أحكام القرآن - ج ٣-٤

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ٣-٤

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ)(١) ، فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ، ولو قال : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهم ، فقوله إلا درهم يرجع إلى الثلاثة.

وهذه جهالة ، فإن فيما قالوه إذا كان الاستثناء من الاستثناء ، والاستثناء من النفي اثبات ، ومن الإثبات نفي ، وقد تعذر الرد إليهما على اختلافهما فيرجع إلى الأقرب ، ولا خلاف في أن الاستثناء في قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(٢) يرجع إلى الجميع ويتعلق بالكل ، وكذلك في قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) ـ إلى قوله ـ (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٣). والتيمم راجع إلى الجميع.

وكل ذلك مستغنى عنه ، فإنا على القولين جميعا نرى قبول شهادته بعد التوبة ، فإن علة رد شهادته رميه وفسقه لا إقامة الحد عليه ، لما بينا من أن إقامة الحد عليه من فعل غيره فيه ، فلا يؤثر في شهادته ، فهو أقرب إلى التفكير كما روى في الحدود ، والتوبة إذا رفعت علة رد الشهادة وهو الفسق ، دار القول. فإن المعلول لا يثبت دون العلة فاعلمه ، هذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.

وعندهم أن الله تعالى قال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ـ إلى قوله ـ وَلا

__________________

(١) سورة الحجر آية ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) سورة المائدة آية ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) سورة النساء آية ٤٣.

٣٠١

تَقْبَلُوا لَهُمْ) وعندهم : إن رمى قبلت شهادته ، فقد خالفوا ظاهر الآية وما خالفنا.

وظن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه تعالى لما قال : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، فإذا أتى بأربعة شهداء فساق فلا حد عليه ، فإنه أتى بأربعة شهداء وذلك بالفساق ، فلو جاء بأربعة من المحدودين والكافرين ، فلا يسقط الحد عنه ، وكذلك العبيد ، ولا شك أن لفظ الشهداء ليس فيه هذا التفصيل فهو به متحكم ، ولأنه تعالى لما قال : «فإن يأتوا بالشهداء» ، يعني : إذا لم يأت بالشهداء الذين يحصل منهم الصدق ، ويقبل قولهم ، فأولئك كاذبون ، فأما أن يجيء بأربعة لا يصدقهم الشرع في إثبات الزنا ، فكيف يمكن أن يدرأ الحد عنه؟ فهذا مقطوع به ، وربما بنى ذلك على أن الفاسق من أهل الشهادة ، وذلك مجرد لفظ ، فلا معنى إذا تبين أن الفاسق لا يجوز أن تقبل شهادته في الحدود ، وإن ظهر عند القاضي بالقرائن صدقه ، ولا يجوز إقامة الحد على المشهود عليه بشهادتهم ، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.

وعند الشافعي يجب الحد على الشهود وعلى القاذف جميعا.

ومن أعجب الأمور أنهم قالوا : العدول إذا شهدوا على الزنا متفرقين ، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يحدون.

وقال الشافعي : لا يحدون وتقبل شهادتهم ، مع أنه جاء بأربعة شهداء.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) ، الآية / ٦.

دل به على أن الأول لم يتناول الزوجات ، أعني قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).

ويحتمل أن يقال إنه تناول ، ولكن جعل هذا محلفا ، وأقيم لعانه مقام الشهادة ، فإنه تعالى استثناه عن الشهادة.

٣٠٢

قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) : وترتب على ذلك اللعان متى كان حجة دامغة ، فمتى لم يدفع الزوج بلعانه ، كان بمثابة الأجنبي الذي لا يدفع الحد بالشهادة ، وإذا لم يجعل الشرع اللعان حجة ، فلا فرق بين أن يقذف حرة أو أمة ، أو يكون القاذف حرا أو عبدا ، فإنه حجة خاصة لمكان حاجة الزوجية.

