أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ)(١).

معناه : وجاء أحد منكم من الغائط وكنتم مرضى أو مسافرين.

وهذا موجود في اللغة ، وهو في النفي أظهر من دخولها عليه بمعنى الواو (٢) ، مثل ما قدمناه من قوله :

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)(٣) ، «أو» في هذه المواضع هي بمعنى الواو ..

وقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً). لما دخلت (٤) على المنفي كانت بمعنى الواو. فيشترط وجود المعنيين ، لوجوب المتعة على هذا التقدير.

وفي عموم قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ، دليل على جواز الطلاق في حالة الحيض قبل الدخول (٥).

__________________

(١) سورة المائدة آية ٦.

(٢) في الجصاص : فهذا موجود في اللغة وهي في النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو.

(٣) سورة الأنعام آية ١٤٦.

(٤) أي أو.

(٥) وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض ، وأنها ليست كالمدخول بها لإطلاق إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض ، قاله الجصاص في الأحكام ج ٢ ص ١٣٦.

٢٠١

وقد زعم قوم أن المتعة ندب ، وهو قول مالك ، وذكروا أن قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(١) ، يدل على أنه ليس بأمر جزم ، فإن التقوى لا تدرى.

ولا شك أن عموم الأمر بالإمتاع في قوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ).

وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) يظهر في الوجوب ، وقوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد لإيجابها ، لأن كل أحد يجب عليه أن يتقي الله تعالى في الإشراك به ومعاصيه ، وقد قال الله تعالى في القرآن : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

ومالك يقول : إن الأصل أن لا يجب للمطلقة شيء ، إذا عاد البضع سليما إليها ، كما لا يجب للبائع شيء ، إذا رجع المبيع سليما اليه.

فقياس ذلك نفي المتعة. وهذا ضعيف ، فإن هذا القياس ، كان لمنع وجوب عوض البضع وهو المهر للمفوضة ، وليس فيه ما ينفي المتعة التي وجبت في مقابلة الأذى الحاصل بالطلاق ، وليس في قياس الأصول ما يدفع ذلك بوجه ، وهذا يقتضي أن لا يكون للمملوكة متعة ، إذا طلقت قبل الفرض والمس ، لأن المتعة تكون للسيد ، وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق ، ولا أعلم أحدا قال ذلك سوى الأوزاعي والثوري ، فإنهما زعما أن لا متعة في هذه الحالة.

وذكر أصحاب أبي حنيفة ، أن مهر المثل مستحق بالعقد ، والمتعة هي بعض مهر المثل ، فتجب لها ، كما يجب نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول.

__________________

(١) في قوله تعالى : «وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» سورة البقرة آية ٢٤١.

٢٠٢

وقال محمد بن الحسن : لو رهنها بمهر المثل رهنا ، وطلقها قبل الدخول ، كان رهنا بالمتعة ، ومحبوسا بها ، إن هلك هلك بها.

وذلك بعيد ، مع الاتفاق على سقوط مهر المثل بالطلاق قبل الدخول (١) وليست المتعة بدلا عن البضع ، فإن المعتبر به حال الرجل بنص كتاب الله تعالى :

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٢٣٦).

فدل ذلك على أنها ليست بدلا عن البضع.

كيف؟ والمتعة وجبت في حالة سقوط حقه عن بضعها ، والمهر في مقابلة استحقاقه بعضها ، فبينهما تضاد في الحقيقة ، لأن أحدهما يدل لاجتماعهما ، والآخر لافتراقهما.

وسبب المتعة أذية حصلت بالطلاق ، وهو أيضا في طريق النظر مشكل ، فإن الزوج إذا جاز له أن يطلقها فإنما أسقط حقا لنفسه ، فمن أين يجب عليه مال لها من جهة أنها لا تريد فراقه؟

ولو وجب لها شيء ، فإنما يجب لأنه فوت عليها حقها ، وذلك يمنع كون الطلاق مباحا.

وعلى أنه لو كانت المتعة صداقا ، أو عوضا عن صداق ، لما صح الترغيب في المتعة التي تستحق المهر بالمسيس ، والترغيب في الأحوال كلها في الامتاع واحد.

