آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٨) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ

____________________________________

(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) خاصة بهم بحسب اقتراحهم عتوّا واستكبارا كما حكاه الله عنهم في سورة الاسراء المكية من قوله تعالى ٩٢ ـ ٩٦ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله تعالى (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) في الاقتراح الفاسد مع انهم شاهدوا ما تقتضيه الحكمة من الآيات والدلائل حيث قال اليهود (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وذلك بعد ما رأوا الدلائل على رسالة موسى كآية العصا وشق البحر (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الضلال والكفر بالآيات البينات. ولو جرت الآيات على حسب اقتراح المقترحين من المنهمكين بالضلال والمماراة لخرجت عن كونها آيات بل صارت بذلك أمورا عادية لا تقوم بها حجة فضلا عن ان كثيرا منهم يطلب المستحيل عقلا كقول بني إسرائيل (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وهل الآيات إلا ما تقتضيه الحكمة بحسب حال المدعوين إلى الإيمان مما يفيد اليقين وتقوم بالحجة وقد جاء رسول الله «ص» بذلك على أحسن وجه (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بما يوجب اليقين بدلالته الكافية ولا يمارون فيها بعناد الضلال وتحكم الأهواء فقد نزل القرآن معجزا على ما تقتضيه الحكمة من وجوه عديدة فاستنار بيقينه الموقنون وقطع المعاذير على الجاحدين والمرتابين إذ تحداهم بالإتيان بعشر سور او سورة من مثله. قلت وقد أشير إلى شيء من ذلك في الفصل الأول من المقدمة ولا تأس يا رسول الله من قول هؤلاء ١١٧ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً) للمؤمنين بما أعد لهم من النعيم (وَنَذِيراً) بما أعد للكافرين والمعاندين من العذاب والهوان (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) الذين استحقوها بسوء اختيارهم ١١٨ (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ) حتى تتبع ملتهم وحذف ذلك لدلالة قوله تعالى (وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ) اني اتبع الهدى واين منه اهواؤكم وتقليدكم فيها و (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بدين الحق وضلال هؤلاء فيما هم عليه اذن (ما لَكَ) ولا لكل احد قامت

١٢١

الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢٠) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢١) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٢) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ

____________________________________

عليه الحجة من عقله وتبليغك (مِنَ اللهِ) متعلق بالمطلوب من الولي والنصير وهو الانقاذ والتخليص (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) من زائدة وولي مبتدأ. ومالك خبره ١١٩ (الَّذِينَ) مبتدأ (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) القرآن (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) الجملة حال «لآتيناهم» لا خبر فإن ما كل من اوتي القرآن تلاه حق تلاوته. وفي مجمع البيان وعن العياشي عن أبي عبد الله (ع) ان حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار يسأل في الأولى ويستعيذ من الأخرى. وهذا ملازم في المعنى لما عن الديلمي عن أبي عبد الله ايضا قال يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه حفظوا حروفه وأضاعوا احكامه وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) جملة «أولئك» خبر للذين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وذلك هو الخسران المبين ١٢٠ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ١٢١ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قد مرّ الكلام في الآيتين بعد الاية الثالثة والأربعين وقد كررت الآيتان هاهنا تسجيلا لمعناهما على اليهود ١٢٢ (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) سياق الآيات الثلاث التي بعد هذه الآية وعطفهن عليها يقتضي ان تكون كلمة «إذ» مفعولا «لأذكر» القولية المقدرة فتكون الآية وارتباط كلماتها ومعانيها تستلزم ان يكون قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ) إلى آخره تفسيرا للكلمات والفاعل في أتمهنّ هو الله. ويشهد لذلك رواية ابن بابويه في كتاب النبوة عن المفضل ابن عمر عن الصادق عليه‌السلام. وعليه جرى ما حكاه

١٢٢

لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي

____________________________________

في مجمع البيان عن قتادة وأبي القاسم البلخي واختيار الحسين بن علي المغربي. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الكلمات (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) والآيات التي بعدها واخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن مجاهد نحوه. وإن كانت كلمة «إذ» ظرفا معمولا «لقال اني جاعلك» كانت الكلمات شيئا آخر فيظن ان يكون الفاعل في أتمهنّ هو ابراهيم. وفي تفسير القميّ قال هو ما ابتلاه الله بما أراه في نومه من ذبح ولده فأتمها ابراهيم إلخ. ولم يعلم ان القائل هو القمي أو الإمام. وروى في الدر المنثور عن ابن عباس في هذا النحو خمس روايات متدافعة نحو ما ذكره في مجمع البيان وعلى ما ذكرناه أولا يكون المعنى ابتلى ابراهيم بكلمات إمامته وامامة الأئمة وتحمل اعبائها وأداء شكرها (لِلنَّاسِ إِماماً) ومرجعا ومقصدا وزعيما في امور الدين والدنيا. وقد استفاض الحديث عن الأئمةعليهم‌السلام ان امامة ابراهيم كانت بعد نبوته ورسالته كما في الكافي عن جابر عن الباقر (ع). وعن زيد الشحام وعن هشام ودرست عن الصادق (ع). وفي العيون عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (ع). ويدل على ذلك ايضا ان نبوة ابراهيم كانت قبل ان يولد له ولد وقبل شيخوخته ومقتضى الآية ان قول الله له بجعله اماما كان بعد ان صار له أولاد يرجو ان يكون له منهم ذرية وأما قبل ذلك فلم يكن له رجاء فإن القرآن في سورة الحجر يخبر انه لما بشر باسحاق قال (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ). ولا يكون جاعل هنا بمعنى جعلت في الماضي لأنه عامل بالمفعول وهو اماما وقوله تعالى «للناس» متعلق «بجاعل» وفيه اشارة إلى الامتنان على الناس وان الإمامة لطف من الله ومن اكبر المصالح لأمورهم ويجوز ان يكون متعلقا بقوله (إِماماً) وقدم للاهتمام بعموم الإمامة للناس وارتباطها بمصالحهم العامة والخاصة (قالَ) ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الظاهر ان هذا عطف على «جاعل» في جاعلك اي وجاعل من ذريتي ويكون بمنزلة الاستفهام التقريري لمزيد الاستبشار والابتهاج ونحو من الشكر إذا علم من الكلمات والأسماء ان الأئمة من ذريته. او للاستفهام ان لم يعرف انهم من ذريته. وقيل ان المعنى واجعل من ذريتي. وفيه تكلف في التقدير الزائد على دلالة السوق خصوصا مع النظر إلى رواية الفضل الدالة على معلومية اسماء الأئمة في ضمن الكلمات فإنه يبعد من مقام ابراهيم ان يطلب الزيادة على

