عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
برهن مقبوضة في السفر ، بدلا من الاحتياط بالاشهاد في الحضر ، وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد.
فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة ، والتبايع من غير تعوض للافتراق أن لا خيار ، إذ كان إثبات الخيار مانعا معنى الاشهاد والرهن ، فهذا كلام الرازي بأحكام القرآن حكيناه بلفظه ،
والجواب عنه : أن الله تعالى وتقدس ، أمر بالإشهاد والكتابة بناء على غالب الحال في أن الشهود يطلعون على الافتراق والبيع جميعا ، وليس للبيع مما يدوم غالبا أو يتمادى زمانه ، حتى يجري الإشهاد على أحدهما دون الآخر ، فأراد الله تعالى بيان الوثائق على ما جرت به العادة من البيع ، ويدل على ذلك ، أن قبل القبض لا ينبرم العقد في البيع وفي الصرف ، وإذا تفرق المتبايعان بطل الصرف ، وإذا هلك المبيع قبل القبض بطل البيع ، فتبطل الوثائق جملة ، وذلك لم يمنع الإرشاد إلى الوثائق في البياعات والمداينات ، وكذلك بالقول في خيار الرؤية فيما لم يره في خيار الشرط ، فلا حاصل لما قاله هؤلاء فاعلمه.
ووراء ذلك تعلق الرازي بفنون ، يفع الجواب عنها في مسائل الخلاف ، لا تعلق لها بمعاني القرآن ، وذلك عادته ، فإنه إذا انتهى إلى مسألة مختلف فيها ، بين أبي حنيفة وغيره ، يستقصي الكلام فيها فيما يتعلق بالخبر والقياس ، ويخرج بها عن مقصود الكتاب.
قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١) الآية. معناه :
لا يقتل بعضكم بعضا ، وهو نظير قوله تعالى :
(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ)(٢).
__________________
(١) سورة النساء ، آية ٢٩.
(٢) سورة البقرة ، آية ١٩١.
أي حتى يقتلوا بعضكم ، ومجازه أنهم كالشخص الواحد ، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا.
ويحتمل أن يقال : ولا تقتلوا أنفسكم في الحرص على الدنيا وطلب المال ، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف.
ويحتمل «ولا تقتلوا أنفسكم» في حال ضجر أو غضب.
قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً)(١).
الوعيد في ذلك يجوز أن يرجع إلى أكل المال بالباطل ، وقتل النفس بغير حق ، ويجوز أن يرجع إلى كل ما نهى الله عنه فيما تقدم ، وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ، ليخرج منه فعل السهو والغلط ، وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما ، حسن في الكلام ، كما يقال : «ألفى قولها كذبا ومينا» ، وحسن العطف لاختلاف اللفظين ، يقال بعدا وسحقا ، وحسن لاختلاف اللفظ.
قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) ، الآية (٣٢).
ورد في تفسيره عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، تغزوا الرجال ولا تغزوا وتذكر الرجال ولا نذكر ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا) ، الآية) (٢).
__________________
(١) سورة النساء ، آية ٣٠.
(٢) قالت أم سلمة : «يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وانما لنا نصف الميراث ..» رواه أحمد والترمذي والحاكم.
ونزل : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ)(١).
وروى قتادة عن الحسن :
«لا يتمنى أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال (٢)».
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبي ، فلما جاء الإسلام ، وجعل للمرأة النصف من نصيب الذكر ، قال النساء ، «لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال ، وقلن : إنا لنرجو أن نفضل عليهم في الآخرة» ، فنزل قول الله تعالى :
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(٣).
فللمرأة الجزاء على الحسنة عشر أمثالها كما للرجال.
قال : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)(٤) ، ونهى الله أن تتمنى المرأة ما فضل الله بعضهم على بعض ، لأن الله تعالى أعلم بصالحهم منهم ، فوضع القسمة منهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم.
وبالجملة : التمني إذا لم يفض إلى حسد في ابتغاء زوال نعمة الغير أو تباغض ، فلا نهي عنه ، فإن الواحد منا يود أن يكون إماما وسيدا في الدين والدنيا ، ولا نهي عنه ، وإن علم قطعا أنه لا يكون.
وورد في الخبر أن الشهيد يقال له : تمن ، فيقول :
__________________
(١) سورة الأحزاب ، آية ٣٥.
(٢) أخرجه ابن جرير الطبري.