وذلك يؤكد قول مالك في أن محل المتع كلها واحد ، كما أن محل الصداق واحد ، فالمتعة في الأحوال كلها بعد الفراق ، والصداق قبله ،

__________________

(١) إذ لا داعي له لعدم وجود المقابل وهو حق البضع.

٢٠٣

فدل مجموع ذلك على أن تعرية النكاح عن المهر ممكنة ، وفي ذلك سقوط قول الذين زعموا أن المتعة عوض عن الصداق أو عن البضع.

نعم ، لا خلاف أن المطلقة قبل الدخول ، لا تستحق المتعة على وجه الوجوب ، إذا وجب لها نصف المهر المسمى ، فذلك يوهم كون المتعة قائمة مقام المهر ، لأنها وجبت حيث لا فرض ، ولم تجب عند من أوجبها ، حيث ثبت نصف المفروض.

ويجاب عنه ، بأن العلة فيه ، أنه لما رجع البضع إليها مع نصف المفروض ، حصل به التسلي ، فزال معنى التأذي بالفراق. فلم تجب المتعة لعدم سببها ، وهو التأذي بالفراق.

وأما قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) عام في حق المطلقات.

واختلف قول الشافعي رحمه الله في حق المطلقة للدخول بها ، وظاهر العموم لا يقتضي التردد ، إلا أنه ربما قيل : إن المطلقة بعد المس ، استحقت المهر في مقابلة وطء تقدم ، فلم يرجع البضع إليها سليما ، حتى يكون ذلك مانعا من التأذي بالفراق الذي هو سبب المتعة.

ويقال في معارضة ذلك : إن المهر كان في مقابلة وطئات العمر ، وقد عاد إليها ذلك مع كمال المهر ، فيتردد ويتفاوت النظر ، فلا جرم ، اختلف قول الشافعي فيه.

فأما تقدير المتعة فإن الله تعالى يقول : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ)(١)(قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ).

__________________

(١) الموسع : أي الغني الذي يكون في سعة من غناه ، يجب عليه بقدر ما يليق بيساره ، و «المقتر» أي المعسر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير ، وعليه بقدر ما يليق باعساره.

٢٠٤

وذلك يقتضي بظاهره اعتبار حال الرجل ، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة.

وذكر بعض علمائنا ، أن حالها معتبر مع ذلك أيضا ، ولو اعتبرنا حال الرجل وحده ، لزم منه أنه لو تزوج بامرأتين ، إحداهما شريفة والأخرى دنية ، ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما ، أن يكونا متساويين في المتعة ، فيجب للشريفة مثل ما يجب للدنية ، والله تعالى يقول : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) وليس ذلك من المعروف ، بل هو في العرف منكر.

ويلزم منه : أن الموسر العظيم اليسار ، إذا تزوج امرأة دنية فهو مثلها ، وبيانه : أنه لو دخل بها ، وجب لها مهر مثلها إن لم يسم لها شيئا ، ولو طلقها قبل الدخول ، لزمته المتعة على قدر حاله ، فيكون ذلك أضعاف مهر مثلها ، فتستحق قبل الدخول (١) أضعاف ما تستحقه بعد الدخول ، وذلك يقتضي أن لا يزاد على قدر المهر الواجب بأعلى غايات الابتذال وهو الوطء.

ثم قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً). (٢٣٧) المراد بالفرض ها هنا ، تقدير المهر وتسميته في العقد ، وإنما فهم منه الفرض في العقد ، لأنه ذكر المطلقة التي لم يسم لها فرضا بقوله تعالى :

(إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ،

__________________

(١) أي وبعد الطلاق.

٢٠٥

وذلك يقتضي أن يعقب بذكر من فرض لها في العقد وطلقت.

فأما المفروض لها بعد العقد ، إذا طلقت قبل الدخول :

فقال أبو حنيفة : ليس لها مهر مثلها.

ومالك والشافعي وأبو يوسف : يجعلون لها نصف الفرض.

ويجعل أبو حنيفة المفروض بعد العقد ، كالذي لم يفرض ، ويوجب المتعة ، وليس له في ذلك مستند ومرجع ، فإن المفروض بعد العقد ، إذا ألحق بالعقد ، فلم لا يلحقه في حكم التشطير؟ واختلاف زمان الفرض لا يغير حقيقة المفروض.

