رحلة أفوقاي الأندلسي

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي

رحلة أفوقاي الأندلسي

المؤلف:

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي


المحقق: د. محمّد رزوق
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-504-0
الصفحات: ١٨٨

الله على ما أنعم به علينا باعتقاد الحق ، وطهارة الجسد والملبس ، والجامع الطاهر النقي من الأوثان ، والأدران ، لأنها من أعظم النقم. وظهر لي أن الله تبارك وتعالى خلق الجنة ومن كمالها خلق جهنم ـ نستعيذ بالله منها ـ قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)(٧٧) ، وذلك كمل ، لقيمة الجنة عند المؤمن ، لأن برؤية جهنم يرى ما منحه الله ، وما أنعم به عليه من نعائم الجنة ومما نجاه ويزيد في الشكر عليها ، وكذلك على ما نجاه من النار ، وكذلك من يرى الكفر فيشكر الله تعالى الذي نجاه منه ، وعلى هدايته للإيمان وعلى توحيده.

وأما الباب الرومي ششط : زاد صلاتهم كلية. واحدة تقال ثلاث مرات.

الباب طلش أوناني : افترض الصيام ما لا كان قبل زمانه وأن القسيس يصلي ثلاث صلوات يوم ميلاد عيسى عليه‌السلام وزاد ما يغنى به في بعض الصلوات.

وباب آخر : أمر من كان قسيسا أو راهبا يقص لحيته.

وباب آخر : أمر أن الكأس الذي يعملون فيه الخمر عند الصلاة لا يكون من زجاج كما كان من قبل ، إلا من فضة.

وباب آخر : أمر أن إذا دعي على نصراني في الأحكام إذا كان الداعي على غير ملة النصارى أن لا تقبل دعوته.

وباب آخر : أمر أن لا يصوم أحد فرضا ولا سنة يوم الأحد ولا يقوم الخميس. ثم فسح الأمر.

وباب آخر : أمر أن بعد قراءة الإنجيل في بعض الصلوات تقرأ عقيدة الشرك التي هي فرض على كل مكلف حفظها قال سمران وغيره من المؤلفين : إن الذي عمل العقيدة كان الطّتاشي اسمه ، رجل قسيس ، بعد سيدنا عيسى بسنين كثيرة.

الباب مرك الرومي : أمر القضاة في الأحكام أن لا يقضوا على قسيس ، إنما يكون للقسيسين قاضيا منهم.

باب آخر : أمر أن القسيس الإمام يعطي الصلح بين الناس وتقدم ذكر الفعل كيف كان.

__________________

(٧٧) سورة مريم ، الآية ٧١.

٦١

والباب بجلّي الرومي : أمر أن تسمى الصالحة مريم بأم كذا ، وألا تسمى إلا بذلك الاسم ، فسميت بذلك إلى الآن عند النصارى والتابعين له ـ لعنهم الله وخذلهم ، تعالى عن قولهم علوا كبيرا ، وكان ذلك بقرب نصف المائة الخامسة من ميلاد سيدنا عيسى عليه‌السلام ، ولما اشتهر هذا الأمر الشنيع بهذا الاسم الذي لم يكن قبل وعمل به عند القوم الكافرين بعث الله تعالى سيدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن العظيم ، ودين الصراط المستقيم ، وكذبهم فيما قالوا وافتروا ، ونزل في قلوبهم الرعب والخوف من المسلمين ـ نصرهم الله تعالى عليهم ـ ، فكم بلد أخذوا من بلادهم. وهذا ألف سنة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر معمور الدنيا للمسلمين ، نسأل الله العظيم أن يقوي الإسلام عليهم ، حتى يأخذوا ما بقي لهم ، وأن يكون ذلك فيما هو قريب ، بفضل سيدنا محمد الشفيع الحبيب ، الذي زويت له الدنيا ورأى البعيد والقريب ، إنه سميع مجيب. وتقدم لنا أول ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت لإحدى وعشرين سنة وست مائة على حساب سيدنا عيسى ، ونظرت الحساب الذي أمكنني ووجدت ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نحو الخمس مائة وثمانين بتقريب أو أقل ، وذلك في القرن الذي أشهر برجلّي اللعي ، وسمى الصالحة مريم بأم كذا (٧٨) وليس بين ما أمر به وولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نحو الأربعين سنة بتقريب.

