رحلة أفوقاي الأندلسي

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي

رحلة أفوقاي الأندلسي

المؤلف:

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي


المحقق: د. محمّد رزوق
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-504-0
الصفحات: ١٨٨

تعتقدون أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ويتمتعون بنعم مثل ما في الدنيا ، قلت له : أما سيدنا عيسى عليه‌السلام فلم ينكر ذلك ، قلت له : في الإنجيل : «أما ماء هذه الشجرة ، أعني ماء الكرمة ، فإني لم أشرب منه في الدنيا ، إلى أن أشربه معه في الملكوت» ، قلت له : هو هذا في إنجيلكم. قال : نعم ، قلت : وكيف تنكرون ذلك؟ لأن نعايم الدنيا دالة على نعايم الجنة ، إلا أن أمور الجنة في غاية الكمال ، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وسيدنا عيسى عليه‌السلام ذكر الشرب في الجنة كما كان يعلمه ويعتقده : إن في الجنة أكلا وشربا. وبقي القاضي يفتش في نفسه ما يقوله ، ولا يجد. وكان من أكابر علمائهم.

وهذا هو النص في الإنجيل :

«قال متى في الباب التاسع وثمانين : وفيما هم يأكلون أخذ يصوع خبزا ، وشكر ، وكسر ، وأعطى تلامذه ، وقال : خذوا ، كلوا ، هو جسدي ، وأخذ كأسا ، وشكر ، وأعطاهم ، وقال اشربوا من هذا كلكم ، لأن هذا هو دمي ، العهد الجديد الذي يصرف عن كثير لمغفرة الخطايا ، وأقول لكم : إنني لا أشرب عصير هذه الكرمة حتى إلى ذلك اليوم الذي أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي».

وأيضا قال مرقش في باب ستة وأربعين : «الحق أقول لكم إني لا أشرب عصير هذه الكرمة إلى ذلك اليوم حين نشربه جديدا في ملكوت الله» ؛ انتهى.

وعندهم في الإنجيل أيضا ، قال : إن اليهود جاء ، وسيدنا عيسى عليه‌السلام على وجه الضّاد له وسألوه ، قال لقا المنجيلي في الباب الثاني والسبعين قال : «قال اليهود : امرأة تزوجها سبعة إخوة واحدة بعد واحدة ، وماتت المرأة ، ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة ، لأن السبعة قد تزوجوها؟ فقال لهم سيدنا عيسى : أما بنو هذا الدهر فيتزوجون ، ويزوجون. وأما أولئك الذين استحقوا ذلك الدهر والقيامة : الأموات ، لا يتزوجون ، ولا يزوجون ، لأنهم لا يموتون بل يصيرون مثل الملائكة الكرام ، ويصيرون أبناء الله وبني القيامة» ؛ انتهى.

هذا السؤال كما يقال إن إبليس ـ لعنه الله تعالى ـ سأل سيدنا إدريس عليه‌السلام : هل يستطيع الله تعالى أن يجعل الدنيا كلها في قشرة بيضة؟ وعرفه عليه‌السلام وجاوبه على مقتضى عناده. وكذلك كان جواب سيدنا عيسى عليه‌السلام لليهود والنصارى. المشركون

٨١

أخذوا بهذا الجواب وتركوا النص الأول.

ثم قال القاضي : أعلم أن لي شيخا كبيرا ، وهو قاضي بقي في بلادكم سنين ، وقال لي : أن أقول لك تمشي عنده ، وأكد علي في ذلك. قلت له : نمشي ـ إن شاء الله ـ.

وبعد ذلك بأيام قال لي : لا بد أن نمشي عنده ، فمشيت على غرضه ، والتقيت به في داره وهو من نحو الثمانين سنة. فلما عرفني قال لي ، بعد أن أقبل علي ، وأظهر الفرح ، وجلست معه ، قال لي : كنت ببلادكم نحو الخمس سنين في القسطنطينية ، وسألت عن نبيكم وذّموه لي ، قلت : لمن سألت عنه؟ لأن المسلمين عندهم خبره من حين خلق ، ومن أرضعته من النساء ، وأين مكث ، وإلى أي بلد سافر ، وما عمل من الغزوات ، وما كان من أحاديث والأوامر والنواهي والوصايا ، وما عمل من المعجزات ، ومع من تزوج من النساء إلى أن مات. وأنتم ليس لكم خبر سيدنا عيسى عليه‌السلام أين كان؟ وأين سافر من بعد أن بلغ ثلاث عشرة سنة إلى ثلاث وثلاثين ، التي تقولون أنه صلب؟ قال لي : ديننا هو دين الحق ، لأنه مات ليخلص الذنب الأول عن سيدنا آدم عليه‌السلام وعن الجميع ، بسبب الفاكهة التي نهاه الله تعالى عنها فأكلها ، قلت : نحن عندنا خلاص لما ورثنا من الفاكهة خير من خلاصكم ، لأنكم تقولون أن واحدا وهو سيدنا عيسى عليه‌السلام يخلص عن الجميع ، ونحن نخلص كل واحد عن نفسه ، قال : كيف هو خلاصكم؟ قلت له : أبونا آدم عليه‌السلام ... (٩٦) كان في الجنة ، وما كان يخرج من جسده شيء من الفضلات حتى أكل من الشجرة التي أمر بتركها صار يخرج من جسده ما لا كان قبل ، قال : نعم ، قلت : فهذه الفضلات التي يخرج منا هي التي ورثنا بسبب الشجرة ، واعلم أنه فرض في ديننا على كل مكلف بالغ ، ذكرا كان أو أنثى ، أنه يصلي الله تعالى في كل يوم خمس صلوات ، ومن شروط فرائضها أن يكون طاهرا بوضوء ، لأنه لا يدخل لحضرة المولى إلا بوضوء ، مطهر للجسد ، مما ورث من الفاكهة المذكورة وأحدثت في الجسد النجاسات ، فيغسل الإنسان مواضع النجاسة في الجسد ، ثم يغسل يديه ، لأجل أن أبانا آدم عليه‌السلام مد يده إلى الفاكهة

__________________

(٩٦) بياض بالأصل.

٨٢

التي نهاه الله عنها ، وفمه ، لأنه أكل منها ، وأنفه ، لأنه استنشق الفاكهة ، ووجهه ، لأنه توجه إليها ، ويسمح برأسه ، لأنه دخل تحت الشجرة وأذنيه لأنه سمع بهما ما قيل في الفاكهة عكس ما قيل له أولا ، ورجليه ، لأنه سعى بهما إلى الشجرة.

والمواضع كلها يغسلها بالماء الطاهر ، لأن في الدنيا ليس شيء للطهارة مثله. حينئذ يدخل الإنسان يناجي ربه ، وهو في الحالة التي كان أبونا آدم قبل أن يأكل من المنهى عنه. وتدوم هذه الطهارة حتى يخرج من الإنسان شيء مما ورث ، فيحتاج يتوضأ.

