آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

____________________________________

النوعي بإفطار المريض والمسافر (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) النوعي فالصوم في السفر غير مراد لله لأن فيه عسرا نوعيا. وفي الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة قال قلت لأبي عبد الله (ع) قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال (ع) ما أبينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه. وعن العياشي عن زرارة عن الباقر (ع) ما أبينها لمن عقلها. ولأن قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) في مقام التعليل وبيان بعض الغايات في كتابة الصيام على النهج المذكور في الآيتين فباعتبار جعل الصوم في المرض والسفر في أيام أخر علل بالتيسير كأنه قيل ليتيسر عليكم (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) عطفا على المقدر فتفوزوا بفضل صوم الأيام المعدودات كاملة العدد بخلاف ما لو لم يشرع ذلك واضطر المريض والمسافر إلى الإفطار كما هما مظنة للاضطرار إلى ذلك نوعا. وباعتبار الهداية إلى شريعة الحق قال جل اسمه (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) على هدايتكم إلى الدين والشريعة وهذا التكبير مستحب عندنا بالإجماع ولا يضر الخلاف النادر. وبذلك قال الشافعي وأحمد وابو حنيفة على ما نقل عنه ونسبه في الخلاف إلى الفقهاء. ووقته عندنا بعد صلاة المغرب من ليلة شوال والعشاء والصبح. والعيد بإجماع الإمامية ورواية الكافي والفقيه عن سعيد النقاش عن الصادق (ع) ورواية الإقبال بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع). ويقرب من مذهب الإمامية ما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسنديه عن زيد بن اسلم وابن عباس. وصورة التكبير مذكورة في كتب الفقه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اي ولتشكروا الله على نعمته عليكم بدين الحق ولطفه بتشريع الصيام وما فيه من الفوائد وتيسيره عليكم وعلى نعمة الطعام والشراب إذ تلتفتون إليها بجوعكم وعطشكم. ولا يخفى ان الشكر المطلوب ليس من الأفعال الموقتة المنقطعة التي يسوق إليها التكليف كإكمال العدّة والتكبير بل هو عمل نفسي دائم كالتقوى والاهتداء يرجع إلى اختيار الإنسان ان يديم التفاته إلى نعم الله ومعرفة قدرها وفقره إليها وعجزه عنها فيختار الشكر الثابت. وذلك يحتاج إلى قوة في الاختيار وثبات عليه وعلى مجاهدة الأوهام المعارضة. ولأجل هذه النكتة جرى التعبير عن التعليل والغاية بقوله تعالى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وكذا نظائره مما قيل في تعليله «لعلكم» وأما مقدار

١٦١

(١٨٤) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٥) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ

____________________________________

السفر الذي لا يصام فيه وصفته وصفة المرض فبيانه موكول إلى معرفته من السنة والإجماع في كتب الفقه ١٨٤ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي) اي فأخبرهم اني ونحو ذلك وهو العامل في إذا (قَرِيبٌ) باللطف والرحمة والاجابة. لأنه يجل عن المكان (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) ذكر الشرط مع انه معلوم مما قبله لأجل التنبيه على انه ما كل من يدعو الله لحاجته هو داع لله بحقيقة الدعاء لله من حيث الانقطاع وصدق التوجه إلى الله ومعرفته. ومن معرفته الإذعان بحكمته وسعة رحمته لعباده (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فيما دعوتهم اليه مما فيه صلاحهم وسعادتهم ورشدهم. وكأن هذه الجملة في مقام الشرط أي ان أرادوا أن أجيب دعوتهم فليستجيبوا لي (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) اي ليرشدوا وقد سبق الكلام على مثله ١٨٥ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) الرفث هنا هو الإفضاء إلى النساء بالجماع (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) كناية عن شدة ارتباط المرأة والرجل في التمتع (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وتوقعونها في فعل الحرام (فَتابَ عَلَيْكُمْ) مما فعلتم (وَعَفا عَنْكُمْ) أي عن تحريم الجماع في ليلة الصيام من شهر رمضان (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الأمر للاباحة والمباشرة إيصال بشرة إلى بشرة وهي ظاهر الجلد كنى بذلك عن الجماع لأن المباشرة من مقدماته اللازمة. والمراد من الآن ما بعد نزول الآية. والآية بنفسها تدل على ان الجماع كان محرما في ليلة الصيام مطلقا او في حال خاص. وان بعض المسلمين فعلوا المحرم وجامعوا فنسخ ذلك التحريم عفوا من الله. وفي الكافي في الصحيح مسندا عن الصادق عليه‌السلام ما حاصله كان الجماع والأكل والشرب محرمة في شهر رمضان على من نام أي بعد العشاء فاتفق لرجل انه نام فلما عمل في النهار في الخندق صار يغشى عليه فنزلت الآية. وفي تفسير القمي عن أبيه مرفوعا عن الصادق (ع) نحوه وزاد وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا فأنزل الله الآية. وروى نحو ذلك في الدر المنثور من طرق متعددة. وزاد انه أخرج ابن جرير وابن

١٦٢

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ

____________________________________

المنذر في حديث عن ثابت وابن جرير وابن أبي حاتم فى آخر عن ابن عباس. واخرج ابن جرير في ثالث عن ثابت ان من المجامعين بعد العشاء في زمان التحريم عمر بن الخطاب. ونحوه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وعن كعب بن مالك عن أبيه (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي لنوعكم من الذرية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الأمر فيهما للاباحة ويمتد أمدها (حَتَّى) غاية الجواز ينقطع بها (يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) يوجد في الأفق ويلزمه عادة ونوعا ان يتبين لنوع الناس فالغاية ان يكون الصبح بحيث يراه الصائم لا استيلاؤه عليه كما يأتي في الليل. وهذه الغاية هي غاية الرفث ايضا بإجماع المسلمين لأن حله مقيد بالليل وهو ينقطع بالفجر (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو الفجر الصادق المعترض وفيه قوة التبين لا الكاذب المستطيل كذنب السرحان المبتني على الخفاء والاضمحلال وعلى ذلك اجماع المسلمين وأحاديث الفريقين وقد جمع شطر منها في الوسائل والدر المنثور. وسمي بالخيط اشارة إلى ان الغاية ما يتبين حينما هو كالخيط (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وهو ما حول الفجر من الليل (مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ثم اوجدوا الصوم قاما إلى الليل وعطف بثم لجريان العادة بالفصل والتراخي بين انقطاع الأكل والشرب وبين الفجر محافظة على حدود جوازهما في الليل وحرمتهما بأول الفجر. والليل هو السواد والظلام المعاقب للنهار ولذا يقولون ليل أليل أي شديد الظلام او السواد. والغاية للصيام ان يغشي الليل الصائم ويصل اليه لا وجوده. فإنه موجود في كل زمان بحسب التناوب على البلاد ولا رؤيته والا لقيل حتى يتبين ونحو ذلك كما قيل في الفجر فالغاية إذن ان تذهب الحمرة المشرقية ويصل سواد الليل المعاقب لها إلى الصائم اي الى سمت رأسه فإن المشرق في جهة السماء مظل على المغرب فيكتسب من نور الشمس ما تظهر به الحمرة ويبقى به النهار إلى ان تحتجب الشمس شيئا فشيئا فيظهر الليل ويسري على وتيرة احتجابها حتى يصل إلى الرأس فلا يذهب النهار عن الصائم الا بذهاب الحمرة عن سمت رأسه. وعلى ذلك من روايات الإمامية رواية ابان عن الباقر (ع) وروايات ابان وعمار وابن شريح. ومرسلتا ابن أشيم وابن أبي عمير. ومرفوعة المفيد عن الصادق (ع). ولا ينافيها ما عبر فيه بغيبوبة الشمس وغروبها لما أشرنا

