أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

مع تحريم جميع الأفعال في الصيد. ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم.

فقيل لهم : فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيها على الإجزاء؟ ..

فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم ..

قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (١٧٣) ، ولا يرى ذلك أصحابنا محرما إلا من جهة الإعتقاد ، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب ، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل.

ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح ، وليس بصحيح ، فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح ، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح ، وذلك معلوم من اعتقاده ، وبه كفرناه ، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهرا بما يعتقده ، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الإعتقاد القبيح (١).

قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (١٧٣) يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل ، ويحتمل العدوان بالسفر ، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.

ويشهد لأحد القولين قوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(٢) ، فإنه عام.

ويشهد للقول الآخر قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٣) ...

__________________

(١) في نسخة المبيح.

(٢) سورة المائدة آية ١١٩.

(٣) سورة النساء آية ٢٩.

٤١

وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة ، بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا.

وليس تناول الميتة من رخص السفر ، أو متعلقا بالسفر ، بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا ، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا ، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء ، وهو الصحيح عندنا ..

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ)(١)(فِي الْقَتْلى) الآية : (١٧٨)

ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه ، وأن الخصوص بعده في قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) لا يمنع من التعلق بعموم أوله ، وهذا غلط منهم ، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول ، إذ قول القائل : «الحر بالحر والعبد بالعبد» لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول ، فإن الثاني ليس الأول ، وتقديره : كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا ، والعبد بالعبد قصاصا ، فوجب بناء الكلام عليه.

قالوا : أمكن أن يقال : كتب عليكم القصاص مطلقا ، وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لنفي قتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه السلام :

«إن من أعنى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : رجل قتل غير

__________________

(١) القصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به من قولك اقتص أثر فلان أذا فعل مثل فعله ، ومعنى كتب عليكم فرض عليكم ، وتمام الآية : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

٤٢

قاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل أخذ بذحول الجاهلية» (١) ..

والذي قالوه ممكن ، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه ، فتقديره : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وكيفيته (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) الآية ..

فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.

ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقا من الجانبين إلا في النفس.

وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص ..

وقال الليث بن سعد : إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس ، ولا يقتص من الحر بالعبد.

وقال : إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له ، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء ..

وقال قائلون من علماء السلف : يقتل السيد بعبده.

وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص .. ، ورووا عن سمرة بن جندب ، عن النبي عليه السلام أنه قال :

__________________

(١) الذحول جمع ذحل وهو الثأر روى أبو يعلى : أن من أشد الناس عتوا رجل قتل غير قاتله ، وروى الامام أحمد الحديث كما هنا بلفظ : أن أعدى الناس على الله ، وروى أهل السنن بعضه (سيرة ابن كثير ج ٣ ص ٥٨٠) ، راجع : مجمع بحار الأنوار ج ٢ / ٢٢٧.

٤٣

«من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه» (١).

والذي ينفيه يقول : إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص (٢) ، وولي العبد سيده ، فلا يستحق القصاص على نفسه ، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالا من العبد إليه ، فلا ملك للعبد ، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتا للمسلمين إرثا ، ولا يمكن ذلك في حق العبد.

ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.

وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا قتل عبده متعمدا ، فجلده النبي عليه السلام ، ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين. ولم يقده به» (٣).

ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه ، فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق ..

ولهم أن يقولوا : وخبركم حكاية حال ، فيحمل على أنه كان كافرا ، أو أباح العبد له دم نفسه ..

وقال الشافعي : يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف ، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي ،

__________________

(١) رواه ابن ماجة رقم ٢٦٦٣ وضعفه أبو بكر بن العربي في الأحكام ، ورد ذلك القرطبي فقال : هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح أخرجه النسائي وأبو داود.

(٢) حيث قال : «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا» سورة الإسراء آية ٣٣.

(٣) رواه ابن ماجة ولفظه : قتل رجل عبده عمدا متعمدا ، فجلده رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة ، ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين.

٤٤

إلا أن الليث بن سعد قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه بها ، وكأنه رأي أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص.

وقال عثمان البتي (١) : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وكذلك فيما دون النفس ، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء ..

وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات (٢) ولا مخصص ، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص ..

وقال عليه السلام : من قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية» (٣) ، ولم يذكر التخيير.

وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة ، فمنها قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) .. ومساق ذلك يدل على الإختصاص بالمسلم ، فإنه قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ، ولا يكون الكافر أخا للمسلم ، وقال : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

وأما قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)(٤). فلا حجة فيه ، فإنا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية.