(٣) سورة النساء ، آية ٣٢.
(٤) سورة النساء ، آية ٣٢. ويقصد بفضله هنا معونته وتوفيقه.
أتمنى أن أرجع إلى الدنيا ، وأقتل في سبيل الله (١)
ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ، كان يتمنى إيمان أبي طالب وأبي لهب وصناديد قريش ، مع علمه بأنه لا يكون ، وكان يقول : «واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني» (٢).
وذلك كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية الحسد والتباغض ، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل ، ومنه النهي عن الخطبة على خطبة أخيه ، لأنه داعية الحسد والمقت.
قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، الآية (٣٣) :
قال ابن عباس ومجاهد : المولى ها هنا العصبة.
وقال السدي : الورثة.
وأصل المولى : من ولي الشيء يليه ، وهو إيصال الولاية في التصرف ، والمولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ، فيسمى المعتق مولى والمعتق كمثل ، ويقال : المولى الأسفل والأعلى ، لاتصال كل واحد منهما بصاحبه ، ويسمى الناصر المولى.
(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(٣).
__________________
(١) رواه مسلم وأحمد وابن ماجة بروايات متقاربة.
وفي رواية مسلم أن الشهداء يقولون حين يسألون : «نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى».
(٢) روى البخاري ومسلم أن أبا طالب حين حضرته الوفاة قال له النبي صلّى الله عليه وسلم : «يا عم قل لا اله الا الله كلمة أحاج لك بها عند الله».
(٣) سورة محمد ، آية ١١.
ويسمى ابن العم مولى ، والجار مولى.
وقد بسط المتكلمون من أهل السنة أقوالهم في هذا في الرد على الإمامية ، عند احتجاجهم بقوله عليه السلام :
«من كنت مولاه فعلي مولاه» (١) ، فمعنى الولاء هاهنا العصبة ، لقوله عليه السلام:
«ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر» (٢).
وقوله «فلأولى عصبة ذكر» يدل على أن المراد بقوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) هم العصبات (٣).
ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل ، على قول أكثر العلماء ، لأن المفهوم في حق العتق ، أنه المنعم على المعتق ، وكالموجد له ، فاستحق ميراثه لهذا المعنى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد : أن المولى الأسفل ، يرث من الأعلى واحتج فيه بما روي : أن رجلا أعتق عبدا له ، فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق ، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق (٤).
قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث ، فوجب القول به ، ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق ، على تقدير أنه كالموجد له ، فهو
__________________
(١) أخرجه الامام أحمد في مسنده عن بريدة رضي الله عنه ، وأخرجه أحمد والنسائي ، وأبن ماجة ، والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم في المستدرك ، عن زيد بن أرقم.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
(٣) المولى : العصبة ، كما يقول مجاهد وقتادة.
(٤) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ج ٤ ص ٤٠٣ والحديث رواه الترمذي.
شبيه بالأب ، والمولى الأسفل شبيه بالابن ، وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث.
والأصل أن الاتصال يعم.
وفي الخبر : ومولى القوم منهم» (١).
والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا :
الميراث يستدعي القرابة ولا قرابة ، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ، فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة ، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل.
وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه ، وليس المعتق صالحا لأن يقوم مقام معتقه ، وإنما المعتق قد أنعم عليه ، فقابله الشرع بأن جعله أحق لمولاه المعتق ، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ، فظهر الفرق بينهما.
قوله تعالى : (والذين عاقدت (٢) أيمانكم فآتوهم نصيبهم) الآية (٣٣).
قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذي رحمه بالأخوة التي جعلها الله تعالى بينهم بالإسلام (٣) فلما نزلت :
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)
__________________
(١) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(٢) عاقدت بالألف أي عاقدتهم ، وتقرأ بدون ألف أي عقدت وتقديره : عقدت حلفهم أيمانكم. والعقد هو الشد والربط ، والتوكيد والتغليظ.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير ، سورة النساء.
نسخت ، ثم قرأ : (والّذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والوصاية ، وقد ذهب الميراث.
وعن ابن عباس : (والّذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) ، فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى :
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً)(١) يقول : «إلا أن توصوا» (٢).
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى : (والّذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) قال:
كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه.
وعاقد الصديق أبو بكر رضي الله عنه رجلا ، فورثه لما مات
وقال سعيد بن المسيب :
هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثوهم ، فأنزل الله تعالى فيهم ، أن يجعل لهم من الوصية ، ورد الميراث إلى المولى من ذوي الرحم والعصبة (٣).