١٦٣

وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٦) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ

____________________________________

اليه. وهذا هو الذي يفقه مما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابو داود وابن جرير وعن ابن أبي شيبة والنسائي عن عمر قال قال رسول الله (ص) إذا اقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم. واخرج البخاري وابو داود وابن جرير عن عبد الله بن أبي اوفى بعدة أسانيد في حديث قال قال رسول الله (ص) إذا أقبل الليل من هاهنا وضرب بيده نحو المشرق أفطر الصائم. وفي الدر المنثور اخرج أحمد وعبيد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في حديث عن بشير بن الخصاصية قول رسول الله (ص) وأتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا ولا يخفى انه عند وجود الحمرة المشرقية لم يقبل الليل من ناحية المشرق ولم يكن على الصائم ليل (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي لا تمسّ بشرتكم بشرتهن باللمس والتقبيل بشهوة وبالجماع مطلقا. وهذا مذهب الإمامية وعليه إجماعهم لإطلاق المباشرة ودلالة المقام على ان المراد منها ما يرجع إلى التمتع والتلذذ (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) العكوف الاقامة في المكان والملازمة له واعتكف قصد العكوف وجعل نفسه عاكفا. وامر هذا العكوف وصفاته وشروطه الشرعية موكول إلى السنة ويعرف مدلولها من كتب الفقه (تِلْكَ) اي ما عرف في هذه الآيات من حرمة ما يجب الإمساك عنه في الصوم وحرمته قبل الليل وحرمة تضييع العدة من الأيام الأخر وحرمة المباشرة للنساء على المعتكف (حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) مبالغة في التحذير منها وامر بملازمة الواجبات المحدودة وعدم الميل عنها إلى جانب تلك الحدود (كَذلِكَ) البيان في هذه الأمور (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) ودلائله (لِلنَّاسِ) فيما فيه صلاحهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) اي ليتقوا وجيء بلعل لما ذكرناه قريبا ١٨٦ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) أي لا يأكل بعضكم اموال بعض (بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وغير المشروع ومنه القمار كما رواه في الكافي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام وروى في الكافي ايضا عن الصادق (ع) ان من ذلك ان يكون عند المديون مال فينفقه على نفسه ولا يفي به دينه. ومنه ما في مجمع البيان مرفوعا عن الباقر (ع) أكل المال باليمين الكاذبة (وَتُدْلُوا بِها) أي ترسلوها رشوة (إِلَى الْحُكَّامِ) كمن يدلي دلوه ليستخرج الماء

١٦٤

لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٧) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٨) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٨٩) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ

____________________________________

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بأن ذلك محرم عليكم ١٨٧ (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْأَهِلَّةِ) قيل يسمى هلالا ايضا في ليلته الثانية وقيل في الثالثة وقيل حتى يستدير بخطة دقيقة وقيل إلى الليلة السابعة (قُلْ) لهم ما تدركه عقولهم من حكمتها (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) تميز لهم ما يحتاجون اليه في مهماتهم من مقادير الزمان وأوقاته بحسب الأشهر والسنين بتوقيت محسوس للعامة. بل ان الدور الذي تتكون به الأهلة يعرف الناس منه ساعات الليل بتدرج الهلال في الطلوع والغروب الى أن يصير بدر اثم الى ان يعود هلالا (وَالْحَجِ) أي مواقيت للحج (وَلَيْسَ الْبِرُّ) وعمل الخير (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) كناية عن تشريعاتهم الجهلية الأهوائية وزعمهم ان العمل بها بر (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) فانظر الى هؤلاء الذين اتقوا الله وأخلصوا له في طاعته واتباع شريعته واعرفوا البر من اعمالهم. وفي الآية الخامسة والسبعين بعد المائة ذكرنا الوجه والفائدة في جعل «من» الموصولة خبرا للبر (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) والأمور من وجوهها واعمال البر من حيث أمر الله وشرع. وعن محاسن البرقي مسندا والعياشي مرفوعا عن جابر عن الباقر (ع) في قوله عزوجل (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) قال (ع) أن يؤتى الأمر من وجهه أيّ الأمور كان. ومن هذا الباب ما اتفقت عليه رواية الفريقين من قول النبي (ص) انا مدينة العلم وعلي بابها (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه فيما شرعه من الدين القيم وهذا هو البر (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتفلحوا ١٨٨ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ونصر دين الحق (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) عنادا للدين (وَلا تَعْتَدُوا) في القتال عن الحد المشروع (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وما أشد خسران الذي لا يحبه الله ١٨٩ (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي ظفرتم بهم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) وهي مكة المعظمة. ولا يكبر في قلوب الضالين قتالهم وقد عدوا على المسلمين يقاتلونهم لأنهم اسلموا من قبل ذلك وأخرجوهم عن ديارهم في مكة وفوق ذلك انهم لا زالوا يجهدون في أن يفتنوا

١٦٥

أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩٠) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩١) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٢) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ

____________________________________

المسلمين ويصرفوهم عن دينهم بالعذاب مرة وبالقتال أخرى (وَالْفِتْنَةُ) وصرف المؤمنين عن دينهم واضلالهم (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ضررا على نوع الإنسان فإن الضال المضل جرثومة فساد في الأرض كما قال جلّ اسمه في سورة البروج (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ويشمل التحريم مكة وما هو حريم للمسجد (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي في حرمه بقرينة قوله تعالى عند المسجد (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) عند المسجد (فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) في اعتدائهم وهتكهم لحرمة المسجد الحرام ١٩٠ (فَإِنِ انْتَهَوْا) قيل انتهوا عن كفرهم بالتوبة والإسلام. ويحتمل أن يكون المراد فإن انتهوا عن قتالكم فاغفروا لهم نحو قوله تعالى في سورة الأنفال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٩١ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) في التبيان الفتنة الشرك وهو المروي عن أبي جعفر أقول ولعله باعتبار انه يسبب الافتتان إذ يسبب الضلال ويصرف عن الحق كقوله تعالى في سورة المائدة (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي على الحقيقة المعقولة منه ليس فيه كفر ولا شرك ولا عبادات او ثانية ولا شرائع أهواء جاهلية فإن الدين في هذا المقام وأمثاله عبارة عن روابط الإنسان مع مقام الإلهية من حيث الاعتقاد بما يرجع للإله ورسله وكتبه وعبادته والطاعة والشريعة (فَإِنِ انْتَهَوْا) في التبيان ومجمع البيان أي امتنعوا عن الكفر وأذعنوا للإسلام ويحتمل الانتهاء عن قتال المسلمين (فَلا عُدْوانَ) عن حد السلم (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) المعتدين. وفي التبيان والبيان ان هذه الآية مؤكدة لمضمون الآية الأولى لا ناسخة لقيودها في القتال. وهذا هو الظاهر من سياق الآيات مع قوله تعالى ١٩٢ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) فمن قاتل المسلمين في شهر حرام قاتله المسلمون في شهر حرام كما ان من قاتلهم عند المسجد الحرام قاتلوه فيه (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) فإذا كان المشركون في

١٦٦

فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٣) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(١٩٤) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ

____________________________________

عداوتهم للتوحيد ودين الحق ومحادّتهم لله ورسوله لا يمنعهم عن عداوتهم وقتالهم للمسلمين حرمة للشهر الحرام ولا حرمة البيت الحرام فليس لهم أن يلوذوا بالحرمات بل يحتج عليهم بقصاصهم بذلك واما نفس الحرمات فلم تسقط ولا يقتص منها بجناية المشركين بل عارضتها حرمة الله في نصر توحيده ورسوله ودين الحق واحترام الحرمات. والأشهر الحرم هي رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ولعل الأصل في حرمتها شريعة ابراهيم كحرمة البيت فاستمر العرب على ذلك وأمضاه الإسلام (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) حدود الحق (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) حدود السلم والمجاراة وأفرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من» (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وناصرهم ١٩٣ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا) أنفسكم (بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وهذا النهي عام لكل اقتحام في اسباب التهلكة ومظانها ولا بد من أن يكون النهي مقيدا بما إذا لم يكن في ذلك الاقتحام حياة الدين ونصرته كما في نهضة رسول الله (ص) في أول دعوته واقدام سيد الشهداء في امتناعه عن بيعة يزيد في مثل زمانه (وَأَحْسِنُوا) اعملوا الحسن واطلبوه في أفعالكم وتروككم على حد قوله تعالى في سورة الكهف (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وغير ذلك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأعمالهم وتروكهم وما أعظم هذا التعليم الجامع للخير فإن احسان العمل والترك غير خفي وان غالطت فيه الأهواء بما لا يخفى على العقل من التدليس. ومن مصاديق احسان العمل ما جاءت فيه رواية الكافي. وعن العياشي عن أبي عبد الله (ع) لو ان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان احسن ولا وفق أليس يقول الله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي المقتصدين. فإن المقتصد هو الذي عمل الحسن واحسن عمله وان معنى التهلكة. ومقام الإمام (ع) وقوله ما كان احسن وتفسيره المحسنين بالمقتصدين لا يدع مجالا للقول بأن مضمون الرواية قريب من تفسير التهلكة بالإسراف ١٩٤ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) العمرة منصوبة بالعطف على الحج والحج والعمرة عبادتان معروفتان قد ذكرت اجزاؤهما وشروطهما في السنة

١٦٧

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ

____________________________________

ونظمتها كتب الفقه وإتمامهما لله دليل على انهما عبادتان يعتبر فيهما الإتيان بهما لله تقربا اليه والظاهر من مراجعة الحديث وسبك اللفظ ان قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أمر وإيجاب لإيجادهما تامين بأجزائهما وشروطهما المشروعة كقوله تعالى من احسن عملا أي أوجده حسنا وكقولهم. ضيق فم الركي. واطل جلفة القلم. وافرج بين سطورك. وكثير من ذلك فمن مدلول الآية إيجاب العمرة كما في صحيحة التهذيب عن زرارة عن الباقر (ع) في قوله العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج وذكر الآية ونحو صحيحة الكافي عن معاوية بن عمار عن الصادق (ع) وصحيحة العلل عن معاوية عنه (ع) وصحيحة التهذيب عن الفضل أبي العباس عنه. وفي الدر المنثور اخرج ابن عيينة والشافعي في الأم والبيهقي عن ابن عباس وذكر نحوه. واخرج الحاكم عن زيد بن ثابت عن رسول الله (ص) ان الحج والعمرة فريضتان. وفي الكافي في الصحيح عن ابن أذينة في حديث عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) قال يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما ونحوه عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام وقال في الكشاف في تفسير أتموا ائتوا بهما تامين ثم بعد ذلك حمله على محض الأمر بإتمامهما أي بعد الشروع فيهما واختار كون العمرة غير واجبة واغرب في تأوله لحديثي ابن عباس وعمر. ثم قال بأن الأمر بالإتمام للوجوب والندب كما تقول صم شهر رمضان وستة من شوال تأمر بفرض وتطوع وقال في سورة المائدة في آية الوضوء ما معناه انه لا يجوز ان يكون الأمر للوجوب والندب لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية أقول وفي هذا الذي نقلناه عنه من التدافع والغرابة ما يعجب منه الناظر. وقد نبه عليه في زبدة البيان (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) في المصباح قال ابن السكيت وثعلب حصره العدو في منزله حبسه واحصره المرض بالألف منعه من السفر. وقال الفراء هذا هو كلام العرب وعليه اهل اللغة انتهى. ونقل نحو ذلك ايضا عن الكسائي وأبي عبيدة وعن الفراء أيضا انه يجوز ان يقوم أحدهما مقام الآخر ورده المبرد والزجاج. وفي الخلاف عن الفراء احصره المرض لا غير وحصره العدو واحصره معا. وقد تكرر في رواياتنا الصحاح وغيرها ان المحصور غير المصدود وانهما يختلفان في بعض الأحكام كما في روايات زرارة عن الباقر (ع) وابن أبي نصر عن الرضا