١٢٣

قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٣) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً

____________________________________

ما أخبره الله بتقديره (قال) الله جل اسمه في بيان ما لهذه الإمامة من الفضل (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) بيانا لشرف الإمامة في فضيلتها العظمى وفضل الإمام فإن الإمامة بجعلي وعهدي في الدلالة على الإمام بحسب أهليته لهذه الكرامة في كماله وقيامه بمصلحة الناس على ما يقتضيه اللطف في صلاحهم وأهليته لانقيادهم اليه وهذا العهد الكريم من نحو الوصية والدلالة على التعيين ونظير ذلك قولهم ولي العهد. والظالم يعم من ظلم نفسه بمخالفته للحق وكيف يليق من لا رادع له من كماله عن الظلم لنفسه او لغيره لأن يعهد الله اليه بإمامة الناس وإصلاح أمورهم وإرشادهم (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) وفي رواية البرهان عن الكافي والمفيد عن هشام بن سالم ودرست عن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية من عبد صنما أو وثنا أو مثالا لا يكون اماما. وعن امالي الشيخ مسندا وابن المغازلي في المناقب مرفوعا عن عبد الله بن مسعود عن النبي (ص) في الآية عن قول الله لإبراهيم من سجد لصنم دوني لا اجعله اماما. وقال (ص) فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قطّ. وعن الكافي مسندا والشيخ المفيد مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام لا يكون السفيه امام التقي. فيكون ذكر عبادة الصنم من باب النص على احد المصاديق من موانع الإمامة وهي ما تنافي العصمة التي يدل العقل على اعتبارها في هذه الإمامة. ومن شواهد ذلك ورشحاته ان الفطرة وحكم العقل بعثت جميع الحكومات المتمدنة على ان تجعل من قوانينها الأساسية ان من حكم عليه بجريمة توجب العقوبة ولو بسجن مدة قليلة يكون ساقطا باصطلاحهم عن الحقوق المدنية اي لا تكون له وظيفة في الحكومة يتسلط فيها على غيره ولا تنفعه في ذلك توبة. أليس الله بأحكم الحاكمين ١٢٣ (وَإِذْ) عطف على إذ ابتلى في الآية السابقة (جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الحرام وهو الكعبة (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مرجعا لهم والتاء للمبالغة لأن مرجعيته للناس جعلت دائمة فإنك ترى من يتحمل المشاق في زيارته يشتاق إلى الرجوع اليه مرّة بعد أخرى وهذا سرّ غريب وآية من آيات الله (وَأَمْناً) يأمن من حلّ في حماه من الناس مع وحشية الاعراب وتعاديهم وعداوتهم. وهذا ايضا من آيات البيت ويأتي له إنشاء الله مزيد بيان في تفسير الآية الثانية والتسعين من سورة آل عمران (وَاتَّخِذُوا) عطف على اذكر (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ

١٢٤

وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى

____________________________________

مُصَلًّى) مقام ابراهيم يسمى به الآن محل يصلى فيه باعتبار ان فيه الصخرة التي قام عليها ابراهيم (ع) فصار فيها اثر قدميه. وقال فيه ابو طالب

وموطئ ابراهيم في الصخر وطأة

على قدميه حافيا غير ناعل

وفي الكافي في الحسن كالصحيح عن أبي عبد الله مقام ابراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه. وفي مجمع البيان عن ابن عباس قصة فيها ان المقام صخرة وضعتها زوجة إسماعيل تحت رجلي ابراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه. وفيه ايضا ان عليّ بن ابراهيم روى مسندا عن ابان عن الصادق عليه‌السلام هذه القصة بعينها. وفي الدرّ المنثور ان الازرقي اخرج عن المطلب بن أبي وداعه. وآخر ان سيل ام نهشل في ايام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطلب ان عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. وفيه اخرج البيهقي في سننه عن عائشة ان المقام كان في زمن رسول الله «ص» وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب. وفي الكافي والفقيه في الموثق كالصحيح عن الباقر «ع» كان موضع المقام الذي وضعه ابراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي «ص» مكة رده إلى الموضع الذي وضعه ابراهيم «ع» إلى ان ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام فقال بعض انا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان. وذكر نحوه في المسالك عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام وذكر ان المقام هو العمود من الصخر الذي كان ابراهيم يقف عليه حين بنائه للبيت. وكان في زمن إبراهيم ملاصقا للبيت بحذاء الموضع الذي هو فيه اليوم. وفي تفسير القمي في سورة الحج ان المقام كان في زمن ابراهيم يلصق بالبيت وعليه نادى ابراهيم بالحج. وفي مضمرة ابن مسلم وصحيحة ابراهيم بن أبي محمود عن الرضا (ع) المرويتين في الكافي ما يدل على ان محل المقام على عهد رسول الله (ص) غير محله في ايام الأئمة إلى الآن. أقول والظاهر ان المراد من مقام ابراهيم في الآية هو جهة موقفه ومحل قيامه لا خصوص موطئه في قيامه او نفس الصخرة فإنه لا يمكن ان يتخذ منه مصلى. وقد روي في الوسائل عن أئمتنا عليهم‌السلام اكثر من