وأعلم أن تسمية سيدنا عيسى عليه‌السلام بابن الله لا يفهم منه في الإنجيل أنه ابن الله حقيقة ، إنما يفهم نبي مقبول عند الله تعالى (٧٩) ، وقد قرأت في الإنجيل أن واحدا من الحواريين قال لسيدنا عيسى : أنت ابن الله حقيقة ، قال له سيدنا عيسى : أنت قلت ، ولم يقبل منه ذلك. وأما الإنجيل الذي كتبت منه هذه النصوص فحذفوا منه ذلك. وتقدم أن شيئا من الإنجيل ترجمت من الرق. وقال لي القسيس هذه الكلمة مختلفة لما عندنا اليوم. وهذا دليل أنهم يزيدون وينقصون في إنجيلهم وكتب دينهم ، وبرهان ما قلنا أن سيدنا عيسى كان ابن الله كعباد الله الصالحين. قال في الباب الخامس من الإنجيل لمتى : قال سيدنا عيسى عليه‌السلام للحواريين : فليضيء نوركم قدام

__________________

(٧٨) كتب في الطرة : (الله) ولعله أنف أن يذكر عبارة «أم الله».

(٧٩) كتب في الطرة : قال في التوراية وأيضا في الإنجيل أن كل من كان صالحا يسمى ابن الله تعالى.

٦٢

الناس ليروا أعمالكم الصالحة ، ويمجدوا آباءكم الذي في السموات. وقال في الفصل التاسع : أحسنوا إلى من أبغضكم وصلوا من يطردكم ويغتصبكم ، لكيما تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء فهو كامل. وقال في دعاء عندهم ـ كالفاتحة عندنا ـ ، وهو في الإنجيل أن يقولوا : أبونا الذي في السماء ، فهذا ظاهر أنه سمى الصلحاء ، بل جميع الناس أبناء الله تعالى الذين يدعون بالدعاء الذي قال لهم أن يدعوا به وهو : أبونا الذي في السماء. وبأن من هذا أن سيدنا عيسى عليه‌السلام كان هو ومن معه يعتقدون أنه مخلوق ، نبي ، وهو بنفسه يعتقد أن من كان صالحا كان ابن الله. وهذا البّابّ الملعون الذي أمر أن الصالحة مريم لا يكون اسمها عند النصارى إلا أم كذا ، فهو بخلاف ما في الإنجيل ، ولم يتجاسر أحد قبله أن يقول مثل ما قال هو ، وبهذا يثبت ما قلته للقاضي على الزيادة والنقصان الذي في دين النصارى حين دعاني لدينه مما زاد البّابّ ونقص. والباب مفتوح الآن لذلك.

وقال متى في الإنجيل : قال عيسى انظروا لا يضلكم أحد ، لأن كثيرين يأتون باسمي يقولون : أنا هو عيسى ويصلون ويخدعون كثيرا ، وهذا القول في الفصل الرابع والعشرين ، وقد طالعت ببلاد الفلمنك (٨٠) وغيرها كتابا بالنصوص من التوراية والكتب القديمة ، ودلت على أن البابا هو الدجال المذكور أنه يأتي في الدنيا وهذا لما رأوا من قبيح فعله ، وأما الدجال ما زال ما ظهر ، وكنت أسمع أن واحدا من الباب كان امرأة زانية وحملت وفضحها الله ، ولم نتحقق ذلك إلى أن طالعت كتابا قديما مكتوبا بالقالب وصحح ذلك ، ثم كتابا آخر وذكر مؤلفه أنه طالع اثنا عشر كتابا من كتبهم ، وذكر كل كتاب باسم مؤلفه ، والحكاية في كل واحدة واحدة ، وتركت أسماء الكتب للاختصار. والذي ذكروا فيما قرأت أن ببلاد الإنجليز كانت بنت نصرانية اسمها جلبرت (٨١) ، وزنى بها رجل من أكابرهم في العلم ومشى بها إلى مدينة أطناش ببلاد اليونان ، وأخفت نفسها بلباس الرجال وسميت بجوان (٨٢) ،