وأبو حنيفة يرى اللعان شهادة من وجه ، حتى لا يصح من العبد ، مع أن حقيقة الشهادة لا تعتبر ، فإن الشهادة في الأصل تصديق الغير ، والملاعن يصدق نفسه ، فحيث لا تعتبر حقيقة الشهادة ومعناها ، كيف تعتبر صفتها الزائدة على معناها ، فإن الشرائط تابعة للحقيقة ، وهذا لا مخلص منه. وربما قال :

إن اللعان شهادة في هذا المعنى ، ثم لم يوفر عليها مقتضاها ، فإن شهادة الحر على الأمة الكافرة مقبولة ، ثم لا يلاعن المسلم والحر زوجته الكافرة والأمة ، وعند ذلك نرجع إلى أصل آخر فنقول : في اللعان معنى العقوبة ، فاللعان شرع قائما مقام الحد ، ولا حد على الرجل المسلم يقذف زوجة ، الأمة والكافرة ، ومن قبل كان يرى اللعان شهادة ، والشهادة تمتنع من الرقيق تعظيما لرتبة الشهادة ، فإذا جعلهما حدا ، كان شرعها باعتبار تحقيق من يلاعن ، فمن عد بزنا ممن يجمع بين المتناقضين فنقول : اللعان شهادة ، فلا يصح ممن لا يدلي بمنصب الحرية ، ثم يحط اللعان إلى رتبة الحد المشروع إهانة للحدود ، ويقال سبحان الله ، عد اللعان مخلصا وتخفيفا من الله تعالى ، فكيف يعد إهانة ، وقد شرع إكراما وإعظاما؟

فهذه المناقضات كيف يمكن تلفيقها ، ثم يرى اللعان شهادة ويقول : إنه إذا لاعن فلا حد عليها ، فإن بمجرد قوله لا يمكن إثبات حد على المرأة ، ثم يقول : إذا لاعن الزوج فقد حد ، فإذا أكذب نفسه كيف

٣٠٣

يرجع بعد ذلك إلى إيجاب الحد عليه ثانيا ، أفترى أنا نوجب الحد مرة ومرة أخرى؟ فكيف يطمع الفقيه في الجواب عن ذلك؟

ومما قاله : إن اللعان حد ، وإذا قذف الزوج وامتنع من اللعان لا يحد ، بل يحبس حتى يلاعن ، وإذا لاعن حبست المرأة ، ولا حد عليها ، فإنه لو لزمها الحد كان ذلك إيجاب الحد عليها بمجرد قوله ، ثم قال :

واللعان حد ، وقد وجب اللعان عليها بمجرد قوله ، فسبحان الله ، كيف تلفقت لهم هذه الخرافات والمتناقضات؟

ثم قال الله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) ، الآية / ٨ :

فجعل لعانها دارئا للعذاب عنها.

وعندهم أن اللعان حد ، والحد يدرأ العذاب ، وهي لا عذاب عليها ، وهي لا تحبس لعين الحبس ، وإنما تحبس للعان ، فلعانها يدرأ لعانها على هذا التقدير.

فانظر كيف توالت غلطات الخصم في فهم معنى (١) هذه الآية. وقال : لو أتى بمعظم كلمات اللعان ، قام مقام الكل ، وهو خلاف القرآن ، وخلاف قياس الحد أيضا ، فإنه لا يكتفي فيه بالأكثر ، وإذا ثبت فساد نظر من يخالف ، فنذكر ما رآه الشافعي ، قال رحمه الله :

إن الله تعالى شرع اللعان ، وعلمنا يقينا أن شرع اللعان رخصة لمكان الحاجة ، فلما تأملنا الحاجة ، قلنا يجوز أن يكون الأصل في تلك الحاجة هي والنسب الذي يتعرض للثبوت ، ولا طريق إلى نفيه إلا باللعان ، فكان اللعان موضوعا أصليا لهذا المعنى ، وإنما جوز اللعان في النكاح ، مع إمكان

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي سورة النور آية ٦ ـ ١٠.