١٢٥

وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

____________________________________

اثني عشر حديثا في ان صلاة الطواف خلف المقام بحسب موضعه في زمانهم عليهم‌السلام والآن خمس منها استشهد فيها بقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وست نصت على الخلف. وعلى ذلك يحمل ما كان لفظه عند المقام والتعبير بعند فيه أيضا تقييد لإطلاق الخلف وكذا ما كان لفظه ارجع إلى المقام أو ائت المقام. وهذا مما يشهد لارادة الجهة ومقدار سعتها. ولعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن الاستدبار أو لأجل الستر على الشيعة والحصر في رواية زرارة بالمقام المعروف ظاهر في انه بالاضافة إلى الصلاة لطواف المتطوع في انها حيث شاء المتطوع من المسجد ويمكن ان تنزل على ذلك مرسلة صفوان كما يمكن ان تنزل صحيحة ابراهيم بن أبي محمود وسائر الروايات على الستر على الشيعة فتجوز الصلاة ما بين موضعي المقام أولا وثانيا. ولكن الاحتمال لاحترام ذات المقام يرجح ظاهر الروايات ويمنع عن اليقين بالفراغ الا بالصلاة خلفه (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) اي الطائفين به لعبادة الله. والعكوف اللبث حوله للعبادة ولو بذات اللبث بفنائه. والركع جمع راكع. والسجود جمع ساجد والمراد المصلين حوله. وعن الصدوق في العلل والشيخ في التهذيب بسندين صحيحين عن عمران وعبد الله الأخوين الحلبيين سألت أبا عبد الله (ع) أيغتسلن النساء إذا اتين البيت قال نعم ان الله عزوجل يقول (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فينبغي للعبد ان لا يدخل إلا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهر والمراد من إتيان البيت التوجه اليه للطواف ونحوه. وعن الكليني بسند معتبر عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (ع) نحوه بإسقاط السؤال وفيه فينبغي للعبد ان لا يدخل مكة إلا وهو طاهر «الرواية» وهذا يفسر متعلق الدخول في روايتي أخويه. ومن المعلوم ان طواف الناس وعكوفهم وركوعهم وسجودهم العاديين انما هي خارج البيت وحوله. وهكذا يدل على أن المراد تطهير فناء البيت من حيث حرمة البيت المضاف إلى الله والذي جعله يطاف حوله ويعكف ويركع ويسجد ويكون بالاعتبار الثانوي العرضي مراعاة لحال الناسكين حوله وبه جرى التعليل بالآية الكريمة لأنه يدل على الاعتبار الاولي الذاتي دلالة واضحة. والمراد من التطهير هو ما يقتضيه إطلاقه بمعناه اللغوي وهو التنزيه

١٢٦

(١٢٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا

____________________________________

عن كل ما ينافي حرمة البيت من القذارات الصورية والمعنوية عرفية كانت او بكشف الشارع كما يشهد لها رواية الحلبيين والأمر في طهرا بمنزلة الخبر لبيان الوظيفة والغرض كقوله اغتسل للجنابة والجمعة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (وَعَهِدْنا) فلا يمتنع شموله للواجب والندب ويسري التكليف المفهوم منه إلى غير ابراهيم وإسماعيل ١٢٤ (وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) اي فناء البيت وحرمه الذي هو مكة (بَلَداً آمِناً) اي يأمن أهله ومن فيه من أذى الناس (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) سكانه (مِنَ الثَّمَراتِ) لا كل سكانه بل (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) ولم يقل بك محافظة على تخصيص الإيمان بالله بالنص على اسمه العظيم (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ) الله جلت آلاؤه ما حاصله اني استجبت دعاءك ولا أخص رزقي في هذه الدنيا الفانية بالمؤمنين بل أرزق فيها المؤمن والكافر (وَمَنْ كَفَرَ) واصرّ على كفره (فَأُمَتِّعُهُ) في الدنيا (قَلِيلاً) اي مدة حياته القصيرة بالنسبة إلى ما وراءه وأمهله وأقيم عليه الحجة واملي له (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) اي آخذه قهرا بالموت والحشر (إِلى عَذابِ النَّارِ) التي أعدت للكافرين (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيره ١٢٥ (وَ) اذكر (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) قاعدة البيت أساسه ورفع القواعد هنا هو البناء عليها وجعله مرتفعا (مِنَ الْبَيْتِ) أي الكعبة (وَإِسْماعِيلُ) حال كونهما متقربين قائلين (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) طاعتنا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) للدعاء (الْعَلِيمُ) بنياتنا في طاعتك ١٢٦ (رَبَّنا وَاجْعَلْنا) بتوفيقك (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الظاهر أن الإسلام في الأصل هو الدخول في السلم بكسر السين وسكون اللام مثل الانجاد والاتهام والاقحاط والسلم هو عدم المحاربة والمحادة. وبالنسبة لله يتحقق بالإذعان بإلهيته وتوحيده ورسالة رسله وكتبه. وقد اختص في الاستعمال بهذا المعنى فصار هو الظاهر من لفظ إسلام وأسلم واسلم ومسلم. وبعد رسالة خاتم النبيين محمد (ص) صار المتداول في الاستعمال هو ما ذكرناه مع الإذعان برسالته وأن قرآنه وشريعته من الله والإسلام الحقيقي هو الإذعان في النفس المساوق للإيمان وهو المراد هنا أي اجعلنا مسلمين لك مدة عمرنا بمعنى

١٢٧

مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٨) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ

____________________________________

ثبتنا بهدايتك وتوفيقك على الإسلام كما هديتنا له (وَ) اجعل بتوفيقك ولطفك (مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) لم يسألا ذلك لكل ذريتهما لما سبق من قول الله لإبراهيم (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لما قال ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) او لما يعرفانه من حال البشر في اختيارهم للايمان وان الكثير منهم من يستحب العمى على الهدى. فطلبا أن تكون من ذريتهما أمة مسلمة لا خصوص الإمام (وَأَرِنا) يحتمل أن يراد بالضمير ما يعم الأمة المسلمة من ذريتهما (مَناسِكَنا) النسك العبادة والناسك هو العابد. وللنسك هو الموضع المعد للعبادة الخاصة. فتكون الرؤية المطلوبة على حقيقتها (وَتُبْ عَلَيْنا) طلب التوبة باعتبار دخول الامة المسلمة في الدعاء. ويحتمل أن يختص الضمير بإبراهيم وإسماعيل فيراد من التوبة عليهما الرجوع والعود عليهما بالرحمة واللطف فإن المعنى الاصلي للتوبة هو الرجوع والعود. ويحتمل أن يريدا بالتوبة نحوا من معناها المعروف تصاغر الله واستصغارا لأعمالهما في جنب جلال الله كما هو شعار الأولياء المخلصين (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ١٢٧ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) اي الأمة من ذريتهما (رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) بإرشاده وجهاده في الدعوة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في تنفيذ ارادتك ونصر رسولك في تبليغه واجراء أحكامك وتعليمه وتزكيته لعبادك (الْحَكِيمُ) فيما تفعل. ومصداق هذا الدعاء هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله برسالته العامة فهو رسول الله في ذرية ابراهيم وإسماعيل وبهم ابتدأت دعوته وهو (ص) ايضا من ذريتهما. وفي تفسير القمي قال رسول الله (ص) انا دعوة أبي ابراهيم. وفي البيان روى انه (ص) قال ذلك. ورواه في الدر المنثور عن جماعة ١٢٨ (وَمَنْ) استفهام يرجع الى الإنكار والنفي (يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) في التوحيد والمعرفة والأخلاق الفاضلة والحنيفية (إِلَّا مَنْ) الذي (سَفِهَ نَفْسَهُ) السفه والسفاهة والسفيه معروفة. وسفه بالضم من افعال السجايا لا يتعدى. وسفه بالكسر متعد والمعنى إلا من أضر نفسه بسفاهته ونحو ذلك فإن ملة ابراهيم جارية في معارفها وأخلاقها على النهج الفطري الواضح المعقول فلا يرغب

١٢٨

وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٩) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣٠) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣١) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٢) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ

____________________________________

عنه إلا السفيه (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) أي ابراهيم واخترناه رسولا وإماما وهاديا (فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي معدود من الذين كانوا في الدنيا صالحين هادين ١٢٩ (إِذْ قالَ) ظرف لاصطفيناه (لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) وهذا القول لمثل ابراهيم يكون قبل زمان البلوغ وقد ذكرنا معنى الإسلام قريبا (قالَ أَسْلَمْتُ) وأشار الى معرفته وان إسلامه عن حجة وبصيرة بقوله (لِرَبِّ الْعالَمِينَ ١٣٠ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) أي وصاهم بالملة الحنيفية ملة ابراهيم (وَيَعْقُوبُ) أي ووصى بها يعقوب بنيه وقال كل منهما لبنيه في مقام التوصية والتحريض على اتباع الملة حتى الممات وان لا تلعب بهم الأهواء فيغتنم إبليس منهم الفرصة عند الموت فيردهم عن الحنيفية والإسلام (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) المعهود دين الحنيفية والإسلام واختاره لكم صافيا مصفى فالزموه واثبتوا على اتباعه حق الاتباع (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) على الدين الحنيف ١٣١ (أَمْ كُنْتُمْ) اضراب وانكار وهو يناسب أن يكون خطابا لأهل الكتاب وإنكارا على دعوى ليس لهم بها علم ولا حضروا ولا شهدوا ما يسندون الدعوى اليه (شُهَداءَ) حضورا (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وذلك لم يجر فيه ما تزعمون بل (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) قال ما تعبدون لأن معبودات اهل الضلال أكثرها مما لا يعقل كالحيوان والتماثيل (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وأدرج إسماعيل في تفسير الآباء بنحو من التغليب عليه ولأنه عم ليعقوب والعم كالأب (إِلهاً واحِداً) لا شريك له (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ١٣٢ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ومضت والظاهر ان المراد من الأمة بنو إسرائيل (لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) بل كل مسئول عن تكليفه وما قامت

١٢٩

(١٣٣) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(١٣٤) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

____________________________________

به الحجة عليه فانظروا لأنفسكم ١٣٣ (وَقالُوا) أي اهل الكتاب اليهود والنصارى كل من الفريقين يدعو الى نحلته (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) او لتقسيم قولي الفريقين (تَهْتَدُوا قُلْ) يا محمد (بَلْ) نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الحنيف هو الموحد التابع لدين الحق. ولا حاجة الى بيان المأخذ لاستعمال اللفظ في هذا المعنى (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولعله تعريض باليهود والنصارى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي قوله ملة ابراهيم الى آخره احتجاج لوجوب اتباعها فإن قدّرنا نتبع يكون مفاد الاحتجاج وعليكم أن تتبعوا ذلك. وان قدر اتبعوا يكون مفاد الاحتجاج كما اتبعنا نحن. يا اهل الكتاب لا تأخذنكم أهواء القومية وعصبية اليهودية او النصرانية فإن الحق أحق ان يتبع بل ١٣٤ (قُولُوا) عن إيمان حقيقي واعتقاد واتباع للحجة (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) باعتبار النزول على أنبيائهم ورسلهم كالتوراة والإنجيل والزبور (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) وهي صحف ابراهيم التي جرى عليها بنوه الى زمان موسى وبهذا الاعتبار قيل (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) إذ لم يعهد نزول كتاب الى خصوص المذكورين. وعن الكافي باسناده عن سدير عن أبي جعفر ان أولاد يعقوب أي ما عدا يوسف لم يكونوا أنبياء ونحوه عن العياشي. والأسباط جمع سبط وهو ولد الولد. ومنه سمي الحسنان عليهما‌السلام بالسبطين وسميت قبائل الاسرائيليين باعتبار انتسابهم الى أولاد يعقوب أسباطا. والقبيلة الواحدة منهم سبط. وعليه استعمال القرآن الكريم. وقد سموا بذلك ايضا فيما بأيديهم من التوراة والعبرانية وكتاب يوشع وغيرهما (١) وان سموا فيها ايضا بغير ذلك (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من المعجزات او كرامة النبوة (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) من كرامة النبوة والوحي (مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) من أي قبيلة كان إذا دلت الدلائل على نبوته (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله (مُسْلِمُونَ

