آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

آلاء الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم

____________________________________

وتنقاد لكرابها (وَ) لكنّها (لا تَسْقِي الْحَرْثَ) اي الأرض المزروعة او الزرع ولا تطاوع لأن يدلى عليها من الآبار والأنهار (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب (لا شِيَةَ فِيها) ليس فيها لون يخالف معظم لونها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) اي بحق الوصف المبين والمعين (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) إما لغلاء ثمنها كما يروى واما لغير ذلك من الأسباب ٧١ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) اي قتلها بعض منكم فسرت فيكم التهمة والخصومة فصار كل منكم يريد ان يدفعها ويدرأها عنه (وَاللهُ مُخْرِجٌ) بقدرته من سرّ الخفاء الى العلم والظهور (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) اي يكتمه القاتل منكم من القتل وسببه. وقد كان الأمر بذبح البقرة وتعنتهم في السؤال عنها وتثاقلهم عن ذبحها من متعلقات القتل واتهام بعضهم بعضا وتدارئهم لها فيما بينهم ولكن أفرد الله تلك الأمور بالذكر تذكيرا لبني إسرائيل بتباطي أسلافهم عن امتثال امر الله. ونسبة موسى الى الاستهزاء لما بلغهم امر الله بما يزيح علتهم. وشقاقهم بكثرة السؤال حتى انهم ما كادوا يفعلون. وامتنانا عليهم بالمجاراة لهم في شقاقهم وتباطئهم عن أوامره لكي يرفع تخاصمهم وينجي البريء ويظهر البراءة بعلم اليقين. ثم شرع في تذكيرهم بمننه عليهم واظهار الحق وفصل الخصومة بالنحو المعجز الذي يوضح لهم قدرة الله وربط أطراف القصة بقوله جلت آلاؤه ٧٢ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) اي المقتول المذكور في الآية السابقة (بِبَعْضِها) اي تلك البقرة التي أمروا بذبحها فذبحوها. فضربوه ببعضها ورجع حيا واخبر بقاتله وظهر امر القتل بالمعجز حق اليقين وارتفعت الخصومة وقد دل على هذا كله سياق الكلام والتذكير بما فيه من المنة عليهم مع قوله جلت قدرته (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بالتدبر والاعتبار بآيات الله وقدرته واحيائه الميت ورحمته لكم لكي تعرفوا رشدكم وتهتدوا الى سواء السبيل وان تعقلهم احد الغايات وان كان أشرفها وأكثرها لهم نفعا. وجيء بلعل لأن تعقلهم غير لازم بل هو راجع الى حسن اختيارهم في التفكر وحسن الاعتبار والتبصر وعدم التناسي والانقياد الى وساوس الأهواء وضلالها ٧٣ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ)

١٠١

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ

____________________________________

فزاغت عن الاعتبار بآيات الله والتعقل لدلائل الرشد (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) اي من بعد كل ما ذكر من الآيات وأفرد كاف الخطاب في «ذلك» باعتبار الجمع أو القوم لا الجماعة (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في قسوتها وناهيك بها قسوة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) اي وان شئت ان تصفها باعتبار الآثار فهي أشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) ومن ذلك العيون الجارية من الجبال الصخرية (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) ومن ذلك ما يحدث عند الزلازل من الانشقاق والانفجار (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقد حدث هذا كله لبني إسرائيل وشاهدوه رأي العين في الحجر الذي انفجرت منه العيون والجبل الذي تجلى له الله فجعله دكا. واما أنتم يا بني إسرائيل فلا تتأثر قلوبكم بالآيات ودلائل الحق بل تعملون بما يغريكم به الهوى المردي والشيطان المضل ويحملكم عليه العناد للحق والتمادي على الطغيان (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل يمهلكم ويملي لكم ثم اليه ترجعون ٧٤ (أَفَتَطْمَعُونَ) خطاب لرسول الله (ص) والمؤمنين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) بالله ورسوله وقرآنه ويجيبوا دعوتكم لهم الى حقيقة الايمان وهم اهل العناد والإصرار على الضلال على عمد (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) عند خطابه لموسى. او من موسى والأنبياء مع اعترافهم بنبوتهم زيادة على دلالة المعجزات على ذلك (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يغيرونه ويبدلونه لا عن جهل بل عن عمد وضلال (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وفهموه حق الفهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انهم محرفون كاذبون على الله. هذا حال سلفهم في الغي. واما هؤلاء الذين تطمعون ان يؤمنوا لكم بالحق فهم كما في هذه الآية ٧٥ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من علم التوراة وتخبرونهم بما فيها من صفة محمد (ص) ورسالته والأمر باتباعه (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) فتكون الغاية من ذلك ان تقوم به

١٠٢

عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ(٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى

____________________________________

الحجة عليكم فيحاجوكم به (عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما يترتب على ذلك من الغايات. وفي تبيان الشيخ الطوسي (قده) وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام انه قال كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (ص) فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به عند ربكم انتهى فتعسا لأوهامهم ٧٦ (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ) ربهم الذي يكتمون الحق حذرا من محاجة المؤمنين لهم عنده هو الله الذي (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ٧٧ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) الامي كما في مجمع البيان من لا يحسن الكتابة ولا القراءة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) استثناء منقطع بمعنى ليس لهم الا الأكاذيب والاختلافات التي يسمعونها من المدلسين. او ليس الا اماني العلم (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ظنا بما يسمعونه (فَوَيْلٌ) مبتدأ لأنه نكرة مفيدة وللذين خبره والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا والزعامة الكاذبة او ترويج الباطل قال في مجمع البيان انهم عمدوا الى التوراة وحرّفوا صفة النبي (ص) ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود وهذا هو المروي عن أبي جعفر (ع) (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) إذ يحرفون ذلك او لا يعلمون بما يوجبه (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الآثام والكفر واعمال الضلال او التحريف لأجل الإضلال وكتمان الحق ٧٨ (وَقالُوا) اي اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) اي قليلة (قُلْ) لهم يا رسول الله (أَتَّخَذْتُمْ) على سبيل الاستفهام الانكاري (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) منه على ذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ) افتراء او تحكما (عَلَى اللهِ) في هذا الزعم الباطل (ما لا تَعْلَمُونَ ٧٩ بَلى) رد لقولهم

