عقائد الإماميّة

الشيخ محمّد رضا المظفّر

عقائد الإماميّة

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ١٢
ISBN: 978-964-438-093-8
الصفحات: ١٣٥

أما سواد أهل السنة ومسع المعتدلين منهم فإنهم بالاجماع يوافقون إخوانهم الشيعة الامامية في هذة العقيدة ، لأن كلا الفرقين يعتقد أن الأولياء والأئمة وجميع من في الأرض لا ينفعونك بشىء الا بشىء أراده الله لك ، ولا يضرونك بشىء إلا بشىء أراده الله لك ، فليس لهم تأثير ولانفع ولاضرر إلا بإذن الله ، وفلى هذا الأساس فزيارة قبور هؤلاء الخواص انما هو من قبيل التأسي بأخلاقهم والاقتداء بمآثرهم الطيبة والتماس العبرة والعظات في إحياء ذكراهم , وذلك مباح عند الفرقين.

وصورة رابعة أخذت بتلابيب قديري ، بل إعجابي وأنا أطالع كتاب أخي المؤلف ، أعني بها قدرته في تجلية عقائد الامامية في اسلوب رتيب يفصح عن تأثر الشيعة بالمنهج العقلي. وسبق أن ذكرت أن سبب ذلك راجع الى تعمق الشيعة في العلوم العقلية بقدر يماثل ما رووه عن أئمتهم من النقيات. وهذا أيضا يدلنا دلالة قاطعة على الروابط المتينة التي كانت بين التشيع والاعتزال وبين أعيان الشيعة وأعيان الشيعة وأعيان المعتزلة.

وإن من يراجع كتابنا «الصاحب بن عباد» يري الى أي حد كان أيان الشيفة هم أعيان المعتزلة ، وأعيان المعتزلة هم أيان المعتزلة ، وأيان المعتزلة هم أعيان الشيعة إلا فيما شذ منهم. ولقد بلغت هذه الروابط قمة التأثر المزدوج بين الطائفبين في أواسط القرن الرابع الهجري ، ووصلت المنتهاها في شخصية «الصاحب بن عباد» الذي تولى زعامتي الاعتزال والتشيع في النصف الثاني من ذلك القرن الذي تسنمت فيه الحضارة الاسلامية مكان الذروة.

فإذا ما تعرض المؤلع الكريم للحديث عن (توحيد الصفات) «ص ١٤» في ذات الله تعالى فإنه يذكرنا بعقيدة المعتزلة في القول

٢١

بتوحيد الصفات ، ومن أجل هذا أطلقوا على أنفسهم أهل التوحيد فلامامية والمعتزلة يشتر كان في القول بأن الصفات هي عين الذات. أي أنه سبحانه بصير بذاته ، سميع بذاته ، قادر بذاته ، وهكذا لا يفرقان بين الذات والصفات. والصحاب هذين المذهبين لهم عذرهم في ذلك عندي إذ أن التفريق بين الذات والصفات كثيراً ما يحمل العقول الى الالتباس ويوقع الأذهان في معنى الإشراك. وهذا ـ مما لا شك فيه ـ من روائع تأملاتهم في التوحيد.

وكذلك نلحظ مثل هذه الروابط المتينة بين الامامية والمعترلة فيما تعرض له المؤلف من عقائد تتعلق بمعنى «العدل الالهي» من نحو (وجوب فعل الجميل) على الله تعالى ، ونحو (وجوب ترك القبيح) منه تعالى. فانهما ما قالا بهذه المقالة الا تحرزا عن نسبة الظلم اليه سبحانه. ومن ثم يتناول الامامية استشهاد أهل السية بقوله تعالى «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون» ، وهم بحكم هذه العقيدة لا يرتضون قول الامام أحمد الدردير ـ أحد أعلام السنة والتصوف في القرن الثاني عشر ـ حين يقول في خرلدته :

ومن يقل بفعل الجميل وجبا

على الإله فقد أساء الأدبا

ومع هذا فأنا ـ أيضاً ـ آخذ لهم في ذلك العذر كل العذر للذي تنطوي عليه أفئدتهم من جميل القصد وهو التحرز من نسبة الظلم اليه سبحانه. ولو كان ذلك من قبيل توهم الظلم.

