أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

وقالوا : يعتبر وقوع أكثر الطواف في أشهر الحج ، فإن وقع في (١) غيره لم يكن متمتعا ، يعني الأكثر.

وشيء من ذلك لا يعتبر عندنا ..

وأما حاضري المسجد الحرام ، فهم من كان دون مسافة القصر عند الشافعي ، ودون الميقات عند أبي حنيفة ، ويبعد جعل أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام ، وبينهم وبين مكة مسيرة عشرة أيام.

وذكر عبد الله بن الزبير ، وعروة بن الزبير متعة أخرى : وهو أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة ، ويتمتع بحجه إلى العام القابل ويحج ، فهدا المتمتع بالعمرة إلى الحج ، فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ، ولكنه يبقى على إحرامه ، حتى ينحر عنه الهدي يوم النحر ، ثم يحلق ويبقي على إحرامه ، حتى يقدم مكة فيتحلل بعمل عمرة من حجه ..

والذي ذكره ابن الزبير بخلاف عموم قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) بعد قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة ، والنبي عليه السلام وأصحابه ، حين حصروا بالحديبية ، حلق وحل وأمرهم بالإحلال ، وعلى أن الذي يلزم بالفوات ، ليس بعمرة ، وإنما هو مثل عمل عمرة ، وهي من أعمال الحج.

والله عز وجل يقول : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). فجعل الهدي معلقا بفعل العمرة والحج ،

__________________

(١) يعني أن وقع أكثر الطواف في غير أشهر الحج.

١٠١

والدم الذي يلزمه هو بالإحصار ، غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة ، وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء ، لا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج.

نعم إذا بان أنه ليس بعمرة ، فالذي قاله أبو حنيفة ، من وجوب قضاء الحج والعمرة على المحصر بعد التحلل ليس بصحيح.

المتعة الأخرى : وهي فسخ الحج ، إذا طاف له قبل يوم النحر ، وهذا الحكم غير ثابت ، إلا على قول ابن عباس ، فإنه كان يراه على ما رواه عطاء عنه ، وأنه كان يقول : لا يطوف أحد بالبيت قبل يوم النحر إلا حل من حجه ، فقيل له : من أين قلت ذلك؟ ..

فقال : من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وأمره الناس في حجة الوداع أن يحلوا ، ومن قول الله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، وتظاهرت الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج ، من لم يكن معه منهم هدي ، ولم يحل هو عليه السلام وقال :

«إني سقت الهدى فلا أحل إلى يوم النحر» ، ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية ، حين أرادوا الخروج إلى منى ، وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأضرب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج.

وروي عن بلال بن الحارث (١) المزني أنه قال : قلت : يا رسول

__________________

(١) هو بلال بن الحارث بن عاصم بن سعيد بن قرة من ولد عثمان بن عمرو بن أد وولد عثمان يقال لهم مزينة نسبة الى أمه أبو عبد الرحمن المزني ، وهو مدني قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم في مزينة في رجب سنة خمس ، وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة ثم سكن البصرة. وتوفى بلال سنة ستين آخر أيام معاوية وهو ابن ثمانين سنة انظر أسد الغابة ج ١ ص ٢٤٤ وله ترجمة في الاستيعاب.

١٠٢

الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ ..

فقال : لا ، بل لنا خاصة.

وقال أبو ذر (١) : لم يكن فسخ الحج بعمرة ، إلا لأصحاب رسول الله ..

وقال قوم : إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال ، كان على وجه آخر ، وذكر مجاهد ذلك الوجه ، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كانوا فرضوا الحج أولا ، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا ، وينتظرون ما يؤمرون به ، وكذلك أهل على اليمن ، وكذلك كان إحرام النبي عليه السلام ، ويدل عليه قوله عليه السلام :

«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».

وكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ، وبه أمر أصحابه ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :

«أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك ـ وهو بوادي العقيق ـ فقال : صل بهذا الوادي وقل حجة في عمرة».