وهذا خلاص خير من خلاصكم ، وأنت قاضي تدرك الحق بعقلك ، فالذي يخلص عن نفسه ، فهو بهذا العمل يدخل في الصلاة ، ومن لا يصلي ، ولا يتوضأ يطلب بذلك ، وأنتم تقولون أن سيدنا عيسى عليه‌السلام يخلص عن الجميع. فتعجب القاضي وقال : أبدا ما سمعت من قال هذا الكلام وغير ذلك مما تكلمنا ، ولم يثبت قرأت ذلك ببلاد الأندلس قبل خروجي منها في كتاب يسمى بمختصر جبريل وكان فيه أن المني وجد في أبينا آدم عليه‌السلام بعد أن أكل من الشجرة وأنه يخرج من تحت كل وبرة من جميع الجسد ولذلك وجب غسله جميعا ثم التقيت بعد ذلك بأيام ابن أخي القاضي ، وهو الذي قال لي أن أمشي إلى عمه ، ولما رآني قال لي : ردّ بالك (٩٧) ، أن عمي شيخ كبير ، فدعه على دينه ، لا ترده مسلما ، قلت له : أنت أكدت علي القدوم إليه ، قال : هو يطلب منك أن تمشي له ، ولكن راني وصيتك ، ولا أدري الآن هل رجعت إليه أم لا؟ وقد وقع لي كلام بالمدينة المذكورة مع رجل مفتي ، قال لي يوما : ماذا تقولون في عيسى عليه‌السلام؟ قلت : إنه نبي ، رسول الله ، قال : ما تقولون إنه ابن الله حقيقة؟ قلت له : ما نقول ذلك ، قال : فمن كان أبوه؟ قلت : التي كانت أم حوّى كان أبوه ، قال : بين ما قلت ، لأني ما فهمت ما قلته عن أمنا حوى؟ قلت له : اعلم أن خلقة الإنسان هي على أربعة أقسام : القسم الأول : خلق الله تبارك وتعالى أبانا آدم عليه‌السلام من غير أبوين ، وخلق أمنا حوى من غير أم ، وخلق سائر الناس من أبوين ، وخلق سيدنا عيسى عليه‌السلام من أم ليس له أب ، كما خلق أمنا حوى ليس لها أم ، ولذلك قلت لك حين سألتني من

__________________

(٩٧) رد بالك : احذر ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

٨٣

كان أبوه؟ قلت : إن التي كانت أم حوى كان أبوه ، ثم قلت له : هل ترى أن قدرة الله تعالى صالحة لأكثر من ذلك أم لا؟ قال : نعم ، حينئذ قال للحاضرين من النصارى أن يشهدوا عليه أنه نصراني يأمن بكل ما في دينهم في الدار التي في رومة ، ومع ذلك أقول أن هذا الكلام الذي قاله المسلم فيه ما يسمع ، وهو كلام عظيم أو قال أكثر من ذلك ، حتى قال له الحاضرون من النصارى : لا يقبل ذلك ، فزاد عليهم هو بما بان له من الحق. وأيضا كنت ليلة بباب طبيب صيدلان ، لأن بتلك البلاد ، بل ببلاد النصارى كلها ، جميع دكاكين البيع والشراء ، لم يسدّوها إلى أن يجوز وقت العشاء الآخرة. وكان بعض النصارى في كلام معي في الدين وفي المعجزات سيدنا عيسى عليه‌السلام ، قلت لهم : المعجزة هي خارقة للعادة يخلقها الله تعالى على يدي الأنبياء والصالحين. وقال واحد من العلماء الكفار : المعجزات التي ظهرت على يدي سيدنا عيسى هو كان يعملها. ورأيت بعد ذلك واحدا من أصحابي خرج من بيننا بسرعة ، فسألته بعد ذلك : لماذا خرج ، وذهب؟ قال : لأني حين سمعت النصراني يقول إن المعجزات التي ظهرت على سيدنا عيسى عليه‌السلام هو عملها من دون الله خفت من الدار العالية التي كنا ببابها أن تقع علينا بسبب ما قال.

وقد قال بدرس ، الذي كتب ربع الإنجيل في رسالته في الباب الثاني في المقالة الثانية والعشرين : «يا بني إسرائيل ، عيسى النصارى ذكر مزكى من الله بينكم في معجزات ... (٩٨) عملها الله فيما بينكم على يديه كما في عملكم» ؛ انتهى.

انظر هذا القول الصريح الموافق لديننا واعتقدنا الذي قاله من كتب ربع الإنجيل بخلاف نصارى هذا الزمن. وقد مشيت إلى مدينة طلوشه (٩٩) ، وهي من المدن الكبار بفرنجة على شاطئ النهر العظيم الذي يمر منها إلى برضيوش ، وبين المدينتين نحو الثلاثة أيام. وعزمت نولّي منها إلى برضيوش على النهر في قارب وليلة قبل يوم السفر رأيت في النوم جماعة شياطين تدور بي من كل جانب ، فجعلت أقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وأشير إليهم ، فتهرب الشياطين عني ، ثم ترجع إلي وأنا أعيد قراءة

__________________

(٩٨) بياض بالأصل.

(٩٩) Toulouse.

٨٤

السورة ، وتذهب عني ، فأصبحت متغيرا من أجل الرؤيا ، وقلت الشياطين أعداء في التأويل. وركبت في القارب ، ونويت نقرأ في ذلك اليوم سورة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ألف مرة ، وندع الله تبارك وتعالى ، وببركتها يدفع عني شر الأعداء. وكان القارب عامرا بالرجال ، وبينهم قسيسان مترهبان ، وعرفني واحد من الذين كانوا بالقارب ، وكنت ـ كما تقدم ـ حين دخلت روانا لبست للضرورة لباس الفرنج ، وذكرني للقسيس ، فناداني ، وقال لي : اجلس بإزائي ، فجلست ، فقال لي : أنت مسلم ، قلت : مسلم لله الحمد ، وكان يتكلم بلسان الطليان ، وهو قريب من لسان بلاد الأندلس العجمي. قال لي : لقيت في البندقية بعضا من أهل دينكم ، ورأيتهم يعملون شيئا كأنه عبث لا أصل له في دين ، قلت : ماذا رأيت منهم؟ قال : إذا نزلت نجاسة أو بول في حوايجهم يغسلون ذلك المحال بماء ، فسألتهم عن السبب الموجب لذلك ، فلم نجد عندهم خبرا. قلت له : السبب في ذلك أن كل مسلم عليه فرض أن يصلي لله تعالى في كل يوم خمس صلوات ، كل صلاة في وقتها ، ما بين الليل والنهار ، ومن فرائض الصلاة أن يكون طاهرا في جسده ولباسه ، لأنه يناجي الله ربه ، وينبغي أن يكون على أفضل حالة ، ولما كان يخرج من الإنسان من السبيلين نجسا بسبب الشجرة التي أكل منها أبونا آدم عليه‌السلام من فاكهتها ما نهاه الله عنها ومن أجل ذلك رجع جسده يدفع ما يخرج منه ما لا كان قبل فورتنا ذلك ، فإذا وقع شيء مما يخرج من الجسد في ثوبه أو لحمه يزيله بالماء الطاهر ، ليكون الإنسان بحضرة مولاه طاهرا ، ظاهرا وباطنا. أما في الظاهر ، ففي الجسد ، وما يلبسه ، والموضع الذي يعبد فيه. وما في باطنه : ينبغي له أن لا يتفكر إلّا فيما يقرأه وهذا هو الأصل ، والسبب الموجب في غسل النجاسة. فاستحسن الجواب غاية حتى قال للذين كانوا في القارب بلسانهم كلام الخير عني. وبحثني في مسائل دقيقة ونسيتها. ولما صدر منه أنه قال لأصحابه عني خيرا وأنا على غير دينه فما رآني في نفسه من الرأي إلا أن قال لهم : المسلمون أعطاهم الله عقولا وافرة ، كل ذلك لتكون عقوبتهم في الآخرة أشد وأقوى ، إذ لم يكونوا نصارى. قال ذلك أيضا بلسانهم. وكنت أفهمه. وكان من الحق أن أقول له حين ذكرت أن الإنسان يحتاج أن يكون طاهرا في الباطن. بأن أقول له : طهارة القلب بأن لا يكون مشركا بالله. وكان مع الراهب صاحبه على الرهبانية ،

