أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)(١)(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١٠٣) :

وذلك يدل على أنه فرض لكنه فرض على الكفاية.

ولعل قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) يدل على ذلك ، فإنه يقتضي بظاهره أنه إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين (٢) ، فإنه قال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ).

أي إن جميعكم ربما لا يمكنهم ذلك ، فليتول قوم منكم حتى يكون المعروف مأتيا والمنكر مرفوضا ، وقد أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف في مواضع في كتابه لا حاجة بنا إلى ذكرها ، ووردت في ذلك أخبار أوفاها ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال :

«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (٣).

وقد قال الله تعالى في هذا المعنى :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ

__________________

(١) أي جماعة : يقصدها الناس ويقتدون بها.

(٢) ويقول الامام الغزالي رضي الله عنه :

«في هذه الآية بيان الإيجاب ، فان قوله تعالى «ولتكن» امر ، وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان ان الفلاح منوط به ، ، إذ حصر وقال : أولئك هم المفلحون ، وفيها بيان انه فرض كفاية لا فرض عين ، وانه إذا قام به امة سقط الفرض عن الآخرين. انظر كتاب البدعة ، وكتاب الإسلام دين السعادة.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه ، وابن ماجة في سننه ، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

٣٠١

بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(١).

وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ)(٢) ـ إلى قوله ـ (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ).

وقد قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(٣) الآية.

وليس ذلك ناسخا لوجوب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكنه إذا أمكنه إزالته بلسانه فليفعله ، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة والقتل فليفعله ، وإن انتهى بدون القتل لم يجز بالقتل وهذا يتلقى من قوله تعالى :

(فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٤).

وعليه بنى العلماء : أنه إذا دفع الصائل (٥) على النفس ، أو على المال عن نفسه ، أو عن ماله ، أو مال غيره ، أو نفس غيره ، فله ذلك ولا شيء عليه ، ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر ، فيجب عليه أن يدفعه عنه ، إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به ، ولو قصد ماله ، فيجوز له أن يتركه عليه ولا يدفعه ، وفي الصيال على النفس خلاف.

__________________

(١) الآية : ٩ من سورة الحجرات.

(٢) الآية : ٧٨ ، ٧٩ من سورة المائدة.

(٣) الآية : ١٠٥ من سورة المائدة.

(٤) آية : ٩ من سورة الحجرات.

(٥) الصائل : الواثب ، وصال الفحل يصول صولا : وثب.

٣٠٢

ولو كان في يد الغاصب مال غيره وسعك أن تبيعه ، ويقتله إن لم يقف ، وكذلك في السارق إذا أخذ المتاع فيجوز ابتياعه ، والسارق الذي ينقب البيوت كمثل ، حتى قال العلماء : لو فرضنا قوما من أصحاب المكوس والضرائب والأموال الذين في أيديهم أموال الناس ، وهم ممتنعون من إيصالها إلى الملاك ، ولا ينفعهم الردع بالكلام والملام والتخويف بالله ، فيجوز قتلهم من غير إنذار ، لأنهم لا يقبلون ذلك من أحد لقوله تعالى :

(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) يعني : لم يقبل منكم ولا يقدر على منعه من الظلم ، فعليك نفسك.

وقال تعالى في ذكر أصحاب السبت (١).

(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٢).

فدل ذلك على أن من لم ينه عن الظلم ، جعل راضيا به حتى وجب تعذيبه ، وقد نسب قتل الأنبياء المتقدمين ، إلى من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم من اليهود ، الذين كانوا موالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم.

وبنى الشافعي عليه : أن فعل الفاعل ، إذا كان في نفسه قبيحا ومفسدة فيجوز دفع الفاعل عنه لما يأتي على نفسه ، ولا ضمان على قاتله ، مثل أن يصول مجنون أو بهيمة على مال لرجل أو نفسه ، فيجوز للمصول عليه ولغيره قتله ، ولا ضمان عليه ، وهو من قبيل النهي عن المنكر ، وليس معنى النهي تكليف الفعل ، ولكنه دفع الفاعل عن الفعل القبيح والظلم والتشنيع.