__________________

(١) أبو ذر الغفاري : اختلف في اسمه اختلافا كثيرا ـ كما يقول صاحب أسد الغابة ـ فقيل : جندب بن جنادة ، وهو أكثر وأصح ما قيل فيه ، وقيل : برير بن عبد الله ، وبرير بن جنادة ، وبريرة بن عشرقة ، وقيل : جندب بن عبد الله ، وقيل جندب بن سكن الغفاري ، وأمه وملة بنت الوقيعة ، من بني غفار أيضا.

وكان أبو ذر من كبار الصحابة وفضلائهم ، قديم الإسلام ، توفي بالربذة سنة احدى وثلاثين ، أو اثنين وثلاثين وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده في ذلك العام.

١٠٣

فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم ، خرج منتظرا ما يؤمر به ، فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة ، ثم أهل أصحاب النبي عليه السلام بالحج ، وظنوا أنه أمرهم بذلك ، فلم يكن إحرامهم صحيحا ، أو مروا بالمتعة بأن يطوفوا البيت ، ويحلوا ويعملوا عمل العمرة ويحرموا بالحج ، كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه أنه يجعله عمرة إن شاء ، وهذا ليس له وجه ، فإن الصرف إلى الحج إن لم يصح ، فلا حاجة إلى الفسخ ، وإن صح ففسخه هو الحكم المنسوخ.

ولأن المقصود إبانة حكم مفسوخ ، وفي وقتنا هذا تمام العمرة ، إذا صرف إلى أحد النسكين ، تعين فلا يقبل الفسخ ..

والصحيح في ذلك ما ذكرته عائشة ، وقد أنكرت أن يكون النبي عليه السلام ، أمر بفسخ الحج على حال ، وقالت :

«خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فمنا من أهلّ بالحج ، ومنا من أهلّ بالعمرة ، ومنا من قرن» ، فمن أهل بحج مفرد أو قرن ، لم يحل حتى يقضي مناسك الحج ، ومن أهل بعمرة وطاف وسعى ، حل من إحرامه حتى يستقبل حجا ..

وروي عن أصحاب أبي حنيفة ، بناء على الأقوال الأولى ، أن هدي المتعة لا يجزئ قبل يوم النحر ، لأن النبي عليه السلام قال :

«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».

وقد كان النبي عليه السلام قارنا وقد ساق الهدي ، وقال لعلي : «إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر» (١) ، فدل على امتناع جواز ذبح الهدى للمتعة قبل يوم النحر.

__________________

(١) متفق عليه بنحوه.

١٠٤

وهذا فاسد ، فإنه بيّنا أن النبي عليه السلام ، لم يأمر أحدا بفسخ الحج وجعله عمرة ، وأن الأمر على ما قالته عائشة ، وإنما قال عليه السلام ما قال ، لأنهم التمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يعتمر معهم ، فذكر أنه أحرم بالحج وأنه لا يقضي (١) مناسكه ، إلا في يوم النحر وبعده.

وكانت عائشة وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قالت : أكل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا أنصرف بنسك واحد؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، فاعتمرت وانصرفت بنسكين.

وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) الآية (١٩٦). يدل على أن صيام الثلاثة الأيام يجب أن يقع في الحج ، لا كما قال أبو حنيفة ، إنه يجوز ذلك بعد الإحرام بالعمرة ، قبل الإحرام بالحج ..

وقوله تعالى : (فِي الْحَجِّ) : إما أن يكون المراد به : في الإحرام بالحج ، أو في أشهر الحج ، وأحد المعنيين خلاف الإجماع فتعين الثاني .. وكيف يجوز أن يعلق البدل على عدم الأصل ، ثم يجوز البدل في غير وقت جواز الأصل؟

وإن زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

«إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر» ، فهذا هو التحلل من الحج لا غيره.

__________________

(١) أي لا يتم.

١٠٥

ولأصحاب الشافعي خلاف في جواز تقديم العبادة المالية على وقت الوجوب إذا وجد سببها.

