أحكام القرآن - ج ٣-٤

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ٣-٤

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

نعم ، ورد في بعض الأشعار.

أعلفتها تبنا وماءا باردا.

و : متقلدا سيفا ورمحا.

و : أطفلت بالجلهتين (١) ظباءها ونعامها.

لأن العلم باقترانهما أغنى عن التعرض لوجه الاقتران ، فأطلق اللفظ الواحد عليهما. وها هنا ما أطلق اللفظ الواحد عليهما ، فإنه لو أطلق لفظ المسح على المغسول ، لأطلق لفظ الغسل على الجميع إطلاقا واحدا ولم يرجع في الرءوس إلى لفظ المسح ، فإن تقارن ما بين المسح والغسل إن اقتضى إطلاق لفظ واحد عليهما ، فتقارن ما بينهما يقتضى إطلاق لفظ الغسل على الجميع.

ولئن قيل : ذكر المسح لإبانة حكم آخر لا بد من إبانته ، فليفرد الأرجل ببيان حكمها المختص بها وهو الغسل ، وإذا ثبت ذلك فنقول :

نحن وإن سلمنا لهم أن اللفظ ظاهر في المسح ، فاحتمال الغسل قائم والذي يتصل به من القرائن يثبته ، ومن جملة القرائن قوله تعالى :

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢) ، والبلل الذي يخرج من الماء في خف الماسح ، كيف يمتد إلى الكعبين؟ وكيف يمكنهم ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا : إنه لا يجب مد الماء إليه؟ فإن ثبت خلاف الإجماع ، وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء ، فقال :

__________________

(١) أطفل : تعني دخل في الظلمة.

الجلهتين : مثنى جلهة ، والجلهة هي الصخرة العظيمة المستديرة.

(٢) سورة المائدة آية ٦.

٤١

«ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء» (١).

وأما الكعبان : فهما العظمتان النّاتئتان بين مفصل الساق والقدم.

وقال محمد بن الحسن : هو مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم ، وذلك لا يقوى لأن الله تعالى قال : وأرجلكم إلى الكعبين ، فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين ، ولو كان في كل رجل كعب واحد ، لقال إلى الكعب ، كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(٢) ، إنما كان لكل واحد قلب واحد ، وأضافهما إليه بلفظ الجمع ، فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية ، دل على أن في كل رجل كعبين.

واعلم أن ظاهر إضافة الغسل إلى الرجل ، يمنع مسح الخف ، إلا أن مسح الخف ورد في الأخبار ، فلم يكن نسخا لما في الكتاب بل كان تخصيصا.

الاعتراض : أن التخصيص إنما يكون في مسميات يخصّص بعضها ويبقى الباقي على موجب الأصل ، فإذا جوز المسح ، ثم مطلقا ، فأين وجوب غسل الرجل؟ وعندكم أنه يتخير بين المسح والغسل أبدا. فأين وجوب غسل الرجل على هذا التقدير ، حتى يقال : خرج منه البعض وبقي البعض؟

الجواب أن معنى التخصيص فيه ظاهر ، فإن غسل الرجل ثابت في حق الأكثر ، والذي يمسح إنما يمسح مدة معلومة ، ثم يرجع إلى الغسل فيغسل ، ولا بد للمسح على الخفين من تقديم الطهارة الكاملة حتى يصح

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وابو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر ، وأخرجه احمد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن ابي هريرة.

(٢) سورة التحريم آية ٤.

٤٢

المسح ، فوجوب غسل الرجل حاصل في حق كثير من المسميات ، فصح معنى التخصص.

وهذا بيّن ظاهر ، وإذا ثبت ذلك في أصل المسح على الخفين ، والمسح موقوف فيما سوى المدة ، وجب الرجوع إلى الأصل.

ويحتج على من جوز مسح العمامة ، بإيجاب الله تعالى غسل الرجلين ، فإن تخصيصه لا يجوز إلا بدليل.

نعم مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناصيته وعمامته (١).

وفي بعض الروايات على جانب عمامته.

وفي بعضها : وضع يده على عمامته ، فأخبر أنه بعد فعل المفروض من مسح الناصية مسح على العمامة ، وذلك جائز عندنا.