__________________

(١) واصحاب السبت هم جماعة من اليهود خالفوا امر ربهم ، ففجأتهم نقمته سبحانه على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة.

(٢) الآية : ١٦٥ من سورة الأعراف.

٣٠٣

وأبو حنيفة يخالف في ذلك ، لأنه يرى أن القاتل ليس ظالما بفعله ، ويقال له إنه ليس ظالما بفعله ، إلا لأن الفعل غير قبيح ولا مفسدة ، ولكن لجهل الفاعل ، ولو علمه كان به ظالما ولحقه الذم واللوم والسفه ، وهذا بين.

ومن جملة ذلك : أنه إذا كان في بلد الإسلام من يضلل الناس بشبهة وبدعة ، فإنه يجب إزالته بما أمكن ، لأنه نهي عن المنكر ، ومن لم يكن داعيا للناس إلى ذلك ، وإنما يذعن إلى الحق ، فإقامة الدلائل على صحة قول أهل الحق وتبيين فساد شبهه ، ما لم يخرج على أهل الحق بسيفه ، ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام ، فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها ، فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً)(١)(مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ(٢) خَبالاً) (الآية ١١٨) :

فيه دلالة ، على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين من العمالات والكتابة.

ولما استكتب أبو موسى رجلا من أهل الذمة ، كتب اليه عمر يعنفه ويلومه ويتلو عليه هذه الآية.

وقيل لعمر : إن هاهنا رجل من أهل الحيرة لم ير رجل أحفظ منه ولا أخط بقلم ، فإن رأيت أن تتخذه كاتبا ، قال :

__________________

(١) أي أصحابا يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون.

قال الزمخشري : «بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه الذي يفضي اليه بشعورة ثقة به».

(٢) يقول الزمخشري : ألا في الأمر يألو : إذا قصر فيه.

٣٠٤

«قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين» (١).

قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٢) (١٥٩) :

يدل على جواز الاجتهاد (٣) في الأمور ، والأخذ بالمظنون مع إمكان الوحي ، فإن الله تعالى أذن لرسول صلّى الله عليه وسلم في ذلك.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)(٤) ، ومن يغلل يأت

__________________

(١) رواه ابن أبي حاتم ، وعمر هو ابن الخطاب رضي الله عنه.

ويقول الرازي :

«فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلا على النهي عن اتخاذ النصراني بطانة».

(٢) أي أمر الحرب وغيره توددا إليهم ، وتطييبا لنفوسهم ، واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسنة المشاورة في الامة.

يقول القرطبي :

«والشورى مبنية على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ، وينظر أقربها قولا الى الكتاب والسنة أن أمكنته ، فإذا أرشده الله تعالى الى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه ، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب ، وبهذا امر الله تعالى نبيه في هذه الآية» ا ه.

(٣) قال الخفاجي : «في الآية ارشاد الى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلّى الله عليه وسلم».

وقال الرازي : «دلت الآية على انه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه وحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة» ا ه.

وقال بعض المفسرين :

«ثمرة الآية : وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو الى الله تعالى ويأمر بالمعروف».

(٤) قرئ بالبناء للمعلوم ، أي ما صح وما تأتي لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم.

وبالبناء للمجهول : أي ما صح أن ينسب الى الغلول ويخون.

٣٠٥

بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) الآية (١٦١) :

وفيها دليل على أن الغلول (٢) فيما قلّ وكثر ، من أصناف الأموال ، وأن الأموال الواصلة إلينا من الكفار مشتركا فيما بين الغانمين ، إلا فيما استثنى من الأطعمة لأخبار اختصت بها.

__________________

(١) يقول صاحب محاسن التأويل :

أشار الى وعيد الغلول بقوله : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بعينه ، حاملا له على ظهره ليفتضح في المحشر.

وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ـ كما أخرجه الامام أحمد في مسنده ـ يأخذ الوبرة من جنب البعير من الغنم فيقول :

«مالي فيه الا مثل ما لأحدكم منه ، إياكم والغلول ، فان الغلول خزي على صاحبه احمد في مسنده ـ يأخذ الوبرة من جنب البعير من الغنم فيقول :

«ما لي فيه الا مثل ما لأحدكم منه ، إياكم والغلول ، فان الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك ، وجاهدوا في سبيل الله التريب والبعيد في الحضر والسفر ، فان الجهاد باب من أبواب الجنة ، انه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، واقيموا حدود الله في القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم».

(٢) أخرج أبو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :

«صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : أن صاحبكم غل في سبيل الله ، ففتشنا متاعه ، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين».

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النساء (١)

قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(٢) الآية (١) :

يدل على تأكيد الأمر في صلة الرحم ، والمنع من قطيعتها ، وهي اسم

__________________

(١) سميت سورة النساء : لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.

وفي سبب نزولها روى العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة ، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت.

(٢) تساءلون : معناه بعضكم بعضا به مثل : أسألك بالله ، وأنشدك الله ، والمفاعلة على ظاهرها أو بمعنى تسألون كثيرا.

والأرحام : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ، ثم أطلق على القرابة مطلقا.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) : تكرير للأمر وتذكير ببعض آخر من موجبات الامتثال له ، فان سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا : أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، على سبيل الاستعطاف ، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه ، وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته.

٣٠٧

لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم (١) وغيره ، وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند ، وهم يرون ذلك نسخا ، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة ، وقد جوزها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات.

قوله تعالى : (وَآتُوا)(٢)(الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الآية (٢) :

روى عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، فجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)(٣).

وإنما قال الحسن ذلك لأنه تعالى قال :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إلى قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى

__________________

(١) يقول القرطبي :

«اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة ، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته ـ أأصل أمي ـ نعم صلي أمك» ، فأمرها بصلتها وهي كافرة.

فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر.

(٢) وإيتاء اليتامى أموالهم كما يقول القرطبي ـ يكون بوجهين :

أحدهما : اجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية ، إذ لا يمكن الا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبدد كالصغير والسفيه الكبير.

الثاني : الإيتاء بالتمكن واسلام الملل اليه ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد.

(٣) سورة البقرة آية ٢٢٠.

٣٠٨

أَمْوالِكُمْ) ، وكل ذلك بعد البلوغ لا يتقرر ، والمعنى بقوله :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ، أي أموالهم للأكل والشرب واللباس والثياب والمفارش والمساكن ، فلما نزل ذلك ، عزل أولياء اليتامى طعامهم من طعام اليتامى ، وملابسهم من ملابس اليتامى ، فجعل يفضل له من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فنزل قوله تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) الآية.

ويجوز أن يكون قول الله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) عنى به البالغ ، وسمّي يتيما لقرب عهده بالبلوغ ، ولذلك قال : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

والظاهر منه أنهم يؤتون أموالهم إيتاء لا بمعنى الإطعام والكسوة ، ولكنه بمعنى تسليطه عليه ، ونهى الولي عن إمساك ماله بعد البلوغ عنه ، ولكن لم يشترط الرشد هاهنا ، وشرط إيناس الرشد والابتلاء في قوله :

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(١) ، فكان ذلك مطلقا وهذا مقيد.

وذكر الرازي في أحكام القرآن : أنه لما لم يقيّد الرشد في موضع ، وقيّد في موضع ، وجب استعمالهما والجمع بينهما فأقول :

إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد ، وجب دفع المال اليه ، وإن كان دون ذلك لم يجب عملا بالآيتين ، وهذا في غاية البعد ، فإنه تعالى قال :

__________________

(١) سورة النساء آية ٦.

