أحكام القرآن - ج ٣-٤

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ٣-٤

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)(١).

فكان السكر من العنب ، مثل السكر من النخل ، ثم نسخ ذلك ، فإن سورة النحل مكية ، إلا آيات في آخرها.

وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)(٢).

فذمهما ولم يحرمهما على تأويل قوم ، وحرم بعد ذلك السكر عند إرادة الصلاة ، فاستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل والأعناب ، ثم قال بعد ذلك : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، فجاء التحريم في هذه الآية.

قال : وجاء في الأخبار أنه كان للخمر أحوال ثلاثة ، ووصفت الأحوال الثلاثة بهذه الآيات.

فلما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب موجبا نهيا عن الصلاة ، وكانت إحدى حالات الخمر كذلك ، كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية ، وكانت هي الحالة الثالثة من حالات الخمر.

وهذا الذي ذكره ليس فيه كثير دلالة ، وإنما غاية ما فيه أن السكر من الجميع سواء ، فليكن القليل من الجميع سواء.

فيقال له لأن المعنى في تحريم السكر ظاهر ، ولا معنى في تحريم القليل ، وإنما هو تعبد ، والتعبد مختص بما يسمى خمرا.

نعم قال تعالى في فحوى الآية :

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ)(٣).

__________________

(١) سورة النحل آية ٦٧.

(٢) سورة البقرة آية ٢١٩.

(٣) سورة المائدة آية ٩١.

١٠١

فهذا إشارة إلى سبب التحريم ، وأنه كان إرادة قطع الشيطان ، إنما يريد حالة ابتداء الشرب والاحتواء على قدح الخمر ، ولا يريد ذلك حالة وقوع السكر ، فبالسكر تقع العداوة والبغضاء ، وبه وصل الشيطان إلى مراده ، لا بالسكر بل قبل السكر.

فإن قلت : إن الشيطان يريد أن يشرب ليدعوه الشرب إلى السكر ، فليس في ذلك دليل على أن ذلك يجب أن يكون محرما.

مع أن الذي به تقع العداوة غير نفس الشرب. وحرم الميسر أيضا لأن الرجل منهم كان يقامر في ماله وأهله فيقمر ، فيبقى حزينا سليبا ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ، مثل ما يوجب ذلك السكر من الخمر من العربدة والعداوة ، وهذا موجود فيما يوجب السكر منه.

فأما القليل من الخمر ، فليست هذه العلّة موجودة فيه ، فهو محرم لعينه عند أبي حنيفة ، ومحرم عند الشافعي ، لأن قليلها يدعو إلى الكثير ، وهذا المعنى وما يرد عليه من الاعتراض شرحناه في مسائل الفقه وأصول الفقه (١).

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية : ٩٣.

قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.

لما حرمت الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر فقالوا :

__________________

(١) أنظر الجامع لأحكام القرآن ، في شرح آية الخمر هذه.

١٠٢

كيف من مات منا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وروي عن علي رضي الله عنه ، أن قوما شربوا بالشام وقالوا : هي لنا حلال ، وأولوا هذه الآية ، فأجمع عمرو على أنهم يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) الآية : ٩٤.

اختلف في موضع من هاهنا فقال قائلون : إنها للتبعيض ، أن يكون صيد البر دون صيد البحر ، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.

وقيل إنها للتمييز ، مثل قوله تعالى :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٢).

وقولك باب من حديد ، وثوب من قطن.

قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الآية : ٩٥.

يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

ويحتمل دخول الحرم ، يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم ، كما يقال أبحر إذا أتى بحرا ، وأعرق إذا أتى العراق ، واتهم إذا أتى تهامة ، والثالث الدخول في الشهر الحرام ، كما قال الشاعر : قتل الخليفة محرما.

والوجه الثالث على خلاف الإجماع ، فلا يكون مرادا بالآية ، فبقي الوجهان الأولان.

إذا تبين ذلك فقد قال تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ج ١٠ ص ٥٧٨ ، والقرطبي ج ٦ ص ٢٩٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٣٢١ ، والنسائي في سننه ج ٨ ص ٢٨٧ ، والبخاري في صحيحه ، والامام أحمد في مسنده.

(٢) سورة الحج آية ٣٠.