١٠٣

مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ

____________________________________

وبيان لحقيقة الأمر وهو ان (مَنْ كَسَبَ) بسوء اختياره (سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) اي لزمته واستولت عليه استيلاء الشيء المحيط به ولم يكفرها عنه الايمان والتوبة بعد الكفر (فَأُولئِكَ) أشير بالجمع باعتبار الجمع في معنى من كسب (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الى الأبد (٨٠) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ) دون غيرهم (فِيها خالِدُونَ ٨١ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) اي واذكروا إذ قلنا لهم أقوالا واوصيناهم بها وأخذنا منهم العهد الموثق بالعمل بها (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وحده لا شريك له في العبادة والإلهية والجملة خبرية يراد بها النهي والخبرية في مقام الطلب ابلغ من الانشائية وهي والجمل المعطوفة عليها معمولة للقول المدلول عليه بأخذ الميثاق (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إحسانا مصدر نائب عن الفعل وهذا السبك أبلغ وآكد من ان يقال وأحسنوا (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين في الأمر بالإحسان بهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وهذه الوصايا غير مختصة ببني إسرائيل بل هي من أهم ما يقتضيه اللطف بكل امة أرسل إليها رسول. روي في الكافي بسند معتبر عن الصادق (ع) في قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قال قولوا للناس حسنا ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو وروى ابن بابويه بسند معتبر عن الباقر عليه‌السلام قولوا للناس احسن ما تحبون ان يقال فيكم الحديث (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) وادبرتم في المخالفة لذلك الميثاق (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن الميثاق متمردون على أوامر الله ونواهيه ٨٢ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) التفات الى خطاب اليهود اما باعتبار أخذ الميثاق على أسلافهم او باعتبار ان إيمانهم برسالة موسى وتوراتهم التزام بالوصية الشاملة لهم وإعطاء للميثاق عليها كاسلافهم (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) لا يسفك بعضكم دم بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من بلادكم

١٠٤

ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ

____________________________________

وعبر بالأنفس تأكيدا في النهي فإنهم أمة واحدة وبنو أب واحد والكلام في الجملة الخبرية في مقام الطلب ومحلها من الاعراب كما تقدم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بأخذ الميثاق ٨٣ (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) القوم الذين أخذ عليهم الميثاق وأقروا وشهدوا ذكر ذلك للتغليظ في التوبيخ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) بغير حق بل (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وهم قومكم ومنكم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) مستعينين بكم على فدائهم (تُفادُوهُمْ) وتبذلون فداءهم عملا بكتابكم فلما ذا تخرجونهم من ديارهم ظلما (وَهُوَ) والشأن انه (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) في الكتاب (إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) اي القتل والإخراج. او التقلب الأهوائي في الايمان والكفر (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) بيان لأن المراد من قوله و (مَنْ يَفْعَلُ) هو الجمع (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فانه لا تخفى عليه خافية وقد اعدّ لكل عمل جزاءه ٨٤ (أُولئِكَ) اي المناقضون لميثاق الله هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) وما أقبح خسرانهم بهذا الشراء اذن (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ومن ذا الذي ينصرهم على الله ٨٥ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) اي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ) اي اتبعناه بعد موته (بِالرُّسُلِ) في الكافي في باب الفرق بين الرسول والنبي أن الرسول هو من يعاين الملك ويأتيه جبرائيل فيراه ويكلمه بالوحي كما في صحيحتي زرارة والأحول عن الباقر (ع) وروايتي إسماعيل عن الرضا (ع) وبريد عن الباقر (ع) والصادق (ع) والذين ذكرت أسماؤهم من الأنبياء بعد موسى هم داود وسليمان والياس واليسع وذو الكفل والظاهر انه حزقيال

١٠٥

وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

ويونس وزكريا ويحيى والمسيح ورسول الله (ص). والذين نص القرآن على رسالتهم هم الياس ويونس والمسيح ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) من المعجزات (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبرائيل. يا بني إسرائيل (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) على دعوته الى الحق وجهدتم في مضادته ومعاندة الحق (فَفَرِيقاً) من الرسل (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ٨٦ وَقالُوا) اي بنو إسرائيل (قُلُوبُنا غُلْفٌ) اي في غلاف لا نفهم ما يقول الرسول في تبليغه وغرضهم العيب لما يقوله في التبليغ كما حكى الله عن المشركين في سورة حم السجدة (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) وليسوا لا يفهمون ما يقول رسول الله (ص) فإنه أتى في رسالته وتبليغه بما تقتضيه الفطرة وبداهة العقول ولا يخفى صلاحه على احد (بَلْ) تمردوا على الله وكفروا على عمد فحرمهم بركة التوفيق و (لَعَنَهُمُ اللهُ) وابعدهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ) وعنادهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) الفاء للتفريع على حرمانهم من التوفيق وطردهم عن رحمة الله بعتوهم في كفرهم و «قليلا» صفة للمصدر اي إيمانا قليلا و «ما» لتأكيد القلة بزيادة الإبهام في القليل. والظاهر ان المراد بقلة ايمانهم قلة من يؤمن منهم ٨٧ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو القرآن الكريم بما فيه من دلائل الاعجاز والحجج على انه من الله (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوحيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب والشريعة (وَكانُوا) اي هؤلاء المردة المعاندون (مِنْ قَبْلُ) اي من قبل إنزال القرآن او مجيء الرسول الى المدينة (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) روى في الكافي في الموثق عن الصادقعليه‌السلام ما ملخصه ان اليهود كانت تجد في كتبها ان مهاجرة محمد (ص) ما بين عير واحد فخرجوا يطلبون الموضع ونزله قوم منهم ثم صاروا يقولون للأوس والخزرج اما لو قد بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا فلما بعث الله محمدا (ص) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ). وعن تفسير العياشي عن الصادق (ع) مثله. وفي صحيحة اسحق بن عمار