٨٥

ومذهبه. وكان يقول بلسانه أن يتكلم معي بالتثليث في الألوهية ويجاوب ويقول له : ما يليق ذلك.

ومشينا اليوم كله ، وعند المغرب خرجنا جميعا من القارب إلى دار منزلة بحاشية الواد ، وكنت في أعلى الدار في موضع خارج عن البيت الذي نزلنا فيه أقرأ لنتم الألف (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وبعثت للقسيس شيئا من الخبز معجونا بسكر وبيض وناداني ، وقال لي : أنا صائم هذه الأيام ، هذا الذي بعثت لي فيه بيض ، ولا نأكل ذلك في أيام الصوم. واشتغل يذكر ما هو فيه من مخالفة النفس ، وأنه لا يلبس كتانا ، ولا يأخذ بيده دراهم ، ولا يأكل كثيرا ، وأخذ في مدح نفسه ومذهبه. وقلت له : مثلك ما يجد الشيطان والنفس سبيلا للوسوس ظاهرا ، إلا إذا كان على وجه الحسنة. قال : كيف تأتي من باب الحسنات ، لأني ما فهمت ذلك؟ قلت له : أنتم القسيسون تزورون النساء وتستخلون بهن وهن يحسن إليك بالصدقات فتقول لك نفسك : سر إلى فلانة ، إنها من الصالحات ، واذكر شيئا من ذكر الله ، وألهمها إليه ، ويحصل لك أجر وحسنة. وهذا هو باب الحسنة ، وغرضها منك أن تقرب منها حتى تتمكن المحبة من قلوبكما ، فإما تغلبكما حتى تقعا في المعصية والحرام ، وهو المقصود من النفس والشيطان ، وإما تكثر المحبة بينكما ، وتشغلك حتى إنك إذا كنت في صلاتك تذكر باللسان ومعها قلبك ، وهذا هو باب نصيحتها. فسكت القس ، ولا أنكر ، ولا أنعم. وكان من الحق أن يقال له مثلك لا يوسوسه الشيطان ولا النفس أبدا لأن اللص لا يقصد إلا البيت العامر بالخيرات ، ومثلك مشرك بالله المالك الديان ، وعابد الأوثان ، فليس له إلا أن يعظم لك الشأن ، ويزين لك الطريق الذاهب إلى النيران. ثم قال : ما السبب في منع الخمر في دينكم؟ قلت له : لأنه مسكر يزيل العقل الذي هو أشرف وأفضل ما في الإنسان ، قلت له : وإذا كنت صائما تقطع شرب الخمر ، قال : لا. ثم قال لي واحد من الشيطان الذين رأيتهم في النوم ـ وكان كافر في الذين جاءوا في القارب معنا ـ : كيف أنت في بلادنا؟ ومن أذن لك في ذلك؟ وأظهر الغضب ، وأكثر الكلام. فأظهرت لهم كتاب سلطانهم ، وسخرهم الله جميعا ، حتى إذا بلغنا إلى دار منزلة التي ننزل فيها للمبيت فيها ، فيكلمون رب الدار ، يقولون : هذا رجل تركي ـ لأن في بلاد الفرنج ، وفي الكثير من سلطانات

٨٦

النصارى لا يسمون إلا تركي ، كما تقدم ، وقد جاء من بلاده ، وأذن له سلطاننا في قضاء أغراضه ، ويستحق أن نقوم بحقه ، وغير ذلك من كلام الخير. وكان فيما بينهم يفرحون بنا في القارب في الأيام التي عبرنا فيه على النهر. كل ذلك ببركة سورة الإخلاص. خلصنا الله من شرهم ، وعظمنا في أعينهم. والحمد لله رب العالمين.

٨٧

الباب العاشر

في مناظرات اليهود ببلاد فرنجة وفلنضس

اعلم أن اليهود الذين هم بتلك البلاد كان أصلهم ، في قديم الزمان وفي زمننا ، ببلاد الأندلس. وأكثرهم ببرتغال. وكانوا في الظاهر نصارى ، وفي خفاء منهم يهود. وكانوا يخفون أنفسهم بين النصارى أكثر من الأندلس. ويقرؤون العلوم بالعجمية ، ولا يتكلمون إلا بها ، ويدركون بالعلم بعض المراتب. وإذا أدرك أحدهم أمرا ليتحكم على الناس يضربهم كثيرا لا سيما بالأندلس ، حتى أن الناس إذا لحقهم ضرر ممن يحكم سواء كان الحكم على النصارى أو على الأندلس يبحثون عن أصله ، ويجدونه يهوديا مخفيا أو من سلالتهم ، إما من الأبوين أو من جهة أبيه أو أمه ، لأنهم من أجل الرياسة والطمع كانوا يختلطون في التزويج مع النصارى ، ويعطون بناتهم ، ويتزوجون منهم. وجميع اليهود فيهم من الكبر الخفي ما لا كنت نظن فيهم ، حتى رأيتهم بالبلاد المذكورة ، وهي فرنجة وفلنضس. وفيها هم أشهر مما هم ببلاد الفرنج لأن لكم الإذن في نقل السلاح ، واللباس مثل أهل فلنضس. والتقيت في مدينة برضيوش بفرنجة ببعض علمائهم وبلغوا وأطنبوا في مدح دينهم حتى رأيت أنه لا يكفيني في رد عليهم من كتبنا إلا إذا كان من كتبهم فهو أقوى وأبلغ كما اتفق لي مع النصارى. فاتصلت بالتوراية باللسان العجمي الأندلسي ، ووجدت فيه مسائل كثيرة للرد عليهم منها ، ففي التوراية الكتب الخمسة الأوائل فهي منسوبة لسيدنا موسى عليه‌السلام ، وفيها أمور دينهم وجميع كتب التوراية بالخمسة التي ذكرت أربعة وعشرون كتابا ولم نر في جميعها ذكر جنة ولا نار ، ولا عذاب الآخرة ، بل فيها المدح التام لبني إسرائيل ، حتى قال فيها : لا تأخذ ربا أو طالعا في المال من أحد من بني إسرائيل ، ويجوز الأخذ من غيرهم. ووجدت في أحد الكتب الخمسة أن الرجل إذا جامع زوجته وجب عليهما غسل جميع الجسد بماء طاهر ، وكذلك من خروج المني. وأن المرأة وجب عليها من الحيضة أيضا. ووجدت فيها أن الله يدخل جن الجنة. وسألت علماءهم في تلك البلاد وغيرهم على هذا المذكور في التوراية المسمى بجن ، وان الله

