أحكام القرآن - ج ٣-٤

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ٣-٤

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها ، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة :

«أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض» (١).

وإن الذي تجعله الجاهلية ، من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ، ليس يتغيرن ما وضعه الله تعالى.

والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا ، ليس على ما توهموه ، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهرا ، فهذا وجه.

ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله ، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسما ، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر ، قسما منها ، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوما وربع يوم ، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر ، وقسم الأزمنة أيضا على سير القمر ، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة وعشرين يوما ونصف ، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم ، واختلفت سنة الشمس والقمر ، مع اتفاق أعداد شهورها ، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوما بالتقريب ، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين ، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم ، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق ، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع ، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن معمر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله.

٢٠١

أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفا وخريفا وربيعا ، فاقتضاهم ذلك أوضاعا مختلفة. فوضعت الروم اثني عشر شهرا ، بعضها ثمانية وعشرون ، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف ، وبعضها أحد وثلاثون ، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهرا واحدا ، وهو أباز ماه ، فإنه خمسة وثلاثون ، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا ، فتصير السنة ثلاثة عشر شهرا ، فأما أشهر العرب ، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون ، وأبطل الله تعالى كبسه الفرس ، وجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة ، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام ، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها ، لأنها تارة تكون في الصيف ، وتارة تكون في الشتاء ، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة ، وفي التغليظ أخرى ، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) ، الآية / ٣٧.

هو متعلق بما تقدم ، وهو أن العرب كانت تجعل المحرم صفر وصفر المحرم في بعض السنين ، على ما كانت تقضيه الكبسة التي كانت لهم. وأول من وضع ذلك من العرب ملك لهم يقال له القلمّس (١) ، واسمه حذيفة ، وهو أول من أنسأ النسيء ، أنسأ المحرم ، فكان يحله عاما ويحرمه عاما ، فكان إذا حرمه كان ثلاثا حرما متواليات ، وهي التي يقال ثلاثة سرد ، وهي العدة التي حرم الله تعالى في عهد ابراهيم ، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطئ العدة ، يقول قد أكملت الأربعة كما كانت ، لأني لم أحل شهرا إلا وقد حرمت مكانه شهرا ، لكنه ليس مسرورا ،

__________________

(١) القلمس بقاف فلام مفتوحتين ، ثم ميم مشددة قال في القاموس وشرحه : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معد في الجاهلية.

٢٠٢

فحج النبي صلّى الله عليه وسلم ، وقد عاد المحرم إلى ما كان في الأصل ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) ، فأخبر الله تعالى أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر ، وأن الأشهر الحرم الثلاثة لا بد أن تكون متوالية ، وأن صفر لا يقام مقامها ، فهذا معنى هذه الآية.

وقال قائلون في معنى هذه الآية إن روما من بني كنانة وغيرها ، كانوا يؤخرون الحج عن وقته في كل سنة شهرا ، فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة ، وفي السنة الثانية في صفر ، فبين الله تعالى أن هذا الصنيع كفر.

قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ، الآية / ٤١.

وقوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ، الآية / ٣٨.

اختلفوا في عمومه ، فمنهم من قال : إنه أراد به كل المؤمنين.

وعند أبي علي الجبائي الآية مخصوصة.

واختلف العلماء في وجوب هذا التغير :

فمنهم من قال : المراد به وجوب النفور إلى الرسول إذا دعا إلى الجهاد وأمر به ، وهو الأصح.

ومنهم من قال : إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.

وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء ، فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين ، فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء ، وإذا ثبت ذلك ، فالاستدعاء والاستبقاء يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل ، إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد ، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه ، وله ولاية التعيين ، ويصير بعينه فرضا على من عينه لا لمكان

٢٠٣

الجهاد ، ولكن طاعة الامام واجبة ، وإذا لم يكن كذلك وكان من أهل الثغور كفاية ، فالذي قاله أصحابنا أنه يجب على الامام أن يفرق في الجهات الأربعة قوما في كل سنة ، يظهر لهم النكاية في العدو ، ويمنعهم ذلك من انتهاز فرصة الاحتشاد والاستعداد ، وإذا حصلت الكفاية لقوم ، سقط عن الباقين ، فليس الجهاد على هذا الرأي فرضا على كل واحد ، وإنما هو فرض كفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، الآية / ٤٠.