١٠٣

فدل مطلق الصيد على تحريم اصطياد كل ما يصطاد من بري أو بحري ، لو لا ما استثناه من البحري.

ولما قال لا تقتلوا ، أمكن أن يكون تنبيها على أن ذبيحة المحرم ميتة ، لأن الله تعالى سماها قتلا ، والمقتول لا يؤكل ، وإنما المأكول هو الذي يذبح.

ويحتمل أن يقال : إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد ، فهذا إن كان فرقا ، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع ، وليس يظهر من عرف الشرع هذا ، فإن الله تعالى يقول : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وكان ذلك محرما ، ويقال ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.

نعم الذي يقطع منه الحلق واللبة ، يسمى في العرف والعادة مذبوحا سواء كان مباحا أو محرما ، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد ، يسمى مقتولا ، ويسمى ذلك الفعل قتلا ، قال الله تعالى :

(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)(١).

وكل ذلك محرم.

ومنه ما سمي مذبوحا ، ومنه ما سماه موقوذا ، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم ، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي ، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلا ، فقال إذا قال : لله تعالى عليّ أن أذبح ولدي ، لزمه ذبح شاة.

وإذا قال : لله عليّ أن أقتل ، لا يلزمه شيء.

وإذا ثبت هذا ، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد ، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها ، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٣.

١٠٤

وذكر القعني عن مالك : ورد في الخبر : والكلب العقور ـ والكلب العقور هو الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم بجبلته ، مثل الأسد والنمر والذئب ، والكلب العقور ، وما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والهرة والثعلب ، فلا يقتلهن المحرم ، فإن قتل شيئا من ذلك فداه.

واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر ، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال :

«خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم :

الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور على اختلاف منهم ، وفي بعضها هن فواسق» (١) ، وروي عن أبي هريرة قال : الكلب العقور : الأسد (٢).

ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب ، فقال : أكلك كلب الله فأكله الأسد (٣).

وقيل إن الكلب العقور هو الذئب ، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده غير معتبر ، ولكنه إذا كان موصوفا به كفى ، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعا عن نفسه فلا ضمان.

واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه ، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي ، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه ،

__________________

(١) أخرجه الامام مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه ، وابن ماجة في سننه ، وأبو داود في سننه أيضا ، والبخاري في صحيحه.

(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده.

(٣) أخرجه الترمذي في الشمائل.

١٠٥

فهذا صحيح على ما هو قول مالك ، ويظهر الكلام فيه على أبي حنيفة ، وذكر الرازي فصولا في منع التعليل ، كرهنا ذكرها لسقاطتها ، ولكونها أقل مما يحتاج إلى ذكرها وتكلف الجواب عنها ، فاعلمه .. إلا أن الإشكال في السباع التي لا تعدو ولا تضرى.

واعلم أن ما لا يعدو منها ، فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي ، كالضبع والثعلب ، يبقى ذلك ما لا يسمى صيدا مثل الهرة الأهلية ، وهي غير داخلة في عموم الآية.

وبعد ، فإنه تعالى لما قال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) ، وقابله بصيد البر فقال : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ)(١) ، علم أنه إنما حرم للأكل ، فانصرف إلى ما يؤكل بحال ، ثم قال : ما دمتم حرما ، فمد التحريم إلى غاية ، والذي هو محرم لعينه ، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرما ، ويجعل في مقابلته صيد البر ، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.

قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً)(٢).

اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء ، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره الله في كتابه ، وهو قول طاوس وعطاء وسالم وداود ، والذين مالوا إلى موجب الجمهور ، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ ، لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد ، فخصص العمد بالذكر ، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه ، وإذا صح مجمل التخصيص

__________________

(١) سورة المائدة آية ٩٦.

(٢) سورة المائدة آية ٩٥.