والحق أن لكل من الطائفبين : المعتزلة والشيعة اللإمامية في جانب وأهل السنة والصوفية في جانب آخر ـ وجهته في الثناء على الكمال

٢٢

الإلهي. فالمعتزلة والامامية يؤثرون الدفاع عن جانب «العدل الالهي» أما أهل السنة والصوفية وجماعة من السلف الصالح فإنهم يؤثرون جانب الدفاع عن «الحرية الالهية» أي الحرية المطلعة لله سبحانه ، وهي الحرية التي لا تقيدها قيود ولا تعلوها قوة اخرى والتي يستشهدون لها بقوله «لا يسأل عما يفعل». ولكل من الجانبين المتضادين ـ في نظر المنهج العلمي الحديث ـ وجهة هو موليها.

ويلحق بهذا القدر قول المؤلف في «القضاء والقدر» وهل الانسان مسيّر أم مغيّر؟ أو على حد تعبير الامامية : هل الانسان مجبر أو مفوض؟

وهذا المبحث وأن كان شديد الارتباط بفلسفى العدل الإلهي التي شابههم فيها المعتزلة ، إلا أننا نلحظ على الامامية في هذا المقام أنهم يسلكون مسلكاً آخر ، مسلكا وسطاً. فلا يقولون بالجبر المطلق الذي قال به فريق «الجبريين» الملقبين بالجهمية ، كما أنهم لا يقولون بالتفويض المطلق الذي قال به فريق «المفوضين» الملقبين بالقدرية من المعتزلة.

أما عن عدم قولهم بمقالة الجبريين فلان القول بالجبر ينفي عن الانسان الارادة والاختيار أصالة ويجعله لعبة في يد الأقدار أ, كالريشة في مهب الدرياح. واذا كان كذلك صار حساب الله له ـ في عرفهم ـ عما يرتكبه من خطا ظلما فاحشا لأنه لا سلطان له حينئذ في اختياره ولا إرادة له تمنعه من الوقوع في ذلك الخطا. فهم ينكرون هذا الجبر لأنه ينفي عن الله صفة العدل ، وفي هذا يقول الشاعر معبرا عن ذلك :

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

٢٣

وأما عن تركهم رأي القائلين بالتفويض المطلف والاختيار المطلق فلأنه يجعل المرء في أفعاله وأقواله مستقلا عن إرادة الله وقدرته ، فهو ـ في نظرهم ـ رأي المفوضين والقدريين الذين يقولون إ، الانسان يخلق أفعال نفسه ، دون تدخل لقدرة الله في هذا الفعل. وقد أورد بعض نقاد العقائد أحاديث في ذمهم ،منها قوله عليه السلام : «القدرية مجوس هذه الأمة».

ومن هنا نعلم أن خطأ الجبريين ينصب في يفي صفة العدل عن الباري سبحانه الأنه يحاسب الانسان على أفعال هو موجدها فيه دون تدخل للمخلوق في ذلك. أما خطا القدريين فينصب في نفي قدرة الله وسلطانه على مخلوقاته ، وكلاهما متطرف بعيد عن الحقيقة كل البعد.

فإذا كان الامامية يقولون بمقالة الامام جعفر الصادق رضى الله عنه : «لاجبر ولا تفويض ولكن أمرا بين أمرين» فأنهم يتفقون مع اخوانهم أعلام السنة كل الاتفاق ، ذلك أن أهل السنة يقولون بمثل مقالتهم ، ويصرحون بأن للانسان جزءاً اختيارياً ، فهو ليس بالجبر المحض ولا بالخالق لأفعال نفسه , وأشهر القائلين بهذه المقالة الامام أبو الحسن الأشعري وقد حاول الامام فخر الدين الرازي ان يفسف التوفيق بين مذهب الجبر ومذهب التفويض حتى أثر عنه أنه كان يقول : «الانسان مجير باطناً مخير ظاهراً». وهذه مقالة دقيقة لا تخفى على الراسخين في العلم والعارفين بتفاصيل العقائد الاسلامية.