يستدل به على إضافة الفعل إلى غير فاعله ، إذا كان منه تسبب ، فإنه تعالى قال : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وما أخرجوه حقيقة بل أخافوه حتى اضطر إلى أن يخرج ، وكان الصديق معه ، فتارة كان يمشي بين يديه ، وتارة يمشي خلفه ، وقال يا رسول الله : إذا ذكرت الرصد مشيت بين يديك ، وإذا ذكرت الطلب مشيت خلفك.

وظن جهال الإمامية أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر : «لا تحزن» ، يدل على جهل منه ونقيصة ، وذلك يوجب مثله في قوله تعالى لموسى :

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ)(١).

وقوله في قصة إبراهيم :

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ)(٢).

__________________

(١) سورة طه آية ٦٧ ـ ٦٨.

(٢) سورة هود آية ٧٠.

٢٠٤

فإذا لم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص ، فكذلك في أبي بكر ، وليس حزنه من جهة الشدة والحيرة ، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإليه ، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوما من القوم محروسا منهم ، حتى قال له الرسول لا تحزن ، فسكن إلى ذلك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(١) ، نزل بعد الهجرة بسنين ، فلا يوجب كون أبي بكر عالما بعصمته ، ولو علم أنه يسلم منهم بنفسه لم يأمن مضرة بجراحة أو غيرها ، وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ، الآية / ٦٠.

ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير.

وقال قوم : هما واحد ، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه ، وليس ذلك بصحيح.

وإذا ثبت ذلك ، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة ، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية ، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفا والفقير صنفا ، فيقال : يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقرا من الآخر ، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحدا.

ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة ، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين ، وترد في فقرائهم.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٦٧.

٢٠٥

والذي يمكن أن يفهم من الآية ، ومن السنة ، أن الله تعالى أطلق الصدقات ، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات ، وما تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب ، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر.

وقد حكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة ، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم ، وجعله حقا لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم.

ولذلك قال قوم من العلماء : إن الزكاة تصير شركة للفقراء ، وهو قول الشافعي.

وظاهر الآية يقتضي ذلك ، لأن قوله : إنما الصدقات للفقراء كالتمليك وإنما لم يجعله تمليكا حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين ، وكل حق جعل لموصوف ، فإنه لا يملكه إلا بالتسليم ، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات ، حتى لا يحرم صنف منهم.

واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف : فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم ، ثم الاختيار إلى من يقسم ، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين ، كالحسن وابراهيم وغيرهما ، حتى ادعى مالك الإجماع في ذلك.

وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر : يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم ، فيصرف نصيبه إلى الباقين (١).

فمن هذا الوجه ، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها ، وفارق الوصية إلى أقوام ، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين.

__________________

(١) أنظر كتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي وللجصاص.

٢٠٦

ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات ، يجوز أن يكون أعظم في القربة ، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له ، وإذا تعذر البعض ، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين.

فعلى هذا لا نقول : إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص ، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك ، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد.

وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز الغاؤه ، وهذا بين.

وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال :

إذا كان قدر الواجب نصف دينار ، وكان هو القاسم لذلك ، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم ، ولا يسد مسدا ، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف ، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة ، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهما ، وأحد السهام المكاتبون ، والمقصود إزالة الرق ، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق.

والذي ذكره جهالة تلزم عليه ، إذا أوصى الموصي بها للأصناف.

ولأنه ليس الأمر مقصورا عليه وحده ، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب ، وحصل مقصود الأصناف منه ومن غيره ، فلا معنى لهذا التشنيع.

ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها ، فإنه إنما يأخذ أجرته ، فلو وضع فيه تناقض ، فإنه يسعى للفقير ، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه ، فهذا آخر فصول هذه الآية.

الفصل الآخر في الفقراء والمساكين ، وقد ذكرهما الله تعالى باسمين ، فقال بعضهم :

٢٠٧

ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم. ومنهم من قال : ذكرهما باسمين لكونهما صنفين ، وهذا ما قدمناه.

ثم اختلفوا في معنى الفقير :

فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله :

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... إلى قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(١)

والمسكين الذي يسأل إذا احتاج ، ويمسك إذا استغنى ، ويتخاضع للمسألة ، وذلك هو اختيار الأصم.

ومنهم من قال : الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل ، ورووه عن ابن عباس ، وهو قريب مما قدمناه.

وقد قيل : الفقير هو الزمن الذي لا يقدر على التكسب ، والمسكين الصحيح.