__________________

(٨٠) Flandres (هولندا).

(٨١) يقصدAlias Jilberta.

(٨٢) Juan.

٦٣

وبلغت في العلم مبلغا عظيما. وبعد سنين جاءت إلى مدينة رومة والناس يقرؤون العلم عليها إلى أن مات الباب المسمى بليون ، وذلك سنة اثنين وخمسين وثمان مائة من حساب سيدنا عيسى عليه‌السلام فتولت هي الكرسي وصارت باب من الذين يعتقدون فيه أنه إله الأرض يغفر الذنوب للناس ، هو جميع أييمة دينهم ببركته. وكان لها مملوكا أو خديما ، وحملت منه ، ومشت يوما لزيارة موضع يسمى لترا ـ أعني كنيسة ـ ومعها خلق كثير ، فأخذها وجع النفاس ووقفت والناس معها إلى أن ولدت. ولما سمعوا عياط (٧٣) المولود بان لهم ما كان مخفيا عنهم ، وماتت في الحين. ونزل بجميع النصارى والقسيسين والرهبان حزن وخزي وذل عظيم. والزمن الذي كانت فيه التولية قدر سنتين وكذا وثلاثين يوما. واجتمع كبراؤهم في الديوان ، ودبروا تدبيرا جديدا لئلا يقع لهم مثل ذلك ، أنهم إذا عينوا بابّ يأتوا إله الشهود العدول ، ويقلبونه ، ويشهدون عليه أنه ذكر. وأما الزنقة التي ولدت فيها فلا يجوز عليها أحد من البابّ.

__________________

(٨٣) عياط : الصراخ ، والكلمة مستعملة في الدارجة المغربية.

٦٤

الباب السابع

في رجوعنا إلى مدينة بريش ،

وما اتفق لنا فيها

ولما رأيت أن براوات (٨٤) السلطان ما قضيت بها شيئا ، وأن كثيرا من الحوايج من إحدى سفننا كانت منزلة آمنة ، ولينا إلى بريش نطلب أمر السلطان أن يدفعوا لنا حوايجنا ، وولى أيضا قاضي الأندلس إلى بريش ، ومشيت يوما إلى داره قبل غروب الشمس نطلب منه بعد المواجب. قال القاضي : أتحب أن تتعشى عندنا؟ قلت : لا يجوز لي بعض طعامكم ، قال : ما نعطيك إلّا ما يجوز في دينكم ، وعندنا ضيف من أكابر المملكة ، ونحب أن تكون عندنا ، وكانت ليلة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من عام إحدى وعشرين وألف وفهمت منه أنه أحب الكلام في الأديان ليشرح للضيف ، لأن كبراء الفرنج يفرحون بالمسائل الغريبة. فدخلت معه ، وأعطوني كرسيا مثل كراسيهم ، والمايدة بيننا ، وحماة القاضي قاعدة ، وكانت مولة (٨٥) بلد يسمى ألطر ، وابنها قاضي ، وأخوها قاضي ، أيضا الرجل الكبير الشأن قاعد مع الجميع ، وقالوا للضيف : هذا رجل تركي ، لأن الفرنج لا يقولون للمسلم إلا تركي ، وذكروا له السبب الذي ألجأني للقدوم إلى بلادهم وغير ذلك مما ظهر لهم ، والمرأة ترفد (٨٦) من الطعام وتضعه قدامي ، وأيضا أخوها وابنها. فالقاضي ابتدأ بالكلام ، أعني قاضي الأندلس ، وقال لي : هل عندكم صيام في دينكم فرض؟ قلت له : عندنا شهر قمري في العام ، قال لي : كيف هو صيامكم؟ قلت له : نمسك عن الأكل والشرب من انشقاق الفجر إلى غروب الشمس ، قال : نحن عندنا صيام فرض في كل سنة أكثر من صيامكم ، وهو تسع وأربعون يوما متوالية ، قلت له : كيف هو صيامكم؟ وأنا عارف به ، قال : نأكل