ولكن سبب البدل يكون بسبب الأصل لا محالة ، فأما أن يمتنع الأصل ، ولا يمتنع البدل فلا وجه له ، وبه يعلم أن لا سبب قبل الإحرام بالحج ، فإنه إنما يمتنع بإخلاء بعض وقت الحج عن الإحرام بالحج وشغله بغيره ، فلا يظهر ذلك ولا يتحقق ، قبل الإحرام بالحج.

ولأجل بناء البدل على الأصل قلنا : إن لم يصم المتمتع قبل يوم النحر ، صام الثلاث بعد أيام التشريق. :

وقال أبو حنيفة : لا يصوم بعد أيام الحج ، ويصوم قبل الإحرام بالحج وأيامه ، وهذا تناقض بين ، وقصارى قوله تعالى : (فِي الْحَجِّ) بيان وقت الجواز ، وأنه يتهيأ له في تلك الحالة ، لأنه يكون على صورة المقيمين ، وإلا فصيام الثلاثة والسبعة والهدى ميقاتها واحد ، ويجوز تأخيرها عندنا بعذر السفر ، وهو كأداء الكفارات بعد وجوبها من غير فرق.

وسوى أصحاب الشافعي بين الأصل والبدل ، وصيام السبعة والثلاثة في أن جميعها شيء واحد.

وفرق أبو حنيفة وأصحابه بينهما وقالوا : إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم قبل أن يحل ، فعليه الهدي ويبطل حكم الصوم.

وعند الشافعي : كما لا يبطل صوم السبعة بوجود الهدى بعد الثلاثة ، فكذلك بعد الصوم في أول اليوم أو في ثانيه ، لأن الله تعالى قال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) (١٩٦) فجعل الجميع بدلا.

١٠٦

وزعم المخالف أن صوم الثلاثة يتوقف عليها الحل ، ففرض الهدي قائم عليه ، ما لم يحل وتمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق ، فمتى وجد فعليه أن يهدي ، وزعموا أن الهدي مشروط للإحلال ، لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي ، لقوله تعالى :

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

فمن لم يحل حتى وجد الهدي ، فعليه الهدي ، لأن الله عز وجل لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم أو بعده ، وهذا غلط ، ولو كان وجوب الهدي لمكان التوصل به إلى الإحلال ، ما ثبت وجوبه إلا على هذا الوصف ، ويسقط بالإحلال دون الهدي ، إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة ، وهذا خلاف الإجماع. ولأنه أوجب الهدى على المتمتع ، فكان ذلك مضافا إلى تمتعه لا إلى غيره ، وذلك لا يستدعي وصف الإحلال ، ولو كان لوصف الإحلال ، لما شرع صوم السبعة بدلا عن الهدي بعد الإحلال ، لأن البدل يقصد به ما قصد بالأصل ، ولا يجوز أن يشرع بعض البدل لمقصود ، وبعضه لمقصود آخر ..

نعم أوجب الله تعالى عليه الهدي أولا جزاء على تمتعه ، فإذا لم يجد أوجب الصوم ، فإذا ابتدأ الصوم ها هنا أو صوم الظهار ، فقد صح الصوم ، ومتى صح الصوم ، سقط عنه فرض الرقبة والهدي لصحة الجزاء المفعول عنه ، ولذلك قالوا في المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته ، إن فرض الطهارة بالماء يسقط عنه لهذه الصلاة ، فخرج الوضوء عن كونه شرطا في حق هذه الصلاة ، وليس يمكن أن يقال إن الصلاة أو الصوم موقوفان لا يحكم بصحتهما ، فإن الوقف إنما يكون إذا لم تكمل شرائط الصحة ، فأما إذا كملت الشرائط ، فلا يمكن أن يجعل موقوفا ، ولو بطلت العبادة ، فليس بطلانها نظرا إلى الحال ، بل لمكان

١٠٧

الفساد فيما مضى ، وفساده فيما مضى لعدم شرطه فيما مضى ..

قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) ، يحتمل الرجوع إلى أهله ويحتمل الصوم في الطريق في حالة الرجوع من منى.

وقوله (كامِلَةٌ) ، يحتمل أنها كاملة في قيامها مقام الهدي.