وقوله تعالى : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يتناول ـ بطريق العموم ـ ما بعد العقد.

ولو توهم متوهم ، أن فيما قبله ما يمنع من هذا العموم ، فليس كذلك ، فإن ما قبله عدم الفرض مطلقا ، وما بعده إثبات الفرض ، وإثبات الفرض يعم الأحوال.

ولو كان النص على المفروض عند العقد ، كنا نلحق به المفروض بعد العقد بطريق الاعتبار ، مثل إلحاق الشيء ، بمثل ما في معناه ..

قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، يقوي أحد قولي الشافعي ، وأن مجرد الخلوة لا تقرر المهر ..

٢٠٦

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) (٢٣٧) معناه : الزوجات يكون عفوها أن تترك الصداق ، وهو النصف الذي جعله الله تعالى من بعد الطلاق ، بقوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ).

وقد يكون الصداق عقارا وعينا معينة ، فلا يصح العفو فيه ، ولكن معنى العفو ، هو تركها الصداق عليه على الوجه الجائز في عقود التمليكات ، بأن تملكه إياه بغير عوض.

والعفو التسهيل : يقال : جاء الأمر عفوا ، أي سهلا سمحا من غير تعويق.

فقال الشافعي : «في هذا دلالة على جواز هبة المشاع فيما ينقسم وفيما لا ينقسم ، لإباحة الله تعالى تمليك نصف المفروض الثابت بعد الطلاق».

ولم يفرق بين ما كان منها عينا أو دينا ، وما يحتمل القسمة وما لا يحتملها ، فوجب اتباع موجب الآية في جواز هبة المشاع.

نعم : العفو كناية عن التمليك فتقديره : إلا أن يهبن نصف المهر ويتركنه على الأزواج ، فكان اللفظ عاما في جميع ما كان صداقا.

نعم يجوز أن يقال إنه لم يتعرض الشرع لشروط الهبة كالقبض وغيره ، فإن ذلك ليس مقصودا بالذكر ، وإنما المقصود منه أن كل ما دخل تحت الصداق يصح منه هبة نصفه وتركه على الزوج ، فلئن لم يتعرض كتاب الله تعالى لشروط العفو ، فدلالته على أن ما دخل تحت الصداق يجب أن يدخل تحت العفو قائمة.

قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢٣٧) فقد اختلف السلف فيه.

٢٠٧

فقال علي وجبير بن مطعم ، وابن المسيب وقتادة : هو الزوج.

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأصح قولي الشافعي.

وقال مالك (١) : هو الأب في حق البكر ، وهو رواية عن ابن عباس.

ولا شك بأن قوله : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، محتمل للوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما ، فينظر في أقرب الوجهين إلى معاني الشرع والأصول المحكمة ، التي ترد المتشابهات إليها ، وقد قال تعالى :

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٢).

فذكر تركه الصداق عليها ، وتركها الصداق عليه.

فاللائق بالبيان ها هنا أيضا : أنه إذا ذكر العفو من أحد الزوجين ، ذكر من الزوج الآخر ، وقال تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)(٣).

وقال : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً)(٤).

وكل ذلك منع للزوج من انتزاع شيء منها ، إلا أن تترك هي عليه ، أو يترك هو عليها ، ما استحق استرجاعه منها قبل الدخول.

__________________

(١) في الموطأ : «هو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته» ، ثم عقب على هذا القول القاسمي فقال : «وكلا التأويلين مروى عن عدة من الصحابة والتابعين» أه.

(٢) سورة النساء آية ٤.

(٣) سورة النساء آية ٢٠.

(٤) سورة البقرة آية ٢٢٩.

٢٠٨

ولأن قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، يقتضي كون العقد موجودا في يد من هو في يده ، فأما عقد غير موجود ، فليس في يد أحد.

نعم بعد الطلاق ، ليس العقد الذي كان بيد الزوج في الحال ، ولكنه كان بيد الزوج ، والذي كان من العقد ليس هو بيد الزوج ، ولكنه كان عند وجوده بيد الزوج ، ولأنه قال :

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٢٣٧) فندب إلى الفضل.

وقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢٣٧) ، وليس في هبة مال الغير إفضال منه إلى غيره.