٣٠٩

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ، وذلك يقتضي اعتياد إيناس الرشد عقيب بلوغ النكاح من غير تطاول المدة.

وقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ، يقتضي مثل ذلك ، فإن اسم اليتيم إنما يطلق على قبل البلوغ حقيقة ، وعلى قرب العهد بالبلوغ مجازا ، فإما أن يقال : إنه يتناول ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا إلى مائة ، وهو جهل عظيم.

والعجيب أن أبا حنيفة إنما أطلق الحجر ، لأنه قال قد بلغ أشده وصار يصلح أن يكون جدا ، فإذا صار يصلح أن يكون جدا ، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم ، وباسم اليتم ، وهل ذلك إلا في غاية البعد (١).

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا (٢) فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ (٣) لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ (٤) وَرُباعَ) الآية (٣). واختلفت أقاويل المفسرين في معناه :

__________________

(١) انظر روائع البيان ج ١ ص ٤٢٥.

(٢) أي أن لا تعدلوا في النساء.

(٣) أي من طبن لنفوسكم من جهة الجمال أو الحسن أو العقل أو الصلاح منهن.

ومعنى الآية : وأن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن ، باساءة العشرة أو بنقص الصداق ، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم.

فالآية للتحذير من التورط في الجور عليهن والأمر بالاحتياط ، وان في غيرهن متسعا الى الأربع.

(٤) ما معنى قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)؟.

اتفق العلماء على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد ، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها ، فمثنى تدل على اثنين اثنين ، وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة ، ورباع تدل على أربعة أربعة ، والمعنى : أنكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا حسبما تريدون.

انظر : روائع البيان ج ١ ص ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، ومحاسن التأويل ج ٥ ص ١١٠٩ للقاسمي.

٣١٠

فروى الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قول الله تعالى :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) قالت :

يا ابن أختي : هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن (١).

قال عروة : قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ :

وإن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله :

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) .. إلى قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)(٢).

قالت : والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي فيها : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي)(٣) ..

وقوله في الآية الأخرى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) ، رغبة أحدكم عن يتيمته التي هي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا (٤) أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء ، إلا

__________________

(١) رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.

(٢) سورة النساء آية ١٢٧.

(٣) وعلى هذا فان الآية : دلت على انه يجب بالنكاح حقوق.

انظر تفسير القاسمي ج ٥ ص ١١١٨.

(٤) يقول ابن حجر : «نهوا عن نكاح المرغوب فيها لجمالها ومالها لأجل زهدهم فيها إذا كانت قليلة المال والجمال ، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل» أه.

٣١١

بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، وهذا ما أورده البخاري في صحيحه (١) ، وفيه دلالة على أن اليتيمة يجوز تزويجها (٢).

وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع غير هذا التأويل ، وهو أن معنى الآية : «كما خفتم في حق اليتامى فخافوا في حق النساء الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا (٣) فيهن».

وروي عن مجاهد : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) ، أي تحرجتم من أكل أموالهم ، فتحرجوا من الزنا وانكحوا نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع.

والمشكل أن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت هذه الآية في ذلك ، وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا ، ولا يمكن أن يحمل على الجد ، لأنه لا يجوز له نكاحها ، فعلم أن المراد له ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.

ويمكن أن يحمل على البالغة لأن عائشة رضي الله عنها قالت :

ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى :

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ـ إلى قوله ـ فِي يَتامَى النِّساءِ)(٤).

__________________

(١) انظر فتح الباري للبخاري ج ٩ ص ٣٠٩.

(٢) وفي الحديث أيضا : اعتبار مهر المثل في المحجورات ، وأن غيرهن يجوز نكاحها بدون ذلك.

وفيه : أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره.

وفيه جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات الا أن يكون أطلق استصحابا لحالهن» أه.