إذا ثبت هذا فظاهر قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) يقتضي الإجزاء فرق أو جمع ووالى ، على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو مذهب الأكثرين من العلماء ، فاعتبار الموالاة يقتضي من دليل زائد ، وليس في الأمر ما يقتضي الفور ، وترتيب بعض المأمور على البعض.

ويستدل بظاهر الآية على أن التسمية ليست شرطا.

وإذا ثبت أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع فيما يتعلق بالزمان ، فإذا قال القائل : رأيت زيدا وعمرا ، لم يفهم منه أنه رآهما في زمان واحد ، أو في زمانين مرتبين ، وإذا ثبت ذلك ، فالواو أجنبى عن اقتضاء (٢) هذا المعنى ، وإنما هو لترتيب الأفعال بعضها على بعض.

__________________

(١) أخرجه الترمذي بسننه عن المغيرة بن شعبة.

(٢) ورد في نسخه ثانية : ترتيب.

٤٣

فظاهر الآية يقتضي وجوب إمرار الماء على الأعضاء الأربعة ، ولو قال صاحب الشريعة : أمروا الماء على الأعضاء الأربعة : الوجه ، واليدين ، والرأس ، والرجلين ، فإذا أمر الماء عليها على أي وجه كان ، خرج عن مقتضى الأمر وكان ممتثلا ، وليس يجب على المأمور إلا ما اقتضاه ظاهر الأمر.

إلا أن الشافعي يوجب الترتيب تلقيا من إدراج الممسوح في تضاعيف المغسولات ، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور ، كما قررناه في مسائل الفقه.

فإن قيل : فالأرجل معطوفة في المعنى على الأيدي ، وأن معناها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم ، وإنما يمكن رد الرجل إلى اليد على تقدير رفع الترتيب.

قلنا : هذه جهالة ، فإن الذي قلتموه ترتيب في المعنى ورد من هذه الجهة ، وإن حصل الترتيب من حيث الزمان ، ولو رتب البعض على البعض بكلمة ، ثم لكان الذي ذكروه ممكنا ، ولا حاصل لما قالوه.

واستنبط أصحاب أبي حنيفة من هذه الآية ، أن الاستنجاء لا يجب لأن الله تعالى لما قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، كان الحدث مضمرا فيه ، وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.

وقال في نسق الآية :

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)(١).

فلم يوجب عليه أكثر من المذكور ، وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح الصلاة.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٦.

٤٤

أو قال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، وهو كناية عن الخارج النجس ، ولم يقل اغسلوا موضع الخارج ، وإنما قال فاغسلوا وجوهكم.

فيقال لهم : إن الذي ذكرتم ليس يدل على ما استنبطتموه ، وذلك أن المراد منه بيان غسل ما لا يظهر أثر الخارج في غسله ، وهو أعضاء الوضوء ، فأما إزالة النجاسات عن البدن والثوب وغيرهما من المواضع النجسة ، فحكمها مأخوذ من موضع آخر ، وليس يقتضي بيان حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة كلها ، فإن الصلاة موقوفة إجماعا على ستر العورة ، ولا ذكر له في هذه الآية ، وموقوفة على طهارة البدن والثوب مما فوق النجاسة التي يعفي عنها على مذهبكم ، ولم يكن السكوت عنه مانعا عدم (١) اشتراط السكوت عنه في إجزاء الفعل ، فاعلمه ..

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٢) :

إنما سمى جنبا لأجل ما لزمه من اجتناب أفعال بينها الشرع.

فالجنابة هي البعد والاجتناب ، ومنه قوله تعالى : (وَالْجارِ الْجُنُبِ)(٣) ، يعني البعيد منه نسبا ، فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفناه من الأمور.

وأصله التباعد عن الشيء ، ثم ليس بتباعد عن كل شيء ، وإنما هو تباعد من شيء دون شيء ، مثل الصوم : في الأصل عبارة عن الإمساك وليس الصوم في الشرع إمساكا عن كل شيء ، إنما هو عن شيء دون

__________________

(١) الأصح : مانعا من اشتراط.

(٢) سورة المائدة آية ٦.

(٣) سورة النساء آية ٣٦.

٤٥

شيء ، وبيان ذلك إلى الشرع. ومطلق اللفظ ينصرف إلى ما استقر عرف الشرع عليه.

واستنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، أنهما فرضان عليه ، لأن قوله : (فَاطَّهَّرُوا) عموم ، وقرر الرازي هذا في أحكام القرآن ، ثم وجه على نفسه سؤالا فقال :

إن قال قائل : من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمّى متطهرا ، فقد فعل ما أوجبته الآية؟ فقال :

إنما يكون مطهّرا لبعض جسده ، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع ، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ.

ألا ترى أن قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) ، عموم في سائرهم ، وإن كان الإسم يتناول ثلاثة منهم؟ فكذلك ما وصفناه.

ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم ، لأن الإسم يتناولهم ، إذ كان العموم شاملا للجميع ، فكذلك قوله (فَاطَّهَّرُوا) عموم في سائر البدن ، فلا يجوز الاقتصار على بعضه (٢).

فهذا ما ذكره سؤالا ، واستدلالا وانفصالا ..

والذي ذكره باطل عندنا قطعا ، فإن صيغ جموع الكثرة حقيقة في الاستغراق ، فهي فيما دونه مجاز ، لأن الوضع الأصلي فيها الاستغراق.

فأما قوله : تطهر فلان ، فليس حقيقة في قدر دون قدر ، فإذا غسل أي موضع غسل من بدنه ، فقد تطهر ، ولم يذكر الله تعالى موضع

__________________

(١) سورة التوبة آية ٥.

(٢) انظر احكام القرآن للحصاص ج ٣ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

٤٦

الطهارة أصلا ، لا بلفظ يقتضي عموم البدن ، ولا بلفظ يخالفه ، وإنما قال فاطهروا ، وليس فيه ما يوجب عموما أو خصوصا ، ولكنه لإبانة ما يسمى اطهارا ، ولا يمكنه أن يقول : من غسل بدنه جميعه إلا داخل الفم والأنف ، فلا يقال له اطهر حقيقة ، وما جاء به ليس باطهار حقيقة بل لفظ الاطهار في هذا القدر مجاز ، كما أن الاستغراق فيما دونه مجاز وذلك يتبينه العاقل بأوائل النظر في مثل ذلك.

قال : إن المأمور خرج من موجب الأمر بما يسمى به متطهرا. وقال تعالى في موضع آخر :

(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)(١) ، يقتضي جوازها مع تركها (٢) ، لوقوع اسم المغتسل عليه ، واسم المغتسل حقيقة في حق من لم يتمضمض ، واسم المتطهر حقيقة في حق من لم يتمضمض فلا حاصل لقوله هذا ، فاعلمه وثق به.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) :

فهم العلماء من قوله مرضى ، كون المرض مبيحا للتيمم إذا كان في استعمال الماء ضرر ، لأنه لو لم يحمل على ذلك ، كان ذكر المرض لغوا عند عدم الماء ، ولم يفهموا من ذكر المسافر اعتبار السفر فقط ، بل اعتبروا عدم الماء ، وإن كان عدم في حق غير المسافر يبيح التيمم ، لأن السفر يغلب فيه عدم الماء ، ويندر في الإقامة مثل ذلك ، فكان للسفر تعلق بعدم الماء ، وليس للمرض تعلق به ، فلم يفهم منه عدم الماء ، وإنما فهم منه ما يفضي إليه المرض من الضرر باستعمال الماء.

__________________

(١) سورة النساء آية ٤٣.

(٢) يعني جواز الصلاة مع ترك المضمضة.

٤٧

وإذا ثبت هذا فقد قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) الآية.

ذكر المرض والسفر مع الأحداث ذكرا واحدا ، وليسا حدثين ، فلا جرم اختلف العلماء في معنى الآية :

فأما زيد بن أسلم فإنه ذكر في الآية تقديما وتأخيرا فقال :

تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة من نوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط (١) أو لمستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم ـ إلى قوله ـ وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء.