وقد قيل : الفقير أشد حاجة ، فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر ، والمسكين دونه في الحاجة.

وقد وصف الله تعالى ملاك السفينة ، بأنهم مساكين يعملون في البحر وأنه مأخوذ من السكون.

وبالجملة : الفقر في ظاهره أدل على الحاجة من المسكنة ، لأن المسكين إنما يدل حاله على الحاجة من حيث المعنى ، وهو التخاضع الذي هو دليل الحاجة لا من حيث اللفظ ، والفقر عبارة عن الحاجة.

ومن جعلهما صنفا واحدا ، قال لا فقير إلا ويحسن أن يسمّى مسكينا.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٧٣

٢٠٨

وللفقراء مراتب لا تنحصر في مرتين أو ثلاثة أو أربعة ، والذي يعددها ينظر إلى العطف ومعناه ، وذلك يقتضي الفرق بينهما ، فيقال :

الفقير هو الشديد الحاجة مع التعفف ، والمسكين هو المظهر لحاجته بالمسألة.

ولعل من جعل الفقير هو الزمن ، فلأن الزمانة تقعد عن الطلب ، ومن جعل المسكين الصحيح فلتمكينه من الطلب.

واعلم أن مطلق الفقير ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة جواز الصرف إلى ذوي القربى من بني هاشم وغيرهم ، ولكن السنة وردت باعتبار شروط ، منها أن يكون من بني هاشم. وروي عن أبي يوسف (١) جواز صرف صدقة الهاشمي إلى الهاشمي.

ومن شرائطه ألا يكون كسوبا مقدار كفايته ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال :

«لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي» (٢).

والظاهر يقتضي جواز ذلك ، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.

ومن شرائطه : أن يكون ممن لا تلزم المتصدق نفقته ، ولكن هذا الوجه يحرم الزكاة للفقر لا للغرم أو غيره من الصفات.

واختلفوا فيما به يخرج عن كونه فقيرا ، فقال قوم : بألا يملك نصابا.

__________________

(١) وأبو يوسف هو صاحب الامام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنهما ، وهو القاضي الفقيه أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم صاحب كتاب لخراج المشهور.

(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده والزيلعي في نصب الراية.

٢٠٩

وقال قوم : إنه لا يتحدد ذلك ، ويختلف باختلاف أحوال الناس ، فمنهم من يكثر وجوه حرجه ، فيعد فقيرا مع ملك نصب كثيرة ، وربما احتاج في يوم إلى نصاب ، فهذا يعد فقيرا ، وهو أقرب إلى الظاهر ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.

واختلفوا في أنه هل يدفع له مقدار أم لا؟

فقال بعضهم : لا يجوز أن يدفع إليه أكثر مما يصير به غنيا.

وقال آخرون : يجوز ، وهو الأليق بالظاهر ، فإنه تعالى جوز وضع الصدقة في الفقير ولم يفصل.

واختلفوا في هل استحقاق الصدقات كلها بالفقير والحاجة فقط ، أو بذلك مع غيره.

فمنهم من قال بالوجه الأول ، وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف لاختلاف معنى الحاجة فيهم ، فأكد ذلك وبينه ، وإلا فالوجه الذي لأجله يجوز وضع الصدقة فيهم واحد ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام ، وردها في فقرائهم.

فبين أن الاستحقاق بهذا الوجه الواحد.

وأما العاملون ، فإنهم يأخذون من جهة الفقراء لا من جهة رب المال ، إلا أنه لا يدفع إليهم إلا أجرة سعيهم ، فهم كالوكلاء للفقراء ، ومنهم يأخذون هذا السهم. وكذلك الجواب عن المؤلفة ، حيث كانت ، لأنهم مع الغنى كانوا يأخذون لإعزاز الدين.

ومن قال بالقول الثاني قال : إن الغارم قد يأخذ مع الغنى ، وكذلك ابن السبيل ، وكذلك الغازي.

والأقرب إلى الظاهر هذا القول ، فإن الله تعالى ذكر هذه الأصناف ، فإن أراد المريد بالحاجة أنه لا بد منها في جميعهم على بعض الوجوه

٢١٠

فصحيح ، فإن العامل وإن كان غنيا ، ففي صرف أجرته إليه تقوية لأمر الصدقات ، فالحاجة إليهم ماسة ، وفي الصرف إلى المؤلفة قلوبهم تقوية الإسلام ، فالحاجة واقعة ، وكذلك الغارم بالديات ، تمس الحاجة إليه لتسكين الفائزة (١) ، وتطفية الفتنة.