١٠٦

فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ

____________________________________

عن الصادق (ع) ما يقرب من هذا. وكذا الحديث الأول والسابع والثامن الذي صححه الحاكم مما رواه في الدرّ المنثور. فيكون معنى يستفتحون يستنصرون بالتهديد او يطلبون في كلامهم ما يأملون من الفتح والنصر في المستقبل. وروى في الدرّ المنثور ايضا ان اليهود كانوا عند محاربتهم للعرب يستنصرون الله في الدعاء باسم النبي محمد (ص) (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من امر النبي (ص) ورسالته وان الله يجعل كلامه في فمه (كَفَرُوا بِهِ) مع معرفتهم به ككفر إبليس (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ ٨٨ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) في مجمع البيان اكثر الكلام اشتريت بمعنى ابتعت وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت انتهى ولكن فيه هنا كما في التبيان والكشاف اشتروا بمعنى باعوا أقول ويجوز إبقاء الاشتراء على معناه المتعارف وتكون الآية توبيخا وتسفيها لليهود فإن حق النفس ان تشترى بالإيمان والأخلاق الفاضلة والعمل الصالح في هذه الحياة الدنيا لتكون كاملة زكية فائزة بالسعادة الأبدية. اذن فما بال هؤلاء السفهاء قد حملهم الحسد الذميم على ان يحفظوا لأنفسهم خرافات القومية والجامعة اليهودية وجعلوا الثمن لاشترائها لهذا الغرض الوخيم هو الكفر بآيات الله حسدا وبغيا فبئس ما فعلوا وبئس الذي اشتروا به أنفسهم او بئس شيئا اشتروا به (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) اى كفرهم بما انزل الله وهو المخصوص بالذم مثل عمرو في قولهم بئس الرجل عمرو وتزداد شناعة كفرهم بما انزل الله مع معرفتهم بأنه كلام الله المنزل الذي وعدوا به بأن كفرهم هذا كان حسدا و (بَغْياً) على ان يبعث الله من غيرهم رسولا و (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) كلامه وآياته ووحي إرساله (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ويعلم أهليته للرسالة من ولد إسماعيل (فَباؤُ) نحو معنى رجعوا (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) غضب الله عليهم من أجل الكفر مع المعرفة وقيام الحجة وغضبه من أجل حسدهم وبغيهم وعنادهم للرسول لكونه من غيرهم (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يذلهم ويهينهم ٨٩ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن بأنه كلام الله المنزل على رسوله الكريم

١٠٧

قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ

____________________________________

وانقادوا بإيمانكم الى اتباعه فقد عرفتم انه من الله وقامت به الحجج عليكم (قالُوا) من غيهم وبغيهم وضلال عصبيتهم اليهودية (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ومفهوم قولهم الكفر بغير ما في كتبهم (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أي بما عداه مما أنزله الله على غيرهم كقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) او ما بعده (وَ) الحال ان القرآن الذين يكفرون به إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) من صفة الرسول وان الله يجعل كلامه في فمه وانه من إخوتهم ولد إسماعيل لا منهم أي هو الحق الذي يكون به صدق تلك المواعيد ثم ردّ الله منطوق قولهم نؤمن بما أنزل إلينا مبينا كذبهم في هذه الدعوى وتمادي أسلافهم على معاندة الإيمان والقوم أبناء القوم وعلى وتيرتهم فقال جل اسمه لرسوله (قُلْ) لهم في ردهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أنزل إليكم فإن أنبياء الله لم يدعوكم إلا إلى الإيمان والعمل بما انزل إليكم ٩٠ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) والآيات الباهرة التي لا مجال بعدها للشك والانحراف عن الإيمان (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) وارتددتم ذلك الارتداد القبيح وأشركتم (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ٩١ وَ) اذكروا (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) على الإيمان والتوحيد والعمل بالتوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) وهو معنى قوله تعالى في الآية الستين (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي انهم بسبب كفرهم وغيهم انهمكوا في حب العجل حتى كأن العجل دخل في اعماق قلوبهم كما يدخل المشروب الذي يقبل عليه الإنسان الى اعماق بدنه حتى صار العجل كالحبيب الحاضر في القلب بحبه. والذي اشربهم إياه في قلوبهم هو الشيطان او غواية الأهواء. ثم عاد الكلام على توبيخهم وردهم في قولهم الكاذب (نؤمن بما أنزل إلينا) بما معناه ان الإيمان يأمر ويحمل على اتباع ما آمن الإنسان به والعمل به. والذي انزل عليكم يأمركم بتوحيد الله ومجانبة