١٦٨

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

____________________________________

عليه‌السلام ومعاوية بن عمار عن الصادق عليه‌السلام. وفيها المحصور هو المريض والمصدود هو الذي يردّه المشركون كما ردّوا رسول الله ليس من مرض. وفي الدر المنثور أخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في الآية يقول إذا اهل الرجل بالحج فأحصر إلى ان قال فإذا برء الحديث وقال ابراهيم ذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) اي فإن أحصرتم ومنعكم المرض عن الإتمام فأرسلوا لأجل ان يسوغ لكم التحلل ما استيسر لكل بحسب حاله ووقته من الهدي من الإبل او البقر او الشاة والمشهور عندنا ان من ساق الهدي ثم أحصر كفاه ذلك لأنه مما استيسر. والهدي هو ما يهدى من النعم للذبح في مكة او منى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) أي لا تحلوا فإن الحلق أول الإحلال (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) اي المحل المقرر له بالسنة في نوع ذلك النسك فإن كان حاجا فمحل الهدي منى وإن كان معتمرا بالعمرة المفردة فمحله مكة او بفناء الكعبة أو بالحزورة. واما رسول الله (ص) وأصحابه في عمرة الحديبية فقد كانوا مصدودين عن المسجد الحرام لا محصورين (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ) في حال الإحرام (مَرِيضاً) يحتاج في مرضه إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) في التهذيب بسنده عن عمر بن يزيد عن الصادق (ع) فمن عرض له أذى او وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فصيام ثلاثة ايام إلى ان قال والنسك شاة يذبحها الرواية. والأذى ما يؤذي ومنه القمل الكثير. فقد روى في الكافي في المعتبر والتهذيبين في الصحيح على الظاهر. وعن العياشي عن الصادق (ع) ان رسول الله (ص) مرّ على كعب بن عجرة الأنصاري والقمل تتناثر من رأسه فقال له رسول الله (ص) أتؤذيك هوامك قال نعم فأنزلت الآية فأمر رسول الله بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة ايام او الصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدّان او النسك شاة وذكر في الفقيه والمقنع نحوه بقوله مر رسول الله الحديث. واخرج نحو ذلك من الجمهور أحمد وأصحاب الجوامع وغيرهم وزادوا ان ذلك كان في عام الحديبية (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الصدّ ونحوه (فَمَنْ تَمَتَّعَ) أي أحل وتمتع بما يحرم

١٦٩

فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ

____________________________________

التمتع به على المحرم كالطيب والمخيط والنساء ونحو ذلك (بِالْعُمْرَةِ) بسبب الإتيان بالعمرة وإكمالها (إِلَى الْحَجِ) أي إلى إحرام الحج. وقد شرع هذا التمتع في حجة الوداع وهو اظهر من ان ينكر ولا بأس بالإشارة إلى شيء من حديثه. فعن التهذيب والعلل في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه (ع) لما فرغ رسول الله (ص) من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرائيل عند فراغه من السعي فقال ان الله يأمرك ان تأمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي فأقبل رسول الله (ص) على الناس بوجهه فقال أيها الناس هذا جبرائيل وأشار بيده إلى خلفه يأمرني عن الله عزوجل أن آمر الناس بأن يحلوا الّا من ساق الهدي فأمرهم بما أمر الله فقام اليه رجل فقال يا رسول الله نخرج من منى ورؤوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره فقال ايها الناس لو استقبلت من امري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس ولكني سقت الهدي فلا يحل من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله فقصر الناس وأحلوا وجعلوها عمرة وقام اليه سراقة بن مالك المدلجي فقال يا رسول الله هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا ام للأبد فقال بل للأبد إلى يوم القيامة وشبك بين أصابعه وانزل الله بذلك قرآنا (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) هذا الحديث جزء مما جاء في الرواية الطويلة عن معاوية بن عمار عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام كما في الصحيح في الكافي والتهذيب. ورواها على طولها مسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة في جوامعهم واحمد في مسنده وغيرهم عن الصادق (ع) عن الباقر (ع) عن جابر. واخرج اصحاب الجوامع الست وغيرهم ان الناس قد كانوا أهلوا بالحج لا يرون غيره كما عن جابر وانس وأبي سعيد والبراء بن عازب وابن عباس واسماء بنت أبي بكر. بل وعائشة من طرق الأسود وعمره ومحمد بن القسم. وقد كثرت الرواية في أمر الإحلال والتمتع لقوله (ص) لو استقبلت من امري ما استدبرت لما سقت الهدي ولفعلت كما فعلتم. او كما أمرتكم. او أحل كما أحلوا. وفي بعضها اني لأبرّكم وأصدقكم وأتقاكم ولولا اني سقت الهدي إلى آخره. أخرجه مسلم والنسائي والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه. وفي رواية الطبراني عن جابر أتتهموني وانا أمين أهل السماوات والأرض اما اني لو استقبلت الحديث. وممن روى ذلك من طريق الجمهور جابر والبراء وانس وعائشة وحفصة. وروى جابر في

١٧٠

حديثه الطويل في الحج وابن عباس وابن عمر وسراقة بن مالك وابن أخ لجبير بن مطعم قوله (ص) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما في جوامع مسلم وأبي داود والنسائي والترمذي ومسند احمد وابن عدي والطبراني والبغوي. وقد تكررت هذه المضامين مجتمعة ومتفرقة في المسانيد وجوامع الحديث الستة وغيرها مروية عن عدة كثيرة من الصحابة. ولا يخفى ان شرعية هذا التمتع والإحلال المطلق كما هو مدلول الأحاديث من الفريقين عليها اجماع الصحابة وعامة المسلمين في جميع الأعصار ولم يقل احد بنسخها نسخا شرعيا. وقد استمر العمل عليها بفتيا جميع العلماء في جميع الأعصار. نعم وقعت في بعض الأحاديث بعض الشواذ فينبغي التنبيه عليها في ضمن امور

«الأول» ان هذه الآية التي شرع بها حج التمتع والإحلال مقيدة بالأمن وان المسلمين في حجة الوداع كانوا على أعز جانب من القوة والأمن وكانت جزيرة العرب إذ ذاك خاضعة لسلطان الإسلام متمتعة بأمنه العام وسلطة عدله القاهرة. واخرج البخاري عن حارثة ابن وهب الخزاعي صلى بنا رسول الله (ص) ونحن اكثر ما كنا قط وأمنه بمنى ركعتين: فمن الشواذ ما يروى في جوامع الجمهور عن بعض الصحابة انه منع من متعة الحج فاحتج عليه امير المؤمنين (ع) بأنها سنّة رسول الله التي سنها في حجة الوداع فاعتذر وقال نعم ولكن كنا خائفين كما أخرجه مسلم واحمد وابو عوانة والصحاوي والبيهقي

«الثاني» روى في الجوامع الستة وغيرها ان اصحاب رسول الله كانوا في حجة الوداع جميعا حتى عائشة قد أهلوا بالحج لا يرون غيره كما عن جابر وابن عباس وأبي سعيد وابن عمر وأنس واسما بنت أبي بكر بل وعائشة من طرق الأسود وعمره ومحمد بن القسم. فمن الشاذ ما تفردت به الرواية عن عروة عن عائشة من ان الناس أهلّ بعضهم بالحج وبعضهم بالعمرة وهؤلاء هم الذين أمروا بالإحلال والتمتع. وان عائشة كانت مهلة بالعمرة.