قاله ابن حجر في الفتح :

(٣) ومعنى تأويل سعيد بن جبير هو : أن الآية نزلت في الغنية والمعدمة» انظر فتح الباري ج ٩ ص ٣٠٩.

(٤) والحديث أخرجه الامام مسلم في صحيحه والاسماعيلي. والنسائي في سننه.

٣١٢

والصغار لا يسمين نساء (١).

فإن قيل : قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) حقيقة في الصغيرة بدليل عليه السلام : «لا يتم بعد حلم» (٢) ، واسم النساء يتناول الصغيرة في قوله :

(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٣).

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٤).

(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)(٥).

ويقال في الجواب عنه :

إن اسم النساء في قبيل الإناث ، كاسم الرجال في قبيل الذكور ، واسم الرجل لا يتناول الصغير ، فاسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر ، وفي الإناث التي وقع الاستشهاد بها ، يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة ، ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة الإجماع.

وقول القائل : اسم اليتيم لا يتناول ما بعد البلوغ ، فهو مسلم من حيث الحقيقة ، غير أنه يطلق مجازا ، بدليل أنه ذكر النساء ، ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات (٦).

__________________

(١) انظر القرطبي ج ٥ ص ١٣.

(٢) هذه الرواية أخرجها البزار ، وأخرجه أبو داود في سننه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٣) سورة النساء آية ٣.

(٤) سورة النساء آية ٢٢.

(٥) سورة النساء آية ٢٣.

(٦) انظر الجصاص ج ٢ ص ٣٤٣.

٣١٣

فإن قيل : فالبالغة يجوز التزوج بها بدون مهر المثل برضاها ، فأي معنى لذلك الجواب؟

يقال إن معناه أن يستضعفها الولي ويستولى على مالها ، وهي لا تقدر على مقاومته ، ولذلك قال :

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ)(١).

ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة ، ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة ، لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز ، وهو مذهب الأصم ، لأن نكاح الصغيرة يتخير (٢) بتفويت من غير تعجيل مصلحة ، على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف ، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقيا من القياس ولا توقيفا.

وقد قال قائلون : بل في كتاب الله ما يدل على جواز تزويج الصغيرة ، فإن الله تعالى يقول :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)(٣).

__________________

(١) سورة النساء الآية ٩٨.

(٢) أي يختار ، والمراد يتم ويتحقق ، إذا أخترنا القول بصحته بتفويت حقها في الاختيار عن رضا واقتناع بعد البلوغ ، وفي المبسوط بسط لرأي ابن شبرمة والأصم ، أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا ببيان السبب فيه ، وهو قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ، فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ، ولأن ثبوت الولاية على الصغير لحاجة المولى عليه ، حتى ان فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ، ولا حاجة بهما الى النكاح ، لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة ، وشرعا النسل ، والصغر ينافيهما ، ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ.

(٣) سورة الطلاق الآية ٤.

٣١٤

فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض ، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح ، وهذا لا دافع له إلا أن يقال :

النكاح في حق الصغيرة ، إن لم يتصور ، فالوطء الموجب للعدة متصور ، وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة ، إنما فيه ذكر العدة ، والعدة تجب بالوطء ، والوطء متصور في النكاح الفاسد ، وعلى حكم الشبهة في حق الأمة تزوجها مولاها وهي صغيرة فتوطأ.

والاعتماد على ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين ، زوجها أبوها أبو بكر» (١).

وربما لا يقولون : لا يحتج بما كان في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فإن نكاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء.

وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم ، ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، إذ لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وقد يقال في الجواب عن ذلك : إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ ، وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجا فالتوقع قائم» (٢).

__________________

(١) هكذا أثبت المؤلف في هذه النسخة ولكن الحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي يقول : تزوج صلّى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت سبع سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين.