٨٨

يدخله الجنة. قالوا : لم ندر. ثم إني بعد أن وليت إلى بلاد المسلمين بمدينة مراكش واتصلت بكتاب يسمى بالسيف الممدود في الرد على اليهود (١٠٠) لعبد الحق الإسلامي (١٠١) ـ رحمه‌الله ـ قال : إنه كان من أحبار اليهود ووفقه الله تعالى لدين الإسلام ، وأتى بالنصوص من التوراية بالخط العبراني ويضعها في طرة الكتاب. ثم كتب الألفاظ بالخط العربي في داخل الأسطار ، ثم تفسير المعنى بإثره. وذكر في مواضع من التوراية اسم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم برموز وحلها بأسرار الحروف. والذي بقي في حفظي واحد منها. واكتفيت به عن غيره. وهو كاف بايّن وذلك أنه قال في التوراية في باب : يدخل الله جن الجنة فأما جن فهو اسم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو اسمه أحمد ، لأن النون تنقط خمسين بالحساب المشرقي والمغربي ، وكذلك الجيم ثلاثة ، والمجموع ثلاثة وخمسون ، وهو ما تنقط حروف أحمد بالاصطلاح المشرقي والمغربي. فأما الألف فواحد ، والحاء ثمانية ، والميم أربعون ، والدال أربعة ، فالمجموع ثلاثة وخمسون. وهذا برهان ودليل قطعي أن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكور اسمه في التوراية إلى الآن.

ووجدت فيها أيضا أن الإثنى عشر سبطا من بني إسرائيل السبعة منهم أمهاتهم كل واحدة أم ولد وليس بزوجة نكاح ، ومن المسائل التي قالوا لي اليهود أن أصلنا القديم من سيدنا إسماعيل عليه‌السلام ، وأن أمه ليست كأم سيدنا إسحاق عليه‌السلام لأنها كانت زوجة لسيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، وأم إسماعيل عليه‌السلام مملوكة. قلت لهم : كل ما فعل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ فهو موافق لما أباحه الله تعالى. ثم نسألهم عن الإثنى عشر سبطا فيقولون : هم الأصل في الدين ، وهم المذكورون المقبولون عند الله تعالى. ثم أقول لهم : فالسبعة منهم لم تكن أمهاتهم زوجة نكاح ، وكما هم عندكم في مقام محمود ، كذلك كان مقام سيدنا إسماعيل عليه‌السلام ولا يجوز لكم أن تستنقصوه بسبب

__________________

(١٠٠) مخطوط خ. ع. بالرباط ، عدد ٣٣٩٥ د ضمن مجموع (ص. ٣٦٠ ـ ٣٨٠). وقع طبع على الحجر بفاس ، في ٢٤ صفحة من الحجم المتوسط وهي خالية من تاريخ الطبع.

(١٠١) انظر ترجمته عند م. المنوني ، «مناقشة أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث» ، مقال بمجلة البحث العلمي ، العدد ١٣ ، ١٩٦٨ ، ص. ٢٥ وما بعدها.

٨٩

أمه ثم يسألوني سؤالا ، وهو عندهم أن أحدا لا يجد ما يجاوب عليه. وذلك أنهم قالوا لي : الدين الذي به سيدنا موسى عليه‌السلام كان من عند الله ، قلت : نعم ما بيننا نزاع في هذه المسألة ، قالوا سلاطين الدنيا يرجعون فيما أعطوا من كتبهم معلمة منهم ، قلت : لا يرجعون إلا فيما يظهر أنه يليق بهم ، وفي بعض الأزمنة ، ونحن عندنا في ديننا يمحو الله ما يشاء ، ويثبت ، وعنده أم كتاب. قالوا : ليس ذلك عندنا : قلت لهم : عندكم في التوراية مسألة مثل ما قال الله في القرآن إنه يمحو ويثبت ، قالوا : في أي موضع في التوراية ، قلنا : في الباب العشرين من كتاب الثاني للسلاطين ، قال : «إن السلطان حزكيه مرض بمرض الموت ، وجاء إليه النبي يشعيه ابن النبي مزو ، قال : إن الله أرسلني إلى دارك ، إنك تموت ولا تعيش ، فدعا وبكى بكاء شديدا ، ثم ثاب إلى الله توبة صادقة ، ثم بعث الله النبي يشعيه : ارجع إلى سلطان بلادي وقل له : رأيت بكاءك ، وقبلت دعاءك ، وفي ثالث يوم يأتي إلى بيتي ، ونزيد في عمره خمس عشرة سنة ، وننجيه من سلطان شوم ، ونحفظ هذه المدينة» ، انتهى.

فكل من نسأله من علمائهم عن هذا : هل هو في التوراية ، فيقول : نعم ، فأقول : الكلام الأول الذي جاء به النبي كان كلام الله ، وقال : يموت من مرضه ، والمرة الثانية قال : يزيد في عمره خمس عشرة سنة ، فمحى الكلام الأول وأثبت الثاني. وهذا برهان لا يرده أحد ، وكذلك محى الله دين اليهود من العبادات وثبت دين الإسلام. ومثال ذلك أن الملك بعث رسولا إلى قومه وأمرهم بكتابه أن يفعلوا كذا ، ثم بعث كتابا آخر يزيد أو ينقص عن الأمل الأول ، فمن عمل بالأمر الأخير فهو طائع ، والذي تمسك بالأمر الأول وقال ما نعمل إلا بما أتانا به رسوله فلان بكتابه فهو عاص مثل اليهود ، وكذلك أمر الله سيدنا إبراهيم عليه‌السلام بالتختين هو ابنه سيدنا إسماعيل عليه‌السلام ومن بعده ، ولم يأمر بذلك لمن كان قبله من الأنبياء والمومنين. فكان اليهود لا يجدون ما يجاوبون به ، وذكر في التوراية أن السر في التختين مثل علامة يعملها الإنسان ، إنه يوفي بما أمره الله به ، وتشهد النصارى أن سيدنا عيسى عليه‌السلام اختتن في أول يوم من يناير ، ثم إنهم أسقطوا ذلك عن أنفسهم بغير أمره ، بل قالوا : إن سيدنا عيسى عليه‌السلام خلص عن الجميع ذلك بموته ، وأباحوا أكل لحم الخنزير ، وهو ممنوع في