«الثالث» روي من طريق الإمامية عن اهل البيت وجابر ان رسول الله (ص) قال دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة. ورواه الجمهور في جوامعهم ومسانيدهم كما تقدم. وروى الإمامية عن اهل البيت وجابر ايضا ان سراقة بن مالك قال يا رسول الله هذا الذي أمرتنا به يعني الإحلال بعد العمرة الى الحج لعامنا هذا أم الى الأبد فقال بل للأبد الى يوم القيامة. وروى الجمهور في جوامعهم ومسند احمد وغيره نحوه عن جابر وسراقة وعلى ذلك

١٧١

عمل المسلمين وفقهائهم. واخرج مسلم واحمد عن ذكوان عن عائشة ان رسول الله (ص) دخل عليها وقد كان غضبان لأنه أمر الناس بالحل فتردد بعضهم. واخرج احمد عن البرّا ورواه كنز العمال عن النسائي عن البراء نحوه. واخرج البخاري واحمد والنسائي وغيرهم عن علي امير المؤمنين ان المتعة سنّة رسول الله فلا يدعها لقول احد من الناس واخرج احمد ومسلم انه قيل لابن عباس في الإحلال بعد العمرة فقال سنّة نبيكم وان رغمتم. وفي حديث أخرجه احمد والبخاري ومسلم الله اكبر سنة أبي القاسم (ص). وإذا أحطت بما ذكرنا عرفت انه من الشواذ ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي ذرّ ان المتعة في الحج كانت لأصحاب محمد خاصة ونحو ذلك كما أخرجه مسلم او للركب الذي كان مع رسول الله كما أخرجه ابو داود والنسائي نعم ان كان المراد من ذلك إخراج حاضري المسجد الحرام من مشروعية المتعة جرت الرواية على مقتضى الكتاب والسنة واجماع المسلمين. ومن الشواذ ايضا ما أخرجه مسلم انه كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها. فذكرت ذلك لجابر فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله (ص) فلما قام عمر قال ان الله كان يحل لرسول الله ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وابنوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة الى أجل إلا رجمته بالحجارة. وليت شعري ما هو المراد بقول القائل ان الله كان يحل لرسول الله ما شاء بما شاء. وهل كان الأمر بالإحلال نقضا لأمر الله بإتمام الحج والعمرة ومخالفة له ولئن كان نقضا فلما ذا لا يكون نسخا بهذا النحو خصوصا مع قوله (ص) لو استقبلت من أمري ما استدبرت وقوله دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة وقوله (ص) لسراقة الى الأبد. ومن الشواذ ايضا ما أخرجه احمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال فعلتها مع رسول الله وانا أنهى عنها وذلك ان أحدكم يأتي الى آخر الرواية. ولم تذكر فيها إلا آراء لا تروج في الاستحسان فضلا عن مقاومة الشريعة. ومثل ذلك ما أخرجه احمد ومسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي موسى انه سئل عمر عن نهيه عن التمتع فقال قد علمت ان رسول الله فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يروحون الى الحج تقطر رؤسهم. وما أخرجه احمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي موسى ان عمر قال في ذلك ان نأخذ بكتاب الله فإن الله قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وان أخذنا بسنة رسول الله «وفي

١٧٢

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ

____________________________________

رواية من روايات البخاري وان أخذنا بقول النبي (ص)» فانه لم يحل حتى بلغ الهدي محله انتهى وقد سبق الكلام في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). واما السنة فيا سبحان الله هل سن رسول الله (ص) لأمته إلا ما اتفق عليه حديث المسلمين وإجماعهم من التمتع والحل وانه سنة الى الأبد. وان العمرة دخلت في الحج الى يوم القيامة. وهذا الدخول مع الإحلال يبين ان كلا من العمرة والحج يقع تاما في الشريعة بهذا الوجه وأما فعله (ص) فقد كان موقتا مختصا بمن ساق الهدي في تلك السنة كما يحدده قوله (ص) لو استقبلت من أمري ما استدبرت. دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة وقوله (ص) لسراقة بل الى الأبد (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) من البدنة أو البقرة او الشاة وهو نسك لا جبران كما قال الشافعي (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) متواليات (فِي الْحَجِ) وهي يوم التروية وما قبله ويوم عرفة وعليه اجماع الإمامية ورواية الفريقين ولو فاته ذلك لم يصمه ايام التشريق. وفي الخلاف عليه اجماع الإمامية انتهى. وعلى ذلك روايات كثيرة وفي صحيح ابن سنان ان الصادق (ع) استشهد لذلك بأن بديل ابن ورقاء أمره رسول الله بأن ينادي بمنى في الناس ان لا يصوموا ونحوه صحيح سليمان بن خالد وابن مسكان عنه (ع). ونحوه في خبر عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم عليه‌السلام كما في التهذيبين ومعاني الأخبار. واخرج احمد ومسلم عن نبيشة الهذلي قال قال رسول الله ايام التشريق ايام أكل وشرب. وعن كعب بن مالك ان رسول الله أرسله وأوس بن الحدثان ايام التشريق فنادى ايام منى ايام أكل وشرب. واخرج احمد والنسائي عن حمزة الأسلمي ان منادي رسول الله ينادي بمنى ورسول الله شاهد لا تصوموا هذه الأيام فإنها ايام أكل وشرب. واخرج احمد والحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم عن بديل بن ورقاء ان النبي بعثه على جمل أورق وأمره أن يتخلل الفساطيط وينادي في الناس ايام منى الا لا تصوموا فإنها ايام أكل وشرب وبعال. وعن الطيالسي عن أنس والبيهقي عن أبي هريرة نهى رسول الله عن صوم ايام التشريق. وهؤلاء المنادون أعرف بما أمروا به وما نادوا به فلا يعارضهم ما أخرجه البخاري وابن جرير عن عائشة وابن عمر من الرخصة في صيامها لمن لم يجد الهدي مع انهما لم يسندا الرخصة الى النبي (ص) بل هو أشبه بالاجتهاد كما اخرج البخاري ان

