إعراب القرآن - ج ١

الزجّاج

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

الزجّاج


المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨

ومن ذلك قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ) (١) فحذف للدلالة عليه نحو قوله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) (٢). وقال : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) (٣) فحذف الموصوف. وقال : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) (٤). أي : فريق دون ذلك.

وعلى قياس قول أبى الحسن يكون «دون» فى موضع الرفع ، ولكنه جرى منصوبا فى كلامهم. وعلى محمل قراءة من قرأ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (٥) على أنه ظرف ووقع موقع الفاعل.

وكذا قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (٦) فيمن قرأه مرتبا للمفعول / بجعله قائما مقام الفاعل ، لأنه جرى منصوبا.

ويجوز (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) على : ما بينكم ، فحذف الموصوف دون الموصول.

ومنه قوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٧) أي : عملا صالحا ، لقوله قبله : (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) (٨) وقال : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٩) أي : الأعمال السيئات الأعمال الحسنات ، فلم أعده لك.

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٥.

(٢) الروم : ٢٤.

(٣) الأعراف : ١٦٨.

(٤) الجن : ١١.

(٥) الأنعام : ٩٤.

(٦) الممتحنة : ٣.

(٧) الفرقان : ٧١.

(٨) الفرقان : ٧٠.

٣٠١

وصاحب الكتاب يقول : «لو» بمنزلة «إن» فى هذا الموضع تبنى عليها الأفعال ، فلو قلت : ألا ماء ولو باردا ، لم يحسن إلا النصب ؛ لأن «باردا» صفة. ولو قلت : ائتنى ببارد ، كان قبيحا. ولو قلت : ائتنى بتمر ، كان حسنا. ألا ترى كيف قبح أن تضع الصفة موضع الاسم.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (١) أي : فريق كافر به ، فحذف «الفريق».

ومن ذلك قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (٢) أي : النساء الخبيثات للرجال الخبيثين. وقيل : الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين ، وكذا التقدير فيما بعدها.

ومن ذلك قوله : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) (٣) أي : عن قولهم كلاما ذا الإثم.

قال أبو على : ويكون من باب : ضرب الأمير ، ونسج اليمن ، وتقديره : عن قولهم كلاما مأثوما فيه.

ومن ذلك قوله تعالى : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) (٤). فقد قيل : هو صفة مصدر محذوف ، وقيل : منتصب بفعل مضمر.

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) النور : ٢٦.

(٣) المائدة : ٦٣.

(٤) المائدة : ٧٧.

٣٠٢

وعندى أنه على الاستثناء المنقطع ، وليس على : تغلو غلوّا غير الحق ؛ لأن «غلوا» نكرة ، وإن كان لا يتعرف فى غير هذا الموضع بالإضافة ، فقد تعرف هنا ، إذ ليس إلا الحق أو الباطل.

ومن ذلك قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ) (١) يجوز أن يكون «من» زيادة على قياس قول أبى الحسن. ويجوز أن يكون على حذف الموصوف ، أي : وأوزارا من أوزار الذين يضلونهم. ويؤكد هذا قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (٢) ، فكما أن «مع» صفة فكذلك الجار هاهنا.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) (٣) أي : ما تتخذون ، فحذف «ما» وهو موصوف.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٤) أي : ارحمهما رحمة مثل رحمة تربيتهما / إياى صغيرا ؛ فحذف ذا الكلام.

ومعنى رحمة التربية : الرحمة التي كانت عنها التربية ، مثل ضرب التلف. ويجوز أن يكون المعنى : على ما ربّيانى صغيرا.

__________________

(١) النحل : ٢٥.

(٢) العنكبوت : ١٣.

(٣) النحل : ٦٧.

(٤) الإسراء : ٢٤.

٣٠٣

وكذلك تأوّل أبو الحسن قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١). أي : على ما أمرت ، فكذلك ارحمهما على ذلك. ونحو منه فى أول السورة : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (٢). التقدير : دعاء مثل دعائه الخير.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣) أي : زمانا غير بعيد من الزمان ، فيكون فاعل «مكث» «سليمان».