٩٠

التوراية والخبائث. وقد بحثت اليهود في مسألة أخرى ، قلت لهم هذا الأمر الذي أنتم مأمورون به في كتابكم : إن الرجل إذا جامع زوجته وجب عليه وعليها الغسل لجميع الجسد بماء طاهر ، هل تمنعون ذلك أم لا؟ قالوا جميعا : لا نفعل ذلك ، ولكن النساء تغتسلن من الحيضة ، وأنتم مأمورون بها في كتابكم؟ قالوا : ذلك الأمر كان حين كنا في بيت المقدس ، قلت لهم : الأمر ليس هو مرتبطا بشرط ، لأنه ما قال هذا الأمر للغسل فرض عليكم ما دمتم ببيت المقدس ، ولم قال ذلك كانت لكم حجة مقبولة بما تقولون. هذا برهان بأنهم جميع اليهود بنجاسة موروثة من آبائم وأجدادهم ، وعلمائهم ملعونين بإباحتهم في ترك فرض من فرائضهم. وأما الغرض لهم في ترك الأسباب يوم السبت حيث هو أمر موافق لشهوة النفس لأنها تحب الراحة ، فهذا يقومون بحقه ، ويظهرون من الورع جميعهم بالقيام بحقوق السبت ، ويذكرون أنهم لا يجوز لهم فيه كذا وكذا ، ويتركون الطهارة التي هي الأصل في العبادات. وكذلك النصارى لا يقربون الماء أبدا إلا مرة في العمر ، وهو الغسل عند دخولهم في دين النصارى المسمى بالماء المعمدان. وكم من مسلم في الدنيا من يجب عليه الغسل يقوم من فراشه عند السحر في أيام البرد ولا يجد سبيلا لتسخين الماء ويغتسل به باردا لئلا تفوته صلاة الصبح ، والمواضبون على الصلاة في أوقاتها ، فلا ينامون إلا بعد أداء صلاة العشاء الأخيرة ، ويتركون مضاجعهم عند صلاة الفجر. وقال الله تبارك وتعالى («تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠٢) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنه صلى الليل كله» (١٠٣) ، فببركتهم لم يزل العز للإسلام في الدنيا وببركة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال :

__________________

(١٠٢) سورة السجدة ، الآية ١٦.

(١٠٣) أخرجه مسلم في الصحيح ، ٢ : ١٣٥ ، عن عثمان بن عفان.

٩١

«وجعلت قرة عيني في الصلاة» (١٠٤) ، وقال : «أنا أول من يدق باب الجنة» (١٠٥) ، ولذلك قال في التوراية : «يدخل الله جن الجنة» ، إذ هو أول من يدخلها وبعده من كان من السعداء. وفي الكتاب الأول من التوراية في الباب السابع والأربعين قال : «إن سيدنا يعقوب كان يذكر لأولاده ما يكون من أمرهم في الدنيا ، وقال على اليهود : يكون لهم الأمر والحكم في الدنيا إلى أن يأتي شلوه ، والنصارى تقول إن شلوه كان سيدنا عيسى عليه‌السلام ، والصحيح أن الملك كان لهم بعده أكثر من أربعين سنة. وفي الحقيقة لم يزل بالكلية إلى أن جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ وقع لهم معه حرب وشر بخيبر ، وبعد ذلك لم يسمع أن اليهود حاربوا أحدا». وفي التوراية في الكتاب المسمى ذواترنمي في الباب الأربعين ، قال : ارعوا أرواحكم ، لا تزوروا أصناما. وقال أيضا لا تقطعوا أو تصنعوا لكم صورا ولا أصناما من شيء من الصور ، صورة ذكر ولا أنثى ، ولا صورة دواب الأرض ، ولا صورة طير من التي تطير في الهواء ، ولا صورة دابة تنجر على الأرض ، ولا صورة حيتان الماء ، ولا تسجدوا ولا تعبدوا القمر ولا النجوم. وقال في الكتاب المسمى بلبتق من كتب التوراية في الباب العاشر : «وكلم الله لهارون وقال : أنت ولا أولادك لا تشربوا خمرا ولا مزرا ـ يعني مسكرا ـ إذا ردت الدخول في الجامع ليتبين الطاهر من النجس ، ولا تموت عهد للأبد يكون لمن يتنسل منك. وفي كتاب آخر يسمى بذوترنمي في الباب السادس لسيدنا موسى عليه‌السلام قال بني من وسطك من إخوانكم يظهره الله عنه تسمعون». وفي كتاب السيف الممدود في الرد على اليهود في هذا المعنى : «نبي من بني إخوانكم منه تسمعون». وفي كتاب القضاة من كتب التوراية في الباب الخامس : «قال بني نقيضه من بين إخوانهم مثلك ، وأنا نضع كلامي في فمه ، وهو يتكلم بكل ما نأمر

__________________

(١٠٤) أخرجه النسائي في السنن ، ٧ : ٦١ ، عن أنس باللفظ الآتي :

«حبب إلي من الدنيا : النساء ، والطيب ، وجعل قرة عيني في الصلاة».

(١٠٥) أورده الخليل في مشيخته عن أنس باللفظ الآتي : «أنا أول من يقرع باب الجنة». انظر ج.

السيوطي ، الجامع الكبير ، ١ : ٥٧٥.

٩٢

ومن لا يسمع من كلامي الذي (١٠٦) يتكلم عني أنا محاسبه» فهذا (١٠٧) دلائل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي كتاب أسكيل من التوراية ، قال دانيال النبي عليه‌السلام : قال الله تعالى : اكسر الأصنام ويخمد ويفني الكفر. وفي العام الثاني من تولية بخت نصر المملكة رأى رؤيا بخت نصر وسببها ، وأمر بإحضار الكهان والمنجمين والسحرة القبطيين (١٠٨) ، ليظهروا للسلطان الرؤيا. ولما حضروا قال السلطان : رأيت حلما وأنا متفكر لنعلم ما رأيته (١٠٩). قالوا : أذكر لنا ما رأيت ونفسره ، قال السلطان للقبطيين : ذهب (١١٠) عني ما رأيته ، وإذا لم تظهروا الرؤيا نقتلكم أشر قتل ، وإذا ذكرتموها نجود عليكم ، قالوا مرة ثانية : أذكر ما رأيت نبين تفسيره. ثم قالوا ليس أحد يقدر على هذا الأمر إلا الملائكة التي لا تسكن في الأجساد ، فغضب السلطان ، وأمر بقتل جميع علماء بغداد (١١١). وشهر الأمر ، وقبضوا العلماء ، وطلبوا على دانيال وأصحابه ليقتلوهم ، حينئذ تكلم مع الريوج القبطان المتكفل بحرص السلطان ، وقال : ما السبب في سرعة هذا الأمر؟ فبينه له ، ودخل دانيال (١١٢) للسلطان ، وطلب منه أن يمهل (١١٣) عليهم ، وأنه يبين للسلطان ما طلب ، حينئذ مشى دانيال (١١٤) إلى منزله وذكر الأمر لأصحابه (١١٥) : أنانيش ومشايل ، وإلى قريش (١١٦) ليطلبوا الرحمة من إله

__________________

(١٠٦) هنا تبدأ قطعة المكتبة الوطنية بباريس ، وسوف نرمز لها بحرف «ب».

(١٠٧) «ب» : فهذه.

(١٠٨) «ب» : مثل القبطيين.

(١٠٩) «ب» : ما رأيت.

(١١٠) «ب» : اذهبوا عني ما رأيته.

(١١١) «ب» : وأمر بقتلهم جميعا يعني علماء بغداد. ملاحظة : يقصد ببغداد «بابل».

(١١٢) «ب» : عليه‌السلام.