وهناك صورة خامسة نختم بها حديثنا في هذه المقدمة ، هي قول الامامية في «البدء» ومعناه الظاهر فعل الشىء ثم محوه ، وقد قال

٢٤

به الامامية في حق الله تعالى حتى أثر عنهم : «ما عبد الله بشىء مثل القول بالبداء». ولما كان البداء من صفات المخلوقين الأن فعل الشىء ثم محوه يدل على التفكير الطارى ء وعلى التصويب بعد الخطأ وعلى العلم بعدج الجهل فإن كثيرا من المفكرين سفهوا عقول الشيعة في نسبة البداء الى الله سبحانه والشيعة الامامية براء مما فهمه الناس عن البداء ، اذ المتفق عليه عندهم وعيد علماء السنة أن علم الله قديم منزه عن التفسير والتبديل والتفكير الذي هو من صفات المخلوقات ، أما الذي يطرأ فليه التغيير والمحو بعد الاثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى «يمحو الله يشاء ويثبت».

ولنضرب مثلا لذلك يبين معنى البداء عند الأمامية : فلان من الناس كتب عليه الشقاء في مستهل اللوح المحفوظ من السعداء. فالبداء هنا محو : اسمه من باب الأشقياء في اللوح وكتابته في باب السعداء. أما ما في علم الله فيشمل جميع تاريخ هذه المسألة من إثبات ومحو بعد التوبة. أي أنه سبق في علم الله أن هذا الشخص سيكون شقياً ثم يصير سعيداً في وقت كذا حين يلهمه التوبة.

أن البداء الذي يقول به الإمامية هو قضية الحكم على ظاهر الفعل الالهي في مخلوقابه بما تنطلبه حكمته. فهو قول بالظاهر المتراءي لنا ، وإذن فوجه الاشكال في الذين خطئوا الشيعة في قولهم بالبداء إنما جاء من زعمهم ان الشيعة ينسبون البداء الى علم الله القديم لا الى ما في اللوح المحفوظ.

٢٥

ولعلك بما قدمته لك من بيان ضاف تكون وقفت معي على ما في عقائد الامامية من وجاهة في قولهم بالبداء ، وما في تفكيرهم من عمق في الحكم به لأن معناه ـ في نظري ـ أن الله سبحانه يطور خلقه وفق مفتضيات البيئة والزمان اللذين خلقهما وأودع فيهما سر التأثير على خلقه ـ ولو ظاهراً ـ إن القول بالبداء هو المقالة الوحيدة التي نستطيع بهديها أن نفسر لك سر الناسخ والمنسوخ في القرلآن ، كالحكمة فيما ورد من آيات تحريم الخمر ، وكيف تدرج ذلك التحريم في صورة مراحل ليمالج سبحانه بذلك اعوجاج النفس البشرية ويخلصها من قيود العادة المستحكسة شيئاً فشيئاً حتى يتحقق لهذه النفس صلاحها ، ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه من مشقة على النفس صلاحها ، ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه من مشقة على النفس! فذلك هو اعتقاد الامامية في البداء.

ويسرني أن أنوه في هذا المقام ما أزمع القيام به من تقريب بين المذاهب الاسلامية في كتاب مفرد أرجو بتوفيق من الله أن اوضح فيه الى أي حد تنفق هذه المذاهب في الجوهر والأهداف وإن اختلفت في المظهر والطرائق.

وبعد فإني أهنىء الاستاذ المؤلف فيما وفق فيه من الجمع بين المنقول والمعقول في عرض عقائد الامامية ، وفيما أتحف به قراء العربية من ثقافات عقيدية عن الامامية جمع فيها بين الاحتجاج للرأي والاجادة في الأداء , وفي هذا القدر كفاية لمن أوتي حظاً من الانصاف والتأمل.

دكتور حامد حنفي داود أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن والمشرف على الدراسات الاسلامية كجامعة «عليكرة» بالهند

القاهرة في ١٧/٦/١٣٨١ ه

٢٥/١١/١٩٦١ م

٢٦

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

مضى على صدور هذا «الكتيب» عشر سنوات ، ولم أجد في هذه الأعوام ما يدعوني الى تبديل رأيي فيه من أنه جاء وفق متطالبات الحاجة العامة من توضيح معتقدات الشيعة الامامية وتثبيتها.