وقيل الفاعل : «الهدهد» ؛ أي : بمكان غير بعيد.

ومن ذلك قوله : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٤) أي : وحبّ الزرع الحصيد. و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥) أي : حبل عرق الوريد. و (دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٦) و (حَقُّ الْيَقِينِ) (٧) كل هذا على حذف المضاف الموصوف.

ومن ذلك قوله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ) (٨) يحتمل موضع «الّذين من قبلهم» وجهين :

الأول : أن يكون رفعا بالعطف على «قوم تبّع» ، تقديره : أهم خير أم هذا؟ ، فإذا جعلته على هذا أمكن فى صلة «الذين» أن تكون «أهلكناهم» ، ويكون «من قبلهم» متعلقا به.

ويجوز أن يكون صلة «الذين من قبلهم» ، فيكون على هذا فى الظرف عائد إلى الموصول.

__________________

(١) هود : ١١٢.

(٢) الإسراء : ١١.

(٣) النمل : ٢٢.

(٤) ق : ٩.

(٥) ق : ١٦.

(٦) البينة : ٥.

(٧) الواقعة : ٩٥.

(٨) الدخان : ٣٧.

٣٠٤

فإذا كان كذلك كان «أهلكناهم» على أحد أمرين :

إما أن يكون يريد فيه حرف العطف ، وقد يكون فى موضع الحال ؛ أو يقدر حذف موصوف كأنه : قوما أهلكناهم. وهذان على قول أبى الحسن.

والمعنى : أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء واستئصالهم قدرنا على إهلاك هؤلاء المشركين.

ويجوز أن يكون «الذين» مبتدأ ، و «أهلكناهم» الخبر ، أي : الذين من قبل هؤلاء أهلكناهم ، فلم لا تعتبرون.

و [الثاني] (١) يجوز أن يجعل «الذين» جرا بالعطف على «تبّع» ، أي قوم تبع والمهلكين من قبلهم.

ومن ذلك ما قاله الفرّاء فى قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) (٢) أي : ما ثم ، فحذف.

قال أبو على : قول الكسائي وإجازته : نعم الرجل يقوم ، وأنه منع فى النصب : نعم رجلا يقوم.

فأما منعه فى النصب فبيّن ، وذلك أن «يقوم» يصير صفة / للنكرة ، فيخلو الكلام من مقصود بالذم أو المدح مخصوص به ، وإذا خلا منه لم يجز. ولو زاد فى الكلام مقصود بالمدح جازت المسألة. وأما : نعم الرجل يقوم ، فإنه أجازه

__________________

(١) تكملة يقتضيها السياق.

(٢) الإنسان : ٢٠.

٣٠٥

على أنه أقام الصفة مقام الموصوف ، كأنه : نعم الرجل رجل يقوم ، فحذف «رجلا» المقصود بالمدح أو الذم.

قال أبو بكر : هذا عندى لا يجوز ، لأن إقامة الصفة مقام الموصوف ، إذا كانت الصفة فعلا ، غير مستحسن.

قال : فإذا كان كذلك وجب ألا يجوز إذا لم يكن اسما ، إذ الاسم الموافق للمحذوف فى أنه مثله اسم ، لذلك ، غير مستحسن فيه ، فإن (١) هذا الذي ذكره حسن.

فإن قيل : قد جاء (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٢) ، (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (٣).

[وقول الشاعر] (٤) :

وما منهما قد مات حتّى رأيته

[وقوله] (٥)

وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح (٦)

والتقدير : تارة منهما أموت وتارة منهما أكدح ، ونحو هذا. فحذف الموصوف فى هذه الأشياء.

قيل : إنما جاز الحذف فى قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (٧) لأنه مبتدأ غير موصوف ، إنما هو محذوف من قوله : وإنّ من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. فهذا خبر محذوف على هذا التقدير ، والمبتدأ حذفه سائغ.