٣٠٤

قطع النكاح بطريق آخر ، لأن الزوج لما أراد أن يعيرها ويفضحها بما صدر منها. فجعل الشرع اللعان مشروعا في النكاح دون النسب ، وهذا المقصود قريب ، بالإضافة إلى مقصود رفع النسب.

وإذا ثبت ذلك وجب شرع اللعان دون النكاح لأجل الولد ، حتى إذا طلق امرأته ثلاثا وادعت حملا ، فللزوج أن يلاعن ، وعلى هذا اللعان في النكاح والوطء بالشبهة ، فإنه رضي الله عنه فهم أمرا آخر فقال : إذا قذف امرأته بأجنبي وسماه في اللعان ، فلا حد عليه للأجنبي ، فإنه صار مصدقا شرعا في تلك الواقعة ، فصار ذلك شبهه في درء الحد عنه ، فهذا نوع من القياس فهمه في موضع الرخصة لفهم خصوص الحاجة.

وأبو حنيفة ، رأى أن اللعان حجة خاصة شرعت في النكاح ، فلا يثبت إلا في النكاح ، ولا شك أن الذي قاله إعراض عن المعنى الخاص المفهوم من وضع اللعان ، على أنه ناقص من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(١).

وقال : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)(٢).

فحكم بطلاق النساء ، ثم إنه صار إلى طلاق البائنة المختلفة من غير نكاح ، مع أن الطلاق من خاصة النكاح ، فهلا كان كذلك ، بل هذا إلى ترجيح ، وذلك أنه ليس في إيقاع الطلاق على المختلفة حاجة معقولة شرع الطلاق لأجلها في الأصل ، بل الحاجة التي شرع الطلاق لأجلها معدومة في

__________________

(١) سورة الطلاق آية ١.

(٢) سورة البقرة آية ٢٣١.

٣٠٥

حق المختلفة ، فأما هاهنا ، فالحاجة التي شرع اللعان لأجلها ، التي لا تدفع لها إلا باللعان متحققة في النكاح الفاسد ، وبعد الطلاق ، فأولى بصحة اللعان. والوجه الآخر في الترجيح ، هو أنا إذا شرعنا اللعان في حق المطلقة ، لم يخصص ولم يناقض ، وقلنا الولد بنفي اللعان دون النكاح مطلقا. وأبو حنيفة إذا أوقع الطلاق بعد البينونة ، لم يمكنه إخراج الطلاق عن كونه متعلقا بالنكاح ، فإنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد خلافا لأحمد ، ولا بعد البينونة وانقضاء العدة ، وإن بقيت له طلقتان عليها ، واعتقد في ذلك أنا لو نفذنا الطلاق عليها ، صار المحل ينقاد تصرفه فيه مبتذلا من غير ولاية له عليه ، وذلك في غاية البعد ، إذا لم يكن المحل بالتصرف متأثرا ، ولا يزول بالتصرف عن المحل حكم وصفه ، وإذا جوزوا تصرف الأجنبي موقوفا من حيث إن المحل لا يتأثر به ، والطلاق إذا لم يكن له حكم ظاهر في المحل ، فيجب أن يقع على الأجنبية ، وإن هم زعموا أنه يفوت حل المحل ، وذلك تأثيرا يظهر في المحل ، فيقتضي هذا أن يكون حكم الطلاق الذي هو خاصية النكاح تفويت ما يستفاد بأصل الولادة ، غير متعلق بالنكاح ، وذلك جهل مفرط .. وعلى أن الذي ذكر من جواز الابتذال في مدة العدة ، إنما يفعل إذا كان جنس العدة مقتضى ولانية ، فأما إذا كان حكما شرعيا يثبت حيث لا نكاح كالنكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يقع به الطلاق أصلا ، وهذا كلام معترض غير متعلق بمقصودنا ولا محيص لهم عنه.

وناقضوا أيضا وقالوا : لو قذف امرأته وماتت بعد القذف بطلاق أو غيره ، فلا حد عليه ولا لعان ، وقالوا : لا ينتفي الحمل باللعان ، مع أن الخبر إنما ورد في الحمل وحده.