(١١٣) «ب» : يهمل.

(١١٤) «ب» : عليه‌السلام.

(١١٥) «ب» : وذكر الأمر على نانيش.

(١١٦) «ب» : وإلى قريش أصحابه.

٩٣

السماء واللطف لئلا يهلك دانيال وأصحابه وعلماء بغداد. حينئذ أوحى الله المسألة لدنيال (١١٧) برؤيا في الليل ، وشكر على ذلك ، وقال البركة في اسم الله تعالى في كل قرن وزمن له هي الحكمة والقوة ، وهو الذي يبدل الأزمنة ، ويزيل الشدائد ويضعها ، يؤتي الحكمة للحكماء ، والعلم للإفهام ، وهو يوحي ما كان مستورا ومكنونا ، يعلم (١١٨) ويميز ما كان في الظلمات والنور ، وما في هما إليك. يا إله آبائي أشهد وأشكرك ، إنك أعطيتني علما وأعلمتني ما طلبنا منك وبينت لي أمر السلطان ، ثم كلم وزير السلطان الذي كان له الأمر على قتل علماء بغداد ، وقال له : لا تقتل العلماء ، وادخلني بحضرة السلطان ، وأنا أبين له ما طلب ، فالتقى به ، وقال السلطان بدانيال ـ وكان اسمه بلتشر ـ : تقدر تبين لي الرؤيا وتفسرها؟ قال دانيال للسلطان : الأمر الذي سألت عنه لا يقدر على إظهار علماء ، ولا منجمون ، ولا سحرة ولا كهان ، ولكن في السماء إله السماء إله واحد الذي يوحي الأسرار ، وهو يعلم السلطان بخت نصر ما يحدث ، وما يكون بعد أيام وأزمنة ، وما رأيت في فراشك هو هذا.

فأنت يا سلطان في فراشك كان في (١١٩) فكرك لتعلم ماذا يكون فيما يأتي والذي يوحي الأسرار والعجايب أظهر لك الذي يكون. أما أنا فأظهر لي هذا السر وليس ذلك من أجل العلم الذي عندي أنه (١٢٠) أكثر من العباد ، ولكن ، لنظهر تفسيره للسلطان ، ولنعرف ما كان في فكرك وقلبك وأنت يا سلطان رأيت صنما عظيما جدا وكان له مجد وهو واقف أمامك ، وبصره قوي. أما رأس الصنم فكان من ذهب خالص ، وصدره وعضداه من فضة ، وبطنه وفخذاه من معدن ، (١٢١) ورجلاه من حديد ، وقدماه بعضها من حديد وبعضها من فخار ، وأنت تنظره ، ورأيت حجرة قطعت بغير أيادي ، وضربت الصنم في قدميه من الحديد ، والفخار طحنتها غبرة الحديد ، والفخار والمعدن والفضة والذهب ، ورفها الريح ، فما وجد لها موضع ، ولكن الحجر الذي ضرب الصنم

__________________

(١١٧) «ب» : لدانيال عليه‌السلام.

(١١٨) بالأصل : يعرف ، وكتب المؤلف في الطرة : «صوابه يعلم».

(١١٩) «ب» : كان فكرك.

(١٢٠) «ب» : عندي أكثر من العباد.

(١٢١) هنا يبدأ ما سقط في نسخة «ب».

٩٤

رجع جبلا عظيما حتى غمر وملأ جميع الأرض. وهذا هو الحلم والرؤيا.

وأما تفسيره ، نذكره أيضا بحضرة السلطان.

«أنت يا سلطان أنت سلطان سلاطين ، لأن إله السماء أعطاك القدرة والقوة والعظمة ، وكل ما عمر أبناء الرجال ، ودواب الفحص ، وطيور الهواء ، وضعه في يدك. وجعلك أميرا على جميعه. وأنت هو ذلك الرأس من ذهب ، وبعدك تقوم سلطنة أخرى أقل وأصغر منك فالصدر من فضة ، وسلطنة ثالثة من معدن ، وتتحكم على جميع الأرض ، والسلطنة الرابعة تكون قوية مثل الحديد ، وكما أن الحديد يغلب ويقهر جميع الأشياء ويكسرها فالذهب والفضة يكسره ، ويدقه. وأما ما رأيت أن القدمين والأصابع بعضها فخارا ، وبعضها حديد ، فالسلطنة تنقسم : قسم قوي وقسم ضعيف. وأما امتزاج الحديد مع سقف الفخار ، فيتزوجون ويمتزجون الزريعة الأدمية ، ولكن ما تلتصق بعضها مع بعض ولكن في أيام في أيام هذا السلاطين المتأخرين الذين لا يمتزجون لتكون سلطنة قروية. الإله السماء يقيم سلطنة لا تنكسر ولا تفنى أبدا ، وهذه السلطنة لا تترك لغيرها من البلاد ، وهي التي تهرس وتفني جميع هذه السلطانات ، وهي تدوم وتبقى إلى الأبد كما رأيت أن من الجبل قطع الحجر بغير يدين ، وهرس الحديد والمعادن والفخار والفضة والذهب. الإله العظيم أظهر للسلطان ماذا يكون في المال والحلم حق وتعبير صدق. حينئذ السلطان بخت نصر وقع على وجهه وركع إلى دانيال ، وأمره بإعطائه هدايا وتباخر. وكلم السلطان إلى دانيال ، وقال الصحيح أن إلهك هو إله إلهات ، ورب السلاطين مظهر العجائب والمعجزات ، حيث قدرت تبيني بهذه المعجزة. قال دانيال : لأني لا أعبد أصناما مصنوعة باليدين ولكن أعبد الإله الحي الذي خلق السموات والأرض ، وله أمر على كل لحم» ؛ انتهى ما ترجمناه من التوراية.

قال سيدي أحمد زرّق (١٢٢) ـ نفع الله به ـ في هذا المعنى : فانظر هذا التصريح

__________________

(١٢٢) يقصد أحمد زروق.

انظر ترجمته عند شمس الدين السخاوي ، الضوء اللامع ، ١ : ٢٢٢ ، وم. بن عسكر ، دوحة ، ص. ٤٨ ـ ٥١ رقم ٣٣ ؛ وابن القاضي ، درة ، ١ : ٩٠ ـ ٩١ رقم ١٢٦ ؛ وأ. بابا ، نيل ، ٨٤ ؛ و. م ، بن مريم ، البستان ، ٤٥ ـ ٥٠.

٩٥

الجلي المطابق لسيدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذ هو الذي بعث في آخر الزمن ، وهو الذي نبوءته وملك أمته أبدي إلى قيام الساعة ، إذ لا نبي بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نسخ لشرعه الشريف ما بقيت الدنيا ، وهو الذي بعث لسائر الأمم ، وظهر عليها كلها ، وخلط بين أجناسها ، وجعلها على اختلاف أديانها ، واختلاف لغاتها جنسا واحدا ، وعلى لغة واحدة ، ودين واحد ، إذ كلهم يقرؤون القرآن بلغة العرب ، وبها يصلون ، إلى غير ذلك. وكلهم يدينون بدين واحد ، وهو دين الإسلام ؛ انتهى.