__________________

(٨٤) بروات جمع (برا) : أي الرسالة ، والكلمة مستعملة في الدارجة المغربية.

(٨٥) مولة بلد : صاحبة بلد ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

(٨٦) ترفد : تأخذ ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

٦٥

في نصف النهار معتدلة ، ثم نمسك عن الأكل إلى الليل ، وفي أوله نأكل أقل طعاما مما أكلنا في نصف النهار ، قلت له : ما السر في الصوم والمراد به؟ لأننا في ديننا هو لنرد النفس عن الشهوات ، ونزيل من قوتها بالصوم ، قال لي : ونحن كذلك ، قلت له : بل تزيدون في قوتكم بهذا الصيام ، قال لي : كيف ذلك؟ قلت له : قال بقراط وجالينوس وابن سينا ، وجميع الأطبا متفقون معهم أن لحفظ الصحة ينبغي أن يأكل الإنسان في نصف النهار أكثر مما يأكل في الليل ، وصيامكم على مقتضى هذه القاعدة فلا يزيل الصايم شيئا من قوة الجسد بل يزيد فيه قوة لأن من حفظ الصحة تزداد القوة. وتكلم القاضي مع الجميع بالفرنج لأنه كان يعرف كما قلنا اللسان العجمي الأندلسي ، وهم يدبرون بينهم ماذا يقولون لي؟ ثم قال : اعلم أننا في أيام الصيام ما نأكل لحما ، وفي غيره نأكل لحم الدجاج ، ولا يخفى أن لها قوة ، لا سيما الخصيء منها له قوة ، قلت له : نعم ، لحم الدجاج له قوة وغذاء نافع والقليل منه يكفي الإنسان ، وإذا لم يكن اللحم ، ووجد أطعمة كثيرة مثل هذا الذي رأيته بين أيدينا هنا فيأكل الإنسان من كل نوع حتى يصل إلى قوة اللحم في الغذا ، ولكن في أكثر مقدار من الطعام ، وكان ذلك في أيام صيامهم. فأخذوا في الكلام فيما بينهم لعلهم يجدون ما يقولون ، وما اتفق لهم شيء لتقوية حجتهم ، وانتقل إلى مسألة أخرى ، وقال : ما السبب حتى منعكم نبيكم الخمر؟ قلت : منعه الله تعالى لأن أفضل ما تكرم به على بني آدم هو العقل ، والذي يزيله هو الخمر وهو أقبح المسائل كلها ، قال : حتى عندنا هو ممنوع أن يشرب الإنسان منه حتى يسكر ، قلت : ظهر لي أنه ممنوع لكم في الإنجيل ولا انتبهتم له ، قالوا : في أي موضع؟ قلت : في الدعاء الذي أمركم به سيدنا عيسى عليه‌السلام أن تدعو به ، وأوله : أبونا الذي في السماء إلى أن تقولوا : ولا تدعنا نقع عند فتنة النفس ، وآخرون يترجمون : «ولا تدخلنا التخريب» ، وهم الأكثر ، والأول عندي هو الصحيح ، قالوا : عندنا هذا ، قلت : هل يجوز أن تأخذ الفتنة بيدك ، وتطلب أن لا يدع تقع عندها؟ لأنك إذا زدت من الخمر قليلا عن العادة يذهب بالعقل ، وإذا ذهب وقعت في الفتن ، مع طلبك الله أن لا يدعك تقع ، قال : نحن نتحفظ في شربنا حتى لا يذهب العقل ، قلت لهم : عندي أن من هو مثلكم قضاة ، وعلماء ، ومن أكابر الناس ، إن الإنصاف للحق موجود عندكم ، والبعد عن