__________________

(١) سفر العدد ٣٢ : ٣٣ و ٣٦ : ٣ وسفر التثنية ١٠ : ٨ و ١٨ : ١ و ٢٩ : ٢٠

١٣٠

(١٣٥) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٦) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٧) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٨) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً

____________________________________

١٣٥ (فَإِنْ) قالوا ذلك و (آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ايها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) بكفرهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) ومعاندة لا في طلب الحق (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) يا رسول الله ويمنعك من كيد شقاقهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعائك او لما يقولون (الْعَلِيمُ) بما في الضمائر ١٣٦ (صِبْغَةَ اللهِ) منصوبة بدلا من ملة ابراهيم. وعن الكافي مسندا عن الصادق او أحدهما عليهما‌السلام بأسانيد ثلاثة اثنان منها من الموثق كالصحيح. وعن الصدوق في الصحيح عن أبي عبد الله (ع). وعن العياشي بسند آخر ان الصبغة هو الإسلام وهو ملة ابراهيم. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال دين الله. وسميت صبغة باعتبار الأثر الكريم الظاهر من التوحيد ومكارم الأخلاق وزينة الشريعة (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) بما يهدى اليه من الدين القيم. ويوفق لاتباعه (وَنَحْنُ لَهُ) وحده (عابِدُونَ) لا نشرك في الإلهية والعبادة غيره ١٣٧ (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) وتجادلوننا (فِي اللهِ) زاعمين انكم الموحدون وفيكم النبوة. وكيف تحاجوننا بذلك مع ان الله لا يحابي بلطفه ورحمته الواسعة قبيلا دون قبيل. بل يراعى بها الأهلية وهو اعلم حيث يجعل رسالته ولا يمنع لطفه وتوفيقه الا عمن تمرد عليه بالشرك والعصيان. فكيف يحابيكم ويخص بكم ما تزعمون (وَ) الحال (هُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) وكلنا عباده ولطفه عام ورحمته واسعة لكل عباده (وَلَنا أَعْمالُنا) فقد آمنا بالله ووحدناه وعبدناه وان الله لا يضيع اجر من احسن عملا (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ان عملتم خيرا من الايمان الخالص والعبادة (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في عبادته وإلهيته لا نشرك به شيئا. وفي ذلك حسن التعريض بهم (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ١٣٨ (أَمْ تَقُولُونَ) يا اهل الكتاب وتزعمون (إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) او للترديد بين قولي الفريقين اليهود يقولون كانوا يهودا والنصارى يقولون كانوا نصارى (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) مع انكم ادعيتم المحال.

١٣١

أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٣٩) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٠) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها

____________________________________

اين كانت اليهودية والنصرانية في زمان هؤلاء (أَمِ اللهُ) الذي اخبر بان ابراهيم كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. وانه اسلم لرب العالمين ووصى بها يعقوب بنيه. فقالوا نعبد الله إلها واحدا ونحن له مسلمون كما تقدم قريبا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) اما بالنسبة الى علمهم بأن هؤلاء الذين ذكروهم كانوا مسلمين على الدين الحنيف او الشهادة برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلا ينحصر الأمر باليهودية ولا النصرانية لو بقيتا على التوحيد والشريعة. وقد أخبرهم الله في التوراة ان الله يقيم لهم نبيا من إخوتهم ويجعل كلامه في فيه. وأخبرهم المسيح برسول يأتي من بعده اسمه احمد (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وما ينفعكم زعمكم وكذبكم على ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط مع قيام الحجة بإرسال الله رسله في زمانكم بالآيات الباهرات فعليكم بأنفسكم فلا تتعللوا زورا بمن مضى فان ١٣٩ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) بل تسئلون عن اعمالكم ومعاملتكم مع رسول الله ودين الحق ١٤٠ (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهي بيت المقدس فان رسول الله (ص) صلى اليه عند مقدمه الى المدينة مدة. وفي رواية التهذيب عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله الى ما بعد رجوعه من بدر. وعن رسالة الفضل بن شاذان كذلك وفيها وكان يصلي في المدينة الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا. وعن قرب الاسناد عن الباقر تسعة عشر شهرا. وهو الذي ذكره في الفقيه وعن الشيخ المفيد في مسار الشيعة في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حوّلت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة. ونحو هذا ما رواه في الدرّ المنثور من روايات الجمهور. وفي الكافي في الحسن كالصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) سألته هل كان رسول الله يصلي الى بيت المقدس قال نعم فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره قال اما إذا كان بمكة فلا واما إذ هاجر الى المدينة فنعم حتى حوّل الى الكعبة. وربما تشعر الرواية بانه (ص) صلى في مكة الى بيت المقدس بدون ان