٣٠٦

ولما رأى الشافعي اللعان حجة خاصة قال : قذف الزوجة مثل قذف الأجنبية ، لأنها محصنة عفيفة مثل الأجنبية ، ويجب على غيره الحد بقذفها ، ويجب عليه الحد بقذف مثلها ، إلا أن الشرع جعل اللعان مخلصا ، فإذا امتنع من اللعان ، كان على قياس الأجنبي يقذف الأجنبية ، وهذا بين معلوم من القرآن. وإذا كان اللعان خاصا في حق الأزواج ، فالشافعي يقول :

جعله الشرع حجة وصدقه فيها ، وجعل لها طريقا إلى مدافعة حجته فقال :

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ) ، فلا بد من إثبات عذاب ، ولا يجوز أن يكون ذلك العذاب سجنا ، فإن الحبس لا يراد لعينه ، وإنما يراد لغيره ، فلا بد أن يكون الحبس لطلب أمر وراء الحبس يحبس لأجله ، ولا يجوز أن يكون الأمر هو اللعان ، فإنها ربما كانت كاذبة في لعانها ، فكيف يجوز إجبارها على اللعان ، وقد قال كثير من العلماء :

إن العذاب في عرف الشرع عبارة عن الحد ، سيما إذا عرف بالألف واللام ، وذلك ينصرف إلى المعهود ، وهذا لا بأس به ، وإن كان يرد عليه بأن العذاب قد لا يختص بالحد ، قال الله تعالى :

(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١) ولم يرد الحد.

وقال تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً)(٢) ، ولم يرد به الحد. ويهون الجواب عن كل ذلك ، وليس في التقصي عنه كبير فائدة ، فإن الغرض يحصل دونه.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٢٥.

(٢) سورة النمل آية ٢١.

٣٠٧

إذا ثبت ذلك ، فقد قال عثمان البتي : لا أرى ملاعبة الزوج امرأته ينقص شيئا ، وأحب أن يطلق. والذي ذكره قوي من حيث المعنى والتوقيف ، إذ ليس في كتاب الله أنه إذا لاعن ولاعنت يجب وقوع الفرقة ، وورد في الأخبار الصحاح ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّق بين المتلاعنين ، وألحق الولد بالابن (١) .. وقال عليه الصلاة والسلام :

«المتلاعنان لا يجتمعان» (٢).

«ولو بقي النكاح إلى رقت التفريق فهما مجتمعان» (٣).

قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، الآية / ١٢.

أي بإخوانهم خيرا ، وفيه دليل على أنه لا يحكم بالظن في مثل ذلك ، وأن من عرف بطريقة الصلاح لا يعدل عن هذا الظن فيه الخبر محتمل.

قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، الآية / ١٣ :

دليل على أن الأربع حد في هذا الباب ، لا يجوز أن ينقضي منه شيء.

ودليل على أن القاذف مكذب شرعا ، إذا لم يأت بأربعة شهداء ، فإن كان في أمر عائشة يقطع بتكذيبهم في الغيب ، وقال علماؤنا : من صدق قذفه عائشة فهو كافر ، لأنه راد لخير الله تعالى الدال على كذبهم.

وعلى هذا قال أصحابنا فيمن وجد رجلا مع امرأة فاعترفا بالنكاح ، أنه لا يجب تكذيبهما ، بل يجب تصديقهما.

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج ٥ ص ١٣٦ ـ ١٣٩.

(٢) أخرجه أبو داود في سننه.

(٣) أخرجه الامام البخاري في صحيحه.

٣٠٨

وقال مالك : إنهما يحدان ما لم يقيما بينة على النكاح ، وهذا يخالف ظاهر هذه الآية ، وعلى هذا بنى أبو حنيفة جواز بيع درهم ودينار بدرهمين ودينارين أنا تخالف بينهما تحسينا للظن بالمؤمنين.

وقال الشافعي قريبا من هذا فيمن وصى بطبل وله طبلان : طبل لهو ، وطبل حرب ، أنه يحمل على طبل الحرب تحسينا للظن بالمؤمنين ، وحمل أمورهم على ما يجوز.