والمرأة لم يكن منها إفضال ولا تقوى ، في هبة مال الغير بغير إذن مالكه ..

ولأن الصداق تارة يكون عينا ، وتارة يكون دينا ، وليس للولي في هبة مالها المعين المشار اليه دخل.

فهذه الأنواع تدل على صحة قولنا : إن المراد به الزوج ، هذا ما يتعلق باللفظ.

وأما ما يتعلق بقياس الأصول فبين ، غير أن أقوى ما يرد عليه ، أنا إذا تنازعنا معنى اللفظ ، وقوله (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، يبعد أن يراد به الزوج وقد طلق قبل المس ، وإنما يظهر ذلك في الولي الذي بيده أن يعقد النكاح ، وقال تعالى :

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) (٢٣٥).

ويجاب عنه بأن قوله : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، يبعد فهم الولي

٢٠٩

منه ، بالإضافة إلى عقد كان ، فإن إلى الولي أن يعقد عقدا آخر غير الأول ، وبيده أن يعقد عقدا غير موجود ، وليس بيده عقدة معدومة (١) ، وثبوت الولاية له في أن يعقد عقدا آخر ، لا يقتضي جواز عقده في نكاح مضى ، وليس بيده ما قد مضى ، ولا كان الذي مضى بيده عقدته عند وجوده ، وهذا ظاهر كما ترى.

نعم هو أولى بالزوج ، لأن الله تعالى أراد أن يميز المرأة عن الزوج بوصف يختص به الزوج ، وهو أن بيده عقدة النكاح ، فكان ذلك كناية عن الأزواج على وجه مستحسن ، وكان المعنى فيه : أن الله تعالى رغب الزوجة في العفو ، لأن الزوج لم ينل منها شيئا يقوم مقام ما أوجبه على نفسه ، فذكر ما يتعلق بأحد النصفين ، ثم عاد وذكر النصف الآخر فقال :

(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

رغب الزوج في أن يثبت على ما ساقه إليها وقد ابتذلها بالطلاق ، وقطع طمعها في وصلته ، ولذلك قال :

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٢٢٩) فإن قيل : فقد قال الله تعالى :

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية.

وذلك بيان الحكم في الأزواج ، ثم قال :

__________________

(١) راجع أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ١٥٤ ، وأحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ، روائع البيان ج ٢ سورة الأحزاب ، وأضواء البيان للمختار ج ١.

٢١٠

(فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

وقد ذكر بلفظ المغايبة عادلا عن المخاطبة ، ولو كان المراد به الزوج ، لقال : إلا أن تعفون أو يعفو ، ليكون جاريا على نسق التلاوة ، وموجب سابق الخطاب.

ويجاب عنه : بأن الله تعالى أراد أن يبين بطريق الكناية ، صفة تتميز بها المرأة عن الرجل ، فعدل عن المخاطبة إلى قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

فإن قيل : لما قال تعالى : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا) ، اقتضى ذلك من حيث الظاهر ، أن يكون عفوهن وعفو الذي بيده عقدة النكاح ، راجعا إلى النصف المذكور ، وهذا يدل على بعد حمل المطلق على الزوج.

ويجاب عنه : بأن قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، تعرض لأحد النصفين ، فلا يبعد أن يتعرض للنصف الآخر ، ليكون حكم العفو في جميع الصداق مذكورا.

فإن قيل قوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يرجع إلى حق وجب لها عليه ، فيصح منها العفو عن ذلك بأن تتركه عليه ، فأما إذا سقط النصف الآخر ، فلم يجب له عليها حق حتى يعفو عنه.

نعم له أن يهب لها شيئا من ماله ، وذلك الذي يهبه ليس صداقا ولا من جملته ، فلا يتحقق معنى العفو فيه ، وإنما هو على معنى الهبة ، والعفو إنما يتحقق في شيء مستحق لها عليه.

فيجاب عنه : بأنه يتحقق معنى العفو ، بأن يكون قد سلم الصداق

٢١١

إليها ، فلما طلقها رجع عليها بنصفه ، فإذا عفا فمعناه : ترك حقه عليها ، وإن كان بطريق الهبة.