١٣٢

قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً

____________________________________

يستدبر الكعبة. وعن النعماني باسناده عن امير المؤمنين عليه‌السلام ان رسول الله (ص) كان يصلي في أول مبعثه الى بيت المقدس جميع ايام مقامه بمكة «الرواية» وفي الفقيه وصلى رسول الله (ص) الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهرا بالمدينة وفي الدر المنثور اخرج الطبراني عن عثمان بن حنيف. وفي الحديث كان رسول الله قبل ان يقدم من مكة والقبلة الى بيت المقدسويمكن الجمع بان رسول الله كان يجمع بين القبلتين في مكة كما يومي اليه الاشعار المتقدم في رواية الحلبي. وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة وابو داود في ناسخه والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس ان النبي (ص) كان يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه الحديث والله العالم (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي جميع الجهات فإن تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي الى نقطة الجنوب تقريبا. وليس اعتراضهم هذا إلا من السفه فهل يزعمون ان الله تحويه جهة خاصة او ان الذي له وفي ملكه جهة خاصة او ان لبعض الجهات استحقاق للاستقبال لازم لا يعقل التخلف عنه أفلا يعقلون ان الاستقبال أمر تعبدي من الله يجريه بحسب الحكمة والمصلحة (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مما تقتضيه الحكمة ويوصل الى الهدى والحق ١٤١ (وَكَذلِكَ) أي وكما هديناكم الى صراط مستقيم (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الوسط خيار الشيء لأنه محميّ عن الفساد. وفي تفسير القمي وسطا أي عدلا. وهو المروي في روايات الجمهور كما في الدر المنثور (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ومن المعلوم ان الأمة كلها لا تتصف بالخيار والعدل وكونهم شهداء على الناس فإن فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله. فهذه الصفات إنما تكون باعتبار البعض والموجه اليه الخطاب هو ذلك البعض. وقد روي في أصول الكافي عن بريد عن أبي عبد الله (ع) نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه. وفي الحسن كالصحيح عن أبي جعفر (ع) مثله. وعن الصفار بهذا السند نحوه. وروي نحوه ايضا بسند آخر صحيح. وعن الحسكاني في شواهد التنزيل عن سليم الهلالي عن علي (ع) نحن الذين قال الله (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). وعن العياشي عن ابن أبي عمير الزبيري عن أبي عبد الله (ع) في هذه الآية افترى ان من

١٣٣

وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ

____________________________________

لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ظاهر قوله تعالى في الآية التي بعد هذه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) انها نزلت قبل تحوله (ص) الى الكعبة وظاهر السوق ان هذه الآية نزلت قبل تلك مع ان ظاهر قوله تعالى فيها (كُنْتَ عَلَيْها) كنت تتوجه إليها فيما مضى وصرفت عنها. فتشكل هذه الظواهر. ولأجل ذلك قال بعضهم أنّ كان تامة بمعنى أنت عليها. وقال في الكشاف ان التي كنت عليها مفعول ثاني لجعلنا والمقصود من الموصول مكة أي وما جعلنا القبلة مكة وفيه تعقيد ومخالفة للاعتبار مع ان الاشكال المذكور على حاله ويرتفع من أصله بأن قوله كنت عليها لا يختص بما بعد الانصراف عنها وانقطاع الكون. بل قيل باعتبار الكون الماضي وتوجهه (ص) الى بيت المقدس أشهرا عديدة من دون نظر الى الانقطاع نحو (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وما جعلنا بيت المقدس قبلة لك هذه المدة (إِلَّا لِنَعْلَمَ) اللام للعاقبة والحصر انما هو باعتبار العاقبة لا حكمة التشريع (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ) متعلق بنعلم لما في العلم بأحد الفريقين من التمييز له عن الفريق الآخر (يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ومثل ذلك في القرآن كثير كما في قوله تعالى (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا. لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ. وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ). والوجه في كل هذه الموارد وأمثالها واحد وهو ان علمه التابع جل شأنه وان كان أزليا أبديا لكن لمقارنته لوجود المعلوم في الخارج أثر ووقع في الزجر والتوبيخ او البشرى عند الناس. ولأجل هذا الأثر والوقع جرى مجرى التعبير بالفعل المستقبل في هذه الموارد باعتبار تلك المقارنة والعلم المقارن وعلى هذا النهج جرى التعبير في القرآن الكريم بقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ) كما ورد في اكثر من عشرين موردا وان كانت ارادته ازلية وايضا لو قيل ليقع ذلك لأوهم الجبر مع انه تفوت فائدة الاعلام بكون الله عالما به. ولو قيل ليقع ما هو معلوم لله بالعلم الازلي لثارت شبهة الجبر وقالوا اذن ان العبد لا يقدر على الترك إذ يلزم منه ان ينقلب علم الله جهلا ولم يلتفتوا كما لم يلتفتوا الى ان هذا العلم تابع لا اثر له في قدرة العبد (وَإِنْ كانَتْ

١٣٤

لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٢) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

____________________________________

لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ان هي المخففة وتلزمها اللام التي هي للتأكيد. وظاهر السوق يقتضي ان الضمير في كانت يرجع الى القبلة التي كان عليها وهي بيت المقدس وهو الظاهر ايضا من معتبرة التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما عليها‌السلام قال قلت له امره ان يصلي الى بيت المقدس قال نعم الا ترى ان الله تعالى يقول (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) وتلا جميع الآية الى قوله (رَحِيمٌ) وكبيرة ثقيلة. ومن اللازم ان يكون استقبال بيت المقدس ثقيلا على قريش والعرب الا الذين هداهم الله الى الايمان برسول الله فيعلمون ان ذلك امر من الله الحكيم (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) في الكافي عن ابن أبي عمير الزبيري عن أبي عبد الله (ع) في الآية ان الله سمى الصلاة ايمانا. وفي الفقيه قال المسلمون صلاتنا الى بيت المقدس تضيع يا رسول الله فانزل ذلك. وذكر انه اخرج حديثه في كتاب النبوة. وفي رواية العياشي انه لما حولت القبلة قالوا ما حالنا اي في صلاتنا الماضية وما حال من مضى في صلاتهم الى بيت المقدس فانزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). وفي الدر المنثور عن ابن عباس نحوه وصححه الحاكم ١٤٢ (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) قد هنا للتكثير

قد اترك القرن مصفرا أنامله

كأن أنيابه مجت بفرصاد

وقول عمران الانصاري. او امرؤ القيس

قد اشهد الغارة الشعواء تحملني

جرداء معروقة اللحيين سرحوب

قال القمي في تفسيره ان اليهود كانوا يعيرون رسول الله ويقولون انه تابع لنا يصلي الى قبلتنا فاغتمّ رسول الله وخرج في جوف الليل ينظر آفاق السماء ينتظر امر الله إلخ. وفي مجمع البيان نسبه الى رواية القمي عن الصادق (ع) مع كلام ذكره القمي بعد ذلك. نعم ذكر في الفقيه نحو ما ذكره القمي وأحال روايته على كتاب النبوة. فتدل الآية على انه (ص) كان له شأن في امر القبلة. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) لأنها مرضية بفضلها وسابقتها وحكمة دعوة العرب وهي أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ

١٣٥

وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٣) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

____________________________________

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي نحوه والقبلة هي الكعبة بالضرورة كما يلهج بذلك المسلمون في تلقين موتاهم وفي تعقيباتهم وغير ذلك. وجاءت بذلك الأحاديث بنحو لا يقصر عن التواتر. ففي جامع البخاري وغيره عن ابن عمر ان النبي ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة. وفي جوامع البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والموطأ عن البراء وانس وابن عمر في حديث تحول القبلة ان تحول المصلين كان الى الكعبة وروى الفريقان ان الأرض زويت لرسول الله ورأى الكعبة فجعل محرابه بإزاء الميزاب. ومن طريق الامامية أورد في الوسائل نحو اربعة عشر حديثا في ان الكعبة هي القبلة. واكثر هذه الأحاديث تصرح بان الكعبة هي التي صرف إليها رسول الله في هذه الآية. ولا مانع من ان تسمى الكعبة مسجدا باعتبار انها يسجد إليها. او يقال ان الآية نزلت في السنة الثانية من الهجرة فكان الخطاب بجعل الكعبة قبلة عامة ومتوجها لرسول الله ومن معه من المسلمين واهل المدينة وضواحيها فجرى التعبير بالمسجد الحرام باعتبار سعة استقبالهم للكعبة باستقبال المواجهة والاحترام والتعظيم مما يتحقق به ذلك عند الناس كما هو الظاهر من الآية. وان استقبالهم للمسجد بهذا النحو يلزمه استقبال الكعبة بهذا النحو ايضا (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) اي نحوه بالنحو المتقدم دون الاستقبال الهندسي لان تكليف النائين به حتى مثل اهل المدينة بل ما كان عن مكة بمرحلة مثلا يستلزم التكليف بما لا يطاق. ولا شك في انه كلما بعد المستقبل اتسعت وجهة استقباله للكعبة بالمواجهة الاحترامية التعظيمية وقد استقصينا الكلام في ذلك في رسالتنا في القبلة (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التحويل الى الكعبة هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) إما لأنهم يعلمون ان أمر القبلة والاستقبال منوط بتشريع الله وأمره وإما لأنهم يعلمون ان الكعبة هي بيت الله من زمان ابراهيم. وفي مجمع البيان لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم انه يكون نبي صفاته كذا وكذا وانه يصلي الى القبلتين ونحوه في الكشاف (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) من أقوالهم وأفعالهم عنادا على خلاف ما يعلمون ١٤٣ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ولم يوفقوا للإيمان بك

١٣٦

بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٥) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٦) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

____________________________________

(بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي الكعبة (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) اتباعا خصوصا بعد ما أمرت بالتوجه شطر المسجد الحرام (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فان النصارى تتوجه الى المشرق واليهود الى بيت المقدس (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) هذا توبيخ لهم وتبكيت بأنهم اصحاب أهواء فاسدة لا يتبعها الا الظالمون. وخوطب بذلك رسول الله لقطع اطماعهم ولبيان فضله لأنه لا يتبع أهواءهم ابدا بدليل قوله تعالى اي يعرفون رسول الله على الصفات التي وصف بها في كتبهم والاسم الذي سمي به بنحو لا ينبغي الريب فيه كما في تفسير البرهان عن محمد بن يعقوب الكليني بسند فيه رفع عن امير المؤمنين عليه‌السلام. وعن علي بن ابراهيم في الحسن كالصحيح عن الصادق (ع). وفي الآية التفات من الخطاب الى الغيبة (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) وان غابوا عنهم مدة طويلة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) به من كتبهم وهذا الفريق هم من عدى الأوباش الذين لا يعلمون شيئا من كتبهم ومن عدى الذين اسلموا او شهدوا بالحقّ وأصروا على الغيّ ١٤٥ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هو الحق من ربك (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين فيما تقوم عليه الحجة العلمية. والخطاب في النهي يراد به غير النبي كما في قوله تعالى في سورة الاسراء ٢٤ و ٢٥ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ ـ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) ـ وقل ـ واخفض ـ وقل ١٤٦ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) لم أجد عن النبي واهل البيت شيئا في ذلك. ويمكن تفسير الآية بالنظر في سورة المائدة في قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) «الآية» فالمعنى والله العالم ولكل من الأمم الذين شرع الله لهم احكاما شريعة ولاه الله إياها وامره باتباعها ما لم تنسخها الشريعة والوجهة التي بعدها فيولى الله الناس إياها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)

١٣٧

أَيْنَما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٧) وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا

____________________________________

وجاء قوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا) متعدّيا الى المفعول بنفسه هاهنا وفي آية الانعام وفي سورة يوسف (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) وفي سورة يس (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) ولو كانت بمعنى الاستباق وطلب السبق بكسر السين لوجب تعديتها بإلى. والنصب بنزع الخافض في مثل المقام بعيد من كرامة القرآن في عربيته وفصاحته. فالوجه انها في هذه الموارد من طلب السبق بفتح السين والباء وهو ما يحصله السابق بسبقه ومنه السبق المجعول في رهان المسابقة وفي جعل الخيرات والباب والصراط في الآيات سبقا بفتح السين والباء كناية لطيفة عن انه هو الغاية المطلوبة والفائدة المقصودة في المسابقة وحاصل المعنى والله العالم لكل أمة شريعة أمرت باتباعها وقد نسخ بعض الشرائع فسارعوا الى الحق واطلبوا ان تكون خيرات الأحكام وهي التي لم تنسخ وجاء بها الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم هذه اطلبوها سبقا لكم والغاية الشريفة من مسارعتكم وما هي إلا شريعة رسول الله والقرآن الكريم. ومن ذلك وأهم مصاديق الخيرات هي الولاية كما عن الكافي عن الباقر «ع» كما في آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ). وحديثي الغدير. والثقلين وغير ذلك. (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وباعتبار السياق يكون المعنى ان يجمعكم يوم القيامة للحساب والجزاء من عذاب او نعيم ولا يعجز الله حشركم وجمعكم فإنه يأتي بكم أينما تكونوا. واما باعتبار عموم اللفظ وكثرة مصاديقه فقد روى في تفسير البرهان نحو اثنتي عشر رواية عن الأئمة «ع» انهم استشهدوا بالآية لجمع الله اصحاب الحجة المنتظر من أطراف الأرض الى النهوض مع الحجة عليه‌السلام. وللتأكيد في امر استقبال الكعبة في الصلاة وعمومه في جميع الأحوال سفرا وحضرا قال الله تعالى ١٤٧ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) سواء كان الخروج من مكة الى المدينة او من المدينة الى الشام بحيث يكون الوجه في المسير الى بيت المقدس على الانحراف اليسير او الاستقامة ام كان الى جهة مكة او المشرق او المغرب (فَوَلِّ وَجْهَكَ) في جميع هذه الأحوال وجميع الجهات (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نحوه (وَإِنَّهُ) اي التوجه الى المسجد الحرام في الصلاة على الإطلاق المنصوص عليه (لَلْحَقُّ مِنْ) امر (رَبِّكَ) وشريعته الجارية على الحكمة وكرامة البيت وان الله لا يضيع اجركم في امتثال امره (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٤٨ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

١٣٨

اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٤٩) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ

____________________________________

الْحَرامِ) وهذا الخطاب للرسول وان كان كافيا في عموم الشرعية والتكليف للمسلمين لكن الحكمة تقتضي التأكيد بالنص وتأكيده فقيل كما سبق (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) خطاب للرسول وأمته (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وان كنتم عند بيت المقدس وفي بلده (لِئَلَّا) اي شرع لكم ذلك بالأوامر المذكورة لئلا (يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) وان كانت داحضة (١) هذا يقول اتبع قبلتنا وهذا يقول تركوا كعبتهم مع افتخارهم بسابقتها وفضلها وهذا يقول تركوا قبلة ابراهيم وإسماعيل. او وهذا يقول مكتوب ان النبي يصلي الى القبلتين. وهذا يقول مكتوب انه يصلي الى الكعبة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم استثناء من الناس فان هؤلاء الظالمين لا يقطعون جدلهم واحتجاجهم بالأباطيل حسب ما تغريهم اهواؤهم وظلمهم (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) اي ولتكن خشيتكم لي (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بتشريع الاستقبال للقبلة المرضية قبلة ابراهيم وحصره بها (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) اي ولأجل ان تهتدوا الى معرفة لطف الله بإتمام النعمة بذلك عليكم وقطع حجج المجادلين لكم. او والى اقامة الصلاة بحدودها الى هذه القبلة ولكن لما كان الاهتداء من افعال الإنسان وناشئا عن اختياره للتفكر ومجانبته لشكوك الأهواء وعنادها قيل في تعليله لعل وكذا كل غاية في القرآن هي من اعمال العباد وراجعة الى اختيارهم نحو لعلكم تشكرون. تتفكرون لم تخرج مخرج الجزم في التعليل. وقد لطف الله في امر القبلة بعباده لهذه الغايات الشريفة ١٤٩ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) وكونه منكم اقرب الى انقيادكم للإسلام (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) بدينه وشريعته وتعاليمه (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مما يهمكم ويزينكم ويهذبكم وان تعدوا نعمة الله في ذلك لا تحصوها ١٥٠ (فَاذْكُرُونِي) بما فيه سعادتكم

__________________

(١) في سورة الشورى ١٥ حجتهم داحضة. وفي الجاثية ٢٤ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم الا ان قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين

١٣٩

(١٥٠) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٢) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٣) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٤) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٥) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ

____________________________________

وكما لكم من العبادة والطاعة والشكر لنعمي أعد عليكم بالجزاء واللطف والنعمة والمزيد. ولأجل المقابلة اللفظية جرى التعبير عن ذلك بقوله تعالى (أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي) نعمائي عارفين بها (وَلا تَكْفُرُونِ) لا تكفروني نعمتي لا تجحدوني نعمتي كفره حقه جحده ١٥١ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) في امر دينكم وعبادتكم وطاعتكم لله واجتناب معاصيه وفي مصائبكم (بِالصَّبْرِ) فانه نعم المطية ومفتاح الفرج ووسيلة البشرى بالصلوات من الله والرحمة (وَالصَّلاةِ) عطف على الصبر فانها باب الله في مناجاته والاستعانة به ومعراج السعادة والناهية عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وكفى بذلك بشرى ١٥٢ (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) هم (أَمْواتٌ بَلْ) هم (أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) بحياتهم لأن عالمهم غير عالمكم. وقد اخبر الله جلت آلاؤه عما لحياتهم السعيدة من الكرامة والحبور كما في الآية الثالثة والستين بعد المائة واللتين بعدها من سورة آل عمران ١٥٣ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) يا ايها الذين آمنوا كما يقتضيه سياق الخطاب. او يا ايها الناس (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على ذلك رضى بما قضى الله وتسليما لحكمته فلا يصدهم ما ذكر عن شكر ما هم فيه من نعمة ولا عن عبادته وطاعته والجهاد في سبيله بل هم ١٥٤ (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) وكل ما هو لنا من حياة ونعمة إنما هو من عنده بدون استحقاق لنا في أقل شيء من ذلك يفعل بحكمته ما يشاء (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الآخرة فيعاملنا بصبرنا او جزعنا الذي هو كفران لنعمه ١٥٥ (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ثناء جميل (وَرَحْمَةٌ) بالثواب والجزاء (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الى الحق بصبرهم وتسليمهم لله

١٤٠