عقائد الإماميّة

الشيخ محمّد رضا المظفّر

عقائد الإماميّة

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ١٢
ISBN: 978-964-438-093-8
الصفحات: ١٣٥

نعم قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة والإمامية بأجمعها عليه إلّا قليلون منهم تأوّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى.

والقول بالرجعة يعدّ عند أهل السنّة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها ، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها. ويبدو أنّهم يعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع ، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنّع به عليهم.

ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضدّه ، ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل ؛ لأنّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوّة ، بل يؤكد صحة العقيدتين ؛ إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى ، كالبعث والنشر ، وهي من الامور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا وآل بيته ـ صلّى الله عليه وعليهم ـ وهي عينا معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح ـ عليه السلام ـ بل أبلغ هنا لأنّها بعد أن يصبح الأموات رميما (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس : ٧٩.

وأمّا من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل ؛ فلأنّه

٨١

لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني والرجعة من نوع المعاد الجسماني ، فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأوّل ، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني ، فإنّ معناه رجوع نفس البدن الأوّل بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة. وإذا كانت الرجعة تناسخا فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى ـ عليه السلام ـ كان تناسخا ، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا.

إذن لم يبق إلّا أن يناقش في الرجعة من جهتين (الأولى) : أنّها مستحيلة الوقوع. (الثانية) : كذب الأحاديث الواردة فيها. وعلى تقدير صحّة المناقشتين ، فإنّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوّلها خصوم الشيعة. وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الامور المستحيلة ، أو التي لم يثبت فيها نصّ صحيح ، ولكنّها لم توجب تكفيرا وخروجا عن الإسلام ، ولذلك أمثلة كثيرة : منها : الاعتقاد بجواز سهو النبيّ أو عصيانه ، ومنها : الاعتقاد بقدم القرآن ، ومنها : القول بالوعيد ، ومنها : الاعتقاد بأنّ النبيّ لم ينص على خليفة من بعده.

على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة ، أمّا أنّ الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني غير أنّها بعث موقوت في الدنيا ، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها ، ولا سبب لاستغرابها إلّا أنّها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا. ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقرّبها إلى اعترافنا أو يبعدها وخيال الإنسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم يألفه ، وذلك كمن

٨٢

يستغرب البعث فيقول : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فيقال له : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

نعم في مثل ذلك ممّا لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيّل عدم وجود الدليل ، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي مصدر الوحي الإلهي ، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات ، كمعجزة عيسى ـ عليه السلام ـ في إحياء الموتى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وكقوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) والآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ...) فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت ، وإن تكلّف بعض المفسّرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يحقّق معنى الآية.

وأمّا المناقشة الثانية وهي دعوى أنّ الحديث فيها موضوع فإنّه لا وجه لها ؛ لأنّ الرجعة من الامور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة.

وبعد هذا أفلا تعجب من كاتب شهير يدّعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول : «فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة» فأنا أقول له على مدّعاه : فاليهودية أيضا ظهرت في القرآن بالرجعة ، كما تقدّم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة.

ونزيده فنقول : والحقيقة أنّه لا بدّ أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والأحكام الإسلامية ؛ لأنّ النبيّ الأكرم جاء مصدّقا لما بين يديه ، من الشرائع السماوية ، وإن نسخ بعض أحكامها ، فظهور

٨٣

اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ، ليس عيبا في الإسلام ، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كلّ حال فالرجعة ليست من الاصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها وإنّما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت ـ عليهم السّلام ـ الذين ندين بعصمتهم من الكذب ، وهي من الامور الغيبية التي أخبروا عنها ولا يمتنع وقوعها.

* * *

٣٣ ـ عقيدتنا في التقية

روي عن صادق آل البيت ـ عليه السّلام ـ في الأثر الصحيح :

«التقية ديني ودين آبائي» و«من لا تقية له لا دين له».

وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت ـ عليهم السّلام ـ دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم ، وحقنا لدمائهم ، واستصلاحا لحال المسلمين ، وجمعا لكلمتهم ولمّا لشعثهم.