إلا أن أبا حنيفة كدر صفو هذا المعنى بإيجاب الحد على المشهود عليه بشهادة شهود الزوايا ، بناء على بعد في إثبات الزنا ، وهذه الآيات إلى خاتمة الآيات في قوله :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) :

تدل على وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين ، ومحبة الخير والصلاح ، والزجر عن إشهار الفاحشة واستنباطها بدقائق الحيل والحكم بالظن والحسبان.

وعلى قريب منه يدل قوله عليه الصلاة والسلام : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (١).

وقال عليه الصلاة والسلام : «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله» (٢).

«ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه» .. رواه ابن عمر.

وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال :

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم ، وأبو داود والنسائي.

(٢) أخرجه الامام أحمد وأبو داود ، والطبراني في المعجم الكبير.

٣٠٩

«لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» (١).

قوله تعال : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) ، الآية / ٢٢.

نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر ، فإنه حلف أن لا ينفق على مسطح الذي تكلم في إفك عائشة (٢) ، وذلك يدل على أن الأولى بالإنسان إذا حلف على أمر فرأى غيره خيرا منه ، أن يحنث ولا يستمر على اليمين.

وفيه دليل على بطلان قول أبي حنيفة في أن الأيمان تحرم ، وإن الكفارة وجبت لكون المحلوف عليه محرما بحكم يمينه ، وهذا أمر ليس في هذا المعنى ، وقد قال قوم : إذا حنث فلا كفارة ، وكفارته أن يفعل ما هو خير ، وهذا بعيد ، فإن صحيح الخبر يخالفه ، فإن عليه السلام قال : «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».

قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، الآية / ٢٧.

نقل عن ابن عباس أنه قال : قوله : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) غلط من الكاتب.

ولا ينبغي أن يصح هذا عنه (٣) ، فإن القرآن ثبت جميعه بحروفه

__________________

(١) أخرجه الامام أحمد ، والبخاري ومسلم والنسائي ، وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه.

(٢) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري ، وتفسير ابن كثير ، والفخر الرازي وبقية كتب التفسير المعتمدة مثل الطبري ، والدر المنثور للحافظ للسيوطي وقد توسع في شرح هذه الآية صاحب محاسن التأويل ج ١٢ ص ٤٤٧٠ ص ٤٤٨٢.

(٣) أي لا يصح أن يكون ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٣١٠

وكلماته بطريق اليقين ، ولا يجوز أن يضيع منه شيء بأمثال هذه الأسباب فإن الله تعالى ضمن حفظه.

إذا ثبت ذلك ، قال أبو أيوب الأنصاري ، قلنا : يا رسول الله ، عرفنا السلام في الاستئناس.

قال : يتكلم الرجل بتسبيح أو تكبير ويتنحنح ، يؤذن به أهل البيت.

وفي قراءة ابن مسعود : حتى تستأذنوا.

وقال ابن عباس : تستأذن على أمك وعلى أختك ، وكل من لا يجوز أن ترى منها عورة.

وما نرى الأمر في السلام يبلغ مبلغ الوجوب ، إلا أن الاستئذان لا بد منه ، وهذا الاستئذان ليس له حد عرفا ، ولكن ورد في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث ، فإن أذنوا وإلا فارجع.

رواه أبو موسى وأبو سعيد عن رسول الله ، وفيه قصة مع عمر ذكرناها في أصول الفقه.

قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، الآية / ٢٨.

معناه أنه ليس يجوز أن يقول ليس فيها أحد يمنع ، فالدخول مباح ، بل الحظر أصل ، إلى أن يرد الإذن ، لأنه تصرف في ملك الغير.

وقوله : (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، أي حتى تجدوا من يأذن لكم ، وإن كان الآذن صبيا أو رسولا فيجوز الدخول.

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، الآية / ٣٠.