١٠٦

ساغ قياس الخطأ على العمد ، والجامع بينهما أن بدل المتلف هو الجزاء ، وهو مقدر بمثل الفائت ، إما بقيمته من الدراهم أو الدنانير أو النعم ، وأبدال المتلفات ، يستوي العمد والخطأ كالديات وقيم المتلفات ، وغاية ما في النسيان أن يقدر عذرا ، والعذر لا يسقط الجزاء المتعلق بالجنابة ، الدليل عليه الحلق للأذى ، إلا أن هذ لا يستقيم على أصل الشافعي ، فإنه فرق في اللبس بين العمد والنسيان ، وكذلك في التطيب ، ولأن الصوم يبعد جعله بدلا من العين ، وقد أوجب الله تعالى الصيام فقال : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ، يدل على أنه جزاء على الفعل ، ومتى وجب جزاء على الفعل ، اختلف المتعمد والساهي ، لأن الساهي ليس يستحق ذلك ، ويبعد أن يكون الصيام في حق المخطئ على ما قاله الله تعالى في حق المتعمد : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ، إلا أن الشافعي يجوز إيجاب الصوم حقا لله تعالى بطريق البدل ، وقد عرف ذلك من أصله في وجوب الكفارة بقتل الآدمي.

والجملة ، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة ، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس ، والذي نحن فيه سبيله ، سبيل الكفارات عنده ، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد ، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل ، بخلاف صيد الحرم ، فإنه وجب بالجناية على الإحرام ، وجناية كل واحد منهم كاملة ، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلا ، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل ، كيف يجب على الخاطئ؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياسا ، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجوز (١) قياس قتل العمد عليه ، سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب ، مثل قتل الأب ابنه ، والسيد عبده ، فكيف أجازوا قياس

__________________

(١) في نسخة : لم يجز

١٠٧

الخاطئ على العامد هاهنا ، وقد قال تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ، ولا يمكن ذلك في حالة النسيان ، وتكلف الرازي فروقا بينهما ، فقال : في العمد تولى الله بيان حكمه ، وفي الخطأ تولى الله بيان حكمه ، فلم يجز قياس منصوص على منصوص.

وهذا جهل مفرط ، فإن الله تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة ، وسكت عن ذكر الكفارة ، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليل على نفي المسكوت عنه ، فهلا كان ذكر العمد دليلا على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ ، بل أولى ، فإن قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ)(١) ، أبان اختصاص الجزاء بالعمد ، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطإ ، فإن قال ومن قتله منكم متعمدا ، وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ. فاعلم. وذكر فرقا آخر فقال : إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة ، ومتى أخلينا (٢) قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا ، وذلك بعيد ، وإبطال لحرمة الصيد.

فيقال : إن القصاص الواجب للآدمي ، لا يسد مسد الكفارة ، وقد يجب القصاص ، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده ، وقوله إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا ، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلا عن الصيد. وعنده أنه ما وجب بدلا ، وإنما وجب عقوبة على الفعل ، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء

__________________

(١) سورة النساء آية ٩٣.

(٢) في نسخة أخرى : أحللنا.

١٠٨

وهذا بين (١).

قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(٢) الآية :

اختلف في المراد بالمثل ، فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الخلقة ، ففي الظبية شاة ، وفي النعامة بدنة ، وهو مذهب الشافعي فيما له نظير من النعم ، وما لا نظير له كالعصافير وغيرها ، ففيه القيمة.

وأبو حنيفة وأبو يوسف يرون أن المثل هو القيمة ، ويشتري بالقيمة هديا ، وإن شاء طعاما ، وأعطى كل مسكين نصف صاع ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما.

وظاهر القرآن يشهد للشافعي ، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل ، المثل من حيث الخلقة ، يقال فيمن أتلف طعاما عليه المثل ، وفيمن أتلف عبدا فعليه القيمة ، فإن الطعام من حيث الخلقة ، ولا مثل للصيد من جنسه ، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه ، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد ، مثل إيجابنا البدنة في النعامة ، والكبش في الضبع ، وهذا لا يمنع كونه مثلا من حيث الخلقة. والمقصود ، بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة ، فاعلمه.

ونحن نقول إن المماثلة في القصاص مرعية ، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال ، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر ، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت ، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة.

فان قال قائل : القيمة مثل في المالية شرعا ، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم ، وأن ذلك يسمى مثلا ، نعم

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي.

(٢) سورة المائدة آية ٩٥.

١٠٩

القيمة مثل للشيء من حيث المعنى ، والذي في ذوات الأمثال مثل من طريق الصورة والمعنى ، أما البدنة في قتل النعامة فليست مثلا للنعامة لا صورة ولا معنى ، فإذا لم يكن كذلك فلا طريق أصلا إلى ما قلناه.