إذا ثبت هذا فأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، ومحمد ، صاروا
__________________
(١) سورة الأحزاب ، آية ٦.
(٢) أخرجه ابن جرير في الأثر رقم ٩٢٦٨ عن علي بن أبي طلحة. الا ان توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف.
(٣) انظر ابن جرير في الأثر رقم ٩٢٨٨.
إلى أن الميراث بالمعاقدة ، لم ينفسخ عند فقد الأقربين والمولى ، بل يتعلق بها الميراث عند عدم الرحم والولاء ، فإن الله تعالى جعل ذوي الأرحام أولى ، فإذا لم يكونوا بقي على حكم الآية ، وهذا بعيد ، فإن الذي في الآية :
(ولكل جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عاقدت أيمانكم).
فأثبت الميراث بالمعاقدة عند وجودها ، وعلى أن قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، ليس نصا في الميراث ، بل معناه : من النصرة والمعونة والرفاد.
قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ)(١)(عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ) الآية (٣٤).
ورد في الخبر ، أن رجلا لطم امرأته لنشوزها عنه فجرحها ، فاستعدت عليه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (٢) : القصاص ، فأنزل الله تعالى :
(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٣).
__________________
(١) قوامون : مفردها قوام ، وهو القائم بالمصالح ، والتدبير ، والتأديب.
وقد ذكروا في فضل الرجال : العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي.
وأن منهم الأنبياء ، وفيهم الامامة الكبرى والصغرى ، والجهاد والأذان والخطبة ، والشهادة في مجامع القضايا ، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب.
(٢) رواه ابن جرير الواحدي في اسباب النزول ، وابن أبي حاتم. وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ١٥١ ، والطبري في تفسيره ج ٨ ص ٢٩١.
(٣) سورة طه ، آية ١١٤.
ثم أنزل : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ).
وقيل : ما كان الضرب على النشوز مشروعا ثم شرع.
ودلت الآية على أن الزوج يقوم بتدبير المرأة ، وتأديبها ، وإمساكها في بيتها ، ومنعها من البروز ، وأن عليها طاعته وقبول أمره ، ما لم تكن معصية.
وقوله تعالى : (بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) ، يدل على أن الزوج جعل قوّاما عليها ، حابسا لها على نفسه ، ومانعا من البروز لأجل ما أنفق عليها من المال.
نعم بين الله تعالى أمر النفقة في مواضع في كتابه في قوله :
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)(١).
وقول النبي صلّى الله عليه وسلم :
ولكن في هذه الآية ذكر علة النفقة ، فلا جرم ، فهم العلماء منهما أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها ، حتى زال الحبس في الدار على المذاهب كلها ، ولها فسخ النكاح على مذهب الشافعي رضي الله عنه ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها ، وحابسا لها ، فقد أخل غرض التحصين بالنكاح ، فإن الغرض من النكاح على مذهب الشافعي رضي الله عنه ، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها ، وحابسا لها فقد أخل غرض التحصين بالنكاح ، فإن الغرض من النكاح تحصينها ، وإلا فهن حبائل الشيطان وعرضة الآفات ، فإذا لم يكن قواما عليها ، كان لها فسخ العقد ، لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح ، وفيه دلالة ظاهرة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح ، عند الإعسار بالنفقة والكسوة.
__________________
(١) سورة الطلاق ، آية ٧.
قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ)(١) الآية (٣٤).
أمر الله تعالى بمراعاة الترتيب في استيفاء الحق من الممتنع على هذا الوجه ، فإن لم يتأت إلا بالضرب والايجاع فيجوز ، ولكن الضرب هو القدر الذي يصلحها له ويجعلها على توفية حقه.
وليس له أن يضرب ضربا يتوقع منه الهلاك ، فإن المقصود الصلاح لا غيره ، فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان ، وكذلك القول في ضرب المؤدب لتعليم غلامه القرآن والأدب ، ولأجله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
«لصاحب الحق يد ولسان» (٢).
وقال : «مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته».
يعني قوله : «يحل عرضه» أن يقول : يا ظالم يا معتدي.
وعنى بعقوبته : طلب حبسه.