والذي يرد على هذا من الاعتراض على مقتضى هذا القول : فيكون ذاكرا بعض أسباب الحدث ، من غير أن يذكر الحدث مطلقا ، ويكون ذاكرا للجنابة المطلقة من غير ذكر أسبابها وموجباتها ، فإن غير زيد بن أسلم يقول :

تقدير الآية : «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون مطلقا» ، لينتظم مع قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، فإنه إذا ذكر أسباب الحدث عند وجود الماء ، فيشبه أن يذكر أسباب الجنابة ، وإن ذكر الحدث مطلقا ، ذكر الجنب مطلقا ، ففيما ذكره زيد بن أسلم قطع الانتظام من هذا الوجه. مع انه لم يبين (٢) تمام الأحداث ، فإنه لم يذكر النوم وهو حدث ، ولا زوال العقل بأي سبب كان ، ولامس الذكر عند قوم ، ولا خروج الخارج من غير السبيلين عند قوم ، فهذا يرد على تقدير التقديم والتأخير ، مع أن تقدير التقديم والتأخير يورث ركاكة في

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٠٤.

(٢) ورد في نسخه ثانية : يثبت.

٤٨

النظم ، واستكراها في النطق ، وحيدا عن أحسن الجهات في البيان ، وإنما يجوز لضرورة تدعوه إليه.

وعند ذلك قال آخرون : الداعي إلى التقديم والتأخير ، أنه عد المرض والسفر معد الأحداث ، ونحن نقدر تقديرا آخر ليزول ذلك فنقول :

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) : معناه وأنتم محدثون ، وإن كنتم جنبا فاطهروا ، فقد بين السببين الأصليين للطهارتين الصغرى والكبرى ، ثم قال :

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) معناه : وجاء ، وقد ورد «أو» بمعنى الواو ، وذلك راجع إلى المرض والسفر إذا كانا محدثين ولزمهما ، وجعل «أو» بمعنى الواو في كتاب الله تعالى ، وفي أشعار العرب موجود.

إلا أن الذي يرد عليه أنا إذا قلنا إن معنى أول الآية : «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون» ، ثم قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، يظهر رجوعه إليهما ولا معنى لذكر المجيء من الغائط ولمس النساء ، فإنّ الحدث المطلق ، الجنابة المطلقة تشملهما ، وما سواهما فليس لذكرهما فائدة ، ففي كل واحد من التقريرين (١) نوع اعتراض وبعد.

والله أعلم بمراده من الآية.

قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، حمله قوم على الجماع ، وقوم على الجس باليد.

__________________

(١) ورد في الأصل : التقرير.

٤٩

فأما قراءة اللمس فظاهرة في الجس والملامسة ، من حيث إنها على صيغة المفاعلة ، ويقال استعمالها في الجس باليد ، توهم قوم أنها بمعنى الجماع ، وكيف ما قدر أمكن أن يعمل بالقرائن. وتجعل القرائن كالإثنين فيعمل بهما جمعا ، أو يجعل اللمس محمولا على الجس باليد وعلى الجماع أيضا ، لأنه يتضمن ذلك غالبا ، وقد بسطنا القول في هذا فيما تقدّم فلا نعيده (١).

قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٢) :

اعلم أن الله تعالى ذكر المرضى فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) ثم قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ، فلا بد أن يرجع الشرط إلى ما تقدم ذكره ، وعدم الماء ليس معتبرا حقيقة في حق المريض ، فيدل معنى الآية على أن الله تعالى ، إنما عنى بالموجود ، إمكان استعمال الماء وإن كان واجدا للماء صورة ، ولكنه معجوز عنه ، فكأنه لم يجده ، فإنا لو لم نقدر ذلك ، لم يستقم جعل قوله (فلم تجدوا) عائدا إلى المرضى ، وذلك خلاف الإجماع والنظم.

وإذا كان معنى الوجود إمكان الاستعمال شرعا وطبعا ، ولو كان الماء عنده وديعة ، فليس واجدا للماء شرعا ، وإن كان في استعماله التلف فليس واجدا للماء شرعا.

وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ، إذن أريد به وجودا لا يتضمن ضررا ظاهرا ، وإذا بيع بثمن أكثر من ثمن المثل لم يجب عليه سداده.

واختلف قول الشافعي في من وجد من الماء ما لا يكفي لتمام طهارته :

__________________

(١) انظر القرطبي ج ٥ ص ٢٢٤.

(٢) سورة المائدة آية ٦.

٥٠

ففي قول : يتيمم ، وهو قول أكثر العلماء ، لأن الله تعالى جعل فرضه الشيئين : إما الماء وإما التراب ، فإذا لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا.