وأما قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها)(٥). فإخبار عن شريعة

__________________

(١) هو عثمان بن مسلم البتي البصري الفقيه ، وثقه أحمد وغيره ، روى له الأربعة.

(٢) مثل : «كتب عليكم القصاص في القتلى» وغيرها ..

(٣) رواه البخاري ، كتاب الديات ، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، وأبو داود ، ورواه ابن ماجة رقم ٢٦٢٤.

(٤) سورة الإسراء آية ٣٣.

(٥) سورة المائدة آية ٤٥.

٤٥

من قبلنا فلا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد ، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية ، إلا أنه يضعف ..

وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلما بكافر ، وقال: «أنا آخر من وفى بذمته» (١) ، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ..

وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال : «ألا لا يقتل مؤمن بكافر» (٢) على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة ، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية ، فقال عليه السلام : «ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده» (٣) ، فكان ذلك تفسيرا لقوله عليه السلام : «كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين». لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وذكر أهل المغازي أن عقد الذمة على الجزية كان بعد فتح مكة ، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مدد ، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه ، وكان قوله يوم فتح مكة : «لا يقتل مؤمن بكافر» منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه ..

__________________

(١) أخرجه الدار قطني من طريق عمار بن مطر عن ابراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة عن ابن البيلماني عن ابن عمر ، راجع فتح الباري ج ١٥ ، ص ٢٨٧ وقوله : وروى البيلماني كذا في الأصل والصحيح ابن البيلماني.

(٢) البخاري بنحوه (باب كتابة العلم) ، وباب لا يقتل المسلم بالكافر من كتاب الديات ، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة رقم ٢٦٦٠ ولفظه : لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد بعهده ، وأبو داود باب أيقاد المسلم بالكافر؟

(٣) رواه أبو داود وابن ماجة وله طرق حسنة.

٤٦

ويدل عليه قوله عليه السلام : «ولا ذو عهد في عهده» ، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة ، ولذلك قال : «ولا ذو عهد في عهده» ، كما قال الله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ)(١) ، وقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)(٢).

وكان المشركون حينئذ ضربين :

أحدهما : أهل الحرب ، والآخر : أهل العهد ، ولم يكن هناك أهل ذمة ، فانصرف الكلام إلى الضربين (٣).

وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة .. (٤) وقال عثمان البتي : يقتل الوالد بولده ، للعمومات في القصاص ، وروى مثل ذلك عن مالك ، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن ، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول :

«لا يقتل والد بولده» (٥).

__________________

(١) سورة التوبة آية ٤.

(٢) سورة التوبة آية ٢.

(٣) قال ابن السمعاني : وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ ـ أي في قوله : «ولا يقتل مؤمن بكافر» ـ حتى يقوم دليل على التخصيص ، فتح الباري ، ج ١ ، ص ٢٨٦.

(٤) لأنه قرر حكما عاما بعد انتهاء مدة العهد ، ولم يكن مرتبطا بظروف خاصة كما كان القول عند فتح مكة.

(٥) قال ابن العربي حديث باطل ، وهو في سنن ابن ماجة رقم ٢٦٦١ ، ٢٦٦٢.

وقال الجصاص : هذا خبر مستفيض مشهور ، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه. ورواه أحمد والنسائي كما في زاد المعاد.

٤٧

وحكم به عمر بمحضر من الصحابة ، واشتهر بينهم ، فكان كقوله : «لا وصية لوارث» في الاشتهار ..

وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل الأول (١).

وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «لا يقاد الوالد بالولد» ..

ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)(٢). الآية ، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب ، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن ، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعا ، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركا ..

ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه ، وكان مشركا محاربا لله ورسوله ، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد ، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول ..

أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلما فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم ، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين ، فيجعل الكل كشخص واحد.

وإذا قدر ذلك تعظيما للقتل ، فإذا قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فالمخطئ في حكم آخذ جميع النفس ، فيثبت لجميعها حكم الخطأ ، وانتفى منها حكم العمد ، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع ،

__________________

(١) في الجصاص : عن عمر قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : لا يقاد الأب بابنه.

(٢) سورة العنكبوت آية ٨.

٤٨

وثبوت حكم العمد للجميع ، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.

ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود ، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد ، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع ، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش (١) لشيء منها ..

وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أبا فلا قصاص على الأجنبي ، فإن المحل متى كان واحدا وخرج فعل الأب عن كونه موجبا (٢) لأنه لم يصادف المحل ، صار أيضا الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.

وخروج الروح به شبهة في المحل ، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل ، وكل (٣) ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة ، ولا جائز أن يكون خطأ عمدا موجبا للمال والقود في حالة واحدة (٤) ، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها ، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود ، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.

وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما ، فلا قطع على واحد منهما ..

__________________

(١) الأرش : دية الجراحات.

(٢) أي للقود.

(٣) لعلها : وكان.

(٤) إذ نفس المقتول واحدة لا تتبعض ، ولا يجوز ان يكون بعضها متلفا وبعضها حيا ، لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة. أحكام القرآن ج ١ م ٤

٤٩

فإن قيل : فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه.

قيل : ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة ، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ ، وانتفى عنه حكم العمد المحض ، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجنى عليه ، واستحاله تبعضه ، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.

ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها ، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ ، لو لا ذلك لوجب جميع الدية ، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعا؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط ، ودل ذلك على (١) سقوط القود ، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ ، فلذلك توزعت الدية عليهم ..

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).

وقال تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٢) وقال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً)(٣) الآية .. ، وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر ، وهو أنه يتعين القود في العمد ، لأنه تعالى قال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين ، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول (٤) المطلق ، بل الواجب أحد الأمرين ..

__________________

(١) عند الجصاص : قسطه من الدية دل ذلك على.

(٢) سورة المائدة آية ٤٥.

(٣) سورة الإسراء آية ٣٣.

(٤) لعلها بالقتل.

٥٠

مثاله أنه إذا قيل لنا : ما الواجب بالحنث في اليمين؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام ، بل نقول : أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه.

فإذا لم يكن المال واجبا بالقتل وجب القود على الخصوم.

وروي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

«من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ ، ومن قتل عمدا فقود يده ، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(١)».

ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما ، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر ..

وعلى القول الآخر يحتج بقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) .. الآية ، وهذا يحتمل معاني :

أحدها : أن العفو ما سهل ، قال الله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ)(٢) يعني ما سهل من الأخلاق ، وقال صلّى الله عليه وسلم : «أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله» (٣) يعني تسهيل الله على عباده.

وقال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يعني الولي إذا أعطى شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان ،

__________________

(١) رواه ابن ماجة بنحوه رقم ٢٦٣٥ ، وأبو داود بنحوه باب القصاص من النفس.

(٢) سورة الأعراف آية ١٩٩ وأصل العفو في اللغة البذل.

(٣) رواه الترمذي والدار قطني والبيهقي في الخلافيات.

٥١

فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا تسهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال عند ذكر القصاص في سورة المائدة ، (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)(١) ، فندبه إلى العفو والصدقة ، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني ، لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي بالاتباع ، وأمر الجاني بالأداء بإحسان.

وهذا خلاف الظاهر من وجهين :

أحدهما : أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه.

والثاني : أن الضمير في «له» يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص ، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ، والولي لا ذكر له فيما تقدم حتى ينصرف الضمير إليه ، إلا أنه يستظهر بظاهر قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) وذلك يدل على أن القصاص هو المكتوب دون غيره ..

التأويل الثاني : ما قاله ابن عباس قال : كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية ، فقال الله تعالى لهذه الأمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ..

قال ابن عباس : فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : على هذا أن يتبع بالمعروف ، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان ، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فيما

__________________

(١) سورة المائدة آية ٤٥.

٥٢

كان كتب على من قبلكم ، (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، قال : ذاك بعد قبوله الدية ، فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية ، وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل ، تخفيفا من الله تعالى علينا ، ورحمة بنا.

ولو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال : فالعفو بأن يقبل الدية ، لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له غيره ، ولو لم يكن أراد ذلك لقال : إذا اختار الولي.

وكان المقصود بذلك أن الذي قاله الله تعالى أنه كتب لم يعن به أنه كتب على وجه لا يمكن إسقاطه برضا من كتب له مثل ما كان على بني إسرائيل ، بل يجوز إسقاطه ، فإذا جاز إسقاطه رغب في إسقاطه من جهة من عليه القصاص بالمال ، فهذان معنيان ..

المعنى الثالث للآية ما رواه سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال : كان بين حيّين من العرب قتال ، فقتل من هذا ومن هذا ، فقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل ، وبالرجل الرجلين ، وارتفعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : القتلى بواء ـ أي سواء ـ فاصطلحوا على الديات ، ففضل لأحد الحيين على الآخر ، فهو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) .. إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ..

قال سفيان بن حسين : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يعني فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان أن العفو ها هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ ، قال الله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى

٥٣

عَفَوْا)(١). يعني حتى كبروا فسمنوا ، وقال صلّى الله عليه وسلم : «أعفوا اللحى» ، فتقدير الآية : فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الإصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف ، وليؤد إليه بإحسان ..