__________________

(١) في الأصل : «فأو».

(٢) الصافات : ١٦٤.

(٣) النساء : ١٥٩.

(٤) البيت لابن مقبل (الكتاب ١ : ٣٧٦).

(٥) تكملة يقتضيها السياق.

٣٠٦

وكذلك : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ) (٢). أي : ما منا أحد إلا له مقام معلوم.

ويستدل متأوّل هذا على أن قوله أرجح بقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٣) ألا ترى أن «منكم» ليس صفة ل «أحد» ، فإذا كان كذلك لم يكن فيه دلالة.

وما جاء من نحو ذا فى الشعر ، لا يحمل الكلام عليه ، لأنه حال سعة ، وليس حال ضرورة.

فإن قيل : «منكم» متعلقة بحاجزين ، ولا يصح أن يعلق «منكم» فى قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٤) (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٥) بما بعد «إلّا» ولا يصح أن يكون خبرا عن «أحد» لأن «واردها» خبر عنه. و «له مقام معلوم» خبر عنه ، ولا يكونان خبرين ، كقولهم : هذا حلو حامض ، لأن «إلا» لا يفصل بينهما لأنهما بمنزلة اسم واحد / فى المعنى. وأيضا فإن المعنى يمنع من ذلك ، لأنه ليس يريد : إنه لا أحد منهم.

فهذا يمنع من أن يكون «منكم» خبرا ، ويمنع أن يكون «واردها» صفة ل «أحد». وكذلك «له مقام معلوم». ويمنع من ذلك أن «إلا» لا مدخل لها بين الاسم وصفة.

__________________

(١) مريم : ٧١.

(٢) الصافات : ١٦٤.

(٣) الحاقة : ٤٧.

٣٠٧

فأما : ما جاءنى أحد إلا ظريف ، فإنه على إقامة الصفة مقام الموصوف ، كأنه : إلا رجل ظريف. أو على البدل من الأول ، فكذلك (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (١). وهذا يمنع فيه من تعلق «من» بقوله «ليؤمننّ» أعنى اللام من «إلا». وإذا كان كذلك فلا وجه ل «من» إلا الحمل على الصفة.

قيل : هى متعلقة بفعل مضمر يدل عليه قوله : (لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٢) و (وارِدُها) (٣) ، و (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (٤) ومعناها البيان ل «أحد».

فإن قياس قول الكسائي فى : «نعم الرجل يقوم» ، أن يجوز فى المنصوب : نعم رجلا يقوم يذهب. على أن يكون «يذهب» صفة محذوف ، كأنه : نعم رجلا يقوم رجل يذهب. كما كان التقدير فى حذف الموصوف ، فمرة أجازوه مستحسنا ، ومرة منعوه ولم يستحسنوا.

وكثرة ذلك فى التنزيل لا محيص عنه ، على ما عددته لك.

__________________

(١) النساء : ١٥٩.

(٢) الصافات : ١٦٤.

(٣) مريم : ٧١.

٣٠٨

الخامس عشر

هذا باب ما جاء في التنزيل من حذف الجار والمجرور

وقد جاء ذلك فى خبر المبتدأ ، وصفة الموصوف ، وصلة الموصول ، وفى الفعل جميعا.

فأما فى الفعل ، فكقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ). (١) والتقدير : إن الذين كفروا بالله ، وهو شائع فى التنزيل ، أعنى حذفها من «كفروا». قال : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) (٢). (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) (٣). (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٤).

والتقدير فى كله : كفروا بالله ، وكفروا بربهم.

كما أن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) (٥) ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) (٦) ، وقوله (لا يُؤْمِنُونَ) (٧) ؛ التقدير فى كله : بالله.

__________________

(١) البقرة : ٦.

(٢) البقرة : ٢٦.

(٣) النور : ٣٩.

(٤) البقرة : ١٧١.

(٥) الحج : ١٧ والبقرة ٦٢.

(٦) البقرة : ٢١٨.