والجواب أن المعتبر في ذلك فهم معنى كتاب الله تعالى وتتبع دلالته ، فإذا قال تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، كان المثل من النعم ، والمثل من النعم لا يجوز أن يكون بطريق القيمة ، فإن العبد لا يكون مثلا للعبد في الإطلاق وإن ساواه في القيمة.

نعم ، إنا لا نطلق القول بالمماثلة بين الجنسين المختلفين ، ولكن إذا قيل : مثل ما قتل من النعم ، فلا يظهر منه إلا المماثلة بينهما من حيث الصورة ، ومن أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إيجاب البدنة في النعامة ، أفيتوهم متوهم أن قيمة النعامة بدنة في زمن الصحابة وفي زمن التابعين ، قيمتها في وقت من الأوقات ، وهل سمعنا أن قيمة النعامة كانت عند المسلمين قيمة بدنة ، قالوا القيمة معنية بهذا المثل فيما لا نظير له ، فواجب أن يفهم من اللفظ في الكبير من الصيد ما فهم من الصغير ، فإن اللفظ اشتمل عليها اشتمالا واحدا ، ومتى اعتبر النظير اختص اللفظ ببعض المسميات.

الجواب : أن الذي قالوه ، وتحكم ، فإن الآية نص في إيجاب المثل من النعم ، فإذا قال الله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، فمعناه بالمثل من النعم ، والجزاء من النعم بطريق المماثلة ، ولو اقتصر على قوله : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، أو فجزاؤه من النعم ، لم يمكن طرح النعم المذكور ، وجعل القيمة أصلا ، وكذلك هاهنا.

وعلى هذا لا دلالة للآية على صفات الصيود ، وإنما وجوب القيمة فيها متلقى من الإجماع.

١١٠

فإن قيل : سمى الله تعالى القيمة مثلا في قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(١).

قلنا : ليس المراد به القيمة ، وإنما المراد به القصاص والمماثلة فيه ، فإن وجوب ذلك موقوف على الاعتداء ، لا على القيمة التي تجب ، حيث يجوز له إتلاف مال الغير ، ويجب شرط الضمان ، فوصف الاعتداء في ضمان القيمة لغو من هذا الوجه ، وإنما المراد به القصاص ، وهذا بين جدا.

فإن قيل : قال الله تعالى :

(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٢).

ولو كان الواجب مثل ما ذكرتموه من البدنة في النعامة من غير اختلاف.

ومثل الكبش في الضبع ، فليس ذلك مما يحتاج فيه إلى الارتياء والنظر ومعرفة الشكل ، حتى يحتاج فيه إلى ذوي عدل ، وإنما يحتاج إلى ذوي العدل فيما يختلف ويتفاوت فيه النظر ويضطرب فيه الرأي ، ويدل عليه أنه ذكر الطعام والصيام وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم ، فلا بد أن يكون ترتيب الآية : فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو الصيام .. وتقديم ذكر النعم في التلاوة ، لا يوجد تقديمه في المعنى ، بل الكل كأنه مذكور معا ، فلا فرق على هذا بين هذا الترتيب الموجود من الآية ، وبين أن يقول : فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما ومن النعم هديا ، ونظيره ، فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، ولا يقتضي ذلك كون الطعام مقدما على الكسوة ، ولا

الكسوة مقدمة على العتق ، بل الكل كأنه مذكور في لفظ

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٩٤

(٢) سورة المائدة آية ٩٥.

١١١

واحد معا ، فكذلك قوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، موصول بقوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفاره طعام مساكين ، لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل.

الجواب أن الذي قالوه غلط ، فإن قوله : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، في اعتبار حال الصيد في صغره وكبره ، موجب في أدنى النعم بدنة على قدرها ، وفي الرفيعة على قدرها ، وذلك يقتضي حكم ذوي العدل ، وأما قولهم إن الله تعالى ذكر الطعام والصيام ، قيل لا جرم لا يحسن في الإطلاق أن يقول : فجزاء مثل ما قتل من الطعام أو الصيام أو الصلاة ، إن ورد الشرع بالصلاة ، فإن الصوم لا يكون مثلا للحيوان في الإطلاق ، وكذلك الطعام ، فيدل ذلك على أن قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يقتضي إيجاب المثل من النعم ، أو الطعام إذا لم يرد المثل ، أو عدل ذلك صياما ، فالمماثلة معتبره من جهة الخلقة والصورة في النعم ، ولا يتحقق ذلك في الطعام والصيام.