١٧٣

وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

____________________________________

عائشة كانت تصومها وكان أبوه او أبوها يصومها (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) الى أهاليكم والسرّ في هذا التعبير دون قوله تعالى إذا رجع هو ان من أقام بمكة يقدر له رجوع أصحابه الى بلده كما عليه فتوى الإمامية وأحاديثهم. ومنها صحيحة التهذيب عن معاوية بن عمار وفيها ان الصادق (ع) روى ذلك عن رسول الله (ص). ويحتمل ايضا النظر الى اعتبار الرجوع بالنفر العام في الثالث عشر من ذي الحجة بمعنى ان من رجع الى اهله بالنفر الأول لم يصح منه صوم الثالث عشر عند اهله (تِلْكَ) أي الثلاثة في سفر الحج والسبعة عند الرجوع (عَشَرَةٌ) تعد عند الله نسكا واحدا لا يضر فيها الفاصل الطويل ولا الإتيان بالسبعة في غير مناسك الحج وغير اشهره ولا الصوم في السفر (كامِلَةٌ) في النسك ككمال الأضحية والهدي (ذلِكَ) أي التمتع بالعمرة الى الحج (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ) باعتبار وطنه ومسكنه (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من الحضر بفتحتين والحضارة المخالفين للبدو والبداوة أي من لم يكن من أهل مكة وقراها وما ينسب عرفا إليها بحيث لا يعد القاطن هناك من البادين عن المسجد الحرام بل من اهل حضره وحاضريه. وقد اجمع المسلمون على ان من كان في الحرم فهو من حاضري المسجد الحرام وان بلغ من جهة المشرق اثنى عشر ميلا. والمظنون ان الميل منها ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع بذراع اليد لكن بعضا من الإمامية قدّر الحد لحاضر المسجد الحرام من كل جهة من جهاته بما لا يبلغ اثنى عشر ميلا ولا دليل عليه والروايات الصحيحة صريحة في خلافه. ومنها ما ذكر فيها ان اهل مرّ الظهران من حاضري المسجد فإنه عن مكة بمرحلة. والمروي الذي لا يقبل التأويل هو ما لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلا للنص على ان اهل عسفان وذات عرق من حاضري المسجد الحرام. وبعد المكانين عن مكة اكثر من ثلاثين او أربعين ميلا. وفي بعض الروايات ان اقرب المواقيت خارج عن هذا الحد. وذهب ابو حنيفة وأصحابه الى ان حاضر المسجد الحرام من كان داخلا في المواقيت وينبغي ان يريدوا بها يلملم وقرن المنازل وما ساواهما في البعد دون مسجد الشجرة او الجحفة. وقال الشافعي من لا يبلغ مسافة قصر الصلاة نظرا الى ان مسافة القصر تكون سفرا عن مكة لا حضرا قلت لو أخذنا الحضر في اللغة

١٧٤

وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٥) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ

____________________________________

مقابل السفر لكانت مسافة عشرة أميال ونحوها سفرا لغويا وعرفيا وضربا في الأرض وما التحديد في القصر إلا تحديدا لبعض اقسام السفر وقال بعضهم من كان في الحرم (وَاتَّقُوا اللهَ) بطاعته فيما أمرتم به او نهيتم عنه في أمر الحج واحكامه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على مخالفة الشريعة في ذلك فإنه شرع الحج بهذه الحدود لطفا بكم فإنه غني عن عبادتكم ومن لطفه أن يشدد عليكم بالوعيد على المخالفة لما يعلمه من عبث الأهواء بكم ١٩٥ (الْحَجُ) أي وقت الحج والذي يصح فيه (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) معينة ولئن كان المشركون ينسئونها الى أشهر أخر فإنما النسيء زيادة في الكفر. وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غيرها. نعم كل ذي الحجة وقت ببعض الاعتبارات لبعض الاجزاء كشوال وذي القعدة. قال في التذكرة وعليه اكثر علمائنا. وهو الظاهر مما روي في الكافي والفقيه والتهذيب عن سماعة ومعاوية عن الصادق (ع) انها شوال وذو القعدة وذو الحجة. ونحوه ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة عن الباقر (ع). وفي الدر المنثور وغيره كالبيهقي والبخاري في أحاديث مسندا عن رسول الله (ص) انها شوال وذو القعدة وذو الحجة كما في أحاديث أبي امامة وابن عباس وابن عمر. وصريح قول الكاظم (ع) كان جعفر «يعني الصادق (ع)» يقول ذو الحجة كله من أشهر الحج. كما رواه في التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج وروى نحوه في تفسير البرهان أخذا من تفسير العياشي وكذا صريح قول الصادق (ع) في شمولها لما بعد ايام التشريق في صوم الثلاثة في بدل الهدي حينئذ انا اهل بيت نقول ذلك لقوله تعالى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) يقول في ذي الحجة. كما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن كالصحيح او الصحيح عن رفاعة عنه (ع). ويؤيده ما رواه في الوسائل والبرهان أخذا من تفسير العياشي عن حفص بن البختري عن الصادق (ع). وربعي عن الكاظم (ع). والمراد في الآية ان مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من افعال الحج أي يصح بعض الاجزاء فيها كالاحرام الذي هو جزء من أحد النسكين الحج والعمرة وان اختصت بعض الأفعال بيوم عرفة وما بعده. فلا يجوز أن يقدم إحرام الحج على الأشهر المذكورة بإجماع الإمامية وحديث اهل البيت وبذلك قال عطا ومجاهد وطاووس والشافعي. وفي الدر المنثور