٦٦

الكذب والباطل ، وإلى هذا تحلفون بدينكم أنكم ما زدتم قط من شرب الخمر حتى ذهب بالعقل. وتكلموا بينهم وضحكوا جميعا ، وبضحكهم اعترفوا بما رأوا من نفوسهم مرارا من الوقوع في الفتنة بكثرة الشرب ، وأخذت المرأة كأسا ووضعت فيه نقطة خمر وزادت عليه ماء كثيرا وقالت لصهرها : قل له : أي قوة للخمر مع هذا الماء؟ قلت : أما هذا الكأس ظاهر أنه ليس فيه من الخمر إلا قليلا ، وأما في بعض المرات ما يجعل معه إلا قليلا من الماء ، وضحكت كأنها اعترفت. قلت لهم : طالعت كتابا من كتبكم بالعجمية ، وقال فيه : إن في مدينة كبيرة أظن أنها بإطالية من بلاد النصارى تعين الناس حكاما لسنة كاملة ، وإذا انصرمت يجعلون غيرهم في المنصب لسنة أخرى ، وعندهم قاعدة ، وأمر معمول به : إن كل من يحكم بين الناس لا يشرب خمرا ما دام في سنته ، وهذا أمر ظاهر وباين أنهم منعوهم من شربه قليلا ولا كثيرا إلا لما فيه من المفاسد لشاربيه ، وللناس الذين يحكمون عليهم ، قالوا : هذا حق ، ولكن هو مباح إذا لم يتعدى في الشرب. قالت المرأة لصهرها : قل له : كيف أباح لكم نبيكم أن تنكحو أربع النساء ، ومنعكم الخمر. والمفهوم من كلامها واعتقادها أن الخمر يزيد قوة للجماع. قلت لها الخمر يزيد لشاربه أمراضا ونعاسا ، وشارب الما يعيش صحيحا ، قلت لهم : قرأت في الإنجيل أن النبي زكريا عليه‌السلام جاء ملك من عند الله ، وقاله له : قد قبل الله دعاءك ، وامرأتك اليصبات تلد ابنا لك يدعى باسمه يوحنا ، ويكون لك فرح عظيم وتهليل كثير ، يفرحون بمولده ويكون عظيما قدام الرب لا يشرب خمرا ولا مسكرا ، قلت : هذا عندكم في الإنجيل ، قالوا : نعم ، هكذا هو ، قلت لهم : هذا الذي أخبر به الملك من عند الله تعالى أنه لا يشرب خمرا ولا مسكرا هو كمال في حق الولد أم نقصان؟ قالوا : إنما ذلك كمال فيه ، قلت لهم كذلك هو كمال في ديننا أن لا نشرب خمرا ولا مسكرا. فحينئذ أخذوا في الكلام فيما بينهم وقالوا لي : نحن رأينا رجالا من أهل دينكم ، وتكلمنا معهم ، ولم نر قط من قال لنا مثل هذا الكلام والأجوبة التي رأيناها وسمعناها منك ، قلت لهم : اعلموا أنني ترجمان سلطان مراكش ومن كان في تلك الدرجة يحتاج يقرأ في العلوم وكتب المسلمين وكتب النصارى ، ليعرف ما يقول ، وما يترجم بحضرة السلطان. وأما إذا كنت بحضرة علماء ديننا لا أقدر أتكلم في العلوم بحضرتهم. حينئذ أردت أن أقوم