(٧) البقرة : ٦.

٣٠٩

فأما قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) (١) فالباء من صلة التكذيب عندنا ، وقد حذف صلة كفروا لدلالة الثاني عليه ، وهو متعلق بالفعل الأول عند الكوفيين / دون الثاني.

نظيره (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٢). وهذا باب من إعمال الفعلين ، سنأتى عليه هناك إن شاء الله.

ومما جاء وقد حذف منه العائد إلى المبتدأ من خبره قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) (٣) إلى آخر الآية. ف «من آمن» مبتدأ وخبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (٤) والجملة خبر «الذين» ، والتقدير : من آمن منهم بالله.

وقال : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) (٥) والتقدير : يتربصن بعدهم.

وقال قوم : إن قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) (٦) مبتدأ ، والخبر مضمر. أي : فيما يتلى عليكم الذين يتوفون منكم.

ومثله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٧) ، و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٨).

وقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) (٩). وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) (١٠).

__________________

(١) الروم : ١٦.

(٢) النساء : ١٧٦.

(٣) البقرة : ٦٢.

(٤) البقرة : ٢٣٤.

(٥) المائدة : ٣٨.

(٦) النور : ٢.

(٧) الرعد : ٣٥ ، محمد : ١٥.

(٨) البقرة : ١٨٥.

٣١٠

هذا كله على إضمار الخبر ، أي : فيما يتلى عليكم. كما أضمر الخبر فى قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (١). والتقدير : واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، فأضمر المبتدأ والخبر.

وإضمار الخبر على أنواع ، فنوع منها هذا الذي ذكرناه ، ونوع آخر يضمر الخبر لتقدم ذكره ، كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٢). والتقدير : والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.

وقوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٣) أي : ورسوله برىء من المشركين. وإذا جاز حذف الخبر بأسره ، فحذف الضمير أولى.

ومن حذف الضمير فى حذف المبتدأ ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٤) أي فإن حزب الله هم الغالبون معه ، لأن «من» موصولة مبتدأة ، وتمت بصلتها عند قوله «آمنوا» و «إن» مع اسمه وخبره خبر «من» والعائد مضمر.

ومثله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٥) أي المصلحين منهم.

__________________

(١) الطلاق : ٤.

(٢) التوبة : ٦٢.

(٣) التوبة : ٣.

(٤) المائدة : ٥٦.

(٥) الأعراف : ١٧٠.

٣١١

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (١) أي : أجر من أحسن منهم.

وقال : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢) أي / منه.

ومثله : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) (٣) أي للأوابين منكم ، فحذف.

ومما جاء من العائد المحذوف فى الوصف إلى الموصوف قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) (٤) أي : لا تجزى فيه. وكذلك (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٥) أي : فيه. (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (٦) أي : فيه. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٧) أي : فيه.

كل هذه جمل جرت وصفا على «يوم» المنتصب بأنه مفعول به ، وقد حذف منه «فيه».

وفى هذه المسألة اختلاف : ذهب سيبويه إلى أن «فيه» محذوف من الكلام ، قال فى قولهم : أمّا العبيد فذو عبيد. المعنى : أما العبيد فأنت منهم ذو عبيد.

كما قال : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (٨) أي : فيه.

وقال أبو الحسن فى ذلك : اتقوا يوما لا تجزى فيه.

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) الشورى : ٤٣.

(٣) الإسراء : ٢٥.

(٤) البقرة : ٤٨.

٣١٢

قال : وقال قوم : لا يجوز إضمار فيه ، ألا ترى أن [من يقول] (١) ذلك لا يقول : هذا رجل قصدت ، وأنت تريد : إليه. ولا : رأيت رجلا ، وأنت تريد : فيه.

فالفرق بينهما : أن أسماء الزمان يكون فيها ما ليس فى غيرها.

وإن شئت حملته على المفعول فى السعة ، كأنك تقول : قلت : واتقوا يوما لا تجزيه ، ثم ألغيت الهاء ، كما تقول : رأيت رجلا أحب ، نريد : أحبه.