وقد بينا أن الصداق تارة يكون عينا ، وتارة يكون دينا ، ولا يتحقق معنى العفو فيه ، إلا أن يجعل العفو كناية عن الهبة بضرب من المجاز.

وأقوى كلام لمن يحمل على الولي ، أن العفو منهما يجب أن يرجع إلى النصف المذكور ، لا إلى النصف الذي لم يجر له ذكر ، وقد ذكرنا الكلام عليه.

والذي وجه عليهم من قوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢٣٧) ، وأن ذلك إنما يتحقق في الذي يسقط حق نفسه لا حق غيره ، فهو أقوى كلام عليهم ، في أن المراد به الزوج.

ولكن ربما يقولون : عنى به الذي بيده عقدة النكاح والنساء ، ولأن الذي بيده عقدة النكاح أفرد ذكره ، ولو كان هو المعنى لقال : «وأن تعفوا أنتم أقرب للتقوى».

ولو عنى به جميع النساء لقال : وأن تعفون ، فلما قال : (وَأَنْ تَعْفُوا) جمع بينهما. وإذا جمع النساء مع الرجال ، كان جمعهم على التذكير.

وهذا غلط عظيم ، فإنه إذا ذكر الجميع وغلب لفظ التذكير لأجل إرادة الولي ، لزم منه أن يكون العفو أقرب للتقوى في حق الولي ، كما كان أقرب للتقوى في حق الزوج والمرأة ، وذلك محال.

قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢٣٧) :

يدل على تأكيد الأمر في الصلاة الوسطى.

٢١٢

ويدل على المفروضات المعهودات في اليوم والليلة ، فإن دخول الألف واللام عليها إشارة إلى معهود.

فأما الوسطى ، فلا تبين إلا إذا بانت الأولى والأخرى.

وروي عن زيد بن ثابت أنه قال : هي الظهر ، لأنه عليه السلام ، كان يصلي في الهجير ، فلا يكون وراءه إلا القليل ، وذلك أن الناس في قائلتهم وفي تجارتهم ، فلما كانت أثقل الصلوات على الصحابة أنزل الله ذلك.

وقال زيد بن ثابت : إنما سماها الله الوسطى ، لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.

ولا شك أن ما من صلاة من الصلوات الخمس بعينها ، إلا وقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.

وقال عمر وابن عباس : هي العصر ، وفي بعض مصاحف الصحابة : تعبير العصر (١) : إما تفسيرا ، وإما قراءة منسوخة.

وفي بعض الأخبار عن علي رضي الله عنه أنه قال : قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى قربت الشمس أن تغيب ، فقال النبي عليه السلام :

«اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا».

وقال علي رضي الله عنه : «كنا نرى أنها صلاة الفجر».

وعن ابن عباس عن النبي عليه السلام مثل ذلك.

__________________

(١) فكان فيما نزل كما قال البراء «حافظوا على الصلوات وصلاة العصر» ثم نسخ وأنزل (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

٢١٣

وذكروا أن العصر سميت الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار ، وصلاتين من صلاة الليل.

وقيل : إن أول الصلوات كان وجوب الفجر ، وآخرها العشاء ، فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب.

ومن قال الوسطى هي الظهر ، قال : لأنها وسطى صلاة النهار من الفجر والعصر.

ومن قال الصبح ، فقد قال ابن عباس : لأنها تصلي في سواد من الليل ، وبياض من النهار ، فجعلها وسطى في الوقت.

والرواية عن ابن عباس في ذلك صحيحة ، لم يختلف الثقاة فيها ، فلذلك اختار الشافعي أن الوسطى هي صلاة الصبح ، وإفرادها مبين ، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) ـ إلى قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(١).

واعلم أن الوسطى إنما تقدر في العدد الوتر ، فإنك إذا أخذت واحدة بقيت أربعة : اثنتان قبلها واثنتان بعدها ، وذلك يقتضي إخراج الوتر من الواجبات ، لأنها تكون ستا مع الوتر ، فلا تكون الواحدة منها وسطى في الإيجاب ، إلا أن يقال إنها الظهر ، لأنها بين صلاتي نهار ، الفجر والعصر ، فيقدر العدد الوتر لصلوات النهار ، وذلك ضعيف جدا.