وقد استدل قوم في نصرة قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة ، على أن ذكر العامل يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم ، وأنه لا يجوز أن يفرق بنفسه ، وهذا فيه نظر ، لأن ذكرهم يتضمّن أنهم إذا كانوا أعطوا نصيبهم ، فأما إذا لم يكونوا فلا ، وليس في الظاهر أنه لا بد منهم ، كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة.

فأما المؤلفة ، فقد قيل كان ذلك وزال.

وقد قيل : للإمام أن يتألف قوما إذا رأى في تأليفهم صلاحا للمسلمين ، لما فيه من دفع ضررهم أو الضرر بمكانهم ، فله أن يدفع إليهم سهم المؤلفة قلوبهم ، فإن الله تعالى لم يخص وقتا دون وقت.

وأما الرقاب ، فقد اختلف فيه.

فقال قائلون أراد به العتق ، وهو قول ابن عباس (٢) ، وكان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في عتق رقبة ، وهو قول الحسن.

وقال الأكثرون : المراد به المكاتبون ، وهو قول إبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم ، وعلل سعيد بن جبير وقال : لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء (٣).

__________________

(١) وفي نسخة أخرى : لتسكين النازلة.

(٢) أنظر تفسير الطبري ، وتفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور السيوطي ، وتفسير ابن كثير.

(٣) أنظر المصادر السابقة من كتب التفسير.

٢١١

وذكر علي بن موسى القمي أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد ، واختلفوا في عتق الرقاب ، وذكر هو وجوها بينة في منع ذلك.

منها : أن العتق إبطال ملك وليس بتمليك ، وما يدفعه إلى المكاتب تمليك ، ومن حق الصدقة ألا تجري إلا إذا جرى فيها التمليك ، وقوى ذلك بأنه لو دفع الزكاة عن الغارم في دينه من غير إذنه ، لم يجزه من حيث إنه لم يملك ، فلأن لا يجزى ذلك في العتق أولى.

وذكر أن في العتق جرّ الولاء إلى نفسه ، وذلك لا يحصل في دفعه إلى المكاتب.

وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملك ، وإن دفعه إلى السيد فقد ملكه الغنى ، وإن دفعه بعد الشراء والعتق ، فهو قاض دينا ، وذلك وذلك لا يجوز في الزكاة.

وأما حق الغارمين ، فقد قيل هو المستدين من غير سرف ولا وفاء في ماله بدينه ، وروى قريب من ذلك عن ابن عمر وعائشة ، وروى علي بن موسى القمي بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال :

أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة :

لذي فقر مدقع ، ولذي غرم مفظع ، ولذي دم (١) موجع ، وعلى هذا إذا تحمل مما له فيها مصلحة للمسلمين.

وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم في حديث قبيصة بن مخارق أنه قال :

تحملت حمالة فأتيته صلّى الله عليه وسلّم فسألته فقال : «يؤديها عنك إذا جاءت نعم الصدقة». ثم قال : «أما علمت أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة :

رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش.

__________________

(١) وهذا أخرجه أبو داود في سننه والطبراني في معجمه الكبير ، وابن حميد في مسنده.

٢١٢

ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجر من قومه ، فحلت له المسألة ، حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك».

فدل قوله من تحمل حمالة ، أن المسألة تحل له حتى يؤدي ثم يمسك ، على أنه غني ، لأنه لو كان فقيرا لم يلزمه أن يمسك ، بل كان يحل له أن يسأل لفقره.

وظاهر الغارم يتناول الغارمين كلهم.

وقوله : وفي سبيل الله : قد قيل ، إن المراد به الغازي وإن كان غنيا (١) وقيل : هذا يختص بالفقير.

ومنهم من يقول : إن كان مستغنيا بالفيء ولم يعط ، وإلا أعطى.

والظاهر أنه الغازي ، وأنه لا فرق بين أن يكون محتاجا أو معه من الفيء ما يحرم أخذ الصدقة ، لأنه يحتاج لعدة جهاده وتقوية قلبه ، إلى ما لا يحتاج إليه غيره ، فصرف الصدقة إليه جائز والحالة هذه.

وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :

«لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله».

وهذا موافق للظاهر.

وفي رواية : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل.

وابن السبيل يأخذ الزكاة مع غناه ، وقد قيل : هو مختص بمن يوجد مسافرا.