وما زالت سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها ، من الطوائف والامم ، وكلّ إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به ، لا بدّ أن يتكتّم ويتّقي في مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول ، ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرّياتهم في جميع العهود ، ما لم تلاقه أيّة

٨٤

طائفة أو امة اخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية ، بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم ، وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصّة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا ، ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكام ـ من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر ـ مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة. وليست هي بواجبة على كلّ حال ، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال ، كما إذا كان في إظهار الحقّ والتظاهر به نصرة للدين ، وخدمة للإسلام ، وجهاد في سبيله ، فإنّه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعزّ النفوس. وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة ، أو رواجا للباطل أو فسادا في الدين أو ضررا بالغا على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم. وعلى كلّ حال ليس معنى التقية عند الإمامية أنّها تجعل منهم جمعية سرّية لغاية الهدم والتخريب كما يريد أن يصورّها بعض أعدائهم غير المتورّعين في إدراك الأمور على وجهها ، ولا يكلّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا. كما أنّه ليس معناها أنّها تجعل الدين وأحكامه سرّا من الأسرار ، لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به ، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخصّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات ، قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحدّ الذي ينتظر من أيّة امة تدين بدينها.

بلى ، إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلّها من أراد التشنيع على الإمامية ، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم ، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم

٨٥

إلّا أن تقدّم رقابهم إلى السيوف ، لا لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت ، من الامويّين ، والعباسيّين ، بل العثمانيّين.

وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية فإنّا نقول له :

«أولا» : إنّا متبعون لأئمتنا ـ عليهم السّلام ـ ونحن نهتدي بهداهم ، وهم أمرونا بها ، وفرضوها علينا وقت الحاجة ، وهي عندهم من الدين ، وقد سمعت قول الصادق ـ عليه السّلام ـ :

«من لا تقية له لا دين له».

و«ثانيا» : قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى :(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، النحل : ١٠٦ ، وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفا من أعداء الإسلام وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) آل عمران : ٢٨. (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ).

٨٦

الفصل الرابع

ما أدب به آل البيت شيعتهم

تمهيد :

إنّ الأئمة من آل البيت ـ عليهم السّلام ـ علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم ، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.

فكان من الطبيعي ـ من جهة ـ أن يتخذوا التكتم «التقية» دينا وديدنا لهم ولأتباعهم ، ما دامت التقية تحقن من دمائهم ولا تسيء إلى الآخرين ولا إلى الدين ، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم ـ من جهة اخرى ـ أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلى توجيههم توجيها دينيا صالحا ، وإلى أن يسلكوا بهم مسلك اجتماعي مفيدا ، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

وطريقة آل البيت في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة ، وكتب الحديث الضخمة متكفلة بما نشروه من تلك المعارف الدينية ، غير أنه لا بأس ان نشير هنا الى بعض ما يشبه أن يدخل في باب العقائد فيما يتلق بتأديبهم لشيعتهم ، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي

٨٧

المفيد ، وتقربهم زلفى الى الله تعالى ، وتطهر صدورهم من درن الأثام والرذائل ، وتجعل منهم عدولا صادقين. وقد تقدم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعيا لهم ، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يمن لنا من هذه الآداب.

* * *

٣٤ ـ عقيدتنا في الدعاء

قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السّماوات والأرض» ، وكذلك هو ، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها ، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة. وقد اودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبيّ وآل بيته ـ صلّى الله عليهم وسلّم ـ من الحثّ على الدعاء والترغيب فيه. حتّى جاء عنهم «أفضل العبادة الدعاء» و«أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاء» بل ورد عنهم «أنّ الدعاء يردّ القضاء والبلاء» و«أنّه شفاء من كلّ داء».

وقد ورد أنّ «أمير المؤمنين» صلوات الله عليه كان رجلا «دعّاء» ، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيد الموحدين وإمام الإلهيين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور ، وقد تضمّنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينيّة ما يصلح أن تكون منهجا رفيعا للمسلم الصحيح.