بل وجدت ما يشجعني على الموافقة على إعادة نشره مرة أخرى ، آملا أن يكون قد أصاب الهدف وأدّي الفرض من محاولة رفع الغيوم المتلبدة التي حجبت طويلا بين الطائفين الاسلامتين الكبيرتين : أهل السنة والشيعة ، ومن محاولة نفض الغبار عما خلفه الماضي السحيق على العقائد الاسلامية الصحيحة.

وإلي لوائق بأن فكرة «التقريب بين المذاهب» أصبحت اليوم حاجة ملحة وهدفاً رفيعاً لكل مسلم غيور على الاسلام ، مهما : كانت نزعته المذهبية ورأيه في المخلفات العقائدية؛ وليس شىء أضل في التقريب من تولتي أهل كل عقيدة أنفسهم كشف دفائنها وحقائقها.

وهذه الطريقة ـ فيما اعتقد ـ أسلم في اعطاء الفكرة الصحيحة عن المذهب ، وأقرب الى فهم الصواب من الأي الذي يعتنقه جماعته.

وإجابة لرغبة قرة عيني العامل في سبيل الله الفاضل السيد مرتضى الكشميري ـ فقد أعدت النظر في هذه الرسلة ، وأدخلت عليها بعض التنقيحات والإضافات التي سمح بها الوقت المزدحم بالمشاكل ، مع

٢٧

تصيح ما وقع في الطبعة الاولى من هفوات مطبعية وغير مطبعية ،لأقدئمها مرة أخرى الى المطبعة ، راجياً من الله تعالى أن يحقق فيها الغرض المرجو ، وأن يوفقنا لالتماس سبيل الصواب وإصابة الحق ، إنه خير مسؤول.

٢١ ـ شوال سنة ١٣٨٠

المؤلف

٢٨

مقدمة الطبعة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً وشكراً وصلاة وسلاماً على محمد خير البشر وآله الهداة.

أمليت هذه (المعتقدات) ، وما كان القصد منها إلا تسجيل خلاصة ما توصلت اليه من فهم المعتقدات الاسلامية على دريقة آل البيت (ع).

وقد سجلت هذه الجلاصات مجردة عن الدليل والبرهان ، ومجردة عن النصوص الواردة عن الأئمة فيها على الأكثر ، لينتفع بها المبتدى. والمتعلم والعالم ، وأسميتها (عقائد الشيعة) وغرضي من الشيعة (الامامية الانثى عرشية) خاصة.

وكان إملاؤها سنة ١٣٦٣ هـ بدافع إلقائها محاضرات دورية في كلية منتدى النشر الدينية ، للاستفادة منها تمهيدا للابحاث الكلامية العالية. وفي حينه قد توفقت لإلقاء الكثير منها. وما كنت يومئذ قد أعددتها مؤلفاً ينشر ويقرأ ، فأهملت في أوراق مبعثرة شأن كثير من المحاضرات والدروس التي أمليتها في تلك الظروف ، لا سيما فيما يتعلق بالعقائد وعلم الكلام.

غير انه في هذا العام وبعد مضي ثماني سنوات عليها رغب الي الفاضل النبيل محمد كاظم الكتبي ـ رعاه الله تعالى ـ في تجديد النظر فيها وجمعها مؤلفة في رسالة مختصرة موصولة الحلقات ، لغرض نشرها وتعميم الفائدة منها ولتدرا كثيرا من الطعون التي ألصقت بلامامية ، ولا سيما ان بعض كتاب العصر في مصر وعيرها لا زالول مستمرين

٢٩

يحملون بأقلامهم الحملات القاسية على الشيعة ومعتقدانها ، جهلا أو تجاهلا بطريقة آل البيت في مسالكهم الدينية. وبهذا قد جمعوا الى ظالم الحق وإشاعة الجهل بين قراء كتبهم الدعوة الى تفرق كلمة المسلمين وإثارة الضغائن في نفوسهم والأحقاد في قلوبهم. بل تأليب بعضهم على بعض ... ولا يجهل خبير مقدار الحاجة ـ اليوم خاصة ـ الة التقريب بين جماعات المسلمين المختلفه ودفن أحقادهم ، إن لم يستطع أن نوحد صفوفهم وجمعهم تحت راية واحدة.