فإن قوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) انصرف إلى الصلوات الخمس المعهودة بجملتها ، فتبعيضها خلاف المفروض قطعا.

وقد قيل إنها وسطى الصلوات المكتوبات ، وليس الوتر من المكتوبات

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٧٨.

٢١٤

لأنه يسمى واجبا ، وهذا أيضا ضعيف ، لأن الاختلاف في التسمية كان لتمييز المختلف فيه بين العلماء ، من المتفق عليه ، ولا يجوز أن يكون ذلك معتبرا عند الله في إخراج الوتر عن جملة الواجبات ، لاختلاف يقع بين العلماء في عبارة ، فيضعوا سمة للمختلف فيه ، وأخرى للمتفق عليه.

وأقرب ما قيل في دفع ذلك : أن وجوب الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات ، لقوله صلّى الله عليه وسلم :

«إن الله زادكم صلاة وهي الوتر».

وإنما سميت وسطى بعد الوتر ، وهذا لأنه (١) ادعاء نسخ للذي ورد في القرآن من معنى الوسطى ، بالاحتمال المجرد ، وذلك لا وجه له.

قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢).

اعلم أن القنوت في أصل اللغة هو الدوام على الشيء ، قال ابن عباس : قوموا لله قانتين : أي مطيعين.

وقال ابن عمر : القنوت هو طول القيام ، وقرأ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ)(٣) وقال صلّى الله عليه وسلم :

«أفضل الصلاة طول القنوت» (٤) يعني القيام.

وقال مجاهد : القنوت هو السكوت ، والقنوت الطاعة ، ومن حيث

__________________

(١) أي القول يتقدم النزول على الحديث.

(٢) يقول الراغب : «قنت : القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع ، ويقول صاحب محاسن التأويل : «قانتين» خاشعين ساكتين».

(٣) سورة الزمر آية ٩.

(٤) أي أفضل الصلاة صلاة فيها طول القنوت ، أو أفضل أحوال الصلاة طول القيام ، لأنه محل القراءة المفروضة.

٢١٥

كان أصل القنوت الدوام على الشيء ، جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا. وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة ، أو أطال الخنوع والسكوت ، كل هؤلاء فاعلون للقنوت ..

وروي أن النبي عليه السلام قنت شهرا ، يدعو فيه على حي من أحياء العرب ـ أراد به إطالة قيام الدعاء.

وروي عن أبي عمرو الشيباني قال :

«كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت».

فأبان أن ذلك يقتضي النهي عن الكلام في الصلاة ، وكذلك قال زيد ابن أرقم.

وقد ورد القنوت في القرآن لا بمعنى السكوت في قوله :

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(١) والمراد به الخشوع والطاعة.

وقال في موضع آخر : (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢).

وقال في قصة مريم : (اقْنُتِي لِرَبِّكِ)(٣).

ورد في التفسير عن مجاهد ، أنها كانت تقوم حتى تتورم قدماها.

والشافعي يرى أن الأمر بالسكوت إنما يتناول العالم بالصلاة ، فأما الساهي عن الشيء ، فلا يتناوله الأمر ، وهذا مما لا يشك فيه محصل.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ٣١.

(٢) سورة الأحزاب آية ٣٣.

(٣) سورة آل عمران آية ٤٣.

٢١٦

وروى الشافعي حديث ذي اليدين ، وأن أبا هريرة قال : صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحد صلاتي العشاء الظهر أو العصر.

وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة ، لأن ابن مسعود لما قدم من أرض الحبشة ، كان الكلام محرما ، لأنه سلم على النبي عليه السلام فلم يرد عليه ، وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة.

فإن قال قائل : قد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا ، وقد كان قال صلّى الله عليه وسلم :

«التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» فلم لم يسبحوا؟

فيقال : لعله في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك ، ولأنه ورد في الخبر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، صلى ركعتين ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ، فوضع يديه عليها ، إحداهما على الأخرى ، يعرف الغضب في وجهه ، وخرج سرعان الناس فقالوا :

أقصرت الصلاة؟

فقام رجل طويل اليدين ـ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين ـ فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة؟

فأقبل على القوم فقال : أصدق ذو اليدين؟ .. فقالوا : نعم. فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو» (١).

فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ، ولم يمنعه ذلك من البناء ، ولم يسبحوا ، لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت.

__________________

(١) رواه البخاري بنحوه.

٢١٧

وقال بعض المخالفين : قول أبي هريرة : صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم كما روي عن البراء ابن سبرة أنه قال : قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف ، وأنتم اليوم بنو عبد الله ، ونحن اليوم بنو عبد الله» (١) ، وإنما عنى به أنه قال لقومه.

وهذا بعيد ، فإنه لا يجوز أن يقول «صلى بنا» ، وهو إذ ذاك كافرا ليس أهلا للصلاة ، ويكون ذلك كذبا ، وفي حديث البراء هو كان في جملة القوم ، وسمع من رسول الله ما سمع.

قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً (٢) أَوْ رُكْباناً)(٣) (٢٣٩) :

لما ذكر الله تعالى وجوب الصلاة بشروطها وحدودها ، وأمر بالقنوت والصمت وملازمة الخشوع وترك العمل ، قال :

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، أرخص في جواز ترك بعض الشروط ، تعظيما لأمرها ، وتأكيدا لوجوبها.

وقد روي عن ابن عمر في صلاة الخوف أنه قال :

إن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.

__________________

(١) رواه مسعر بن كدام عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سيرة.

(٢) أي : فصلوا راجلين ، أي ماشين على الأقدام ، يقال : رجل كفرح ، فهو راجل ، ورجل بضم الجيم ورجل بكسرها ، ورجل بفتحها ، ورجيل ورجلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه ، والجمع رجال ورجاله ورجال كرمان.

(٣) أي : راكبين ، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة ، وهذا من رخص الله تعالى التي رخص لعباده ، ووضعه الآصار والأغلال عنهم ، كما قال صاحب محاسن التأويل.

٢١٨

قال نافع : لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم (١) :

وإذا ثبت جواز ترك الشروط ، ففيه دليل على أن الصلاة لا تفسد ، خلافا لأبي حنيفة.

وفي الآية أيضا دليل على أن الماشي يصلي في القتال على حسب حاله ، لأنه تعالى قال : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

ومالك يقول : الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة ، والأمر بالقنوت لا فرق فيه بين كلام وكلام ..

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية (٢٤٣) :

قد قيل إنهم فروا من الطاعون (٢).

وقيل إنهم فروا من القتال.

وقد كره قوم الفرار من الطاعون والوباء والأراضي السقيمة.

وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها أنه رجع ، وروى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «إذا سمعتم أن الطاعون في أرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه». فحمد عمر الله تعالى وانصرف.

وبالجملة ، الفرار منه يجوز أن يكره ، لما فيه من تخلية البلاد ، ولا

__________________

(١) رواه الشيخان.

(٢) والطاعون : الوباء ، وقيل المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والأبدان ، وقال النووي : هو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء (فتح الباري).

٢١٩

تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها ، ولا يتأتى لهم ذلك ، ويتأذون بخلو البلاد عن المياسير ، الذين كانوا أركانا للبلاد ، ومغوثة للمستضعفين (١).

وإذا كان الوباء بأرض فلا يدخلها ، لئلا يلحقه الغموم والكرب في المقام ، مع الوجل الذي لا يخلو منه الإنسان ، وذلك يشغله عن مهمات دينه ودنياه.

ولما عزم عمر على الرجوع فقال له أبو عبيدة :

أفرارا من قدر الله؟ .. فقال له عمر :

لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله؟ ..

ولا نعلم خلافا ، في أن الكفار أو قطاع الطريق ، إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين ، فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم ، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص ...

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٤) :

من قبيل ما تأخر بيانه إلى وقت الحاجة ، لأن السبيل مجمل ، وقد بينه في مواضع عدة ..

__________________

(١) وينقلون عدواه الى بلد أخرى ، ولعل النهي في الحديث عن الدخول والخروج لهذا السبب قبل غيره ، ففيه توجيه الى الحجر الصحي لمنع الأمراض المعدية من الانتشار ، وهو ما يرجح أن النهي عن الخروج على سبيل الإلزام لا الندب ، ويلحق به المنع من الدخول.

٢٢٠