٨٨

وفي الحقيقة أنّ الأدعية الواردة عن النبيّ وآل بيته ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ خير منهج للمسلم ـ إذا تدبّرها ـ تبعث في نفسه قوّة الإيمان ، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق ، وتعرّفه سرّ العبادة ، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه ، وتلقّنه ما يجب على الإنسان أن يعلمه لدينه وما يقرّبه إلى الله تعالى زلفى ، ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد اودعت فيها خلاصة المعارف الدينيّة من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس ، ومن ناحية العقيدة الإسلامية ، بل هي من أهمّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلميّة في الالهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس ـ وما كلّهم بمستطيعين ـ أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية ، لما كنت تجد من هذه المفاسد المثقلة بها الأرض أثرا ، ولحلّقت هذه النفوس المكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرّة طليقة ، ولكن أنّي للبشر أن يصغى إلى كلمة المصلحين والدعاة الى الحق ، وقد كشف عنهم قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

نعم إن ركيزة السوء في الإنسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعا فيما أتخذ من عمل : فيظلم ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويطاوع شهواته ما شاء له هواه ، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم يفعل إلّا ما ينبغي أن يفعل ، أو يغضّ بصره متعمّدا عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمد من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على

٨٩

الاختاء بنفسه والتجرّد إلى الله تعالى ، لتلقّنه الاعتراف بالخطإ وأنّه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة ، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه ، مثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد :

«إلهي ومولاي أجريت عليّ حكما اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي ، فغرّني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء ، فتجاوزت بما جرى عليّ من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض أو امرك».

ولا شكّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الإنسان من الاعتراف علانية مع الناس ، وإن كان من أشقّ أحوال النفس أيضا. وإن كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تمّ ذلك للإنسان فله شأن كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يريد تهذيب نفسه لا بدّ أن يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرّية لمحاسبتها ، وخير طريق لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس ، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ :

«أي رب ، جلّلني بسترك ، واعف عن توبيخي بكرم وجهك».

فتأمّل كلمة «جلّلني» فإنّ فيها ما يثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ ، ليتنبّه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك :

«فلو أطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ، ولو خفت تعجيل

٩٠

العقوبة لاجتنبته».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى ، لئلا يفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله ، فيلتذّ الإنسان ساعتئذ بمناجاة السر ، وينقطع إلى الله تعالى ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه ؛ إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم :

«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك».

ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عمّا فرط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه تعالى ، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربّه ، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول :

«ويحملني ويجزئني على معصيتك حلمك عنّي ، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ. ويسرعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السرّ ، لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع. وما أكثرها.

ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة باسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة ، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد :

٩١

«وليت شعري يا سيدي ومولاي أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة ، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محقّقة ، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتّى صارت خاشعة ، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة ، ما هكذا الظن بك ولا اخبرنا بفضلك».

كرّر قراءة هذه الفقرات ، وتامّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه ، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها ، يلقّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه ، ثم يكلّم النفس بابن عمّ الكلام ومن طرف خفي لتلقينها ، واجباتها العليا ؛ إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة ، ثم يعلّمها أنّ الإنسان بعمل هذه الواجبات يستحق التفضل من الله بالمغفرة ، وهذا ما يشوق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.

ثم تقرأ اسلوبا آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء :

«فهبني يا إلهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!».

وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته ، حبّا له وشوقا إلى ما عنده ، وبأنّ هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من

٩٢

العذاب وحرّ النار ، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّن من أن يصبر على حرّ النار فإنّه لا يتمكن من الصبر على هذا الترك ، كما تفهّمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحبّ والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملّق إلى الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أن نختم بحثنا هذا بايراد دعاء مختصر جامع لمكارم الأخلاق ولما ينبغي لكلّ عضو من الإنسان وكلّ صنف منه أن يكون عليه من الصفات المحمودة :

«اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية ، وصدق النيّة وعرفان الحرمة».

«وأكرمنا بالهدى والاستقامة ، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة ، وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة ، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة ، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة ، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة».

«وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة ، وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة ، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة».

«وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة ، وعلى موتانا بالرأفة والرحمة».

«وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة ، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة ، وعلى النساء بالحياء والعفّة ، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة ، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة».

٩٣

«وعلى الغزاة بالنصر والغلبة ، وعلى الاسراء بالخلاص والراحة ، وعلى الامراء بالعدل والشفقة ، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة».

«وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة ، واقض ما أوجبت عليهم من الحجّ والعمرة». «بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».

وإني لموص إخواني القرّاء ألّا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية ، بشرط التدبّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والإقبال ، والتوجه إلى الله بخشوع وخضوع ، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه ، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت ، فإنّ قراءتها بلا توجه من القلب صرف لقلقة في اللسان ، لا تزيد الإنسان معرفة ، ولا تقرّبه زلفى ، ولا تكشف له مكروبا ، ولا يستجاب معه له دعاء.

«إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة» (١).

* * *

٣٥ ـ أدعية الصحيفة السجادية

بعد واقعة الطف المحزنة ، وتملّك بني امية ناصية أمر الامّة الإسلاميّة ، فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في

__________________

(١) باب الاقبال على الدماء من كتاب الدماء من اصول الكافى من الامام الصادق عليه السلام.

٩٤

تعاليم الدين ، بقي الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين ـ عليه السلام ـ جليس داره محزونا ثاكلا ، وجليس بيته لا يقرّبه أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.

فاضطر أن يتخذ من اسلوب الدعاء «الذي قلنا أنّه أحد الطرق التعليميّة لتهذيب النفوس» ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت ، ولتلقين الناس روحيّة الدين والزهد ، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له ، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم ، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة ، وقد جمعت بعضها «الصحيفة السجادية» التي سمّيت ب «زبور آل محمّد». وجاءت في اسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقّ أسرار التوحيد والنبوّة ، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمديّة والآداب الإسلامية ، وكانت في مختلف الموضوعات التربويّة الدينيّة ، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء ، أو دعاء في اسلوب تعليم للدين والأخلاق. وهي بحقّ بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفيّة في الإلهيات والأخلاقيات :

فمنها : ما يعلمك كيف تمجّد الله وتقدّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه. ومنها : ما يعلمك كيف تناجيه وتخلو به بسرّك وتنقطع إليه. ومنها : ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها. ومنها : ما يفهّمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك. ومنها : ما يشرح لك حقوق

٩٥

الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الارحام أو حقوق المسلمين عامّة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس. ومنها : ما ينبّهك على ما يجب ازاء الديون للناس عليك وما ينبغي أن تعمله في الشئون الاقتصادية والمالية ، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ، ومن تستعملهم في مصالحك. ومنها :ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجا كاملا لعلم الأخلاق.

ومنها : ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض والصحة. ومنها : ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلاميّة وواجبات الناس معهم ... إلى غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المحمّديّة والشريعة الإلهية ، وكلّ ذلك بأسلوب الدعاء وحده.

والظاهرة التي تطغو على أدعية الإمام عدة امور :

«الأوّل» : التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته وبيان توحيده وتنزيهه بأدق التعبيرات العلمية ، وذلك يتكرر في كلّ دعاء بمختلف الأساليب ، مثل ما تقرأ في الدعاء الأوّل : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا واخترعهم على مشيته اختراعا» فتقرأ دقيق معنى الأوّل والآخر وتنزه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم ، ودقيق معنى الخلق والتكوين. ثم تقرأ اسلوبا آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء السادس : «الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوّته وميّز بينهما بقدرته ،

٩٦

وجعل لكلّ منهما حدّا محدودا ، يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه ، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه ، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب ، وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماما وقوّة لينالوا به لذّة وشهوة» إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار والليل وما ينبغي أن يشكره الإنسان من هذه النعم.

وتقرأ اسلوبا آخر في بيان أنّ جميع الامور بيده تعالى في الدعاء السابع : «يا من تحلّ به عقد المكاره ، ويا من يفثأ به حدّ الشدائد ، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج ، ذلّت لقدرتك الصعاب ، وتسببت بلطفك الأسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

«الثاني» : بيان فضل الله تعالى على العبد وعجز العبد عن أداء حقّه مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى ، كما تقرأ في الدعاء السابع والثلاثين : «اللهم إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا ، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك ، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك ، وأعبدهم مقصّر عن طاعتك».