١٧٥

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ

____________________________________

ذكر جماعة رووا ذلك منهم الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر عن رسول الله (ص) والشافعي وغيره عن جابر موقوفا. والإحرام جزء من الحج والحج أشهر معلومات. وحكى في التذكرة عن مالك والثوري والنخعي وأبي حنيفة وإسحاق واحمد ان الإحرام ينعقد قبل الأشهر المذكورة فإذا بقي على إحرامه الى أشهر الحج جاز للحج. تشبثا منهم بقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) ويرده ان كون الأهلة كلها مواقيت للناس والحج إنما هو باعتبار مجموع الحوادث للناس والحج فإنها إنما تكون مواقيت للحج وللناس في حوادثهم وأمورهم إذا امتازت بعض الأهلة عن بعض باعتبار الوقوع او البداية او النهاية وإذا لم يمتز بعض الأهلة عن بعض في التوقيت كان الزمان كله ظرفا ليس فيه وقت ولا ميقات فلا تكون الأهلة مواقيت. ولو تنزلنا لكان قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) نصا على التعيين كنص السنة على تعيين التاسع والعاشر من ذي الحجة على بعض اعماله. وعمرة التمتع كالحج لا يقع شيء منها في غير الأشهر المذكورة بإجماع الإمامية وحديث اهل البيت وما رووه عن جدهم (ص) من قوله (ص) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما أسنده الجمهور في جوامعهم ومسانيدهم عن خمسة من الصحابة عن رسول الله (ص) كما أشرنا اليه آنفا. فإذا كانت داخلة فيه كانت موقتة بوقته. وان الإحرام الذي جعله للعمرة المتمتع بها الى الحج كان في ذي القعدة ولم يرد ما يجوّز تقديمه على شوال. وقد اجمع المسلمون على انه لا يجوز أن تقدم عمرة التمتع على أشهر الحج بجميع اعمالها. لكن في التذكرة عن ثاني قولي الشافعي إذا أحرم بالعمرة في شهر رمضان وأتى بباقي اعمالها في شوال وحج من سنته كان متمتعا. وقال ابو حنيفة ويجوز ايضا ان يقدم من اعمالها على أشهر الحج الى ثلاثة أشواط من طوافها. ولعل أبا حنيفة يتشبث لتقديم إحرامها بما يتشبث به لتقديم إحرام الحج وقد عرفت ما فيه. ويبقى قول الشافعي هنا وتقديم الأشواط الثلاثة ونحوها ليس له ما يتشبث به (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) اي جعل إتمامه فرضا واجبا عليه بسبب عقده للإحرام بالتلبية او اشعار الهدي او تقليده كما في صحيحة الكافي عن معاوية عن الصادق (ع) ويدخل في ذلك الإحرام من المواقيت في حج التمتع لدخول العمرة في الحج (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) اي ان الحج بطبيعته

١٧٦

ومصلحة تشريعه يأبى هذه الأمور. وتقدير الكلام فمن فرض فيهن الحج فلا يأت في حجه برفث ولا فسوق ولا جدال لأنه لا رفث ولا فسوق إلى آخره فحذف جواب الشرط لدلالة هذه الجملة المذكورة عليه دلالة يكون ذكره معها من فصول الكلام. وجيء بالجملة الخبرية. وصرح باسم الحج في قوله جل شأنه (فِي الْحَجِّ) لإيضاح ان الحج بذاته ينافر هذه الأمور. وليعرف ان عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض الحج بل هو غرض يريد الشارع تحصيله من المكلفين حتى في مورد لا يكون فيه من غير هذه الجهة منكر يجب النهي عنه واثم تحرم المساعدة عليه كما لو اكره المحل بحق الزوجية زوجته على وطئها في حجها الواجب أو المستحب بإذنه أو المولى أمته في حجها باذنه. او طاوعت المحلة زوجها غير البالغ على وطئها في حجه وما أشبه ذلك. فإنه بمفاد الآية والغرض يراد من كل مكلف عدم حصوله كمنعه ان كان لمنعه أثر وعلى ذلك جاءت صحيحة إسحاق بن عمار عن الكاظم (ع) في ان المولى المحل إذا كان عالما بأنه لا ينبغي له ان يطأ أمته في حجها باذنه كان عليه الكفارة كما افتى الأصحاب على إطلاقها سؤالا وجوابا بل الظاهر انه لا يخفى عليه ان وطأها مع رضاها لا ينبغي له لأنه اعانة على الإثم. ولو قيل ولا جدال فيه لاحتمل عود الضمير إلى ذلك الحج المفروض من حيث انه فرضه على نفسه وما يرجع إلى تكليفه الخاص به لا من حيث منافرة ذات الحج لهذه الأمور وإن كان بعضها حلالا في غيره كجماع الزوجين وقول لا والله وبلى والله في مقام الصدق. هذا وفي التبيان وغيره الرفث عند أصحابنا كناية عن الجماع قلت وهو احدى روايات الجمهور عن ابن عباس عن رسول الله ورووه ايضا عن ابن عباس وابن عمرو ابن الزبير موقوفا. والحجة لأصحابنا فيه إجماعهم وما في الكافي عن الصادق (ع) الرفث الجماع. والفسوق الكذب والسباب. والجدال قول الرجل لا والله وبلى والله ونحوه ما روى في الفقيه عن الصادق (ع) إلا انه لم يذكر السباب. ونحوه ايضا ما روي في التهذيب عن الكاظم (ع) الا انه ذكر المفاخرة بدل السباب. ولعل ذكر السباب والمفاخرة كان رعاية لبعض الوجوه باعتبار الغالب من اشتمالها على الكذب ويشهد لذلك خلوّ رواية الفقيه منهما وخلوّ رواية الكافي من المفاخرة وخلوّ رواية التهذيب من السباب وكلها في مقام البيان. وايضا ان الجماع هو المتيقن من الرفث في التفسير مع شهادة قوله تعالى فيما سبق (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ولئن ذكر له في كتب اللغة معان أخر فهي على سبيل الاحتمال. والأصل فيه البراءة (وَما تَفْعَلُوا

١٧٧

وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٦) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ

____________________________________

مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ويوفكم جزاءكم وهو العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين (وَتَزَوَّدُوا) من تقوى الله والأعمال الصالحة. والزاد ما يعد من الطعام لحاجة السفر كني به هنا عن الاستعداد للآخرة (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ) مما يعتني الإنسان بتزوّده وبعدّه لضرورته ويراه واجبا لازما لحاجته إنما هو (التَّقْوى) لله والعمل بأوامره ونواهيه. ولعمري ان التفريع بالفاء ليوضح الرد لما ذكر في تفسير الآية من ان قوما كانوا يرمون أزوادهم ويتسمون بالمتوكلين فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تلقوا كلكم على الناس. ولئن ذكرت بذلك رواية عن ابن عباس وغيره كما أحصاه في الدر المنثور فإن عرضها على كتاب الله في تفريع الآية بالفاء يعرّفك وهاهنا (وَاتَّقُونِ) عطف تفسير على تزودوا فائدته البيان والتأكيد (يا أُولِي الْأَلْبابِ) الذين يعرفون بعقولهم حاجتهم إلى التزود بالأعمال الصالحة ووجوب تقوى الله وما للتقوى من فضل الغاية العظمى ١٩٦ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) في (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في تفسير البرهان عن تفسير العياشي عن الصادق (ع) في تفسير الآية قوله (ع) يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه وقضى نسكه فليشتر وليبع انتهى. ويكون وجه المناسبة في السياق في هذه الجملة هو الاستدراك ورفع ما يتوهم بسبب تحريم الرفث والجدال والأمر بالتقوى والحث عليها فلا بأس في ان يكتسب ما هو زائد نوعا عما أعد من المال لسفر الحج. وروى في ذلك ونحوه في الدر المنثور عدة أحاديث. وفي التبيان روى عن أبي جعفر (ع) قال لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلا من ربكم معناه ان تطلبوا المغفرة. وفي مجمع البيان رواه جابر عن أبي جعفر (ع). ولعل ذكر المغفرة باعتبار انها المصداق الأهم لنوع الإنسان مما يبتغي حينئذ من الله. ووجه المناسبة في السياق هو انه بعد الترغيب في التقوى وملازمة الحدود في الواجبات والمحرمات اقتضى اللطف ان يرغب في الازدياد من الخير ومنه طلب المغفرة بأسبابها فجرى الترغيب بنحو الاحتجاج بثبوت المقتضي وعدم المانع فإن المقتضي لابتغاء الفضل من الله بديهي عند العقل والعقلاء وليس في ذلك مانع ولا على المبتغي جناح. واي جناح عليه في ذلك فابتغوه واغتنموا فيه الفرص (فَإِذا