قالوا قوله : فجزاء مثل ما قتل ، كلام تام غير مفتقر إلى تضمينه بغيره ، وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم .. أو كفاره طعام مساكين ، يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل ، فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم ، مع استغناء الكلام عنه ، لأن كل كلام له حكمه ، غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه ، ولأن قوله من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة الحرم ، فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ، هديا إن أراد الهدي ، والطعام إن أراد الطعام ، فليس هو إذا تفسير للمثل ، كما أن الطعام والصيام ليسا المثل المذكور. والجواب أن قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل ، أن قدر الاقتصار عليه كان مجملا لا يكفي في البيان ، فإن المثل يقع على وجوه مختلفة.

١١٢

وقوله : من النعم ، بيان ذلك الإجمال لا محالة ، ولا يجوز أن يقال من النعم يحكم به ذوا عدل غير مرتب على ما تقدم ، وهذا معلوم ضرورة ، وإنما كان يستقيم ما ذكروه ، أن لو كان صدر الكلام مستقلا بالبيان وفيه شيء آخر ، وهو أنا لا نثبت المماثلة على الوجه الذي ذكروه وتوهموه ، وإنما نقول : يقوم الهدي ، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما ، فلا مماثلة مع الهدي بوجه ، وإنما المماثلة والمقابلة مع النعم ، ثم يقوم النعم ويشتري به طعاما ، لأن الله تعالى ذكر المماثلة مع النعم ، ولم يذكر المماثلة مع الصيد. نعم ، أبو حنيفة يقول : يقوم الصيد دراهم ، ثم يشترى بالدراهم طعاما ، فيطعم كل مسكين نصف صاع. فأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ، ثم يقوم المثل كما في المثليات يقوم المثل ، وتوجد قيمة المثل ، فستكون قيمة المثل كقيمة الشيء ، فإن المثل هو الأصل في الوجوب وهذا لا غبار عليه(١).

قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)(٢) ، استدل به قوم على أن العاق لا جزاء عليه ، وهو بعيد جدا عن أصول الشرع.

نعم معنى ذلك (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، بعد قوله عفا الله عما سلف ، يعني قبل التحريم.

قوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)(٣) ، احتج به الرازي لأبي حنيفة ، في أن المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه ، جزاؤه أن عليه

__________________

(١) أنظر الجامع لأحكام القرآن

(٢) سورة المائدة آية ٩٥.

(٣) سورة المائدة آية ٩٥.

١١٣

قيمة ما أكل ، يتصدق به ، لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره ، فلو أكل منه وأخذ مثله ، فلا يكون ذائقا وبال أمره ، وهذا قول بعيد ، فإن الصيد عنده ميتة ، فإذا أكل الميتة ، فمن أين يكون قد وصل إليه مال مثل ما خرج عن ملكه.

قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ).

استدل به الرازي على أن على كل واحد من الجماعة جزاء كامل ، فإنه تعالى قال : (وَمَنْ قَتَلَهُ) ، وكل واحد يسمى قاتلا ، ومثله قوله (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(١) ، فاقتضى ذلك إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين ، وهذا بعيد ، فإن كل واحد منهم ليس قاتلا حقيقة بل هم قتلة ، وهم كشخص واحد ، وهذا بيناه في مسائل أنفقه.

وقد قال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) ، وليس على كل واحد من المشتركين دية كاملة ، فاعلمه.

وقوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً)(٢) :

استدل به قوم على أنه يكره للمحرم أكل صيد اصطاده حلال ، والأكثرون من العلماء على إباحته ، وقد روى أبو الزبير عن جابر قال : عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

__________________

(١) سورة النساء آية ٩٢.

(٢) سورة المائدة آية ٩٦.

١١٤

وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

«لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصطادوه أو يصاد لكم» (١).

وفيه أخبار كثيره ، غير أن من حرم ذلك لعله تعلق بقوله تعالى :

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه ، لوقوع الإسم عليهما.