٦٧

لنذهب إلى الدار التي كنت نازلا بها ، وقالوا لي : لا تقم نحن نبعث معك خدامنا ، واقعد معنا للكلام ، قالت المرأة : كيف أباح لكم نبيكم أن تنكحوا أربعة نساء والله تبارك وتعالى لم يعط لأبينا آدم عليه‌السلام إلا امرأة واحدة. ولما رأى القضاة الحاضرون أن هذه المسألة عقلية أعانوها وتقووا علي بهذه الحجة ، قلت لهم : أمنا حوّى ظهر فيها بركة أكثر مما تظهر في أربعة نساء من زماننا ، لأنها ولدت كذا وكذا مرة ذكورا وإناثا ، ونساء زماننا إحدى تكون مريضة ، وأخرى عاقرة ما تلد أبدا ، ومثل الأغراض كثير فيهن ما لا كانت في أمنا حوّى ، قالوا : سيدنا عيسى عليه‌السلام أمر أن لا يتزوج الرجل إلا امرأة واحدة ، وأنتم تأخذون أربعة ، قلت لهم : الأنبياء الأوايل ـ عليهم‌السلام ـ مثل سيدنا إبراهيم ، وسيدنا يعقوب وغيرهم ، في أي مقام هم عندكم. قالوا في مقام محمود ومرضيين عند الله تعالى ، قلت : كيف كانت لهم نساء كثيرة ، وجواري كما في ديننا ، وكان لسيدنا سليمان عليه‌السلام سبعمائة امرأة بالنكاح وثلاثمائة جارية كما هو في التوراية ، قالوا : تلك الزمن أبيخ ذلك ليكثر النسل ، والآن الدنيا عامرة ، قلت : قرأت في التوارة في كتب التواريخ أن بعض السلاطين في الزمن الأول كانوا يحركون بثمانمائة ألف رجل ، جيشا ، والآن ليس في الدنيا سلطان من يجمع للحرب ذلك العدد إلا السلطان السيد الكبير. وهذا برهان أن الدنيا كانت عامرة. ثم قال لي القاضي : ولحم الخنزير ، لماذا هو ممنوع عندكم؟ قلت : لأنه نجس ، لأنه لا يأكل إلا النجاسات ، وحتى في الإنجيل هو ممنوع ، قالوا : ليس بممنوع ، وأين المنع في الإنجيل؟ قلت : قرأت فيه أن مجنونين كانا في المقابر ، رديان جدا حتى أنه لم يقدر أحد أن يجوز من تلك الطريق فصاحا قائلين : ما لنا ولك يا يصوع ابن الله! أجئت ها هنا لتعذبنا؟ وكان هناك قطيع خنزير كثيرة ترعى بعيدا منهم فطلبا إليه (٨٧) الشياطين قائلين : إن كنت تخرجنا من هاهنا فارسلنا إلى قطيع الخنازير ، فقال لهم : اذهبوا! ولما خرجوا مضوا ، ودخلوا في الخنازير ، وإذا بقطيع الخنازير كله قد وثب على جرف وتواقع في البحر ، ومات جميعه في المياه ، وهرب الرعاة وكانوا نحو ألفين ، قلت لهم : الأنبياء عليهم‌السلام ـ كانوا يخسرون الناس في أموالهم؟ قالوا : لا ، قلت لهم : هذا

__________________

(٨٧) كتب فوق كلمة (إليه) كلمة (منه).