١٠٨

قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ

____________________________________

الأوثان وعبادته وحده وطاعة الأنبياء واحترامهم والإيمان برسول الله وكتابه. أفتقولون ان إيمانكم المزعوم الموهوم أمركم بما ذكر من أفعالكم القبيحة إذن (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) واين منكم الإيمان ولكن قيل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) للمجاراة في خطابهم والتنازل من النفي الى صورة التشكيك وهذا من بديع الأساليب في التقريع والتوبيخ. ومن افحامهم بالحجة انهم يدعون انهم هم شعب الله ولهم الآخرة والنجاة والنعيم وانهم أبناء الله وأحباؤه كما في سورة المائدة ويذكرون في توراتهم انهم ابن الله البكر فقال الله لرسوله ٩٢ (قُلْ) لهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) مختصة بكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) شوقا لما أعد في الآخرة من النعيم العظيم الدائم والسعادة الكبرى لأهلها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم عارفين بصدقكم ٩٣ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موبقات الخطايا والضلال وإن جحدوا ذلك فإنه لا يخفى على الله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٩٤ وَ) زيادة على انهم لا يتمنون الموت (لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي حياة ما وإن كانت قليلة (وَ) احرص على الحياة (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الذين ينكرون المعاد والنعيم بعد الموت (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) من حرصهم على الحياة (لَوْ يُعَمَّرُ) الظاهر ان «لو» بعد «ودّ. ويودّ» مصدرية كما حكاه في المغني عن الفراء وأبي علي وأبي البقا والتبريزي وابن مالك. يؤتى بها بدل «ان» فيما كان مدخولها بعيد الحصول او ممتنعا في نفسه او بحسب العادة. او يراد ابرازه بصورة البعيد او الممتنع. وذلك كما في الآية والآية ١٠٣ وسور آل عمران ٢٨ و ٦٢ والنساء ٤٥ و ٩١ و ١٠٣ والحجر ٢ والأحزاب ٢٠ والقلم ٩ والمعارج ١١. وما لا يكون كذلك تأتي فيه مكان «لو» أن المفتوحة المشددة المصدرية كما في سورتي الأنفال ٧ وهود ٨٢. أو «ان» الساكنة المصدرية كما في هذه السورة ٩٩ و ٢٦٨. أو «ما» المصدرية كما في سورة آل عمران ١١٤ وليس في «لو» هذه معنى التمني كما هو ظاهر وبدليل ان ما يقع بعد الفاء متفرعا على ما بعدها لم يجئ في القرآن إلا

١٠٩

أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ

____________________________________

مرفوعا كقوله تعالى في سورة النساء ٩١ (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) و ١٠٣ (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ) وفي سورة القلم ٩ (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ). والتي هي للتمني جاء ما بعد الفاء بعدها منصوبا كما في قوله تعالى ١٦٢ (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) وفي سورة الزمر (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ) بنصب أكون «فإن قيل» ان «لو» التي بعد يودّ وودّ كيف تكون مصدرية مع انها تقع بعدها اداة مصدرية كما في قوله تعالى في سورة آل عمران ٢٨ (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً). وفي سورة الأحزاب ٢٠ (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) «قلت» ان «لو» كيفما كانت لا تدخل على الجملة الاسمية بل لا بد فيها من تقدير فعل. فالتقدير إذن لو يمكن او لو يتيسر ونحوهما كما تقول تود أن يتيسر ان بينها وبينه أمدا ويودوا أن يمكن او يتيسر انهم بادون. وعبر بذلك التعبير لخصوصية «لو» وظهور المقام وخصوص الجملة الاسمية في مزايا الكلام كما لا بد من هذا التقدير على قول القائل انها للتمني (أَلْفَ سَنَةٍ) وماذا ينفعه ذلك التعمير. هل يحط عنه شيئا من ذنوبه او يدفع عنه العذاب ما لم يؤمن ويعمل صالحا. كلا (وَما هُوَ) أي أحدهم (بِمُزَحْزِحِهِ) مزحزحه خبر للضمير هو والباء زائدة لتأكيد النفي (مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) المصدر فاعل لمزحزحه أي وما هو مزحزحه تعميره (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من السيئات وان طول أعمارهم في عمل السيئات هو الذي يركسهم في درك العذاب ٩٥ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لما تقدمه من كتب الله الحقيقية ومعارف الحق (وَهُدىً) حال ثان معطوف على مصدقا (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) اي ان الذي يهتدي ويصل به الى الحق ويكون القرآن له بشرى انما هم المؤمنون. والآية تشعر بان لها شأن وسبب نزول والسياق يقتضي ارتباطه باليهود. وقد روي في ذلك شيء ذكره في الدرّ المنثور ولكنه غير متصل الإسناد ولا سالم من الخلل. وروي في تفسير البرهان شيء وفي مستنده ما فيه وذكر القمي شيئا ولم يذكر مأخذه والله هو العالم بحقيقة الحال ٩٦ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ

١١٠

(٩٦) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٧) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٨) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠٠) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ

____________________________________

وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) اي لا يكون كذلك الا كافر والله عدو للكافرين وكفى بذلك خزيا لهم ووبالا ٩٧ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) لا ريب فيها (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الذين خرجوا من طاعة الحق والرشاد واستحبوا الكفر ٩٨ (أَوَكُلَّما) الاستفهام للتوبيخ والتقريع على عادتهم القبيحة من انهم كلما (عاهَدُوا) الله او رسله او أنبياء (عَهْداً نَبَذَهُ) وألقاه كناية عن نقضه ومخالفته (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ليس الفريق القليل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يثبتون على عهدهم ومنهم بنو قريضة والنضير وقينقاع وغيرهم ممن نقض عهده وميثاقه لرسول الله والمسلمين أقبح نقض بأقبح غدر ٩٩ (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوحيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب الإلهية وصفات الرسول الذي وعدوا به وتبين لهم انه هو المصداق المصدق وجاءهم بالكتاب كلام الله المذكور في توراتهم (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم الأكثر الذين لا يؤمنون (كِتابَ اللهِ) القرآن الذي قامت به عليهم الحجة وعلموا بأنه كتاب الله ورموه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن اعراضهم وكفرهم به (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) انه كتاب الله المبشر به في كتبهم وقامت به الحجج النيرة ١٠٠ (وَاتَّبَعُوا) من الأباطيل والكفر (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي على اهل مملكته (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) روى ابن بابويه في العيون عن الرضا عليه‌السلام ان هاروت وماروت علما الناس السحر ليحترزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وذكر مضمون

١١١

وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا

____________________________________

قوله تعالى (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى) ينذراه و (يَقُولا إِنَّما نَحْنُ) من جهة (فِتْنَةٌ) وابتلاء وامتحان نعلم الناس لغاية صحيحة (فَلا تَكْفُرْ) وتستعمل ما نعلمه في غايات الضلال (فَيَتَعَلَّمُونَ) أي الناس (مِنْهُما) من هاروت وماروت (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والمراد من الاذن عدم ابطال الله لأثر السحر أي ليس أثر السحر أمر لازم لا يقدر الله على رفعه ولكن لم يبطله بل خلى بينه وبين الناس في سوء اختيارهم كما خلى بينهم وبين سائر المعاصي وانواع الظلم لحكمة قدرها في العالم (وَيَتَعَلَّمُونَ) من السحر (ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) إذ لا يستعملونه في ابطال سحر السحرة ودفع كيدهم. روى القمي في تفسيره ان الباقر (ع) سأله عطا بمكة عن هاروت وماروت فذكر من أمرهما في المعصية نحو ما يذكر الجمهور عن ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار كما تراه مجموعا في الدر المنثور وفيما ذكرنا روايته عن الرضا (ع) نحو معارضة لما روي عن الباقر عليه‌السلام وروايه عن الباقر محمد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره ويمكن أن يكون الباقر (ع) بحسب حال الوقت وعطا حكى له ما يروونه عن ابن عمر وابن عباس وكعب من دون ما يشعر بتصديقه. والشيخ في التبيان لم يشر الى هذه الرواية ويبعد أن يكون لم يطلع عليها. والقول بكونها منافية لعصمة الملائكة يمكن دفعه بأن يقال بأن المسلم من عصمتهم هو ما داموا مجردين عن الشهوة والحرص لا ما إذا جعلا فيهم كما تقوله الرواية والله العالم بحقيقة الحال (وَلَقَدْ عَلِمُوا) اللام للقسم والجملة التي بعدها جوابه (لَمَنِ اشْتَراهُ) اللام للابتداء و «من» مبتدأ والضمير يعود الى السحر وما تتلوه الشياطين. وعبر عن اتباعه وتعلمه بالشراء اشارة الى انهم بذلوا بإزائه وبدلا عنه دينهم وآخرتهم فمن اتبعه واشتراه (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب وذلك هو الخسران المبين وجملة «ماله» خير «لمن» والجملة من المبتدأ والخبر معمولة «لعلموا» لأن الأصل في افعال القلوب أن تتعلق في العمل بالنسب الموجودة في الجمل (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا)

١١٢

بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا

____________________________________

أي باعوا. ويمكن أن يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الثامنة والثمانين (بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فانه أقبح الأثمان وأخسها ١٠١ (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لهم مما يريدونه بعمل السحر وتعلمه فضلا عن كمال الإيمان والتقوى وخسة السحر ونقصه واللام رابطة لجواب «لو» ومثوبة بمعنى ثواب مبتدأ وخير خبره والجملة جواب لو. ونكرت «مثوبة» لبيان ان فردا واقل مصداق مما عند الله من الثواب خير لهم مما اتبعوه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ولو هنا بمعنى التمني جريا على ما يستعمله الناس في المحاورات في مثل المقام والله يجل ويتقدس عن حقيقة التمني ١٠٢ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اخرج احمد في مسنده عن ابن عباس وفي الدر المنثور اخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) ما أنزلت آية فيها يا ايها الذين آمنوا إلا وعليّ رأسها وأميرها. وفي الحلية ان الناس يروون هذا الحديث وفي الينابيع أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله (ص) وقال موفق رواه جماعة من الثقاة هم الأعمش والليث وابن أبي ليلى وغيرهم عن مجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس عن رسول الله. وفي الصواعق أخرجه الطيراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس واللفظ إلا وعلي عليه‌السلام أميرها وشريفها. وفي كشف الغمة من نحو هذا كثير عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس وحذيفة. ولا معنى للرواية إلا أن عليا (ع) رأس الذين آمنوا وأميرهم وشريفهم (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) جاء في الآية التاسعة والأربعين من سورة النساء ان اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون راعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين. وفي تبيان الشيخ قال ابو جعفر (ع) يعني الباقر هذه الكلمة «يعني راعنا» سبّ بالعبرانية اليه كانوا يذهبون قال الحسين بن علي المغربي فبحثت عن ذلك أي عن السب الذي ذكره الباقر (ع) فوجدتهم يقولون راع على وزن قال بمعنى الفساد انتهى أقول وقد تتبعت العهد القديم العبراني فوجدت ان كلمة «راع» بفتحة مشالة الى الألف وتسمى عندهم «قامص» تكون بمعنى الشر او القبيح. ومن ذلك ما في الفصل الثاني والثالث من السفر الأول من توراتهم وبمعنى الشرير واحد الأشرار. ومن ذلك ما في الفصل الأول