المعنى الرابع : أنهم قالوا في الدم بين جماعة إذا عفا عنهم تحول أنصباء الآخرين مالا ، وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يدل على وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه ، فيتحول نصيب الشركاء مالا ، فعليهم اتباع القائل بالمعروف ، وعليه أداؤه إليهم بإحسان ..

والإتباع بالمعروف أن لا يكون بتشدد وإيذاء ، وعلى المطلوب منه الأداء بإحسان ، وهو ترك المطل والتسويف ، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي جواز العفو على مال تخفيف ، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة ، (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي قتل القاتل بعد أخذ الدية ، (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

المعنى الخامس : أخذ ولي الدم المال بغير رضا القاتل ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله ، فقيل لهؤلاء : العفو لا يكون مع أخذه ، ألا ترى أن النبي عليه السلام قال : «العمد قود إلا أن يعفو الأولياء» (٢) فأثبت له أحد السببين من قتل أو عفو ، ولم يثبت له مالا ، فلئن قيل : إنه إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا وتناوله لفظ الآية ، قيل له : لو كان الواجب أحد سببين لجاز أيضا أن يكون عافيا بتركه المال ،

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٩٥.

(٢) روى الطبراني عن عمرو بن حزم : العمد قود والخطأ دية ، قال الهيثمي : وفيه عمران بن أبي الفضل وهو ضعيف (مناوى).

٥٤

وأخذ القود ، فلا ينفك الولي في اختيار أحدهما من عقد (١) قتل أو أحذ المال ، وهذا بعيد.

ويجاب عنه بأن يقال : عفا لسقوط أثر المال في حق من عليه القود بالإضافة إلى القتل ، وإذا عدل عن المال إلى القتل لم يظهر لإسقاط المال وقع ، فلا يقال : عفا ، فإن العفو يؤذن بتخفيف وترفيه عرفا ، وإن كان العدول عن أحدهما إلى الآخر عفوا عن المعدول عنه ، وإسقاطا له.

فقيل لهم : فهذا ينفيه الظاهر من وجه آخر ، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بتركه القود وأخذه المال ، فإنه لا يقال عفا له ـ وإنما يقال عفا عنه ـ إلا بتعسف ، فيقيم اللام مقام عن ، أو بحمله على أنه عفا له عن الدم ، فيضم حرفا غير مذكور.

وعلى تأويل من يخالفه : العفو بمعنى التسهيل ، وهو أن يسهل له القاتل إعطاء الأموال ، كما يقال : سهل الله لك كذا ويسر لك ، فيكون العفو بمعنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال ، ولأن قوله : (مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يقتضي التبعيض.

وعلى أحد قولي الشافعي هو عفو عن جميع الدم لا عن شيء منه ، فمتى حمل على الجميع كان مخالفا مقتضى الكلام ، وفي الحمل على كل محمل حيد عن الظاهر من بعض الوجوه ، فلا يبعد أن يكون الجميع مرادا ، فإن اختيار الدية يوجب إسقاط القصاص ، حتى لو أراد العدول إليه بعده لا يجوز.

وشهد لأحد القولين قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية ، وقوله صلّى الله عليه وسلم في قصة الربيع

__________________

(١) في نسخة : من عفو قتل ، أي عفو من القتل.

٥٥

حين كسرت بنته جارية : «كتاب الله تعالى القصاص» أخبر أن موجب الكتاب القصاص ، فإن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) محكم ظاهر المعنى.

وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) محتمل للمعاني والمتشابه يجب رده إلى المحكم.

وقوله تعالى (عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يدل على أن دية العمد على القاتل.

وقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١٧٩) وذلك تنبيه على الحكمة في شرع القصاص ، وإبانة الغرض منه ، وخص أولي الألباب مع وجود المعنى في غيرهم لأنهم المنتفعون به ، كما قال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)(١). وقال : (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(٢) ، فأبان أنه منذر الجميع ، ولكنه خص في موضع «من يخشاها» لأنهم المنتفعون بإنذاره ، وقال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مع قوله في موضع آخر (هُدىً لِلنَّاسِ) لأن المتقين هم الذين ينتفعون به .. وقال في قصة مريم : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)(٣) ، لأن المتقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله تعالى.

وقوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(٤) يدل على مراعاة المماثلة في الجراح ، على ما قاله الشافعي رحمه الله ، وأن يفعل بالقاتل مثل ما فعله ، فإن لم يمت وجب قتله ، فإن القتل لا بد منه قصاصا لأخذ النفس بالنفس فجمعنا بين قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) وبين قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وهذا أولى من طرح أحدهما ..

__________________

(١) سورة النازعات آية ٤٥.

(٢) سورة مريم آية ١٨.

(٣) سورة سبأ آية ٤٦.

(٤) سورة المائدة آية ٤٥.