فلم يذكر تعالى ما يغض البصر منه ويحفظ الفرج ، غير أن ذلك معلوم بالعادة ، أن المراد به المحرم غير المحل :

٣١١

فإن قيل : فهذا الخطاب خاصة للمؤمنين ، أو يدخل معهم سائر المكلفين؟

فالجواب أن ظاهره للمؤمنين ، ولكن المراد به كل الناس ، من حيث علم أن ما يحل من ذلك وما يحرم لا تختلف أحوالهم فيه ، وغض البصر قد يجب على كل حال في أمور ، وقد يجب في حال دون حال في غيرها ، فما ثبت أنه عورة ، فغض البصر عنه واجب ، وما ليس بعورة ، فيجب أيضا كذلك ، إلا لغرض صحيح ، فإنه يباح عند ذلك (١).

قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها). الآية / ٣١.

يعني إلا ما لا بد من النظر إليه ، مثل ما يظهر من الثياب والدملج والخلخال والخاتم ، والذي يتعلق بالمناظر ، وما يباح منها وما لا يباح منها ، يستقصى في كتب الفقه.

والمراد بما ملكت أيمانكم على المذهب الصحيح الأطفال. فأما الرجال فلا ، إلا أن يكون محرما ، والظاهر يقتضي خلاف ذلك ، ولكن قياس الشرع يأبى مقتضى ذلك الظاهر.

وقيل المراد بقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) الإماء. حتى لا يتوهم متوهم أنهن لسن من نسائهن في قوله تعالى : (أَوْ نِسائِهِنَّ) :

واختلفوا في قوله : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) ، فقال قوم : هو العنين ، وقال آخرون : هو الأبله ، وقال آخرون : هو الأحمق الذي لا إرب له.

__________________

(١) أنظر تفصيل القول في الفخر الرازي تفسير سورة النور آية ٣٠ وتفسير القاسمي ج ١٢ ص ٤٥٠٤ وما بعدها.

٣١٢

قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) ، الآية / ٣٢.

ظاهره الأمر من الله تعالى بالنكاح الأيامى (١).

واختلفوا في ذلك ، فمنهم من قال : المأمورون هم الأولياء ، وهو مذهب الشافعي.

وفيه دليل على عدم استقلالهم.

ومنهم من قال : كل أحد إذا كان وليا أو مأذونا له.

والمقصود أنه إذا حصلت الرغبة منها وجب الإنكاح ، وأنه لا يجوز العضل والمنع ، وذلك يقتضي الاختصاص بالأولياء والحاكم ، فإن هؤلاء الذين يجب عليهم التزويج دون الأجانب.

واستدل أصحاب الشافعي بما تعقبه من قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ، وأن ذلك لما دل على سبب ولايتها ، فكذلك في حق غيرها ، وهذا تلقي الظاهر من اقتران المسلمين ذكرا ، وذلك يدل على تساويهما حكما من وجه آخر ، وهو أن الإنكاح قد يجب في حق الأيم والبكر البالغة ، إذا طلب ، وليس يجب في حق العبد والأمة.

فليس قوله : (وَأَنْكِحُوا) ، مما يمكن إجراؤه في الجميع على حد واحد ، لأن منه ما يجب ومنه ما لا يجب ، وهذا مما لا خفاء به ، فاعلمه.

قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، الآية / ٣٣.

أمرهم بالتعفف ـ عند تعذر النكاح ـ عما حرمه الله تعالى ، وذلك على الوجوب.

__________________

(١) الأيامى : جمع أيم ، وهو من لا زوجة له ، أو لا زوج لها.

٣١٣

وفيه دليل على أن إباحة الاستمتاع موقوفة على النكاح. ولذلك يحرم ما عداه ، ولا يفهم منه التحريم بملك اليمين ، لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الحارية غالبا.

وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة ، ودليل على تحريم الاستمناء (١).

قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) :

روي عن عطاء أنه قال : ما أراه إلا واجبا ، وهو قول عمرو بن دينار.

واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف ، وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له ، ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه ، لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول ، وتقتضي الأصول بطلانها ، فيشبه أن يكون قوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ، رخصة في الكتابة رفعا للحرج المتوهم ، مثل قوله تعالى :

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(٢).

ومثل قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ)(٣).

وكل ذلك رفع للحرج.

وكذلك ، إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة ، إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة ، فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب.

__________________

(١) الاستمناء بالكف ، وقد ذكر ذلك القرطبي في تفسيره والفخر الرازي وصاحب محاسن التأويل في تفسير سورة المؤمنون.

(٢) سورة المائدة آية ٢.

(٣) سورة الجمعة آية ١٠.

٣١٤

ولأن تعليقها بابتغاء العبد مما يدل على أنها غير واجبة ، ولو وجبت لوجبت حقا للشرع ، غير متعلقة بابتغاء العبد.

والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب عطاء يقول : إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى (١) ، والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى ، بعد أن كان كثيرا من أوقاته لغير حق الله عز وجل.

وإذا ثبت أن الأمر كذلك ، فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعا بلفظ الوجوب.

فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية ، فمن أين مبعث الوجوب؟

نعم في قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، و (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا). كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع ، وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية ، فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى ، حتى جعل له في الزكاة قسط ، ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية ، وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقا بالعبد ، فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب ، فما الذي منع من وجوبه؟

يبقى أن يقال : ولو كان واجبا لما توقف على ابتغاء العبد.

قالوا : إذا لم يتمكن العبد ، فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له ، وإن كان العبد قادرا على الاكتساب ، فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة ، فبنى الشرع على الغالب ، ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص في تفسير سورة النور

٣١٥

لدخولها في محاسن الأخلاق ، وتحقيقا لمقصود النظافة والوضاءة وإحياء لمراسم العبادة ، وعلم الشرع أن إيجابها عند تغيير الأكوان يجر حرجا ، فوضع مراسم تفي بالمقصود .. كذلك هاهنا.

وهذا الذي ذكروه لا وجه له ، فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول ، ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها ، وهو العتق ، كالطهارة لما وجبت وجبت للصلاة ، والعتق لا يجب بالإجماع. ولا يتحتم بالاتفاق.

وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان. فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة ، فليس يتجدد له بالكتابة حق (١).

وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له ، فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب.

ثم قال تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، الآية / ٣٣.

قال الشافعي : ثم أمر من يكاتب بالإيتاء ، ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء ، ولا يمكن حمله على الزكاة ، فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعا.

ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط ، لأنه ليس بإيتاء للمال ، وإنما يدل عليه من حيث المعنى ، لأن قوله : (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ). لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة ، وصار مالا مستحقا للسيد ، فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه.

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص وتفسير القرطبي.

٣١٦

وقال إسماعيل بن إسحاق في الرد على الشافعي : كيف تكون الكتابة ندبا والإيتاء واجبا؟ وإذا تبرع به لزمه أحكامه وتوابعه والقضايا المتعلقة به؟ ومعلوم أن النكاح غير واجب ، وإذا نكح وجب فيه أحكام لها ، وإذا طلق فلها المتعة واجبة على الزوج.

ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة ، ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة ، وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق ، وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل ، وإلى ما يضاف إلى الآدمي ، وإن كان الكل حقا لله تعالى.

والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى ، ولغرض الحرية ، حسن أن يقال : مال الله تعالى ، لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه.

وربما قالوا : إن السيد لا يستحق على المكاتب مالا ، حتى يصح أن يقال في الحط ، إنه مال آتاه السيد ، إنما كان مستحقا له ، فأما ما ليس مستحقا له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه ، فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقا عليه ، فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالا ، وما آتاه شيئا ملكه ، ولا شيئا استحقه.

ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك ، إذا كان المال ينساق إليه ، فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه.