ويحتمل أن يزيل به خيال تأويل مستكره ، وهو أن الواو ربما تذكر بمعنى أو ، فأزال هذا الاحتمال بقوله : كاملة.

وجعل الشافعي هذا من البيان الأول ، فقيل له : قوله : ثلاثة وسبعة ، غير مفتقر إلى البيان ، فكيف يعده من أقسام البيان؟ ..

فأجاب بأنه لا يحتاج إلى بيان ليخرج به عن حد الإشكال ، ولكنه يخرج به عن حد الاحتمال البعيد الضعيف ، فجعلناه في أول أقسام البيان ، لأن معناه تجلى على وجه لا مرتقى بعده في درجات البيان ..

قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١٩٧).

اختلف الناس في أشهر الحج ما هي؟ ..

فقال ابن عباس وابن عمر : إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة (١).

وعن ابن مسعود : أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة (٢).

وعن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله ، وكذلك روي عن طاوس ومجاهد ..

__________________

(١) والى هذا القول ذهب (مالك والشافعي واحمد) انظر الجصاص والقرطبي وروائع البيان والفخر الرازي.

(٢) والى هذا القول ذهب أيضا (عطاء) ، ومجاهد ، وابن عمر في رواية. والامام مالك في رواية أيضا.

١٠٨

وقال قائلون : يجوز أن لا يكون ذلك اختلافا في حقيقة ، وأن يكون مراد من قال : وذو الحجة أنه بعضه ، لأن الحج لا محالة ، إنما هو في بعض هذه الأشهر لا في جميعها ، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج ، فأريد بعض الشيء يذكر جميعه ، كما قال صلّى الله عليه وسلم في أيام منى ثلاثة ، وإنما هي يومان وبعض الثالث.

ويقال : حجبت عام كذا ، وإنما حج في بعضه ، ولقيت فلانا في سنة كذا ، وإنما كان لقاؤه في بعضها ، وكلمته يوم الجمعة وإنما المراد به البعض .. هذا في فعل لا يستغرق كل الوقت ..

ويحتمل وجها آخر : وهو أن الجاهلية كانوا ينسئون الشهور ، فيجعلون صفر المحرم ، ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون بها القتال ، فأبطل الله تعالى النسيء ، وأقر وقت الحج على ما كان عليه ابتداؤه يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان ، فقال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، يعني بها هذه الأشهر ، التي ثبت وقت الحج فيها ، دون ما كان عليه أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتقديم الحج وتأخيره ، وقد كان الحج عندهم معلقا بأشهر الحج ، التي هي الأشهر الحرم الثلاثة التي يأمنون فيها صادرين وواردين ، فذكر الله تعالى هذه الأشهر ، وأخبر باستقرار أمر الحج فيها ، وحظر عليهم تغييرها وتبديلها إلى غيرها.

ويحتمل أيضا أن الله تعالى لما قدم ذكر التمتع إلى الحج ، ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر ،

١٠٩

قال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج ، ويثبت حكمه فيها ، هي هذه الأشهر ، وأن من اعتمر في غيرها ثم حج ، لم يكن متمتعا ، ولم يكن له حكم التمتع.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ (١) قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (١٨٩) :

فاستدل بعض الحنفية ، على كون جميع شهور السنة مواقيت للحج ، كما كانت بأسرها مواقيت للناس ، ولزمهم من هذا أن يكون الحج المطلق ، عبارة عن الإحرام فقط ، دون سائر الأفعال ، مع أن الإحرام عندهم ، ليس من الحج ، بل هو شرط الحج ، والذي هو الحج من طواف القدوم في غير أشهر الحج ، وسعى ، لم يجز إجماعا ، فإذا علم ذلك ، فحمل اللفظ على بعض الشهور ، أولى من حمل الحج المطلق على الإحرام ، الذي ليس من الحج ، وإنما هو طريق إليه وشرط له ، ولأن الله تعالى لم يرد جعل الأهلة ميقاتا للحج ، باعتبار كونها أهلة ، فإن الإحرام ليس يتعين له أول الشهر ، ولا المواقيت أيضا ، وإنما الأهلة عبارة عن جملة الشهر ، فإن السائل سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما أجمع عليه أهل التفسير وقال : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو مستدقا ، ثم ينمو حتى يتكامل ثم ينقص.