وعلى القول الآخر يقول : إن الله تعالى ذكر الماء ، فاقتضى ذلك أن لا يجد ما يقع عليه اسم الماء جملة ، وإذا وجد من الماء ، ما لا يكفيه ، فقد وجد الماء ، فلم يتحقق شرط التيمم. فإذا استعمله وفقد الماء ، تيمم لما لم يجد.

واختلف قول الشافعي فيما إذا نسي الماء في رحله ثم تيمم ، والصحيح أنه يعيد ، لأنه إذا كان الماء عنده (١) فهو واجد ، لكنه لا يدري أنه واجد ، وأن الشيء عنده ، والكلام في علم الله تعالى ، فإذا كان عند إنسان شيء فذلك الشيء هو موجود عنده ، وإذا كان موجودا فهو واجد للموجود إذ يستحيل أن يكون موجودا عنده وليس بواجد له ، إلا أنه نسي أنه واجد له.

والقائل الآخر يقول : إذا لم يعلمه فلم يجده ، وقد يقول : كان عندي ولم أجده ، وقد يكون الشيء في دار رجل فيطلبه فيقال له : هل وجدته أم لا؟ فيقول وجدته أو ما وجدته ، فإذا نسيه في رحله فلم يجده.

فيقال : هذا إنما يستقيم أن لو طلبه فلم يجده ، وعندنا لو طلب فلم يجد كان مقدورا ، إلا أنه لا يجوز أن يكون في الرحل ، فيطلب من الرحل فلا يجده ، والطلب من الرحل شرط ، حتى يقال لمن طلب ولم يجد إنه لم يجد ، والشافعي أوجب طلب الماء ، لأنه لا يقال لم أجد ، إلا إذا طلب ، وإذا لم يطلب في مظنة الماء ، فلا يحسن أن يقال : لم أجد.

__________________

(١) في الأصل : غيره.

٥١

نعم يجوز أن يقال وجد فلان لقطة ، وإن لم يكن طلبها ، إنما لا يقال لم يجد ، إلا إذا طلب فلم يجد.

وهذا يعترض عليه أن الواحد منا قد يقول : أنا لا أجد ما أتوصل به إلى كذا ، أو لم أجد أمر فلان مستقيما ، والله تعالى يقول :

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(١).

وإذا كان لفظ الوجود لا يقتضي الطلب في قوله تعالى :

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)(٢).

(فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)(٣).

لا أنهم طلبوا ، ولا أنه يمكن الطلب في قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) ، لأن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بالطلب.

وإن كان قد يجاب عن كل ذلك بأن الله تعالى طلب منهم الثبات على العهد ، والطلب من الله تعالى هو الأمر به ، فيصح اطلاق قوله : (وَما وَجَدْنا) ، لأنه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد.

وإذا قال القائل : فلان لا يجد ألفا دينار ، فمعناه أنه لا يتسع طلبه له ، وإن تمحل وطلب ...

وعلى الجملة لو قطعنا بأن لا ماء ، فلا يجب عليه الطلب حتى يظهر عدم الماء في المصادر (٤) ، ولو ظهر وجوده لوجب عليه الطلب ، حتى يجب عليه الطلب من الرفقة وفي مواضع إمارة الماء.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ١٠٢.

(٢) سورة الكهف آية ٤٩.

(٣) سورة الأعراف آية ٤٤.

(٤) ورد في نسخة ثانية : في المغاوز.

٥٢

وربما نسلم لهم إذا غلب الظن بعدم الماء ، وهم يسلمون لنا إذا لم يبعد وجود الماء ، فيرتفع الخلاف (١).

وفي أصحابنا من يقول : إذا لم يتيقن عدم الماء لم يصح التيمم ، لأن عدم الماء شرط ، والشرط لا بد من تيقنه.

وهذا بعيد ، فإنه وإن طلب وبالغ ، فلا يحصل التيقن من (٢) من عدم الماء ، وإنما يحصل الظن الغالب ، فأما اليقين فغير مظفور به ، وفي الوقت أمكن انتظار اليقين ، فافترقا لذلك.

وإذا خاف في الاستعمال بالوضوء فوات الوقت ، لم يتيمم عند أكثر العلماء ، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك.

