الآية شبه تمتع الرجل بزوجته بحرث الأرض والزوجة بالأرض التي تحرث فسميت حرثا اي محل تمتع لكم كما ان الأرض محل حفر وحرث وليس المراد ان إتيان المرأة لا يحل الا حيث يكون إتيانها زرعا للنسل حتى لو قلنا ان معنى انى شئتم هو اي وقت شئتم. او في القبل سواء كان من أمام او من خلف فإن الآية على هذين التقديرين ساكتة عن تحريم ما عداها حتى لو قلنا ان الأمر في قوله تعالى (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) للوجوب (١) كيف ولا خلاف بين المسلمين في جواز إتيان اليائسة ومعلومة العقم وإتيان المرأة مطلقا في أعكانها

__________________

(١) في الدر المنثور اخرج الحاكم عن ابن عبد الحكم ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك اي في حرمة إتيان الزوجة في دبرها فاحتج عليه ابن الحسن بان الحرث إنما يكون في الفرج فقال له فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال أرأيت لو وطأها بين ساقيها او في أعكانها أفي ذلك حرث قال لا قال أفيحرم قال لا قال فكيف تحتج بما لا تقول به

١٩٩

حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ

____________________________________

وبين فخذيها وساقيها حتى ما بين أليتيها مثلا (فَأْتُوا) الأمر للاباحة (حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) اين شئتم وقد أنكر بعضهم مجيء انى في اللغة بمعنى كيف او بمعنى اي وقت والأول متيقن في اللغة والأخيران شكك فيهما. والظاهر ان انى الاستفهامية مساوية في المعنى للشرطية وكلما جاء في القرآن من الاستفهامية صالح لأن يراد منه المكان والجهة مع ان منها ما لا يصلح ان يكون بمعنى كيف كما في قوله تعالى في سورة آل عمران ١٥٩ (قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) و ٣٢ (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأما بمعنى أي وقت فليس في القرآن ما يصلح له. وفي الدر المنثور في ذكر القول الثاني من المسألة ذكر من اخرج عن أبي سعيد الخدري ان رجلا أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وذكر من اخرج اثنتي عشرة رواية عن عبد الله بن عمر ان الآية نزلت رخصة في وطء النساء في أدبارهن. وروي عن ابن عبد البر ان الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة مشهورة. وأورد عن مالك ما يكذب رواية الخلاف عن ابن عمر وصححه الدارقطني عن مالك. وفي تهذيب الشيخ في الصحيح عن الصادق (ع) انه استشهد للحل بهذه الآية ولم يذكر انها نزلت في ذلك. وكذا رواية العياشي عن زرارة عن الباقر (ع) والظاهر ان استشهادهما عليهما‌السلام انما هو بعمومها لا بنزولها في هذا الشأن. وملخص الكلام في المسألة ان قول نافع بالجواز معروف وحكاه الطحاوي وحجاج بن ارطاة وعن مالك روايتان. وفي الخلاف عن المزني قال بعض أصحابنا حرام وقال بعضهم حلال ثم قال وآخر ما قال الشافعي لا أرخص فيه. وذكرت في الدر المنثور وغيره رواية الجواز عن أبي مليكة. وعن عبد الله بن القاسم قال ما أدركت أحدا اقتدي به في ديني يشك انه حلال يعني وطء المرأة من دبرها ثم قرأ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ثم قال وأي شيء أبين من هذا. وفيه اخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبد الله بن الحكم ان الشافعي سئل عنه فقال ما صح عن النبي (ص) في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس انه حلال. وفيه أيضا بعد ان ذكر روايات القول في التحريم قال الحفاظ في جميع الأحاديث المرفوعة «يعني المسندة عن النبي (ص)» وعدتها نحو عشرين حديثا كلها ضعيفة لا يصح منها شيء والموقوفة يعني ما وقف سنده

٢٠٠