قال أبو علىّ : حذف الظرف فى الأسماء مراد ، وإن كان محذوف اللفظ فيها ، فمن أجل ذلك تمتنع الإضافة إليها ، والحديث عنها ، وأن تجعلها مفعولا بها فى حال ما هى ظروف ، لأن ما يقدر من الحرف المراد يمنع ذلك ويحجر عنه.

ويدلك على إرادة الحرف فى كل ذا ؛ إظهارك إياه فى جميع ذلك ، إذا كنيت عنها عن «خلف» ونحوه فى قولك : قمت خلفك ، وخلفك قمت فيه ، كما تقول : السوق قمت فيها.

وكما أعلمتك من إرادة الحرف معها إذا كانت ظروفا كثيرا ما ترى سيبويه إذا علم أنها مفعولة على الاتساع يذكرها مضافة ، ليبدى بذلك أن الظرفية زائلة عنها.

والجائز عندى من هذه الأقاويل التي قيلت فى الآية : قول من قال. إن «اليوم» جعل مفعولا على الاتساع ، ثم حذفت الهاء من الصفة كما تحذف من الصلة ، لأن حذفها منها فى الكثرة / والقياس كحذفها منها.

__________________

(١) تكملة يقتضيها السياق.

٣١٣

أما القياس فإن الصفة تخصص الموصوف ، كما أن الصلة تخصص الموصول ، ولا تعمل فى الموصوف ، ولا تتسلط عليه ، كما لا تعمل الصلة فى الموصول ، ومرتبتها أن تكون بعد الموصوف ، كما أن مرتبة الصلة كذلك.

وقد تلزم الصفة فى أماكن كما تلزم الصلة ، وذلك إذا لم يعرف الموصوف. إلا بها. ولا تعمل فيما قبل الموصوف كما لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول. وتتضمن ذكرا من موصوفها كما تتضمنه الصلة من موصولها. وشدة مشابهة الصفة الصلة على ما تراه.

وقد كثر مجىء الصلة محذوفا منها العائد إذا كان مفعولا فى التنزيل ، وجميع التنزيل والنظم ، حتى إن الحذف فى التنزيل أكثر من الإثبات فيها ، والصفة كالصلة فيما ذكرت لك من جهات الشبه ، فإذا كان كذلك حسن الحذف منها حسنه من الصلة.

فإن قيل : ما تنكر أن يكون المحذوف من الآية فيه دون الهاء على التأويل الذي ذكرته ، وأن حذف الجار والمجرور فى هذا ونحوه كحذفهما فى قولهم : السّمن منوان بدرهم. وما شبّه سيبويه به ونحوه؟

قيل له : ليس يسوغ حذفهما ، ولا يحسن حسنه من خبر المبتدأ كحذفهما من الخبر ، لأن خبر المبتدأ قد يحذف بأسره حتى لا يترك منه شىء فيما كثر تعداده ، فإذا حسن حذف الخبر وجاز كان حذف بعضه أسوغ وأجود. وإبقاء البعض فى باب الدلالة على المحذوف وإرادته أقوى

٣١٤

من حذف الكل ، وليس كذلك الصفة ، ألا ترى أن الصفة لا تحذف كما يحذف الخبر ، فيسوغ حذف هذا البعض منها كما حسن حذف كلها ، فلا يجوز تقدم حذف الجار والمجرور هنا من حيث جاز حذفهما فى الخبر لما ذكرنا.

قال : وليس حذف «فيه» فى الآية كحذف «الهاء» من قوله : ويوم نسر (١) ؛ لأن «فيه» جار ومجرور. ولا يجوز فى الصلة : الذي مررت زيد : تريد : مررت به ، / وكذا لا يجوز حذف «فيه» بخلاف قوله : يوم نسر (٢) ؛ لأنه يحسن : الذي ضربت زيد.