وكان السؤال من معاذ بن جبل رضي الله عنه ، عن زيادة القمر ونقصانه ، فأخبر الله تعالى أن الحكمة في زيادته ونقصانه ، زوال الالتباس

__________________

(١) الأهلة جمع هلال ، سمي بذلك لارتفاع الأصوات بالذكر عند رؤيته لأن الإهلال رفع الصوت ، والهلال في الحقيقة واحد ، وجمعه باعتبار أوقاته واختلافه في ذاته ، قال جمهور اللغويين : ويقال له هلال لليلتين ، وقيل لثلاث ثم يكون قمرا.

١١٠

عن أوقات الناس في حجهم ، وحل ديونهم ، وعدد نسائهم ، ومدد حواملهم ، وأجرة أجرائهم وغير ذلك.

ولا شك أن الوقت في الوقوف متعلق بالهلال ، فالهلال ميقات له ، لأنه به يعرف ، وكذلك الطواف ، فلا يتضمن ما قلناه ، إطلاق اسم الحج على شرط الحج ، دون نفس الحج.

فإن قيل : فعلى قولكم أيضا قد قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) والأفعال كالوقوف ، وسائر الأفعال إنما تقع في غير الأهلة ، بل في وسط الشهر لا في الأشهر ، فليس في شوال من أفعال الحج شيء ، فقد أخرجتم الحج عن أن يكون اسمه متناولا لشيء من الأفعال سوى الإحرام.

قلنا في جواب ذلك : إن الإحرام ركن الحج عندنا ، فقوله : (الحجّ أشهر) ، يعني عقد الحج وإنشاؤه في أشهر معلومات ..

قالوا : احتمل أن يكون المراد به غالب أحوال الناس ، وكأنه قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في تعارف الناس ، فمن فرض في هذه الأشهر الحج ، فلا يخلن بحقه ، وليرفض الفسوق والرفث والجدال كما قال الله تعالى في صوم رمضان : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، والمقصود به تهوين الأمر عليهم دعاء إلى فعله ، لا سيما وليس في قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) صنفة الأمر ، فيجوز أن يكون إخبارا عن متعارف أحوال الناس ، في إيقاع الإحرام بالحج في هذه الأشهر ، وهذا لأنا لا ننكر احتمال اللفظ له ، إلا أن الظاهر ما قلناه.

ومما سألوه أن من فروض الحج ، ما يفعل بعد أشهر الحج ، ويكون مفعولا في وقته ، وهو طواف الزيارة ، ولم يجز شيئا من فروض الصلاة

١١١

يفعل بعد خروج وقتها ، إلا على وجه القضاء ، فلم يجز أن يكون ركن العبادة باقيا في غير وقتها ، فبقي إحرامه كاملا بعد أشهر الحج ، وهو يوم النحر قبل رمي الجمار ، حتى قال الشافعي : «إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه» ، فدل على كونه وقتا للإحرام بالعبادة ، وليس بقاء العبادة في هذا الوقت ، على نحو بقاء العصر بعد غروب الشمس ، والصبح بعد طلوع الشمس ، فإن ذلك وقت العذر والضرورة ، لا وقته الأصلي ، ولذلك لا يجوز تأخير صلاة العصر ، إلى وقت يعلم وقوعها بعد غروب الشمس ، وها هنا يوم النحر وقت أصلي لأفعال الحج ، فليكن وقتا لعقد الإحرام ..

والجواب عنه ، أنه وقت لأعمال حج ، لا يتصور بقاء الإحرام به ، فإن الطواف في هذا اليوم ، إنما يكون لحج يقدم الإحرام به قبل يوم النحر ، وذلك الحج بالاتفاق ، لا يتصور بقاؤه في هذا الوقت ، والذي ينعقد من الإحرام في هذا الوقت ، لا يتصور أن يكون هذا الوقت وقتا لأعماله ، فكيف يجوز الاستدلال به؟

بل يقال إن فواته يدل على أن الوقت الذي لا يبقي فيه الإحرام ، لا يجوز أن يكون وقتا لابتداء مثله ، وهذا أقرب في الاستدلال.

قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَ (١) الْحَجَّ) (١٩٧) أي أوجبه على نفسه فيه.

وظن بعض الناس أنه لا بد من شيء يصح القصد إليه ، ويصح فرضه ، يعني إيجابه ، وهو التلبية ، وهو مذهب أبي حنيفة.

والشافعي يقول : أوجب فيه على نفسه فعل الحج ، وهو منقسم

__________________

(١) أصل الفرض في اللغة : الجزم والقطع ، ومنه فرضة القوس والنهر.

١١٢

إلى كف النفس عن المحظورات ، كالصوم ، وإلى أفعال تباشرها (١) ..

قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ)(٢) الآية (١٩٧) :

قال ابن عمر : الرفث الجماع.

وعن ابن عباس مثل ذلك.

وروي عنه أنه التعريض بالنساء.

والأصل في الرفث الإفحاش في القول ، وبالفرج الجماع ، وباليد الغمز للجماع ، هذا أصل اللغة.

فدلت الآية ، على النهي عن الرفث في هذه الوجوه كلها ، ومن أجله حرم العلماء ما دون الجماع في الإحرام ، وأوجبوا في القبلة الدم.

وأما الفسوق فالسباب (٣) ، والجدال والمراء ، وقيل : هو أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ، والفسوق المعاصي ، فدلت الآية على تحريم أشياء لأجل الإحرام ، وعلى تأكيد التحريم ، في أشياء محرمة في غير الإحرام ، تعظيما للإحرام ، ومثله قوله :

«إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه

__________________

(١) أي النفس.

(٢) الرفث : الفحش بالكلام ، وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه ، والفسوق الخروج عن طاعة الله سبحانه ، يقول تعالى عن إبليس «ففسق عن أمر ربه». والجدال الخصام ، والمراء ، والمماراة ، والأصل في تحريم هذه قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) وقوله صلّى الله عليه وسلم : (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أخرجه البخاري عن أبي هريرة.

(٣) وقد ورد في الحديث الصحيح : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).

أحكام القرآن ج ١ م ٨

١١٣

فليقل إني امرؤ صائم (١)» ..

قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا)(٢) في هذا المقام ، يعطي التزود للحج حتى لا يتكلوا على الناس وسؤالهم ، وقوله في مساق ذكر الحج :

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)(٣)(أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (١٩٨).

يدل على جواز التجارة في الحج ، حتى لا يتوهم متوهم أن ذلك لا يجوز ، حتى لا يصرفه عن إكمال الحج ، كما لا يجوز (٤) الاصطياد.

قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ)(٥)(مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) (١٩٨) :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في سننه ، ج ١ ص ٥٤١ رقم ١٦٩١ ، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما وهو في الموطأ بنحوه.

(٢) الزاد : ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره ، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة وصدق من قال :

تزود من التقوى فإنك راحل

وبادر فان الموت لا شك حاصل

فخير لباس المرء طاعة ربه

ولا خير فيمن كان لله عاصيا

(٣) الجناح : الحرج والإثم.

(٤) انظر البخاري ، كتاب الحج باب التجارة أيام الموسم.

(٥) قال الراغب : فاض الماء إذا سال منصبا ، والفيض : الماء الكثير ، ويقال غيض من فيض ، أي قليل من كثير ، وقوله تعالى : (أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أي دفعتم منها بكثرة تشبيها بفيض الماء أه.

وقال الزمخشري : (أفضتم دفعتم بكثرة ، وهو من افاضة الماء وهو صبه بكثرة) أه وعرفات : اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج ، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها.

١١٤

فيه دليل على أن الوقوف بعرفة من مناسك الحج ..

وقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (١٩٩) .. قيل : معناه أنه خطاب للحمس وهم قريش ، فإنهم كانوا يقفون بالمزدلفة ، ويقف سائر الناس بعرفات ، فلما جاء الإسلام ، أمرت قريش بأن تفيض من حيث أفاض الناس ويقفوا منهم (١) ..

وقال الضحاك : إنه أراد به الوقوف بالمزدلفة ، وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام ، وسماه الناس ، كما سماه أمة ، لأنه بوحدته (٢) أمة كالناس ، وأكثر الناس على القول الأول ، إلا أن قول الضحاك أقوى من حيث دلالة النظم ، فإن الله تعالى قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ، فذكر الإفاضة من عرفات ، ثم أردف ذلك بقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، وثم تقتضي الترتيب لا محالة ، فعلمنا أن هذه الإفاضة ، هي بعد الإفاضة من عرفات ، وليس بعدها إفاضة ، إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام ، فكان حمله

__________________

ـ انظر الآلوسي والقرطبي ومفردات الراغب ، وتفسير الكشاف ج ١ ص ١٨٥.

والمشعر الحرام : هو جبل المزدلفة وسمى مشعرا لأنه معلم العبادة. ووصف بالحرام لحرمته. الفخر الرازي. ومفردات الراغب.

ونقل الفخر عن الواحدي في (البسيط) : أن المشعر الحرام هو المزدلفة ، سماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به ، والدعاء عنده ، ثم قال : لأن الفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ ... إلخ) تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الافاضة من عرفات ، وما ذاك الا بالبيتوتة بالمزدلفة أه.

(١) أنظر البخاري كتاب التفسير باب (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.

(٢) كذا في الأصل ولعلها وحده ، قال مجاهد في تفسير قوله تعالى : «أن ابراهيم كان أمة» أنه كان مؤمنا وحده ، والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة وحده (حاشية الجمل).

١١٥

على هذا ، أولى منه على الإفاضة من عرفة ، لأن الإفاضة من عرفة ، قد تقدم ذكرها ، فلا وجه لإعادتها.

ويبعد أن يقول : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ، فَاذْكُرُوا اللهَ) بعد الإفاضة من المشعر الحرام ، ثم أفيضوا من عرفات.

وغاية ما قيل في القول الآخر : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، عائد إلى الكلام الأول ، وهو الخطاب بذكر الحج ومناسكه ، ثم قال : أيها المأمورون بالحج من قريش ـ بعد ما تقدم ذكرنا له ـ أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين ، وهو كقوله تعالى :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)(١).

والمعنى : ثم بعد ما ذكرنا لكم ، أخبركم أنا أتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن.

ويعترض عليه ، أن ذكر الإفاضة إذا تقدم وعقب بعده بنسك آخر ، يقتضي الإفاضة ، فلا يحسن أن يذكر بكلمة ثم ما يرجع على الإفاضة من الذي تقدم ، دون أن يرجع إلى ما يليه.

وقد قيل : إن ثم بمعنى الواو ، ولا يبعد أن يقول : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، مثل قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)(٢) .. ومعناه : وكان من الذين آمنوا ، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ)(٣) ومعناه «والله شهيد».

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٥٤.

(٢) سورة البلد آية ١٧.

(٣) سورة يونس من الآية ٤٦.

١١٦

فقيل لهم : قد ذكر الإفاضة من عرفات ، فأي معنى لذكر الإفاضة ثانيا؟

فأجابوا : بأن فائدته أن يعلم أنه ليس خطابا لمن كان يقف بها من قبل ، دون من لم يكن يرى الوقوف بها ، فيكون التاركون للوقوف على ملة إبراهيم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات ، فأبطل ظان (١) الظان لذلك بقوله : (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ..

أما كون الوقوف ركنا لا يصح الحج بدونه ، فإنما علم بالإجماع وفيه إخبار أيضا ، فمنه ما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال :

سئل النبي عليه السلام : كيف الحج؟ قال : «يوم عرفة ، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الفجر فقدتم حجه» ..

وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي ، أن النبي عليه السلام قال بالمزدلفة :

«من صلّى معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا هذا الموقف ، ووقف بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه» (٢).