وأقول : قد سمعت ببلاد الأندلس قبل خروجي منها مرارا القسيسين والرهبان يختطبون ويذكرون الرؤيا الذي رأى بخت نصر ، وما فسر النبي دانيال عليه‌السلام ويقولون : إنه سيدنا عيسى عليه‌السلام هو الذي دلت عليه الرؤيا ، وأن دينه عمر الدنيا ، وسلاطين دينه غلبوا سلاطين الدنيا ، وكذبهم العيان بصحة البرهان ، بما أظهر في الدنيا الملك الديان ، له الشكر والفضل والامتنان على علو كلمة توحيده والإسلام خالص الإيمان.

أما السلطان بخت نصر فكان في مدينة بغداد ، والنصارى لم تملك قط بغداد ولا كان لهم فيها دار ملك كما كان للمسلمين.

وأيضا أن ، السلطان رأى الحجر الذي هرس الصنم وعظم حتى ملأ الدنيا كلها ، وذلك كان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل دينه لأنه هرس في مكة المشرفة الأصنام ، كما تقدم ذكر ذلك. ولم يعبد صنم في البلاد التي دخلها الإسلام.

وأما النصارى بعد سيدنا عيسى عليه‌السلام فلا يعبدون إلا أصناما ، وما من كنيسة إلا لها صنام أو أصنام كثيرة. وفي صلاتهم يعبدون قرصة من خالص الدقيق ، والخمر أيضا ـ كما تقدم ، كما شاهدته سنين عديدة ـ.

والرؤيا مبنية على الحجر الذي هرس الصنم ، وهو الإسلام ، لا على من أقام الأصنام وعبدها ، وهم النصارى الضالون. وقول النبي دانيال عليه‌السلام : إن في أيام السلاطين المتأخرين يقيم الله سلطنة لا تنكسر ، ولا تفنى أبدا ، وهي التي تكسر وتفني جميع هذه السلطانات ، وهي تدوم إلى الأبد. فأبين ما ظهر من ذلك على قدر الاستطاع ، وأنا أمرني الشيخ الأثير الشهير بمصر وغيرها أن لا نكتب في المختصر إلا ما وقع لي مع الكفار من الكلام. فهذه بينة وبرهان وأن الإسلام عمر أكثر بلاد الدنيا

٩٦

المعروفة في زمن القدما ، الذي وقع الكلام عليها ، احترازا على الدنيا الجديدة التي ظهرت بعد ذلك بالمغرب البعيد ، حيث هي الهنود المغربية (١٢٣) التي لم يدخلها الإسلام. وجميع سكانها القدما مجوس ، يعبدون الشمس لكفرهم ، إلى أن أدخل فيها سلطان بلاد الأندلس أصنامه ، وشركه. وأقول : إن النصارى تزعم أن الحجر الذي هرس الصنم ، وعظم ، وعمر الدنيا كلها ، كان سيدنا عيسى عليه‌السلام وقد تحققنا في ذلك من كتبهم. ومما يصورون في المبات ، والكور الأرضية ، والرسائل التي قرأت عليها. فاعلم أن القدما فيما مضى قسموا الدنيا أربعة أقسام وكل قسم سموه باسمه فسموا أوروبة للربع الجوفي الذي هو إلى جهة القطب الشمالي ، وابتدأوه من البحر الأسود إلى آخر بلاد الأندلس. وفي هذا الربع هي المدينة العظمى الشهيرة في الدنيا أنها أعظم مدنها باتفاق جميع الملل والأجناس العارفين ، وهي القسطنطينية ـ حرسها الله تعالى ، وأدام عزها إلى الإسلام مدامة الدنيا ـ. والمسلمون في هذا الربع على ما قيل لي نحو الخمسين يوما للماشي المتوسط ويحتمل أنه أكثر من ذلك. وما عدا الإسلام فهو النصارى ، فالمجاور للإسلام سلطان الارمانيه ، وظهر لي أنهم الصقالبة المذكورون في التواريخ بالعربية ، وبلاد مشقوبيه الجوفية ، وبلاد رومة بإيطالية ، وبلاد الفرنج وفلنضنس وبلاد الأنجليز ، وبلاد الأندلس بما لها من جزر في البحر المحيط الصغير.

وأما الربع الثاني فيسمى عندهم بالربع الإفريقي ، اسم مأخذ أو مشتق من مدينة عظيمة كانت فيما مضى تسمى بإفريقية ، وبالمعجم أفرقه. كانت بقرب تونس المحروسة بالله. وفي زمننا هذا يسمى هذا الربع عند العامة ببلاد المغرب. وابتداء هذا الربع الثاني من بحر سويس والبحر المحيط دائر به من القبلة ، والمغرب والبحر الصغير من جهة الجوف ، والمشرق. وفي هذا الربع المغربي أكثر سكانه المسلمون ، فأما مصر المحروسة بالله فهي من أعظم مدن الدنيا ، هي مثل بريش بفرنصه إذا أضفنا إليها مصر العتيق وبولق ، وهي تحتوي على إثنى عشرة ألف قرية. ثم مغربا عنها

__________________

(١٢٣) يقصد بأمريكا اللاتينية.

٩٧

إسكندرية ، ثم مغربا عنها مدينة طرابلس ، ومغربا عنها مدينة تونس لم تحتوي عليه من البلاد وبلاد الجريد ، ثم مغربا عنها مدينة الجزائر بما تحت حكمها من البلاد ، ثم تلمسان وإن كانت تحت حكم الجزائر. فكانت فيما تقدم دار ملوك ، ثم مغربا عنها مدينة فاس دار الملوك بما ينسب إليها من البلاد ، ثم مدينة مراكش في صقعها قدر بريش بفرنصة أو أقل ، دار سلاطين للشرفاء. وأدركت خمس سنين من مدة مولاي أحمد ـ رحمه‌الله ـ الذي كان من يوم مات سلطان برتغال النصراني ، حين أحرك إلى المغرب بجيوش عظيمة ، ومات هو ، وبقي جيشه هو أسارى بأيد المسلمين ، وبقي مولاي أحمد في المملكة خمس وعشرين سنة إلى أن مات عام اثنتي عشرة وألف.

وكانت تحت طاعته سلطنة مراكش بما تحتوي عليه من الأقطار وسلطنة فاس ، وسلطنة سوس الأقصى ، وسلطنة سجلماسة ، المعروفة الآن بتافللت ، وبلاد درعة أقرب منها إلى مراكش ، وبلاد توات ، وكان له ببلاد السودان سلطنتها استفتحها هو ، أعني السلطان المذكور ـ رحمه‌الله ـ ، وهي مدينة تنبكت بما تحت حكمها ، ومدينة جاغ وككي ، وليس بينها وبين خط الاستواء إلا نحو عشر درجة من العرض. وفي بلاد السودان بلاد كثيرة للمسلمين منها سلطنة ملى وهي تمتد إلى البحر المحيط ، ثم سلطنة عظيمة بالسودان ، لسلطان برن. وبلاد كثيرة للمسلمين ممتدة من سلطنة برن إلى بلاد حبشة التي هي قبلة ومشرق عنها. وما بقي في هذا الربع فهو أقله فيه مجوس ، وأيضا سلطان نصراني. وأما ما تقوله العامة أن بني آدم السودانيين أكثر من جميع البيض في الدنيا ، فذلك باطل وزور ، وأظن أن السودانيين يكونون قدر عشور البيض.