(٢) قال في المبسوط بعد ذكر الأدلة على جواز تزويج الولي الصغير : والمقصود ان النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا ، وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك الا بين الأكفاء ، والكفء لا ينفق في كل وقت ، فكانت الحاجة ماسة الى اثبات الولاية للولي في صغرها ، ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله ، ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة الى ما هو من مقاصد هذا العقد ، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي ، ثم في الحديث (زواج عائشة) بيان ان الأب ـ

٣١٥

ويمكن أن يقال :

إن نكاح الصغيرة ليس بعيدا عن المصلحة ، ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة ، فإن المقصود منه الألفة ، فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى ، ترسخت المودة بينهما ، فقد قيل في المثل :

ما الحب إلا للحبيب الأول ..

والشاعر يقول :

عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا فارغا متمكنا

قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)(١) الآية (٣) :

__________________

ـ إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت ، فان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يخيرها ، ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها ، كما خير عند نزول آية التخيير.

وليس في ذلك غبن لها فإنها أن كرهت الزواج أو لم ترض بالزواج كان حالها حال الزوجة التي كرهت زوجها فلها حق الخلع ، ولها حق الاحتكام للحاكم في طلب الطلاق للحكم بما يراه في حدود الدين.

(١) مسألة تعدد الزوجات ـ كما يقول صاحب روائع البيان ـ ضرورة اقتضتها ظروف الحياة. وهي ليست تشريعا جديدا انفرد به الإسلام ، وانما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود ، وبصورة غير انسانية ، فنظمه وشذ به وجعله دواء وعلاجا لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع ، جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل ـ كما جاء في حديث غيلان حين أسلم ، وتحته عشرة نسوة ـ بدون حد ولا قيد ، فجاء ليقول للرجال : ان هناك حدا لا يحل تجاوزه هو (أربع) ، وأن هناك قيدا أو شرطا لإباحة هذه الضرورة هي (العدل بين الزوجات) ، فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة ، (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

فهو إذا نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة ، ولكنه كان فوضى فنظمه الإسلام ، وكان تابعا للهوى والاستمتاع باللذائد ، فجعله الإسلام سبيلا للحياة الفاضلة الكريمة.

٣١٦

ظن قوم أن الواو تقتضي الجميع ، فحل جميع هذا العدد الذي يخرج منه الاثنان والثلاث والأربع إلى تسع (١).

وقال جمهور العلماء : المراد به إباحة الثنتين إن شاء ، والثلاث إن شاء ، والأربع إن شاء ، وأنه مخير في أن يجمع من هذه الأعداد ما شاء ، فتقدير الكلام : تخيروا في هذه الأعداد.

فإن قيل : فلفظ التخيير قد عدم هاهنا ، وإنما ذكر لفظ الجمع ، ولم يكن كقوله :

(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)(٢).

__________________

ـ والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان ، أن إباحة تعدد الزوجات مفخرة من مفاخر الإسلام ، لأنه استطاع ان يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل ، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم ، فلا تجد لها حلا الا بالرجوع الى حكم الإسلام ، وبالأخذ بنظام الإسلام.

أن هناك أسبابا قاهرة تجعل التعدد ضرورة : كعقم الزوجة ، ومرضها مرضا يمنع زوجها من التحصن ، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن ، ولكن نشير الى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة.

تقول أستاذة ألمانية في الجامعة :

«أن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة تعدد الزوجات ، أنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح ، على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه ، أن هذا ليس رأيي وحدي بل هو رأي كل نساء ألمانيا».

اختارت الأستاذة الألمانية التي يحرم دينها التعدد : فلم تجد خيرة لها الا ما اختاره الإسلام ، فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الالمانية من احتراف البغاء ، وما يتولد عنه من أضرار فادحة. وفي مقدمتها كثرة اللقطاء».

وانظر بحثا ممتعا للشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار عند هذه الآية.

(١) انظر القرطبي ج ٥ ص ١٧.

(٢) سورة المائدة آية ٨٩.