وهذا الذي قاله عندى غيره قد جاء فى التنزيل : قال الله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (٣) أي خاضوا فيه.

وقال : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) (٤) أي : يبشر الله به عباده.

قال : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا) (٥) أي : لما لبثوا فيه.

على أنه حكى عن يونس أن «الذي» فى الآيتين بمنزلة المصدر ، والتقدير خضتم كخوضهم. (والذي يبشر) بمنزلة التبشير.

__________________

(١) هذا آخر جزء من عجز بيت للنمر بن تولب ، والبيت هو :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

(٢) الكتاب لسيبويه (١ : ٤٤).

(٣) التوبة : ٦٩.

(٤) الشورى : ٢٣.

(٥) الكهف : ١٢.

٣١٥

رجع إلى كلام أبى على

قال أبو على : فإن قلت : أو ـ كلام سيبويه فى هذا مثل قول من قال : إن الحذف (١) وجب فيه من حيث وجب فى المظهر فى البعد من الصواب؟

فالجواب : أن قول سيبويه أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ ، وذلك أنه لم يذكر أن الحذف (٢) فى هذا أوجب من حيث يحذف فى المظهر. لكنه شبهه بما يحذف للدلالة عليه كخبر المبتدأ ونحو ذلك ، وكأنه عنده حذف حذفا لذلك ، لا من حيث حذف فى المظهر.

وقد قدمنا الفصل بين هذا وبين خبر المبتدأ ، فإن الحذف فيه أسوغ من الحذف فى هذا لأنه صفة. وليس الوصف من المواضع التي يسوغ فيها الحذف ، وليس قول سيبويه فى حذف (فيه) كقول من قال : إن الحذف مع المضمر يجوز ، كالحذف مع المظهر فى : سرت اليوم.

فأمّا ما احتج به أبو الحسن على من منع جواز إضمار «فيه» فى الآية عند قولهم لا يجوز هذا ، كما لا يجوز : هذا رجل قصدت ، وأنت تريد : قصدت إليه. ولا : رأيت رجلا أرغب ، وأنت تريد : فيه. فالفرق بينهما أن أسماء الزمان يكون فيها ما لا يكون فى غيرها. فالذى فى أسماء الزمان مما لا يكون فى غيرها ـ ما جاز فيها من إضافتها إلى الفعل ، وتعدى الفعل إلى كل ضرب منها مختصها ومبهمها.

__________________

(١) في الأصل : «الحرف».

٣١٦

وأما إضافة الفعل. فليس شىء يوجب حذف هذا ، وإن أراد أن قوة دلالة الفعل عليها يسوغ الحذف فيها ، فهو كأنه شبيه بما ذهب إليه سيبويه أنه حذف حذفا. وليس فى قوة / دلالة الفعل على أسماء الزمان ما يوجب الحذف من الصفة كما قدمنا ، إلا أن هذا القول أقرب إلى الصواب من غيره كما ذكرت لك (١).

ومن هذا الباب قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (٢).

قال أبو على فى قوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) (٣) ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون صفة لليوم.

والآخر : أن يكون صفة للمصدر المحذوف.

والثالث : أن يكون حالا من الضمير فى «نحشرهم».

فإذا جعلته صفة لليوم احتمل ضربين من التأويل :

أحدهما : أن يكون التقدير : كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة ، فحذفت الكلمة لدلالة المعنى عليها.

ومثل ذلك فى حذف [الظرف] (٤) لهذا النحو ، منه قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٥) أي أمسكوهن قبله.

__________________

(١) في هامش الأصل هنا : «بلغ مقابلة».

(٢) يونس : ٤٥.

(٤) تكملة يقتضيها السياق.

(٥) الطلاق : ٢.

٣١٧

وكذلك قوله : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ) (١) ، أي ، قبل الأربعة الأشهر.

[الثاني] (٢) ويجوز أن يكون المعنى : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم حذفت الهاء من الصفة ، كقولك : الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت.

وإن جعلته صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفنا ، وتمثيله : ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف.