وقد قيل : يلحق به من يهم بسفر لا يضره تركه (٢).

__________________

(١) ذكر ذلك الطبري في تفسيره ، والسيوطي في الدر المنثور.

(٢) أنظر تفسير هذه الآية في محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.

٢١٣

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ، الآية / ٦٥ :

فيه دلالة على أن اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعبا ، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك.

ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر.

قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(١).

روى ابن مسعود أنه قال :

«جاهدهم بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم».

وقال ابن عباس : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان.

قوله تعالى :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) ، الآية / ٧٤ :

والذي قالوه من كلمة الكفر قول الخلامس بن سويد بن الصامت : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير.

وقول عبد الله بن أبي في قوله تعالى : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)(٢) ، وفيما قص الله تعالى علينا من نبأ المنافقين مع استيعابهم ، دليل على أن توبة الزنديق مقبولة إذا لم يظهر الكفر.

__________________

(١) سورة التوبة آية ٧٣.

(٢) سورة المنافقون آية ٨

٢١٤

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) ، الآية / ٧٥.

ذكر ابن عباس في سبب نزول هذه الآية ، أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام ، فحنف في مجالس الأنصار ، إن سلّم ذلك لأتصدق منه ، ولأصلن منه ، فلما سلم بخل بذلك ، وهذا نذر التبرر المتفق عليه.

وقيل نزل ذلك في شأن المنافقين الذين عاهدوا ثم أخلفوا.

واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا ، فعلي كذا لله تعالى ، أنه يلزمه.

وظاهر الآية لا يدل عليه ، لأنه ليس بنذر ، ولا قصد فعله ، ولا إنه مما يقال فيه : لئن آتانا من فضله.

وقد استدل به على أن من قال إن آتاني الله مالا تصدقت به وفعلت وصنعت.

قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ)(١) :

يحتمل أن يكون ذلك من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون بعض المعاصي داعيا إلى البعض ، فكأن البخل أعقب النفاق.

وأبان به إن بعض الأفعال قد تكون لطفا في بعض ، وبعضها فسادا في بعض.

وقد يدل ذلك على أن الذي عاهد لم يكن منافقا من قبل.

فأعقبهم نفاقا. ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو معنى قوله إلى يوم يلقونه (٢).

قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، الآية / ٨٠.

__________________

(١) سورة التوبة آية ٧٧.

(٢) انظر ما ذكره السيوطي في لباب النقول ، والبيهقي في الدلائل.

٢١٥

كلمة (أو) هاهنا ليست للتخيير ، لأن التخيير ، لا يصح مع قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وذكر السبعين كالمبالغة ، مثل قول القائل : لو سالتني مائة مرة ما أجبتك. ولا يكون المراد به التحديد ، وذلك معلوم من الفحوى.

ويدل عليه ، أنه علل بأنهم كفروا بالله ، والعلة قائمة بعد السبعين ، فظهر أن ذلك ليس بتخيير ، بل هو منع من الاستغفار.

وروي في بعض الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الآية : خيرني ربي ، والصحيح الأول.

قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) ، الآية / ٨٤.

وكان قد صلّى على عبد الله بن أبي ، بناء على الظاهر من لفظ إسلامه ، وأما لأنه لم يعرف نفاقهم ، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.

قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، الآية / ٩١.

يحتج به في إسقاط الضمان عن قاتل البهيمة الصائلة.

وقوله تعالى : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ، الآية / ١٠٠.

يدل على تفضل السابق إلى الخير على التالي ، لأنه داع إليه بسبقه ، والتالي تابع له ، فهو إمام له وله أجر مثله ، كما قال صلّى الله عليه وسلم :

«من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة» ، الحديث (١).

قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، الآية / ١٠٣ :

الأكثرون من المفسرين ، على أن المراد بالآية الصدقات الواجبة في

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن وائلة رضي الله عنه.

٢١٦

الأموال ، وليس في الآية بيان مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه ، وليس في الآية بيان شروط معتبرة في المأخوذ منه ، ولا معتبرة في المأخوذ ، ولا شروط في المؤدي ، ولا شروط في الآخذ:

قوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

يدل على أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيرا ، ودعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم طمأنينة لقلوبهم ، وعلما على أن الله تعالى غفر لهم ، فإنه لا يصلي على قوم إلا أن يؤذن له في ذلك ، ولا يؤذن له في ذلك إلا أن يكون مغفورا له.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية / ١٠٧.

يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات ، ولذلك قال : ـ (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ، وإن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة ، ولذلك قال : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) ، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهدمه.

قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ، الآية / ١٠٨.

وذلك يدل على فضيلة الطهارة.

ثم قال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) ، الآية / ١٠٩.

هو من المجاز المستحسن ، وذم اتخاذ المسجد للطعن على الإسلام والتفريق بينهم ، وبين أن هذا الصنيع يوجب انهيارهم في نار جهنم ، فعبر عن ذلك بقوله : (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ).

٢١٧

ثم أبان عن موتهم على الإصرار بقوله : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)(١).

ومن المجاز المستحسن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ، الآية / ١١١.

فجعل بذل أنفسهم في الجهاد وإنفاقهم في ذلك طلبا للثواب بيعا ، وجعل ما طلبوه ثمنا.

ولما كان تعالى هو المرغب في ذلك والداعي إليه ، وصف نفسه بأنه اشترى أنفسهم ، كما وصفوا بأنهم باعوا وابتاعوا ، وفي ذلك دلالة على عظم محل الجهاد ومنزلته.

ودل أن هذا التعبد كما ورد به القرآن ، فكذلك التوراة والإنجيل.

ودل به على أن الله تعالى لا يخلف الوعد ، ولذلك قال : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)؟ ويدخل في الوعد الوعيد.

ثم أبان تعالى ما يتعلق به تمام البشارة في معاهدة الله عز وجل فقال :

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ، فبين الله تعالى أنه لا بد في المؤمن المجاهد أن يكون على هذه الصفات ، وعند ذلك يكون مبشرا على ما قال في آخره :

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، الآية / ١١٢.

وانطوت الآية على سائر العبادات من توبة وعبادة ، وقيام بشكر ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر.

ثم أجمل ما يأتي على كل مكلف به ، وهو الحفظ لحدود الله تعالى ، فيدخل تحت ذلك اجتناب الكبائر كلها ، والقيام بالطاعات كلها (٢).

__________________

(١) سورة التوبة آية ١١٠

(٢) أنظر محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.

٢١٨

قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، الآية / ١١٣.

فأبان أنه لا يغفر لهم ، وحرم ذلك ، لأنه طلب مغفرة مأيوس منها سمعا.

وأبان أن استغفار إبراهيم لأبيه ، كان على توقع الإيمان منه إذا آمن ، فلما علم أنه لا يؤمن امتنع من الاستغفار.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، الآية / ١١٩.

فيه دلالة على التأمل في الأقوال ، وأن لا نتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه ، وبان صدقه ، فأما أن نأخذ تقليدا دون أن نعلم صدقه فلا وليس فيه دلالة على رد أخبار الآحاد والظنون ، فإنها لا تقبل عندنا إلا إذا دل الدليل القاطع على وجوب اتباعها والعمل بها عند ذلك الدليل ، الذي يوجب العلم به ، معلوم صدقه حقيقة ، فيكون الإتباع للصادق تحقيقا.

وقال تعالى في سورة البقرة :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)(١).

وهذه صفة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، المهاجرين والأنصار منهم ، ثم قال في هذه الآية : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٢).

فدل على وجوب إتباعهم والاقتداء بهم ، لإخباره أن من فعل ما ذكر

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٧٧.

(٢) سورة التوبة آية ١١٩.

٢١٩

في الآية فهم الذين صدقوا ، ولا يدل ذلك على وجوب اتباع إجماعهم ، إلا إذا بان بالدليل صدقهم فيه.

قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) ، الآية / ١٢٠.

بيّن في هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته ، إلا المعذورين ومن أرخص له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القعود.

وقال الله عز وجل : (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، الآية / ١٢٠.

أي لا يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه ، بل كان الواجب عليهم أن يوقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنفسهم ، وقد كان من المهاجرين والأنصار من يفدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ، ويبذل نفسه للقتل ، ليبقى بذلك رسول الله.

وقال تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) ، الآية / ١٢٠.

استدل به قوم على أن وطء ديارهم إذا جعل بمنزلة النيل من الكفار ، وأخذ أموالهم ، وإخراجهم من ديارهم ـ وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم ـ فهو بمنزلة نيل الغنيمة ، ولذلك قال علي : ما وطئ قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا.

قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، الآية / ١٢٢.

روي عن ابن عباس أنه نسخ بقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)

٢٢٠