٣١٧

قيل : ذلك لأن الله تعالى إنما أراد به بيان الأصلح لعباده ، بالإضافة إلى أحوالهم ، فإن أمكنه أن يعدل في الأربع نكح الأربع ، وإلا نكح الثلاث ، وإلا نكح المثنى فإن خاف ألا يعدل فواحدة ، فتقديره : ثلاث ورباع في حالة.

وهذا يرد عليه أن في أي وقت قدرتموه ، فقد جاز له نكاح الأربع ، فلا معنى لتقدير ذلك.

وقد قيل : الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل ، كأنه قال : ثلاث بدلا من مثنى ، ورباع بدلا من ثلاث ، لا على الجمع بين الأعداد.

ومن قال هذا قال : لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى ، ولا الرباع لصاحب الثلاث ، فأفاد بذكر الواو إباحة الأربع لكل واحد ممن دخل في الخطاب ، وأيضا فإن المثنى دخل في الثلاث ، والثلاث دخل في الرباع ، إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر على وجه الجمع فيكون تسعة ، وهذا كقوله :

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) إلى قوله (قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ)(١).

والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بدءا ، ثم قال :

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(٢).

__________________

(١) سورة فصلت آية ٩ ـ ١٠.

(٢) سورة فصلت آية ١٢.

٣١٨

ولو أن ذلك كذلك ، لصارت الأيام كلها ثمانية ، وقد علم أن ذلك ليس كذلك.

لقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(١).

فذلك المثنى داخل في الثلاث. والثلاث في الرباع ، فيكون الجميع أربعا ، وهذا ما عليه جمهور العلماء.

ثم هذا العدد في الأحرار دون العبيد ، فإن سياق الكلام يدل عليه ، وهو قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) ، والعبد لا يملك النكاح بنفسه ، لتوقف نكاحه على إذن مولاه ، ولأن الأصل امتناع النكاح في حق العبد ، لمنافاة الرق الاستقلال بالملك ، غير أن الشرع أباح له لمكان الحاجة ، فكان الأصل الاقتصار على الواحد ، غير أنه جعل مشطرا ، والزيادة عليه تعنت على أصل المنع (٢).

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)(٣) الآية (٢).

فالمراد به العدل في القسم بينهن كما قال تعالى في آية أخرى :

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)(٤).

والمراد به ميل القلب ، والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف ألا يفعل لإظهار الميل بالفعل ، فيجب عليه الاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانية العدل.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٥٤ ، وسورة يونس آية ٣ ، والآية ٧ من سورة هود.

(٢) انظر الطبري ج ٥ ص ٢٢.

(٣) انظر روائع البيان ج ٥ ص ١١٢١.

(٤) سورة النساء ، آية ١٢٩.

٣١٩

ثم قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية (٣).

فدل ذلك على أن لا عدد في ملك اليمين ، ولا وجوب القسم والعدل فيهن ، فإنه تعالى قال :

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).

يزول له الخوف من الميل ، (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

فإنه لا يجب فيهن العدل.

وظن قوم أن المراد به العطف على قوله : (فَانْكِحُوا) وتقديره : فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم ، وهذا يدل عند هذا القائل على أنه يجوز التزويج بأربع إماء ، كما جاز التزويج بأربع حرائر.

وهذا فيه نظر ، لأن العطف رجع إلى أقرب مذكور ، والمذكور آخرا قوله تعالى :

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وذلك يقتضي أن يكون الذي يعدل اليه خيفة الحيفة وترك العدل ، لا يجب فيه مراعاة العدل ، وذلك ملك اليمين.

فإن قيل : الضمير المتقدم هو النكاح ، وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، لا يستقل بنفسه ، فلا بد من عطف على ضمير متقدم ، ولا متقدم إلا النكاح.

وإذا قلتم المراد به : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لم يستقم إثبات ضمير الفعل المتقدم في هذا المحل ، فإنه لا نكاح في ذلك اليمين.

٣٢٠