وللشافعي مسائل تدل على ما يقارب مذهب مالك ، واستقصيناها في المذهب.

والذي لا يجوز يتعلق بقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، وهذا واجد ، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.

والقائل الآخر يقول : ما جاز التيمم في الأصل إلا لحفظ وقت الصلاة ، ولو لا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء.

فيقال : ولكن يمكن أن يقال : إلا أن السفر يكثر وإعواز الماء فيه يغلب ، فلو جاز تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء ، تكاسل الناس عن إعادة الصلاة ، فأوجبت الصلاة بالتيمم تمرينا عليه.

وهذا لا يتحقق فيما إذا كان فوت الصلاة نادرا في حالة خاصة فاعلمه.

فإن قيل : جازت صلاة الخائف لأجل الوقت مع ندور الخوف.

__________________

(١) انظر القرطبي ج ٥ ص ٢٢٩.

(٢) في الأصل : في

٥٣

ويجاب عنه بأن هناك وجد شرط صحة الصلاة وهو الخوف ، وهاهنا عدم الشرط وهو العدم.

وقد قيل في حق المسافر والخائف ما أبيح التيمم ، لئلا يفوت الوقت. ولذلك جاز في أول الوقت.

فيقال : جوازه في أول الوقت لا ينافي ما قلناه ، فإنه لو لم يجز في أول الوقت لم يجز في وسط الوقت ، حتى ينتهي إلى قدر ينطبق على فعل الصلاة ، وذلك عسر غير مضبوط ، فلم يمكن اعتباره.

واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم لأبي حنيفة من وجهين :

أحدهما : أنه يجوز التيمم لخوف فوات صلاة الجنازة مع عدم الشرط ، وقد قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) وهو واجد.

والثاني : أنه جوز التيمم قبل الوقت من غير ضرورة ، وذلك يدل على أنه لا تعتبر الحاجة.

واختلف في من حبس في حبس (١) ، لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف ، فالشافعي يقول : يصلي ويعيد.

وأبو حنيفة وزفر ومحمد يقولون : لا يصلي أصلا حتى يقدر على الماء.

وإذا ثبت هذا ، فقد جعل الله تعالى التيمم شرط صحة الصلاة أو الوضوء ، فإذا لم يقدر عليهما ، فربما يقول القائل : إذا لم يتحقق شرط الشيء لم يثبت المشروط دونه ، ولم يتحقق الشرط في حق من عدم الماء والتراب ، فلا جرم. قال أبو حنيفة : لا يصلي لعدم شرط العبادة.

وقال المزني : يصلي لأن الشرط إنما أريد في هذا الموضع لتكملة المشروط ولحسن نظامه ، لا لأنه شرط لعينه ، ومتى كان كذلك ، لم تزد

__________________

(١) ورد في نسخة اخرى : في حصن.

٥٤

رتبته على رتبة الأركان ، والعجز عن بعض الأركان لا يسقط القدر المقدور عليه ، وكذلك ها هنا ، فعلى هذا يصلي ولا يعيد.

والشافعي يقول : أما الذي ذكره المزني من أنه يصلي فصح ، ولكنه يصلي مراعاة لحق الوقت مع العجز عن كماله ، فإذا قدر على الكمال وجب الإتيان به.

وهذا القياس كان يقتضي مثله في ترك بعض الأركان في حق المريض ، أو ترك الوضوء في حق المسافر ، إلا أن تلك الأعذار عامة ، ويكثر وقوعها ، فتكليف القضاء يجر حرجا.

وقد استقصينا ذلك في مسائل الخلاف.

وقد احتج المزني بما روى في قلادة عائشة رضي الله عنها حين ضلت ، وأن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين ندبهم لطلب القلادة ، صلوا بلا وضوء ولا تيمم (١).

والتيمم إذا لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا ، ومنه قال المزني لا إعادة ، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها.

فإن قيل : جواز الصلاة كان لعدم الماء ، من حيث لا بدل له كالتراب الذي لا بدل له الآن.