١٧٨

فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٧) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ

____________________________________

أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) الافاضة جعل الشيء فائضا من فيض الماء اي فإذا أفضتم جمعكم تشبيها لاندفاع جمعهم الكثير في رحيلهم لساعتهم بعد العصر دفعة بفيض الماء المنبعث في ابتدائه من عرفات يقال أفاض الحديث اي أفاض كلامه فيه. وعرفات هو الموقف المعروف وفيه نسك اليوم التاسع. وفي التعبير بالافاضة دلالة على ان الموقف في عرفات له مكث محدود الوقت يجتمع فيه الناس ثم يرحلون بأجمعهم كالماء الفائض وان عرفات منشأ هذه الافاضة وفيض الجمع. وصرفت عرفات مع العلمية والتأنيث لأنها بصيغة الجمع فحملت عليه (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالصلاة والتقرب اليه بطاعته في النسك والوقوف (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو المزدلفة وجمع وسمي مشعرا لأنه محل لنحو من شعائر الله. وإذا جعلت جملة (فَاذْكُرُوا) لبيان الوظيفة بمنزلة الجملة الخبرية جاز ان يراد بالذكر ما يعمّ المستحب. ثم أكد الله الترغيب بذكره والإقبال عليه ببيان الاحتجاج والتذكير باستحقاقه شكرا لنعمته العظمى فقال جلت آلاؤه (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وأنعم عليكم بالهدى تلك النعمة الجليلة (وَإِنْ كُنْتُمْ) الواو للحال «وان» مخففة من الثقيلة تفيد التأكيد بمعنى وقد كنتم (مِنْ قَبْلِهِ) اي من قبل الهدى المدلول عليه بقوله هداكم (لَمِنَ الضَّالِّينَ) ولا تجعلوا المشعر سبيل عابر من عرفات إلى منى كما كانت قريش تقترحه بتشريعهم وجبروتهم على سائر العرب بل قفوا فيه للنسك بحيث يكون اندفاع جمعكم منه بعد الوقوف فيه افاضة منه كالافاضة من عرفات واذكروا الله فيه ١٩٧ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) العاملين على شريعة الحج بحقيقتها وهو ابراهيم الخليل (ع) الذي أتى بشريعة الحج وإسماعيل وإسحاق ومن كان بعدهم من المتبعين لهذه الشريعة. جاء فيما أشرنا اليه آنفا من الكافي والتهذيب في الصحيح عن الصادق (ع) عن الباقر (ع) عن جابر في ذكره لحج رسول الله (ص). ثم غدا (ص) أي من منى والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع «أي لا يقفون في عرفة فتكون لهم منها افاضة بل يقفون في المشعر وتكون منه إفاضتهم» ويمنعون الناس من ان يفيضوا منها «أي من المزدلفة يعني انهم لا يدعون الناس بعد إفاضتهم من عرفات ان يقفوا في المزدلفة لكي يكون لهم منها افاضة ايضا بل لا يكون لهم

١٧٩

وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٨) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ

____________________________________

إلا الاستطراق» فأقبل رسول الله وقريش ترجو ان تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون «اي لا يمضي الى عرفة بل يمكث في المزدلفة وتكون منها إفاضته (ص)» فأنزل الله عليه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله يعني ابراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم ومن كان بعدهم الحديث. ولا ينبغي الريب في ان مرجع الضمير في منها هو المزدلفة إذ لم يسبق في الحديث ادنى ذكر او إشارة الى عرفات. وفي تفسير البرهان آخذا من تفسير العياشي ذكر خمس روايات تذكر ان المراد أفيضوا من عرفات : نعم فيها ما يؤيد حديث جابر في ان قريشا منعوا الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة اي منعوهم من أن يمكثوا فيها عند رجوعهم من عرفة لكي تتحقق لهم الافاضة من المزدلفة. ولكن في تلك الروايات اختلاف فإن بعضها يذكر ان المأمور بالإفاضة من حيث أفاض الناس هم قريش وبعضها انه رسول الله (ص) وكذا ما أحصاه في الدر المنثور في رواياتهم والكل لا يقوى على المقاومة لحديث جابر المنتصر برواية الصادق (ع) والباقر (ع) له فإن ذلك تصديق منهما (ع) له. وينافيها ويردها أيضا سياق الآية والعطف فيها بثم. ولا يجدي في ذلك ما ذكره في الكشاف وغيره بالقياس الواهي. نعم في مجمع البيان انه قد روى أصحابنا ان هاهنا تقديما وتأخيرا تقديره فليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله. الآية. ولم أجد الرواية عاجلا لنرى سندها ولو كانت عن إمام لذكره في المجمع على عادته فالحكم لبيان رواية الصادق (ع) والباقر (ع) عن جابر المعتضدة بترتيب القرآن المتسالم عليه. وفي التبيان ذكر القول بأن الآية خطاب لجميع الحاج ان يفيضوا من حيث أفاض ابراهيم (ع) من مزدلفة وقال انه شاذ وعلل شذوذه بكلام مضطرب عهدة اضطرابه على النساخ وحاصله الاعتراض على كون المراد بالناس ابراهيم (ع) وحده وقد عرفت ان رواية جابر ترفع هذا الاعتراض واما دعوى الإجماع على خلاف هذا القول فلعلها ناظرة إلى المروي عن ابن عباس وعائشة وعطا ومجاهد والحسن وقتادة وبعض المفسرين ولا حجة فيه وكيف كان فلا اجماع وبالنظر الى مجمع البيان يظهر ان نساخ التبيان خلطوا بين قولي الضحاك والجبائي. وظني ان في عبارة التبيان سقطا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٩٨ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أتيتم بها وفرغتم

١٨٠