١١٣

وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٣) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٤) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها

____________________________________

من السفر الخامس. وفي الرابع والستين والثامن والسبعين من مزاميرهم. وفي ترجمة الأناجيل بالعبرانية و «نا» ضمير المتكلم وفي العبرانية تبدل الفها واوا او تمال الى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا ونحو ذلك. وراعنا في العربية فسرها في التبيان استمع منا ونسمع منك وفي القاموس استمع لمقالي وفي النهاية المراعاة الملاحظة ونهى المؤمنون عن قولهم لرسول الله (ص) راعنا لئلا يتخذها اليهود في خطابهم لرسول الله وسيلة لسبه والطعن في الدين (وَاسْمَعُوا) ما يقول الرسول (وَلِلْكافِرِينَ) الذين يسبون رسول الله او الذين لا يسمعون قوله (عَذابٌ أَلِيمٌ ١٠٣ ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا) من (الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من زائدة لوقوعها في حيز النفي وفائدتها بيان الاستغراق وتأكيده (مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) ورسالته (مَنْ يَشاءُ) على مقتضى المصلحة والأهلية فإنه اعلم حيث يجعل رسالته (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لا يمنع فضله عمن هو اهل من أي قوم كان ١٠٤ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قد سمى القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة بالآية والآيات ومدح من يتلوها ففي سورة آل عمران بعد ذم اهل الكتاب ١٠٩ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) وفي سورة مريم بعد ذكر النبيين والصالحين من السلف ٥٩ (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) الآية وفي سورة الزمر ٧١ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) والنسخ والتبديل نظيران والظاهر ان المراد تبديلها لا تبديل حكمها بالنسخ الاصطلاحي فإن في الثاني تجوز لا قرينة عليه بل قد يمنع منه السياق والضماير (أَوْ نُنْسِها) بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وحذف الياء حرف العلة للجزم بالعطف على ننسخ وهو من النسيان وأنسى بالألف اللينة حرف العلة ينسى بالياء في آخرها لا من النسيء وانسأ ينسأ بالهمزة في الأواخر ولو كان من ذلك لكان جزمه بسكون الهمزة أو الياء إذا أبدلت ياء إذ لا يجوز حذفها لأنها ليست بحرف علة وان مناسبة السياق في الآية التي قبلها لتشير الى ان المضمون هو انه وان كبر على اهل

١١٤

نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٥) أَلَمْ

____________________________________

الكتاب نسخ كتب الأنبياء وآياتها بالقرآن وآياته في مقام التلاوة والذكر والصلاة والشريعة والهداية وغير ذلك فضلا عن ان تلك الكتب وآياتها قد حرفت وبدلت حتى صارت حقيقتها نسيا منسيا فإن القرآن منزل من الله بحسب المصلحة التي اقتضت انزاله وانه ما ننسخ من آية او ننسها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) في الأثر. (أَوْ مِثْلِها) ونسب الإنساء الى الله مجازا كما نسب الإضلال باعتبار تمرد المنتسبين الى كتابها حتى خرجوا عن أهلية اللطف والتوفيق فوكلهم الله الى أنفسهم الأمارة فحرفوها وبدلوها الى ان صارت نسيا منسيا. ولا مصداق لهذه الآية في آيات القرآن بعضها مع بعض. اما نسخ نفس الآية القرآنية بمعنى نسخ تلاوتها فلا تكاد أن تعرف له مصلحة تقتضيه فضلا عما يختلج من وجوه المفسدة مضافا إلى انه لا دليل على وقوعه ولئن روي في ذلك شيء فقد مرّ في الأمر الثاني والثالث من الفصل الثاني من المقدمة ما يبطله ويكذبه وقد حكي عن مقالات الشيخ المفيد ان عدم هذا النسخ مذهب الشيعة وجماعة من اهل الحديث وغيرهم. واما ما حكي عن العلامة في نهاية الأصول. والكركي في طهارة جامعه والطبرسي. في اقسام النسخ من القول بوقوعه. فقد استندوا له بما يزعم من آية الرجم وقد أشرنا الى ما فيها مضافا الى ما ذكر. والظاهر ان نسخه بهذا المعنى مناف لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) واما انساؤها ونسيانها فهو مناف لآية الحفظ المذكورة ولقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ولا تشبث بقوله تعالى (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فإن حمل الكلام على الاستثناء بالمشيئة لا يبقي وجها للامتنان والوعد بقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بل ان المقصود منه الاستدراك لبيان ان عدم النسيان إنما هو بقدرة الله ومشيئته لا لأمر طبيعي لازم بل لو اقتضت المصلحة وشاء الله ان يتركه وبشريته لنسي كما في قوله تعالى في سورة هود ١١٠ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقد أطلنا الكلام في المقام لأنه لم يعط حقه (أَلَمْ تَعْلَمْ) خطاب وتوبيخ للإنسان بدليل ما يأتي (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ينزل الخير ويرسل الرسل ويرحم ويلطف بهم ويأت بخير مما نسخ ولا يخص بلطفه قوما دون قوم وهم اهل له ١٠٥ (أَلَمْ تَعْلَمْ) ايها الإنسان (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكل الناس عباده يفعل ما يشاء وما يقتضيه لطفه ورحمته

١١٥

تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٦) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٧) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٨) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٠٩) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ

____________________________________

بمن هو اهل ولا يفوته احد ممن تمرد عليه وعصاه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ١٠٦ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) الذي أرسل إليكم كافة (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) من طلبهم رؤية الله وغير ذلك من اقتراحات العناد (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) يقال ضل الطريق وضل عنه ١٠٧ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) قد تقدم الكلام في «لو» بعد «ودّ» في الآية الرابعة والتسعين (حَسَداً) لكم (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الأمارة الزائغة التي اختاروا غوايتها على هدى عقولهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) عن فلتات حسدهم ومحاولتهم لاضلالكم (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) من الأمر بعقابهم من الطرد والجلاء او القتل حينما يتظاهرون بالغدر والعداوة لكم وللدين فتقوم عليهم الحجة ويمكنكم الله منهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٠٨ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بحدودها ومواقيتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) فإن ذلك خير يعود لأنفسكم (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) في دار العمل والتكليف لدار الجزاء والنعيم (مِنْ خَيْرٍ) بالأعمال الصالحة (تَجِدُوهُ) أي تجدوا جزاءه وثوابه (عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وإن أسررتم به ١٠٩ (وَقالُوا) أي اهل الكتاب المذكورون فيما قبل (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) أي يهوديا قالت اليهود ذلك وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا وأوجز الكلام بأحسن إيجاز بقوله تعالى (أَوْ نَصارى) ومغزى كلام كل منهم ان المسلمين لا يدخلون الجنة (تِلْكَ) أي دعوى كل فريق

١١٦

أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١٠) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١١) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ

____________________________________

منهم انهم يدخلون الجنة (أَمانِيُّهُمْ) الكاذبة التي يعللون بها أنفسهم انهم يدخلون الجنة (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) وحجتكم على هذه الدعاوي وتلك الأماني (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيها فإن الصادق لا بد له من حجة وبرهان ١١٠ (بَلى) رد وابطال للنفي الذي قالوه على نحو قوله تعالى في سورة التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ)(مَنْ أَسْلَمَ) نحو اسلم أمره الى الله أي وكله وخلاه ولم يتداخل فيه بمعارضة المشيئة فالمراد هنا كما في سورة آل عمران ١٨ والنساء ١٢٤ ولقمان ٢١ أي وكل وخلا (وَجْهَهُ) الوجه معروف والمراد الكناية عن إقباله وتوجهه في سبيل المعرفة والعبادة والطاعة وطلب التوفيق والهدى وأسلمه (لِلَّهِ) ولم يتداخل فيه بزيغ الأهواء ونزغات الضلال ونزعات النفس الأمارة. والى هذا تنحو أقوالهم في التفسير. أخلص نفسه لله. او وجه وجهه لطاعة الله. او فوّض امره لطاعة الله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أفرد الضماير باعتبار لفظ «من» (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عقاب الله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من اجل استحقاقهم للعقاب. قال في الدر المنثور في نزول الآية الآتية اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وذكر قصة ذكرت في التبيان ومجمع البيان بقولهما قال ابن عباس وأوردها الواحدي كالمعلومات بلا رواية وفي القصة ان واحدا من نصارى نجران قال لليهود ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. ويوهن القصة انه ليس في النصارى من يجحد نبوة موسى ويكفر بالتوراة بحيث ينسب الله كلامه الى النصارى بقوله (وَقالَتِ النَّصارى) وما آفة الأخبار إلا رواتها ١١١ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) لأنهم ليسوا على نحلتهم (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) لأنهم ليسوا على نحلتهم وكل من الفريقين يوجه قوله المذكور الى كل من لم يكن على نحلته حتى الى المسلمين يقولون قولهم هذا (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي نوعه وهي الكتب التي بأيديهم وينسبونها الى الوحي والنبوة مع ان في تلك الكتب كلمات حق وبقية من الوحي الحقيقي بحيث يدينون

١١٧

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٣) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

____________________________________

به وفي تلك الكلمات التي يتلونها ما حاصله ان الجنة والنجاة ودين الحق مقرونة بتوحيد الله حق التوحيد وعبادته وطاعته والتصديق بأنبيائه وكتبه وآياته وان في اليهود قبل زمان عيسى وفي النصارى من خواص المسيح واتباعه من كان على الصراط المستقيم من ذلك فكيف يقول كل فريق قوله المذكور وهم يتلون كتبهم ويعلمون ما هو الأساس في دين الحق و (كَذلِكَ قالَ) المشركون (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ما هو الأساس في دين الحق (مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ويحكم لمن كان على حقيقة الدين الصحيح ١١٢ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) المسجد هو الذي تعتاد فيه عبادة الله والسجود له وإن كان من المشاهد التي لا تسمى في اصطلاح الفقهاء مسجدا (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ويعبد فيها بالصلاة وتلاوة كتابه (وَسَعى فِي خَرابِها) وفي التبيان قيل المراد به مشركو العرب من قريش لأنهم صدوا رسول الله (ص) عن المسجد الحرام وهو المروي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قلت وفي الدر المنثور اخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس ما هو من هذا النحو وعليه فمعنى خرابه أن يبقى للعبادة الباطلة كالمكاء والتصدية والسجود للأصنام وطواف العراة من الرجال والنساء. والظاهر ان ما روي بيان لمورد النزول الذي لا يجعل العام خاصا وفي المقام تفاسير عجيبة غريبة منها ما ذكره الواحدي عن قتادة وذكره غيره عن الحسن ايضا وهو ان بختنصر خرّب بيت المقدس وأعانته على ذلك النصارى. وليت شعري اين بختنصر من النصارى وهو قبل المسيح بنحو ستمائة سنة وقريب منه في الغرابة ما ذكره الواحدي. وروي عن كعب الأحبار (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) أي مساجد الله (إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ١١٣ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) على سبيل المثال أي له جميع الجهات وكلها في سلطانه بدليل قوله تعالى فيما يأتي (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) في تحويل القبلة من بيت