واختلف العلماء في جواز التيمم قبل وقت الصلاة ، والشافعي لا يجوزه ، فإنه لما قيل لنا : «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا» ، ظهر منه إجزاء التيمم بالحاجة ، ولا حاجة قبل الوقت ، وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد ، والمسألتان استقصيناهما في علم الخلاف ، وأصلهما كتاب الله تعالى ، وهو تقييد التيمم بوقت الحاجة والضرورة وهذا بين.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٠٥.

٥٥

ولما قال الله سبحانه وتعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) ، جعل وجوب الطهارة للقيام إلى الصلاة ، وتقديره إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، فإذا شرع في الصلاة بالتيمم وصح الشروع ثم وجد الماء ، فليس هو قائما إلى الصلاة ، فلا يتناوله الأمر بالطهارة.

وتتمة القول فيه ، أنه قد صح منه أداء ما شرع فيه ، ومتى صح منه أداء ما شرع فيه ، فلا يمكن أن يقال إنه كان التيمم شرطا لبعض الصلاة ، فإن كون التيمم شرطا لبعض الصلاة لا يتحقق معناه ، مع أن المشروط لا بعض له ، فلا بد أن يجعل شرطا للجميع ضرورة تصحيح البعض ، فإذا حكمنا بصحة البعض على تقدير أن التيمم لا بعض له ، اقتضى ذلك كون التيمم شرطا لصحة جميع الصلاة ، وخروج الوضوء عن كونه شرطا ، في حالة كون التيمم شرطا.

ولا يجوز أن يقال إن كون التيمم شرطا موقوف ، فإنه لو كان كذلك كانت صحة الصلاة موقوفة ، وهي صحيحة قطعا بلا وقف.

وإن هم قالوا : إذا وقع في علم الله تعالى أن يجد الماء في خلال الصلاة ، لم تكن الصلاة صحيحة من الأول ، فهذا باطل ، فإن حكم الله تعالى مبني على وجود سببه ، وعلى توافر شرائطه ، وقد توافرت شرائط الصحة في أول الصلاة ، فلا يمكن الحكم بعدم الصحة.

فإن قيل : فإذا تخرق الخف أو انقضت مدة المسح ، أليس تبطل الصلاة ، مع أن القدر الذي وقع الشروع فيه كان صحيحا؟

والجواب : أن ذلك سببه أن الحكم بالصحة على تقدير توافر الشرائط ، وجعلنا التيمم شرطا لصحة جملة الصلاة ، ولأنه لا يمكن جعله شرطا لصحة البعض ، وليس في حق الماسح شيء يمكن أن يقال إنه جعل شرطا

٥٦

للصلاة بدلا عما فات ، فان الخف لا بدل له ، والخف شرط لجميع الصلاة ، فإذا لم يكن لم تصح ، وهاهنا التيمم هو الشرط وقد وجد ، فهذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.

وأبعد بعض المصنفين في أحكام القرآن فقال : كما قال تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء ، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه ، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه ، ولا يمنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده بالظاهر.

وهذا جهالة مفرطة ، فإن إطلاق اسم الماء لا ينصرف إلى النبيذ ، ولا حاجة فيه إلى إطناب ، وتقدير اشتمال اسم الماء عليه ، كتقدير اشتماله على كل مرقة ونبيذ في الدنيا ، وذلك جهل ، ولو كان كذلك لدخل تحت مطلق اسم الماء ، ولو دخل تحت مطلق اسم الماء ، لم يترتب ماء على ماء. وقد قلتم لا يتوضأ بالنبيذ مع وجود الماء ، فهذا ما أردنا بيانه من هذا المعنى.

ووجب التيمم إلى المرفقين مثل الوضوء ، لأن اسم اليد شامل للعضو إلى المنكب ، إلا ما خصه الدليل ، وقد بينا وجه الكلام عليه (١).

قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٢) : يقتضي اختلاف الفقهاء فيما يتيمم به.

فقال الشافعي : لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، أو الرمل الذي يخالطه التراب.

وأبو يوسف يضم إليه الرمل الذي لا تراب فيه.

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج ٤ ، والجامع لأحكام القران للقرطبي ج ٦ ص ١٠٦ ، وأحكام القرآن للإمام الشافعي رضي الله عنه.

(٢) الصعيد : وجه الأرض كان عليه تراب او لم يكن.

٥٧

وأبو حنيفة يجوز بالنورة والزرنيخ.