٥٦

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ..) الآية (١٨٠) :

فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) يدل على وجوب الوصية (١) ، وقوله (بِالْمَعْرُوف) أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير ، كقوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(٢) ، (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(٣).

وقوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يؤكد الوجوب ...

ووردت أخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية ، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

«ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه ، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة»(٤).

ثم اختلف الناس في وجوبها أولا :

فمنهم من قال : كان ذلك ندبا.

والصحيح أن ذلك كان واجبا.

وقال ابن عباس في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) .. الآية. إنه منسوخ بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ)(٥) الآية ، ورووا بطرق أنه صلّى الله عليه وسلم قال : «لا وصية لوارث».

__________________

(١) الوصية كما قال ابن العربي : هي القول المبين لما يستأنف عمله والقيام به وهي ها هنا مخصوصة بما بعد الموت ، وكذلك في الإطلاق والعرف ، والخير المال ، والمعروف الذي لا وكس فيه ولا شطط.

(٢) سورة البقرة آية ٢٣٣.

(٣) سورة النساء آية ١٩.

(٤) رواه مالك وأحمد والستة عن ابن عمر.

(٥) سورة النساء آية ٧ ـ ٣٢.

٥٧

فإن قيل : كيف جوزتم نسخ القرآن بأخبار الآحاد؟ ..

فأجابوا : بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول ، فإن بقاء الحكم مظنون فيجوز أن ينسخ بمثله ، وشرح ذلك في الأصول.

وقد قيل : إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول ، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب.

وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم ، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين ، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه ، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطي الوارث قسطه من الوصية ، ثم يعطى الميراث بعدها؟.

وقال الشافعي في كتاب الرسالة : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية ، ويحتمل أن تكون ثابتة معها ، ثم قال : فلما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من طريق مجاهد ـ وهو منقطع ـ أنه قال : «لا وصية لوارث» (١) ، استدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع.

أما قول الشافعي : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة ، فوجه الاحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه ، من ماله بعد موته ، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة ، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة ، فعلم الله تعالى ذلك منهم ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ولهذا قال النبي عليه السلام :

«إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب» الحديث .. إلى أن

__________________

(١) أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ، وجنح الشافعي في الأم الى أن هذا المتن متواتر (فتح الباري ، ج ٦ ، ص ٣٠١).

٥٨

قال : «ألا لا وصية لوارث» ، فكان الميراث قائما مقام الوصية فلم يجز الجمع بينهما ..

والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين :

أحدهما : أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل.

الثاني أنه لو كان متصلا كان نسخ القرآن بالسنة وعنده أن ذلك غير جائز.

ثم قال الشافعي : قوله عليه السلام : «ألا لا وصية لوارث» لا ينفي الوصية أصلا للأقربين الذين لا يرثون ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه.

وقال الشافعي : حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم ، فجزّأهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء ، فأعتق إثنين وأرق أربعة ، والذي أعتقهم رجل من العرب ، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم ، فأجاز لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوصية ، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين ..

ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجما فيكون العتق وصية لأقربائه ، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة.

والذي يقال في ذلك : أن قوله (وَالْأَقْرَبِينَ) ليس نصا في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم ، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ.

٥٩

فيقال : اللفظ احتمل الوارث ونسخ ، ويحتمل أن يقال : إن الناسخ له مطلق قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) ، ولم يعرف الوصية حتى ينصرف إلى المتقدم المذكور مثل قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إلى قوله : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) معرفا ..

واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية ، ولا خفاء لما فيه من الضعف ..

قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) (١٨١) :

يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية وإن أثم التبديل لا يلحقه.

ويدل أيضا على أن من كان عليه دين وأوصى بقضائه أنه قد سلم من تبعته في الآخرة ، وإن ترك المعاصي والوارث قضاءه لا تلحقه تبعته.

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً)(١)(أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) (١٨٢).

يحتمل أن يكون معناه أن يعلم من الموصي جنفا أو غيظا على بعض الورثة ، وأن ذلك ربما يحمله عن زي (٢) الميراث عن الوارث ، فعلى من خاف ذلك منه أن يرده إلى العدم ويخوفه عاقبة الجور ، ويدخل بين الموصى له والورثة على وجه الإصلاح لئلا يقطع عنه الميراث بوصيته ، أو يرجع عن وصية كانت منه إلى غير أهلها قاصدا قطع الميراث ،

__________________

(١) الجنف : الجور والميل ، ويجوز أن يراد به الميل عن الحق على وجه الخطأ ، ويراد بالإثم ميله عنه على وجه العمد.

(٢) المراد يحمله على منع الميراث وزوى قبض وضم زيا.

٦٠