أقول ذلك ، إني لشاعر مع الأسف أنا لا نستطيع أن نصع شيئاً بهذه المحاولات مع من جرئبنا من هؤلاء الكتاب كالدكتور أحمد أمين وأضرابه من دعاة الترفقة ، فما زادهم توضيح معتقدات الامامية إلا عناداً وتنبيههم على خطأهم إلا لجاجاً.

وما يهئنا من هؤلاء وغير هؤلاء أن يستمروا على عنادهم مصرين ، وتورئطهم تلك التهجمات في إثارة الأحقاد والحزازات.

ومهما كان الأمر ، فإني في تقديمي هذه الرسالة للنشر أملي أن يكون فيها ما ينفع الطالب للحق ، فأكون قد ساهمت في خدمة اسلامية نافعة ، با خدمة انسانية عامة ، فوضعتها في مقدمة وفصول ، منه تعالة وحمده أستمد التوفيق.

النجف الأشرف ـ العراق

٢٧ جمادي الآخرة ١٣٧٠ هـ

محمدرضا المظفر

٣٠

تمهيد

١ ـ عقيدتنا في النظر والمعرفة

نعتقد ان الله تعالى لما منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه ، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي انفسنا ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

وقد ذم المقلدين لآبائهم بقوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً). كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ).

وفي الحقيقة أن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون ، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته. ولا يصح عندنا تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطرا (٢). وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقررا لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء وجاء منبها للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير ، ومفتحا للأذهان وموجّها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.

فلا يصحّ ـ والحال هذه ـ أن يهمل الإنسان نفسه في الامور الاعتقادية أو يتّكل على تقليد المربين أو أيّ أشخاص آخرين ، بل

٣١

يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في اصول اعتقاداته (١) المسماة باصول الدين التي أهمها التوحيد. والنبوة والإمامة والمعاد. ومن قلّد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الاصول فقد ارتكب شططا وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذورا أبدا.

وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان :

الأول : وجوب النظر والمعرفة في اصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها.

الثاني : أن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوبا شرعيا ، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية وإن كان يصح أن يكون مؤيدا بها بعد دلالة العقل.

وليس معنى الوجوب العقلي ، إلّا ادراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في اصول الاعتقادات.

* * *

٢ ـ عقيدتنا في التقليد بالفروع

أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال ، فلا يجب

__________________

(١) ليس كل ما ذكر فى هذه الرسالة هو من اصول الاعتنقادات ، فان كثيرا من الاعتقادات المذكورة كالقضاء والقدر والرجعة وغير هما لا بجب فيها الاعتقاد ولا النظر ، ويجوز الرجوع فيها الى الغير المعلوم صحة قوله كالانبياء وا لأئمة ، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل كان اعتقادنا فيها مستند الى ما هو الماثور من اثمتنا من صحيح الأثر القطعي.

٣٢

فيها النظر والاجتهاد ، بل يجب فيها ـ إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة ـ أحد امور ثلاثة : إما أن يجتهد المكلف وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلا لذلك ، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط ، وإما أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلده عاقلا عادلا «صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه».

فمن لم يكن مجتهدا ولا محتاطا ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه ، وإن صلّى وصام وتعبد طول عمره ، إلّا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى.

* * *

٣ ـ عقيدتنا في الاجتهاد

نعتقد أن الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين ويكتفون بمن تصدّى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم.

ففي كل عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلّا

٣٣

ذو حظ عظيم وكان جامعا للشرائط التي تؤهله للتقليد ، اكتفوا به وقلّدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم ، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة ، وجب عليهم أن يحصل كل واحد رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرّغ لنيل هذه المرتبة حيث يتعذر عليهم جميعا السعي لهذا الأمر أو يتعسر ، ولا يجوز لهم أن يقلّدوا من مات من المجتهدين.

والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة والإجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب اصول الفقه.

وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلّا لمن جدّ واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها.

* * *

٤ ـ عقيدتنا في المجتهد

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس ، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام (١).

٣٤

فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط ، بل له الولاية العامة فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء ، وذلك من مختصاته لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه ، إلّا بإذنه ، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلّا بأمره وحكمه.

ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.

وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائبا عنه في حال الغيبة ، لذلك يسمى «نائب الإمام».

* * *

٣٥

الفصل الاول

الالهيات

٥ ـ عقيدتنا في الله تعالى

نعتقد أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، هو الأول والآخر ، عليم حكيم عادل حي قادر غني سميع بصير ، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات ، فليس هو بجسم ولا صورة ، وليس جوهرا ولا عرضا ، وليس له ثقل أو خفة ، ولا حركة أو سكون ، ولا مكان ولا زمان ، ولا يشار إليه ، كما لا ندّ له ولا شبه ، ولا ضد ولا صاحبة له ولا ولد ، ولا شريك ، ولم يكن له كفوا أحد ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صوّر له وجها ويدا وعينا ، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر ، ـ أو نحو ذلك ـ فإنه بمنزلة الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص ، بل كل ما ميزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا ـ على حد تعبير الإمام الباقر عليه السلام ـ وما أجله من تعبير حكيم!وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال : إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة ، وإن نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان ، فإن أمثال هؤلاء المدعين

٣٦

جمدوا على ظواهر الالفاظ في القرآن الكريم (٥) أو الحديث (٦) وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم (٧) فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

* * *

٦ ـ عقيدتنا في التوحيد

ونعتقد بانه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات ، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده ، كذلك يجب ـ ثانيا ـ توحيده في الصفات ، وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك ، وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية ، فهو في العلم والقدرة لا نظير له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ندّ له.

وكذلك يجب ـ ثالثا ـ توحيده في العبادة ، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه (٢) ، وكذا اشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة ، واجبة أو غير واجبة ، في الصلاة وغيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كمن يرائي في عبادته ويتقرب إلى غير الله تعالى ، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان ، لا فرق بينهما.

أمّا زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة ، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية ، غفلة عن حقيقة الحال فيها ، بل هي من نوع التقرب إلى الله

٣٧

تعالى بالأعمال الصالحة كالتقرب إليه بعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير ، فإن عيادة المريض ـ مثلا ـ في نفسها عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، وليس هو تقربا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته ، وكذلك باقي أمثال هذه الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور ، وإقامة المآتم ، وتشييع الجنائز ، وزيارة الإخوان.

أمّا كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته. والغرض أن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض (٤) ، وليس المقصود منها عبادة الأئمة ، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم ، وتجديد ذكرهم ، وتعظيم شعائر الله فيهم (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها ، فإذا جاء الإنسان متقربا بها إلى الله تعالى طالبا مرضاته ، استحق الثواب منه ونال جزاءه.

* * *

٧ ـ عقيدتنا في صفاته تعالى

ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات «الجمال والكمال» ، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة ، هي

٣٨

كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها ، وليس وجودها إلّا وجود الذات ، فقدرته من حيث الوجود حياته ، وحياته قدرته ، بل هو قادر من حيث هو حي ، وحي من حيث هو قادر ، لا اثنينية في صفاته ووجودها ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.

نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها ، لا في حقائقها ووجوداتها ؛ لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية ، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد.

وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها الى صفة واحدة حقيقية وهي القيّومة لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات «الجلال» فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان عنه ، فإن سلب الإمكان لازمه ، بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك ، بل سلب كل نقص. ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود ، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية ، فترجع الصفات الجلالية «السلبية» آخر الأمر إلى الصفات الكمالية «الثبوتية». والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقته الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية

٣٩

إلى الصفات السلبية لما عزّ عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها ، فوقع بما هو أسوأ اذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص ، وجهة إمكان جعلها عين العدم ومحض السلب ـ أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الاقلام.

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء لواجب الوجود ، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك ، قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السلام : «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ...».

* * *

٨ ـ عقيدتنا بالعدل

ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادل غير ظالم ، فلا يجور في قضائه ، ولا يحيف في حكمه ، يثيب المطيعين ، وله أن يجازي العاصين ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون ، ونعتقد انه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة ، ولا يفعل القبيح ؛ لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح ، مع

٤٠