٦٨

نحو ألفي خنزير تساوي دراهم كثيرة ، وإذن سيدنا عيسى عليه‌السلام في إفنائها وتلفها ، وأن أربابها يخسرون قيمتها لأجل الخنازير كانت عنده حراما ، ولو كانت من المواشي المباحة لم يأذن سيدنا عيسى عليه‌السلام للجنون بالدخول فيها لإفسادها وهلاكها. فأخذ القضاة في الكلام والتدبير في الجواب ، ثم قالوا : لم تبلغ هذا العدد الذي ذكرته ، قلت : هذا الذي قرأته ، فأحضر الإنجيل ، فوجدوه كذلك. وقد ذكر هذه المسألة في موضعين في الإنجيل ، في الفصل الخامس عشر لمرقش ، وهو الذي قال : كانوا نحن ألفين. ثم أنهم أخذوا في الكلام ، ولم يجدوا ما يجاوبوا به ، وكان قد مضى من الليل نحو نصفه ، فانصرفت إلى منزلي ، وبعثوا معي خدامهم ورأيتهم فارحين شاكرين لي ، ولم يسمعوا مني إلا ما ذكرت ، وكل ذلك عكس دينهم.

وأصبحت يوما آخر ومشيت إلى القاضي ، وأعطاني المواجب وما أخذ مني شيئا من الدراهم فيها ، ثم أبصرتني المرأة التي كانت معنا للكلام ، ورعت أن لا يراها أحد وأعطتني دراهم ذهبا ليس بالقليل ، وذلك من فضل الله والجهاد على الدين ، وبركة يوم مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومما ذكر لي أبرت أن بلدا يسمى شاندينشي (٨٨) على بعد ستة أميال من بريش في دار عظيمة للمتراهبين ، ذخاير وتيجان للملوك ، وغير ذلك للسلاطين الماضيين ، والأساكفة ، ومن جملتها كأس بلور كبير مكتوب بالعربية ، والحروف مرسومة مصنوعة في وسط الكأس ، وأنه كان سيدنا سليمان بن داوود نبي الله ـ عليهما‌السلام ـ ، قلت له : أحب أرى ذلك ، وسرنا وبلغنا إلى الدار وكان فيها أناس جاءوا من بلادهم لرؤية الذخاير ، وصعدنا جميعا إلى بيت مرتفع ، وجاء رجل وفتح الخزانة التي كانت فيها الذخاير ، وأخذ تاجا من ذهب وتكلم عليه وقال : هذا تاج السلطان الفلاني ، ثم قبض آخر من التيجان ، وذكر من كان ، وبقي كذلك يأخذ تاجا بعد تاج وهي بالأحجار المثبتة والضيمنت (٨٩) ، والياقوت النفيسة. ثم أخذ كأسا بلور على طول ذراع الإنسان ، وموضع قبضه في الوسط أو أنزل منه ، حزام مكتوب بالعربية ، بخط مثل الكوفي ، منقوشة فيه وقبضته بيدي ، وقرأت في

__________________

(٨٨) Saint ـ Denis.

(٨٩) يريدDiamant ، ألماس.

٦٩

المكتوب اسمين من أسماء الله تعالى : (هادي) ـ (كافي) ، ولو تركه عندي لقرأته كله. وسد على الذخاير ، وتعجبت مما اتفق لي بأخذ كأس سيدنا سليمان عليه‌السلام بيدي ، وأيضا الرق الذي تقدم نذكره من زمن سسليوه ، كاتب الصالحة مريم ـ عليها‌السلام ـ وبعض الكتب في ورض الرصاص من تلك الزمن ، وانظر العربية ما أقدمها ، وأي حرمة لها حتى أن نبي الله سيدنا سليمان عليه‌السلام لم يختر إلا حروف العربية ، وأسماء الله مكتوبة بها في الكأس ليضع يده عليها عند قبضه. والكلام بالعربية لمن يعرفها خير من الكلام بغيرها من اللغات كما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يحبها.

وأما الذي قضيت في بريش أعطوني كتاب السلطان بطابع الديوان الكبير للحكام على كافة الدواوين التي ببلاد الفرنجة والأمر أن جميع ما يجد من نهب الأندلس أن يدفعوه لي. وذكر قايد طابع السلطان أن في بلده بأولونه واحد وعشرين رئيسا ، كل واحد بسفينته نهب الأندلس الذين اكتروها ، وكان فيهم واحد من الذين نهبوا إحدى السفن التي كانت لي الوكالة عليها ، واتفقنا أن نمشي معه من بريش.