وقال مالك : يتيمم بالحصا والحبل ، وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى أرض أجزأه ، وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا.

واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد فيتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم ، كالماء ينقل إلى الأعضاء ، أي أعضاء الوضوء. ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قاله الشافعي ، إلا أن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

«جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» (١) ، يبين ذلك.

واستنبط الرازي من قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أن الباء لما كانت للتبعيض ، وجب بحكم الظاهر جواز مسح بعض الوجه ، مثل ما فهم من قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).

والذي ذكره ليس بصحيح على ما تقدم ، فإن الباء لا تدل على شيء مما ذكره ، وقد قال تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢) ، ولو طاف ببعض البيت لم يجز (٣).

قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)(٤) :

هذا يحتمل أن يكون معناه : إنّا لم نرد تكليفكم لنشق عليكم ، وإنما أردنا بتكليفكم اللطف بكم في محو سيئاتكم وتطهيركم من ذنوبكم ، كما قال عليه الصلاة والسلام :

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي والدار قطني.

(٢) سورة الحج آية ٢٩.

(٣) انظر القرطبي ج ٦ ص ٢٣٧.

(٤) سورة المائدة آية ٦.

٥٨

«إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت خطاياه وذنوبه من وجهه ، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يديه» إلى آخره (١).

وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢) ، إنما أراد به التطهير من الذنوب ، ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة.

فكأنه قال : هذه الأفعال ليست واجبة لذواتها ، وإنما هي لمقصود ، وهو حصول الطهارة عن الأحداث بها فهو المقصود والمغزى.

وهذا يضعف من وجه ، فإن الطهارة من الجنابة ليست غرضا للخلق ، حتى يقال ما أردنا تضعيف الأمر عليكم ، إنما أردنا كذا ، فليست الجنابة نجاسة منكرة في الطبع ، وإنما الله سبحانه وتعالى قال : طهروا أنفسكم ، فسمى الوضوء طهارة ، وإنما صار طهارة بالشرع ، فقوله :

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).

يجب أن يفيد مقصودا للعبد ، ليكون يحصل بذلك المقصود نفي الحرج ، وجعل الحدث نجاسة واجبا إزالتها ، ليس بنفي الحرج ولا يحقق للعبد مقصودا ، فدل على أن المراد به كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام ، وذلك يقتضي افتقاره إلى النية ، لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى ، وقد قيل : قوله «ليطهركم» ، أي ليحقق نظافتكم عاجلا ، وهذا فيه بعد ، فإنه ذكر ذلك عقب التيمم ، وهو لا يحقق هذا المعنى ، إذ

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ عن ابي هريرة ، ومسلم والترمذي واحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن جرير.

(٢) سورة الأحزاب آية ٣٣.

٥٩

ليست النظافة في الوضوء (١) ظاهرة للخلق ظهورا يقال إن الشرع أمر بها لأجل ذلك.

وقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ) ـ إلى قوله ـ (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) ، الآية ٨ : دل صدر الآية على وجوب القيام لله تعالى بالحق ، وكل ما يلزمنا القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله تعالى : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) ، أي بالعدل ، ويحتمل أن تكون هذه الشهادة لأمر الله تعالى أنه حق ، ودل سياق الآية عليه.

قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) :

أبان به بأن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليهم ، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتل والأسر ، وأن المثلة بهم غير جائزة ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمرنا بذلك ، فليس لنا أن نقابلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم ، وإليه أشار عبد الله بن رواحة في القصة المشهورة بقوله :

«حبي له وبغضي لكم لا يمنعني من أن أعدل فيكم» (٢).

قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)(٣) :

تحريفهم إياه بسوء التأويل ، لا أنه مكابرة لفظ صريح شائع مستفيض ، كما تأولت المبتدعة كثيرا من المتشابهات ، على ما تعتقده من مذاهبها ، دون إعطاء التدين حقه ، فأما مكاتمة ما قد علموه على اشتهار ، فمكابرة ومعاندة ، فلا يصح وقوعه على سبيل التواطؤ منهم ، كما لا يصح التواطؤ

__________________

(١) هكذا وردت بالأصل ، ولعل الأصح التيمم.

(٢) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير.

(٣) سورة المائدة آية ١٣.

٦٠