وإن جعلته حالا من الضمير المنصوب لم يحتج إلى حذف شىء من اللفظ ، لأن الذكر من الحال قد عاد إلى ذى الحال.

والمعنى : نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث إلا ساعة ، لأن التقدير : كأن لم يلبثوا ، فلما خفف أضمر الاسم كقوله :

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم (٣)

فأما قوله (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (٤) فإنه يصلح أن يكون منصوبا ب «يتعارفون» فى هذا اليوم ، فيكون ظرفا له ، أو مفعولا به على السعة.

ويجوز أن يعمل فيه فعلا مضمرا دل عليه (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) (٥) أي : يستقلون المدة يوم نحشرهم ، فيكون (يَتَعارَفُونَ) (٦) صفة ل «يوم» أيضا ، كما أن (لَمْ يَلْبَثُوا) صفة. والتقدير : يتعارفون فيه بينهم ، فحذف «فيه».

__________________

(١) البقرة : ٢٢٦.

(٢) تكملة يقتضيها السياق.

(٣) البيت لابن صريم اليشكري ، وصدره : ويوما توافينا بوجه مقسم (الكتاب ١ : ٢٨١ و ٤٨١)

(٤) يونس : ٤٥.

٣١٨

ولا يجوز أن يعمل (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) (١) فى (يَوْمَ) لأن الصفة لا تعمل فى الموصوف. وكذلك الحال لا تعمل فيما قبل صاحبها / وكذا صفة المصدر لا يعمل فيما قبل المصدر ، وفى الآية كلام طويل.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) أي : إن ربى فى تدبيركم على صراط مستقيم. فالجار الثاني خبر «إن» والمحذوف متعلق بالخبر معمول له. ذكره الرّمانى.

وقيل : إن ربى على طريق الآخرة ، فيصيرّكم إليها لفصل القضاء.

وقيل : إن ربى على الحق ، دون آلهتكم والعبادة له دونهم.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ) (٣) أي : إن أحصرتم بمرض وغيره.

وقوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) (٤) أي : من العدو ، فالأول عام والثاني خاص.

ومن ذلك قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٥) (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٦) والتقدير فى كله «بالجنة».

__________________

(١) يونس : ٤٥.

(٢) هود : ٥٦.

(٣) البقرة : ١٩٦.

(٤) الصف : ١٣.

(٥) الحج : ٣٧.

٣١٩

أبو عبيد : يبشّرك ، ويبشرك ، ويبشرك ، واحد ، أبو الحسن : فى «يبشّر» ثلاث لغات :

بشر ، وأبشر إبشارا ، وبشّر ، يبشر ، وبشر يبشر بشرا وبشورا ، بكسر الشين. يقال: أتاك أمر بشرت به. وأبشرت به ، فى معنى بشرت ، ومنه : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) (١) وأنشدوا :

وإذا رأيت الباهشين إلى العلا

غبرا أكفّهم بقاع ممحل (٢)

فأعنهم وابشر بما بشروا به

فإذا هم نزلوا بضنك فانزل

قال أبو زيد : وبشّرنى القوم بالخير تبشيرا. والاسم : البشرى.

ومما حذف فيه الجار والمجرور قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٣).

التقدير : فله أن له نار جهنم ، ويقوّى رفعه بالظرف فتح «أنّ» ويكسر هو فى الابتداء ، واستغنى عن الظرف بجريه فى الصلة ، كما استغنى عن الفعل بعد «لو» فى : [لو] (٤) أنه ذهب لكان خبرا له.

ومن حذف الجار والمجرور قوله تعالى : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) (٥) أي واسمع به.

وقال : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (٦) أي وأبصر بهم.

__________________

(١) فصلت : ٣٠.

(٢) الشعر لعبد القيس بن خفاف.

(٣) التوبة : ٦٣.

(٤) تكملة يقتضيها السياق.

(٥) الكهف : ٢٦.

(٦) مريم : ٣٨.

٣٢٠