وبالجملة ، قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة ، وقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) ، حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون ، مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز ، فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز ، فإن كان كذلك ، فلا يظهر مذهب الشافعي من حيث التعلق بالظاهر ، ويتجه للشافعي أن يقول : إيتاء المكاتب

٣١٧

الصدقات فهم من قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) ، فهذا لا بد أن يكون له فائدة زائدة ، تشهد له أن ما آتاه الواحد منا ، يجب أن يكون على وجه إذا حصل عند المعطى يتصرف فيه ، ولم يحصل للسيد عليه بدلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه ، ولو كان الإيتاء واجبا ، لكان وجوبه متعلقا بالعبد ، ويكون العبد هو الموجب وهو المسقط وذلك مستحيل ، لأنه إذا كان العبد يوجبه وهو بعينه يسقطه ، استحال وجوبه ، لتنافي الإيجاب والإسقاط (١).

وبالجملة ، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط ، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء ، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة ، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات (٢).

واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية ، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة ، فحل ذلك محل الصلاة والصيام.

ثم اختلفوا بعد ذلك ، فمنهم من قال : يعقل من ظاهرها التأجيل : إذا لم يكن شرطا فيها لم تكن كتابة.

وقال بعضهم : بل لا يعقل ذلك من الظاهر ، وهذا أظهر ، فإن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه ، كما قد يكتب وهناك تأجيل ، فالظاهر لا يدل على ذلك ، وقول من يقول إنها تجوز حالة ، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجمة موقوف على الدليل ، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.

__________________

(١) أنظر أحكام القرآن للجصاص ، وتفسير القرطبي.

(٢) وكتاب المصنف في الروايات ، هو من الكتب الهامة جدا في فن الفقه والحديث قام بتأليفه مصنف هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن.

٣١٨

واختلفوا في صورة الكتابة ، فقال بعضهم : يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالآداء في وقته.

وقال بعضهم : بل لا بد أن يقول : فإذا أديته إلي فأنت حر ، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة ، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح ، فتحريره له تعلق بصفة تصح ، فلا بد من ضم ذلك إليه.

ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة ، لأنا لو خلينا العقل ، لكان يبطل ، لأنه أزال ملكه بملكه ، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى ، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص ، لم يبلغ حد الملك ، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.

وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.

قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ، الآية / ٣٣.

روي عن جابر في سبب نزول الآية ، أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا (١).

والعبرة بمطلق اللفظ ، فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا ، وعلى تحريم أخذ البدل ، وهو المراد بنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن مهر البغي ، وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها ، لأنه مفعول فيها ، فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه ، ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها ، فإن الله تعالى قال : (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، الآية / ٣٣.

__________________

(١) كما ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول ، والسيوطي أيضا ، والطبري في تفسيره.

٣١٩

فإن قيل : فإذا لم يكن عليها إثم لمكان الإكراه ، فما الذي يغفر؟ فجوابها أن يقول :

لما كان لو لا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك ، زال الإثم لمكان الإكراه ، وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه ، ولذلك ألحقه بباب ما يغفر ، وهذا كما قال الله سبحانه في تناول الميتة بلا إثم للمضطر : (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) :

إنما ذكر تصوير الإكراه ، لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها ، فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه.

قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ، الآية / ٤٨.

فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم ، وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه ، وعلى الحاكم أن يعد به عليه.

قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) ، الآية / ٥٨.

قال المفسرون : هذا في الإماء ، فأما في العبيد فلا ، لأنه ذكر بلفظ مذكر ، بناء على لفظ المماليك المتناول للرجال والنساء ، ولو حملناه على العبد البالغ ، استوى في وجوب الاستئذان هذه الأوقات وغيرها ، من حيث يحرم عليه أن ينظر إلى عورة سيده وبدن سيدته ، ولو حمل على ما دون البلوغ ، حصلت فائدته في قوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) ، إلا أنه يقال بين اتفاق حال الفريقين في ذلك ، ودل على صحة ذلك بقوله :

٣٢٠