نعم : الصائل على مال الإنسان له دفعه عن ماله ، وإن لم يتأت إلا بالقتل ، لأن المال يخلص له عند ذلك ، وهاهنا إذا نشزت ، فليس في هلاكها استيفاء الحق بل فيه تفويته ، فإنما رخص في ضرب مصلح وهذا بين.
قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً).
قال أبو عبيدة ، معناه : لا تعللوا عليهن بالذنوب.
__________________
(١) النشوز : العصيان ، وهو مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض.
(٢) رواه الشيخان بنحوه.
قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ (١) أَهْلِها) الآية (٣٥).
اختلف الناس في المخاطبين بهذا الخطاب.
فقال سعيد بن جبير : «إنه السلطان الذي يترافعان إليه».
وقال السدي : الرجل والمرأة.
قال الشافعي رضي الله عنه :
والذي يشبه ظاهر هذه الآية ، أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاتهما ، وذلك أني وجدت الله تعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا ، وسن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك ، وسن في نشوز المرأة بالضرب ، وأذن في خوفها أن لا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك شبيه أن يكون برضا المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا ، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمن فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين ، دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله ، وحكما من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين ، ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ، ووجدنا حديثا بإسناده عن عليّ يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وهو أصح المذاهب للشافعي ، وإن حكى عن الشافعي فيه قول آخر على موافقة مذهب مالك ، وهو أن الحكمين ينفردان دون رضا الزوجين إذا رأيا ذلك ، وهو بعيد ، فإن إقرار الزوج بالظلم لا
__________________
(١) الشقاق : مصدر من شاق : وهو أن يأتي احد الزوجين بأمر يشق على الآخر. وهو عند المرأة النشوز ، وتركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها ، وعند الزواج تركه إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان.
ينافي النكاح ، ولا ظلم المرأة مناف لذلك ، والظلم إذا ظهر من أي جانب كان ، وجب دفعه بطريقة ، فأما أن يكون ظهور ظلم الظالم بينهما للحكمين طريقا إلى دفع النكاح دون رضا الزوجين فلا ، وليس يزيد ظهور ذلك ظلما على إقرار الزوج أو الزوجة (١) بالظلم.
نعم قد يقول القائل : إذا استمرت الوحشة ، فلا وجه لتبقية الخصومة ناشبة بينهما ، فاشتباه الحال في ذلك ، كاشتباه الحال في المتبايعين إذا تخالفا.
وهذا بعيد ، فإنهما إذا تخالفا فلا يتصور بقاء العقد على نعت الإختلاف ليكون العقد على وضعين متضادين ، وها هنا لا شيء يوجب منع بقاء العقد ، وخللا في معنى العقد ، إنما يظهر من أحدهما ظلم فيدفعه الحاكم فأما فسخ النكاح فلا ، وليس كالإيلاء ، فإن هناك رجع النعت إلى المقصود وهو الاستمتاع.
وبالجملة إن كان للقول الآخر وجه ، فمن حيث وقوع الخلل في السكن المقصود بالنكاح ، لاستمرار الخصومة بينهما ، وذلك يقتضي أن يكون هذا قريبا من الإيلاء ، وقد قال مالك :
وللحكمين أن يخالعانها دون رضاها ، وهذا بعيد ، فإن الحاكم لا يملك ذلك ، فكيف يملكه الحكمان؟ (٢) ..
نعم سميا حكمين ـ وإن كان الوكيل لا يسمى حكما ـ لأنه أشبه فعلهما ، فهما يجتهدان ويتحريان الصلاح في إنفاذ القضايا بالعدل ، إذا وكلا بذلك من جهة الزوجين ، وما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز
__________________
(١) انظر الشيخ الصابوني.
(٢) انظر احكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٣٢.
ولكن برضا الزوجين لا دون رضاهما ، والله تعالى إذا رأيناه يقول :
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)(١).
فكيف يفهم منه جواز الخلع دون رضا الزوجين ، وقد حظر الشرع أخذ شيء منها دون شريطة الخوف.
ودلت الآيات المطلقة ، على أن لا يحل أكل المال إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم.
ودل قول الرسول صلّى الله عليه وسلم ، على أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه.
وفي رواية : بطيبة من نفسه (٢).
قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ) الآية (٣٦) :
يدل على أن من أتى بطاعة لغير الله ، لا تقع عن جهة القربة ، لأنه أشرك به شيئا ، وترك الإخلاص ، ولأجله قال علماؤنا :
من توضأ أو اغتسل لتبرد أو تنظيف ، لم يكن له أن يصلي به ، لأنه أشرك به شيئا.