وكذلك تكذب اليهود عن واد السّبت ، وأن وراءه سلطنة عظيمة لليهود ، وأن الواد لا يجري يوم السبت.

وقد عرفت الناس في زمننا هذا أكثر من الأوائل في أمور الدنيا. فأما اليهود فيصبرون نفوسهم عن ذلهم وخزيهم بذكر واد السبت. إذا سئلوا : في أي قطر أو جهة من الدنيا هو؟ فلا يعلمون ما يقولون ويمتد هذا الربع الإفريقي إلى طرف حسن الرجا الذي هو بعد وثلاثون درجة إلى الجنوب من خط الاستواء ويضيق للأرض من الجانبين إلى أن يكون كركن. والبحر المحيط دائر به ، وأيضا البحر الصغير ، وبحر السويس كما ذكرنا.

٩٨

وأما نصف الدنيا تسمى بالعجمية بأشيه ، وفيها للمسلمين بلاد الشام ، ومكة ، والمدينة ، والحجاز ، واليمن ، وبلاد الترك الشهيرة بركتها. ولا أعرف أقطارها ، وعرق عرب وعرق عجم ، وبغداد وما تحتوي عليه من الأقطار ، وبلاد هرموس ، وسلطان حضر موت ، وسلطنة قشن ، وسلطنة ضفر ، وبلاد الإمام نعمان ، ثم بلاد الهند ، وخراسان ، وبلاد فارس وما لها من الأقطار وما وراء النهر ، وسمرقند ، وبخارة ، وأسبك ، وبلاد الطّطر تأخذ من الدنيا حظّا وافرا. وسلطان جلال الدين في الهنود سلطان عظيم ، الذي يذكرون عنه أن له أفيالا للحروب ، كما ذكر لي بعض الهنديين في جامع الأزهر بمصر ، وذكر لي رجل أندلسي بمكة المشرفة : أنه خدم سلطانين مسلمين سنين ، غير سلطان جلال الدين.

وكم من أقطار وبلاد للمسلمين غيرها ما ذكرنا ، لجهلي بها ، وكلما ذكرنا فهي في الأرض الكبرى المتّصلة للمسلمين ، وفي المبّات (١) التي تصور النصارى ، والكور الأرضية فيها ، كل مدينة مصورة ومكتوب اسمها بطولها وعرضها ، وكذلك الويدان والأبحر كما تقدم. وفيها في الأرض الكبرى المتصلة من بلاد المسلمين ، فما تأخذ من الربع المغربي وهي نصف الدنيا التي قلنا تسمى بأشيه نحو المائة وأربعين درجة أو أكثر طولا. والمحسوب لكل درجة من الأرض اثنان وخمسين ميلا ونصف للماشي على خط مستقيم من غير صعود جبل ولا انجراف ، ويكون بتقريب لكل درجة ثلاثة أيام للماشي المتوسط. كما قدرنا لطول بلاد الأندلس ثلاثين رحلة طولا ، ودرج طولها عشر أو إحدى عشرة درجة بحساب الرحلات المشهورة فهي ثلاثون يوما بتقريب ، وجاء لكل درجة ثلاثة أيام كما قلنا. ونحسب للأرض المتصلة العامرة بالمسلمين أربع مائة وعشرين يوما. وقد جاء رسول من بلاد فلمنكه إلى مولاي زيدان ابن مولاي أحمد ـ رحمهما‌الله ـ إلى مدينة مراكش ، وكتاب رسالتهم عجمي ، وأمرني السلطان أن أعربه ، ومن أجل ذلك كان الرسول يظهر محبة ، ورأيت عنده كتبا بالعربية ، وهو يقرأ ويكتب بها فسألته أين تعلم ذلك؟ قال : أعلم أنني كنت في جزيرة كذا من جزر الهنود المشرقية التي يأتوا منها بالقرفة والقرنفل والجوز وغير ذلك

__________________

(١٢٤) المبة : كلمة إسبانيةMapa بمعنى خريطة جغرافية ، وقد جمعها لتصبح (مبات).

٩٩

من الأبازير وهي للمسلمين ، وهنالك تعلمت نقرأ. قلت له : وهل في تلك الجزر مسلمون؟ قال : فيها : وفي كل جزيرة سلطان مسلم ، وفي بعض الجزر سلطانان.

فاستغربت ذلك ، وحلف بدينه وما يعبد أن في تلك الجزر أكثر من عشرة آلاف جزيرة للمسلمين. فتوقفت في الأمر ثم قلت : ثلاثة مسائل تدل على صدقه : الأولى أنه كان يقرأ ويكتب بالعربية ، ويحتاج إلى ذلك سنين وليس بفلنضس إلا الذي سنذكره يقرأ بالعربية ، وهما رجلان فقط. الثانية أنه كان رسولا ، والملوك لا تبعث من هو سفيه برسالة. رجلان فقط. الثالثة : أنه نصراني عدو في الدين ، وليس من عادة النصارى تعظيم المسلمين ، وإذا شهد لك عدوك بما تحب ، فيقضى لك بالغلب ، وإذا قلنا هذا زاد كثيرا ، فنأخذ العشر مما قال ويبقى من الحساب ألف جزيرة ، كل واحدة بسلطان مسلم. وقرأت في بعض كتب النصارى أن جزر الهنود المشرقية هي أكثر من ألف وثلاثمائة جزيرة. وقد طالعت كتابا عجميا لبدر طشابر ، نصراني ، وذكر فيه أنه ركب البحر ببلاد برتغال من بلاد الأندلس ، ومشى إلى الهنود المغربية ، ثم مشى في بلادها إلى أن قطعها برا ، ثم ركب المحيط ، ومشى فيه مغربا زمنا في البحر بين الجزر المشرقية إلى أن خرج بقرب بغداد ، وجاء في البر من بلاد المسلمين إلى بحر الروم ، أظن أنه ذكر إلى حلب ، وركب في البحر ومشى إلى بلاد النصارى ، وكل سفره برا وبحرا إلى أن دار بالدنيا دائرة كاملة. وكان رجلا حكيما ، وكتب ما رأى. ومن جملة ما ذكر في كتابه أن في جزيرة كبيرة من جزر المشرق ، دخل الإسلام فيها قبل هذا العهد بنحو المائة وثلاثين سنة ، والجزيرة تسمى بجاوش ، وصاروا مسلمين. وكانوا قبل ذلك يأكلون لحم آدم ، والحمد لله الذي أعطانا وأشرحنا بعمارة أكثر الدنيا أنها للمسلمين ، وأنهم الذين لا يتبدل ملكهم إلى تمام الدنيا ، وليس هذا من العجب في أخذ تلك الجزر الكثيرة من أيدي الكفار لأن المسلمين مأمورون بالجهاد للكفار والمشركين ، قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(١٢٥) فالمسلمون منصورون بالله بالجهاد للكفار وبتركه يبتليهم الله فيما

__________________

(١٢٥) سورة التحريم ، الآية ٩.

١٠٠