ومن أباحه ذهب إلى أن الحيوان إنما يسمى صيدا ما دام حيا ، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الإسم بعد الذبح إلا مجازا ، باعتبار استصحاب الإسم السابق.

وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة ، أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحشي وهو محرم فرده ، فرأى في وجهه الكراهة فقال : ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.

وخالفه مالك ، فرواه عن الزهري عن عبد بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة ، أنه أهدى إلى النبي عليه السلام بالأبواء أو بودان حمار وحش ، فرده عليه السلام عليه ، وقال إنا ما نرده عليك إلا أنا حرم.

وقال أبو إدريس لمالك : إن سفيان يقول رجل حمار وحش ، فقال : ذاك غلام ، ذاك غلام.

ورواه : ابن جريج عن الزهري باسناده كرواية مالك ، وقال فيه : إنه أهدى له حمار وحش.

ورواه معمر عن الزهري مثل رواية مالك ، وأنه أهدى له حمار وحش.

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر رضي الله عنه ، ووثقه الذهبي في التلخيص

١١٥

وروى الأعمش عن جندب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم ، فرده وقال : لو أنا حرم لقبلناه منك.

ويحتمل أنه صيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وعندنا ما صيد له فلا يأكل منه ، ويدل عليه ما رواه أبو معاوية عن ابن جريج عن خيار بن أبي الشعثاء عن أبيه قال : سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن محرم أتى بلحم أنأكل منه؟ فقال : اجتنبوا.

قال أبو معاوية : إن كان صيد قبل أن يحرم فيؤكل وإلا فلا وهو فيما صيد من أجله(١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(٢).

استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها ، وهذا منه غلط ، فإنه تفقه في الدين ، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء. تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك ، وربما أداهم إلى الكفر به دفعا للخجل ، مثل ما روي أن رجلا قام فقال: من أبي؟ فقال : حذافة ، بعد أن قال عليه الصلاة والسلام : لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم عن حقيقته ، وكان قد حذرهم السؤال ، وكان الأولى بهم أن يستتروا بستر الله تعالى(٣).

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ)(٤).

الآية : ١٠٣.

__________________

(١) أنظر تفسير الطبري.

(٢) سورة المائدة آية ١٠١.

(٣) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه.

(٤) البحيرة : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها.

ـ السائبة : هي الناقة كانت تسيب في الجاهلية أي تترك ولا تركب ولا يحمل عليها.

١١٦

يدل على تحريم قطع منافع الملك من غير نقل إلى غيره ، ومن أجله منع الشافعي تعطيل منافع الرهن على خلاف ما قاله أبو حنيفة ، ومن أجله منعت الكافر من شراء العبد المسلم في قول ، لأن الشراء إذا لم يفد مقصوده من الانقطاع كان نسبيا ، ولأجله أوجب العلماء بيع العبد المسلم وتحت الكافر.

قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ)(١).

ليس ينسخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد روي عن قيس ابن أبي حازم أنه قال : سمعت أبا بكر رضي الله عنه على المنبر يقول : «يا أيها الناس ، إنّي أراكم تؤولون هذه الآية : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) ، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول :

«إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه» (٢).

فأبان ألا رخصة في هذه الآية في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقال سعيد بن جبير : أراد به أهل الكتاب الذين يقرون بالجزية على كفرهم ولا يضرنا كفرهم ، لأنا أعطيناهم الذمة على أن نخلهم وما يعتقدون ، وما يعهدون لنا نقض عهد بإجبارهم على الإسلام ، فهذا هو الذي لا يضرنا الإمساك عنه.

ويحتمل أن يكون معنى الآية : إذا لم يمكنه الإنكار وخاف على نفسه إن أنكر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية : ١٠٦.

__________________

(١) سورة المائدة آية ١٠٥.

(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده.

١١٧

قال قائلون : المراد بالآية ظاهرها ، وهي الشهادة على الوصية في السفر ، وأجازوا بهذا شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر ، ورووا ذلك عن أبي موسى ، وهو قول أبي موسى وقول الأوزاعي ، وجعلوا هذا الحكم مخصوصا بالوصية عند حضور الموت ، لوقوع الضرورة إليه ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.

ويقوي ذلك أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها.