وليس وجوب الوقوف والاعتداد به مخصوصا بالليل أو النهار ، فالوقوف نهارا غير مفروض ، وإنما هو مسنون ، وقد دل ما رويناه من الخبر ومطلق قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا) ، على عدم اختصاصه بليل أو نهار ، ولا يعرف لمذهب مالك وجه ، إلا أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها ، إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال ، كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وإنما كانوا يدفعون من المزدلفة ، بعد طلوع

__________________

(١) لعلها : ظن.

(٢) أخرجه الترمذي في سننه ج ٣ ، ص ٢٢٩.

١١٧

الشمس ، فخالفهم النبي عليه السلام ، ودفع من عرفات بعد الغروب ، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فرأى أن خاصية الشريعة في مراغمة الكفار في عاداتهم ، والمراغمة إنما تحصل بالوقوف ليلا ..

والذي قالوه ، لا يقتضي أن يكون فرضا ، بل يجوز أن يكون ندبا ، فإثبات الوجوب على هذا المعنى لا وجه له.

وقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، ولم يختلف العلماء في أن المشعر الحرام هو المزدلفة ، ويسمى جمعا أيضا ، والذكر الثاني في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ، هذا الذكر المفعول عند المزدلفة غداة جمع ، فيكون الذكر الأول غير الثاني ، والصلاة تسمى ذكرا لقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١).

فيجوز أن يفهم منه تأخير صلاة المغرب ، إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة ، وتواترت الأخبار في جمع النبي عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.

واختلف فيمن صلّى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة ، فالشافعي وأبو يوسف يجوزان ، وأبو حنيفة ومحمد لا يجوزان.

فأما الوقوف بالمزدلفة فليس بركن عند أكثر العلماء ،

وقال الأصم وابن علية : إنه ركن ،

وقوله عليه السلام : الحج عرفة.

ومن وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر ، فقدتم حجه بإدراك عرفة ، ولم يشترط معه الوقوف بجمع.

__________________

(١) سورة طه آية ١٤ وتمامها : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

١١٨

نعم قد قال الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، والذكر بالإجماع ليس بواجب ، ولعل المراد بالذكر الصلاة ، وهي الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٢٠٠) :

قضاء المناسك أداؤها على التمام مثل قوله تعالى :

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً)(١).

وقال صلّى الله عليه وسلم : «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (٢) يعني : فافعلوا على تمام.

وقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) : فيه معنيان محتملان :

أحدهما : الأذكار المفعولة في خلال المناسك كقوله :

(إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(٣).

وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم : إذا حججت فطف بالبيت ، وإذا صليت فتوضأ ، وإذا أحرمت فاغتسل.

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) ،

__________________

(١) سورة النساء آية ١٠٣.

(٢) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده ولفظه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».

(٣) سورة الطلاق آية ١.

١١٩

يجوز أن يريد به الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة ، وعند الرمي والطواف ، وقد قيل فيه : إن أهل الجاهلية ، كانوا يقفون عند قضاء المناسك ، ذاكرين مآثرهم ومفاخرهم ، فأبدلهم الله تعالى ذلك بذكره والثناء عليه (١) ، وقال صلّى الله عليه وسلم :

«إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها للآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، ثم تلا :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إلى قوله (عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٢).

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(٢٠٣).

وقال في موضع آخر : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)(٣).

فرأى الشافعي : أن «المعلومات» : العشر الأول من ذي الحية ، وآخرها يوم النحر.

وروي عن علي رضي الله عنه ، أن «المعلومات» يوم النحر ويومان بعده ، في أيهما شئت.

وروى الطحاوي عن أبي يوسف ، أنه قال في جواب مسألة أبي العباس الطوسي ، عن الأيام المعلومات ، إنها أيام النحر ، وقال : روي

__________________

(١) هكذا روى عن ابن عباس وأنس بن مالك وجماعة كما في تفسير ابن كثير.

(٢) سورة الحجرات آية ١٣.

(٣) سورة الحج آية ٢٨.

١٢٠