١١٨

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ

____________________________________

المقدس وجهة الشمال الغربي الى الكعبة وجهة الجنوب أي ولله كل الجهات ليس لجهة من الجهات دون الأخرى خصوصية ذاتية طبيعية تربطها بالتوجه الى عبادة الله ودعائه (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وحاشا لله أن تختص به جهة او مكان. وفي صحيحة الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) ونزلت هذه الآية في المتحير اي في صلاة الفريضة (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما) الآية. وروى انه احتج الصادق (ع) بالآية لصحة سجود التلاوة لغير القبلة كما في رواية الصدوق في العلل عن الحلبي عنه (ع). ولعدم القضاء لصلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة كما في رواية التهذيب عن محمد بن الحصين الجعفي عنه (ع). وروى الجمهور في صحة الصلاة في هذه الصورة انه اخبر رسول الله (ص) بها او سئل عنها فنزلت الآية. ذكر في الدر المنثور اسماء عشرة اخرجوا هذا عن عامر بن ربيعة. واسماء ثلاثة أخرجوه عن جابر الانصاري. ورواها الواحدي في اسباب النزول باسناده عن عامر وجابر. وفي الدر المنثور ان ابن مردويه اخرج نحوه بسند ضعيف عن ابن عباس. وفي رواية الصدوق المتقدمة ان الصادق عليه‌السلام احتج بالآية لصحة صلاة النافلة على الدآبة أينما توجهت. وفي الدر المنثور ذكر اسماء عشرة منهم مسلم والترمذي والنسائي اخرجوا ذلك عن ابن عمر. واسماء اربعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عمر ايضا. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا الى اين فأنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). هذا وان النظر الى مجموع هذا المروي ودلالة الآية وحجتها يرشد بأن رواية نزولها في مورد خاص إنما هو باعتبار انطباقها عليه وارادته في عموم تنزيلها. كما ان المروي ولسان الآية وسوقها تشهد بأن مفادها قاعدة عامة مبينة بالحجة التي يشهد بها العقل ايضا إلا ان الله خص بعض الأماكن تكريما لها بأن يستقبلها من يصلي الفريضة وقسما من النافلة ويوجه إليها الميت والذبيحة حسبما يدل عليه الكتاب والسنة وما عدا ذلك يبقى لحكم العموم في هذه الآية المحكمة وحجتها. ويؤكد عمومها ويحكمه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) في الرحمة واللطف (عَلِيمٌ) بمن يتوجه الى حضرته بالطاعة. ومن العجيب قول الواحدي ومذهب ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). أفلا يعلم كل مسلم ان آية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) إن

١١٩

(١١٤) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٥) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٦) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ

____________________________________

كان نزولها قبل تحويل القبلة الى الكعبة فهي مخصصة من أول نزولها بالتوجه في الفريضة الى جهة خاصة وكانت إذ ذاك جهة بيت المقدس لأن صلاة الرسول إليها كان من أول وروده الى المدينة : وما عشت أراك الدهر عجبا : فقد نشأ في بدع قوم في عصورنا يمنعون ويضربون من يتوجه في مسجد الرسول الأكرم عند دعائه واستشفاعه بالرسول الى جهة قبره الشريف في ناحية المشرق كأنّ الله لم ينزل الآية المتقدمة ولم يعرفوا من العادة ان المستشفع يقدم شفيعه بين يديه. ويحكم الله وهو خير الحاكمين ١١٤ (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) والقائل بذلك النصارى بل وغيرهم ممن أخذوا عنه كاليونان وغيرهم والبراهمة والبوذيين إذ جعلوا زعماء ديانتهم آلهة مولودين من الله (سُبْحانَهُ) تنزيها وتعظيما له عن ذلك (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والكل سواء في انهم مخلوقون لله ولله وملكه (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ذكروا من معاني القنوت الخشوع والطاعة أي خاشعون او مطيعون بالانقياد لخالقيته وقدرته وإلهيته فأين الولدية والإلهية من المخلوق وجاء قانتون بالجمع المذكر السالم تغليبا ١١٥ (بَدِيعُ) مبالغة في مبدع أي منشئ ومخترع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا باحتذاء مثال قبلها (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي خلق وصنع كقوله تعالى في سورة فصلت (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وقول أبي ذويب

«وعليهما مسرودتان قضاهما

داود او صنع السوابغ تبع»

والأمر الشيء او الحادث (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) أي لا يحتاج الى تمهيد مقدمات ومعدات يحتاج إليها وجوده ويمتنع بدونها. بل الأشياء طوع ارادته يريد فيكون وقوله تعالى (يَقُولُ لَهُ كُنْ) إنما هو كناية عن ارادته بما يظهر به الناس إرادتهم وهو أمرهم (فَيَكُونُ) تفريع على (يَقُولُ) وليس جزاء لقوله تعالى (كُنْ) لأن الكون بعد الفاء هو نفس الكون المأمور به لأجزائه المترتب عليه وتوهم انه جزاء لذات الطلب او للكون مع الطلب مدفوع بأنه لو صح لوجب أن ينصب قوله تعالى (فَيَكُونُ) ١١٦ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بمواقع حكمة الله وحجته ودلالة آياته (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) لو لا هنا بمعنى هلا للعرض والطلب والمراد تكليمه لهم بخصوصهم

١٢٠