ومتضمن هذا القول ، أن يكون على الشاهد يمين ، وأن يتعين إمضاؤه الشهادة لمكان اليمين مع الارتياب ، وأنه إذا ظهر لوث من جهة الشهود ، صارت يمين الورثة معارضة لشهادة الشهود ، وأعظم منه أنه قال :

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ).

وقال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)(١).

وظاهر ذلك رجوع حكم اليمين إلى النوعين اللذين أثبت التخيير فيهما ، فيكون المسلم الشاهد محلفا على الشهادة على الوصية ، وذلك بعيد.

وإذا ثبت ذلك فلا بد من أحد نوعين :

إما التأويل وإما إثبات النسخ.

أما التأويل فغاية ما قيل فيه وجهان :

أحدهما ما روي عن الحسن ، أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره : إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ، فاستشهدوا ذوي عدل منكم ، يعني من العشيرة ، فإنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان ، أو آخران من غيركم ، يعني من غير قبيلتكم ، إن سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيحلفان

__________________

(١) سورة المائدة آية ١٠٦.

١١٨

بعد العصر ، فإن ظهر أنهما شهدا بالزور ، ردّ ما شهدا به على الورثة ، إذا حلف الآخران تجرح شهادة الأولين ، وهو معنى قوله :

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما)(١).

فقيل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، خطاب للمؤمنين ، فقوله تعالى : (مِنْكُمْ) أو (مِنْ غَيْرِكُمْ) ، ضمير يقتضي انصرافا إلى المذكور قبله ، لا للعشيرة. فكيف يجعل ضميرا عنها ولم يجد لها فيما تقدم ذكر ، وهذا بين. لأن اليمين لا يتوجه لا على الشاهد من القبيلة ولا من غيرها (٢).

والتأويل الثاني : ما نقل عن الشافعي ، فإنه قال :

نزلت الآية في مسلم حضره الموت وأوصى إلى نصرانيين ، وسلم المال إليهما ، والقصة مشهورة (٣) ، وذلك لا يجوز أن يكون بطريق الشهادة ، فإن الموصى إليه كيف يشهد على فعل نفسه ، وعلى أنه رد على جميع ما عنده ، ولم يكتم شيئا.

وقد يسمى اليمين شهادة في قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ)(٤).

فقيل لهم : اليمين لا يختص بالعدل.

فأجابوا بأنه ذكر العدل احتياطا في الوصية ، واتقاء لليمين الفاجرة ،

فقيل لهم : فما معنى قوله :

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ

__________________

(١) سورة المائدة آية ١٠٧.

(٢) في الأصل : ولا من غيره.

(٣) راجع تفسير القرطبي ج ٥ ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ، وتفسير الطبري ج ٧ ، وأحكام القرآن لابن العربي ، وأحكام القرآن للشافعي ، وأحكام القرآن للجصاص ، والدر المنثور للسيوطي.

(٤) سورة النور آية ٦.

١١٩

مَقامَهُما)(١).

فأجابوا بأن معنى ذلك ما ذكر في سبب النزول ، وهو أنه وجدوا جاما من فضة مخوصة بذهب عند رجل ، وكان الجام من جملة التركة ، فلما طولب الرجل به ذكر أنه اشتراه من تميم الداري (٢) وعدي بن ندا ، فلما روجعا في ذلك قالا : كان قد جعله الموصى لنا أو باعه منا.

وإذا كان كذلك ، حلف الوارث لا المدعي لملك الجام ، فهو معنى قوله :

(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا)(٣).

أي يحلفان أن الشيء لهما وما اعتديا ، وهذا مجمل ، فهذا وجه التأويل.

فأما النوع الآخر وهو دعوى النسخ ، والناسخ لا بد من بيانه على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراضي الناسخ ، وهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزلت وأن فيها : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)(٤) ، والكافر لا يجوز أن يكون مرضيا عند المسلمين.

وهذا لا يصلح أن يكون ناسخا عندنا ، فإنه في قصة غير قصة الوصية ، وأمكن تخصيص الوصية به لمكان الحاجة والضرورة ، لأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ، ويرتضيه عند الضرورة ، فليس فيما قاله ناسخ.

__________________

(١) سورة المائدة آية ١٠٧.

(٢) كما أخرجه الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول.

(٣) سورة المائدة آية ١٠٧.

(٤) سورة البقرة آية ٢٨٢.

١٢٠