فإذا خرج الفعل عن كونه لله ، فلم يكن قربة ، ولذلك قلنا :
إذا أحس بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره ، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه لله خالصا ، ثم قال تعالى :
__________________
(١) سورة البقرة ٢٢٩.
(٢) ورد بمعناه فيما أخرجه البخاري ومسلم.
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).
فأوجب الله تعالى طاعة الوالدين في غير معصية الخالق ، ولا يعني بطاعة الوالدين أن يكون لهما صرف منافع بدنه بعد البلوغ إلى ما شاء ، وتكليفهما أفعالا ، وإنما هو على ما ذكره الله تعالى :
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما)(١) الآية ..
وليس للوالدين منع الولد من الأسفار للتجارة والزيارة وطلب الفوائد.
نعم يكره له أن يجاهد دون إذنهما ، فإن في ذلك تغريرا بالمهجة.
ومن تعظيم الوالدين أن لا يقتله الولد ، إلا إذا كان محاربا كافرا (٢).
ثم ذكر الجار ذي القربى ، وهو الجار الذي له حق القرابة ، والجار الجنب (٣) ، للبعيد منك نسبا ، إذا كان مؤمنا ، فيجتمع حق الجوار والإيمان ، وورد في حق الجار أخبار عدة(٤).
والصاحب بالجنب : قيل هو الرفيق في السفر ، وقيل هو الجار الملاصق ، وخصه الله تعالى بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق.
والجار لفظ مجمل يتردد بين معاني ، فقد يقال لأهل المحلة جيران ، ولأهل الدرب جيران. وجعل الله تعالى الاجتماع في مدينة جوارا ، قال الله تعالى :
__________________
(١) سورة الإسراء آية ٢٣.
(٢) ومثال ذلك ان أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح قتل أباه يوم بدر.
(٣) الجار الجنب : هو الجار البعيد ، وقيل هو الجار الغريب ، وقيل هو الجار المشرك.
(٤) من هذه الاخبار ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه».
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) إلى قوله : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً)(١)
فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة (٢) ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة ، وكف الأذى والمحاماة دونه.
وابن السبيل : هو المسافر ينزل عندك فتكرمه وتضيفه.
(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : هو الإحسان إليه بالإنفاق ، وكسوته ومراعاته بالمعروف.
هذا هو الأصل ، فجمعت الآية أمورا منها الندب ، ومنها الواجب.
قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (٣٧) :
البخل المذموم في الشرع الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى ، وهو مثل قوله :
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣).
ونزلت الآية في اليهود ، الذين بخلوا بالمال ، فلم يعطوا منه حق
__________________
(١) سورة الأحزاب آية ٦٠.
(١) سورة الأحزاب آية ٦٠.
(٢) أي مواساة الجار عند نزول نازلة به.
(٣) سورة آل عمران آية ١٨٠.
الله تعالى ، ومنعوا الأنصار من أداء حق الله ، وخوفوهم بالفقر ، ومنعوا العلم ، وكتموا ما علموا من صفة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم ، والمباهاة (١) ، بل يقول :
كان ذلك من فضل الله ، وما كان من قوتي ولا من عندي ، فيتحدث بالنعم على وجه الشكر ، كما قال تعالى :
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) ..
وقال عليه السلام : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا أفصح العرب ولا فخر»(٣).
فأراد بذكره التحدث بنعم الله تعالى ، وأن يبلغ أمته من منزلته عند الله ، ما يجب على أمته أن يعرفوه ، وليعطوه من التعظيم حقه طاعة الله تعالى.
وقال عليه السلام : «لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس ابن متى».
وقد كان عليه السلام خيرا منه ، ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار.
وقال الله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)(٤).
__________________
(١) المباهاة : أي كتم نعم الله تعالى وإنكارها والتفاخر بها على أنها حق للعبد لا فضل لله بها.
(٢) سورة الضحى آية ١١.
(٣) رواه احمد في مسنده ، والترمذي في سننه وقال عنه حديث حسن صحيح ، وابن ماجة في سننه.
(٤) سورة النجم آية ٣٢.
ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : «احثوا في وجوه المداحين التراب» (١).
وذلك لئلا تزهو النفس وتترف ، فإن النفس إذا ما مالت إلى شيء لطلب حظها ، تولد منها قوة الهوى وضعف اليقين.
قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ..) الآية (٣٨) :
معناه : الكفار الذين يبخلون بالأموال لوجه الله ، وينفقون رثاء (٢) وسمعة ، في غير مرضاة الله.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٣) الآية (٤٣) :
اختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية.
فقال قائلون : هو السكران الذي لا يعلم حقيقته ، وهذا معتل من وجه : فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.
فقيل في ذلك : أراد به النهي عن التعرض للسكر ، إذا كان عليهم فرض الصلاة ، والنهي على أن عليهم أن يعيدوها ، وهذا بعيد من وجه ، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب ، ينافي دوامه ، وهذا حسن في إبطال هذا القول ، إلا أن يقال :
إن ذلك نهي عن السكر ، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر ، حالة وجوب الصلاة ، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية ، كأنه تعالى قال :
__________________
(١) أخرجه الامام أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه ، وأبو داود في سننه حسن المقداد.
(٢) أي على مرأى من الناس وعلى غفلة من الخالق.
(٣) هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر.
«لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» ، أي في حالة سكركم ، فلا وجه للتأويل.
الوجه الآخر : قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ (١) نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ، بل هو فاهم للخطاب ، وهذا بعيد ، فإنه إن كان كذلك ، فلا يكون منهيا عن فعل الصلاة ، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.
ومن أجل ذلك قال الحسن ، وقتادة ، في هذه الآية : فإنها منسوخة الحكم.
وعلى الجملة ، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي الله عنه : وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة ، فتقديره : لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى ، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق ، وتلويث المسجد ، ولذلك قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، يعني أن السكران ربما نزق (٢) ، فتكلم بما لا يجوز له ، كما قال علي:
إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى.
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جماعة.
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول ، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول :
__________________
(١) أي لم يصل به نقصان عقله أو لم يذهب.
(٢) النزق : الطيش والخفة.
بل المراد به الصلاة ، ولذلك قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) والذي ذكرتم يعلم ذلك.
فيقال : هذا في ضرب المثل ، كالذي يقول للغضبان : اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول ، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به أيضا ، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله : إلا عابري سبيل ، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء ، فإنه يتيمم ويصلي ، فيتعين إضمار عدم الماء فيه ، وإذا عدم الماء في الحضر ، كان كذلك.
وأحسبه يقول : بنى على الغالب ، في أن الماء لا يعدم في الحضر ، فيقال : فالذي يتيمم ليس جنبا عندكم حتى يصلي صلوات التيمم ، وأحسبه يمنع هذا أيضا ويكابر ، فيقال له :
إن تيمم الجنب ، قد ذكره الله تعالى بعد هذا ، بل فصل فقال :
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١).
وكيف يذكر المسافر والسفر ، ثم يذكر بعده من غير فصل؟ وهذا واضح في بطلان قوله :
وأما إذا أراد التيمم ، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم ، فذكر المرض وذكر السفر ، وذكر المجيء من الغائط ، وعدم الماء مطلقا في أي موضع كان ، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر ها هنا ، ولم يذكر
__________________
(١) سورة النساء آية ٤٣.
عدم الماء ، وهو الشرط لا السفر؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه ، ولأن الله تعالى قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، فأحال المنع على عدم العلم بالقول ، والسكران الطافح في سكره ، المغشى عليه ، تمتنع الصلاة ، عليه ، لأنه لا يعلم ما يقول ، بل لأنه محدث غير طاهر ، ولا ساجد ولا راكع ولا ناو ، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط ، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق ، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم ، لأن النائم لا يصلي ، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم ، ولا طهارة مع النوم.
وبالجملة ، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول ، فهو متوجه ها هنا فاعلم.
فإن قيل : سبب نزول هذه الآية ، ما روي عن علي رضي الله عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر ، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، فالتبس عليه فأنزل الله تعالى :
(لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).
والجواب أن المراد به ما قلناه ، فإنه إذن التبس عليه ، وتلا بداخل المسجد ، حتى تكلم بما لا يجوز ، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعا ، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد ، عرفوا أن كثيرا من السلف حملوا الآية على ما قلناه ، وإن كان منهم من خالف.
قال : ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الائمة ، وليس ذكرها متعلقا بغرضنا ، إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت : «سمعت عائشة رضي الله عنها تقول :