وبسبب عظم نعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره ، فكيف إذا كان يعصيه مجترئا ، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفّر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء السادس عشر : «يا إلهي لو بكيت إليك حتّى تسقط أسفار عيني ، وانتحبت حتّى

٩٧

ينقطع صوتي ، وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي».

«الثالث» : التعريف بالثواب والعقاب والجنّة والنار وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضل ، وأنّ العبد يستحقّ العقاب منه بأدنى معصية يجتري بها ، والحجّة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السجّادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة ، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى والرجاء في ثوابه. وكلّها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبّر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.

مثل ما تقرأ في الدعاء السادس والأربعين : «حجّتك قائمة ، وسلطانك ثابت لا يزول ، فالويل الدائم لمن جنح عنك ، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك ، والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرّفه في عذابك ، وما أطول تردّده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلا من قضائك لا تجور فيه ، وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه ، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار ...»

ومثل ما تقرأ في الدعاء الواحد والثلاثين : «اللهم فارحم وحدتي بين يديك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، واضطراب أركاني من هيبتك ، فقد أقامتني ـ يا ربّ ـ ذنوبي مقام الخزي بفنائك ، فإن سكت لم ينطق عنّي أحد ، وإن شفعت فلست بأهل الشفاعة».

٩٨

ومثل ما تقرأ في الدعاء التاسع والثلاثين : «فإنّك إن تكافني بالحقّ تهلكني وإلّا تغمدني برحمتك توبقني ... وأستحملك من ذنوبي ما قد بهظني حمله وأستعين بك على ما قد فدحني ثقله ، فصلّ على محمّد وآله وهب لنفسي على ظلمها نفسي ، ووكّل رحمتك باحتمال إصري ...».

«الرابع» : سوق الداعي بهذه الأدعية إلى الترفّع عن مساوئ الأفعال وخسائس الصفات ، لتنقية ضميره وتطهير قلبه ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «اللهم وفّر بلطفك نيّتي وصحّح بما عندك يقيني ، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي»

«اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ومتّعني بهدى صالح لا أستبدل به وطريقة حقّ لا أزيغ عنها ، ونيّة رشد لا أشك فيها».

«اللهم لا تدع خصلة تعاب منّي إلّا أصلحتها ، ولا عائبة أونب بها إلّا حسّنتها ، ولا أكرومة فيّ ناقصة إلّا أتممّتها».

«الخامس» الايحاء إلى الداعي بلزوم الترفّع عن الناس وعدم التذلّل لهم ، وألّا يضع حاجته عند أحد غير الله ، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسّ ما يتصف به الإنسان ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «ولا تفتنّي بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت ، ولا بالخشوع لسؤال غيرك إذا افتقرت ، ولا بالتضرع إلى من دونك إذا رهبت ، فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك».

ومثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والعشرين : «اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك ، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك ، ورأيت أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة

٩٩

من عقله».

ومثل ما تقرأ في الدعاء الثالث عشر : «فمن حاول سدّ خلّته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك ، فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها. ومن توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك ، أو جعله سبب نجاحها دونك ، فقد تعرّض للحرمان واستحقّ منك فوت الإحسان».

«السادس» : تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومعاونتهم والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض ، والايثار فيما بينهم. تحقيقا لمعنى الأخوّة الإسلامية. مثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والثلاثين : «اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدى إليّ فلم أشكره ، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره ، ومن ذي فاقة سألني فلم أؤثره ، ومن حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن فلم أوفره ، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره ...» إن هذا الاعتذار من أبدع ما ينبّه النفس إلى ما ينبغي عمله من هذه الأخلاق الإلهية العالية.

وفي الدعاء التاسع والثلاثين ما يزيد على ذلك ، فيعلّمك كيف يلزمك أن تعفو عمّن أساء إليك ويحذّرك من الانتقام منه ، ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين : «اللهم وأيّما عبد نال منّي ما حظرت عليه وانتهك منّي ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميّتا أو حصلت لي قبله حيا ، فاغفر له ما ألم به منّي ، واعف له عمّا أدبر به عنّي ، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ ، ولا تكشفه عمّا اكتسب بي ، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم وتبرّعت من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدّقين ، وأعلى صلات المتقرّبين ، وعوّضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم رحمتك ،

١٠٠