٧٠

الباب الثامن

في قدومنا إلى أولونه ،

ثم إلى مدينة برضيوش

ولما رأيت ما أظهر من النصيحة إلينا قائد الطابع ، مشينا إلى بلده ، ولما أن وصلنا إلى داره وكانت خارجا عن البلد على قرب نهر ، وهي مانعة كبيرة ، مبنية بالحجر المنجور ، وفيها بعض المدافع وبقربها بستان كبير وغابات ، وبلاد واسعة للزرع ، كل ذلك للقائد المذكور. وأقبلت علينا زوجته وخدامها من البنات والرجال. وكانت في تلك الديار بنت من قرابته ذات مال عظيم مما ترك لها والديها ، وهي من أربع وعشرين سنة ، ولها من الحسن والجمال كثير ، وطلبها للزواج كثير من أكابر أهل بلادهم ، ولم ترض بأحد منهم. وقدموا لي مع أصحابي طعاما ، فلم نأكل منه. قلت لهم : هذا ممنوع في ديننا. ثم أعطوني ما ذكرنا لهم. ثم جاءت البنت ، وقالت لي أن أصف لها حال النسا التي هن غاية الحسن والملاحة عندنا ، وذكرت لها ما تيسر. قالت : أنتم على الحق وذلك أنها كانت بيضا بشيء من الحمرة ، وشعرها أسود ، وشعر الحواجب ، وأشفار العين ، وكحل العين في غاية. والمرأة عند الفرنج على هذه الحالة مهمولة عندهم في الحسن ويقولون أنها سودا. وقد كنت أذكر لأصحابي بعض الحكايات فيما وقع للرجال الصلحاء الواقفين على الحدود ، لنقويهم على نفوسهم ونفسي على دعاوي النفس والشيطان في شأن المحرمات ، لأن بسبب الحريم المكشوف كان الشيطان يوسوسنا كثيرا وكنا صابرين ، وكانت البنت تزين نفسها وتسألني : هل في بلادنا من يلبس لباسات الحرير مثلها؟ ثم قالت : لي : أعلمك تقرأ بالفرنج. وصرت تلميذا لها ، وأخذت في إكرام أصحابي. كثرت المحبة بيننا حتى ابتليت بمحبتها بلية عظيمة ، وقلت : قبل ذلك كنت في خصام مع النصارى على المال ، وفي الجهاد على الدين ، والآن هو الخصام مع النفس والشيطان. فالنفس تطلب قضا الغرض ، والشيطان يعينها ، والروح ينهي عن الحرام ، والعقل يحكم بينهما ، ومن الناس من يعبر بالقلب عن الروح. فالنفس تستعين بالشيطان لأنه من طبعها ، وهو

٧١

طبع النار : الحرارة واليبوسة ، ولا يوسوسان الإنسان أن يعمل إلّا ما يكون من أعمال أهل النار ، والروح تستعين بالله تعالى. وقد قال إبليس ـ عند استنفاره عن السجود سيدنا آدم عليه‌السلام : خلقني من نار. وحيث هي النفس والشيطان من طبع النار فهما يتبعان الإنسان ليذهب إليه معهما. ولما علم الشيطان أن ليس له قوة على الإنسان إلا ليوسوسه فقط وأن الوسوس يرده الإنسان تارة بلا تعب ، وتارة يحتاج الدعا إلى الله تعالى ، وكنت أخرج إلى بين الأشجار ، وأدعو الله تعالى أن يثبتني ، فمشى إبليس إلى صاحبي وكان أكبرهم سنا من أصحابي ، ووسوسه ، واتفق معه أن يكلمني في شأن البنت ، وكنت أخفي ما أصابني من الهم ـ بسبب البنت ـ من أصحابي ، لئلا يظهر لهم ضعف مني ، إذ كنت أقويهم أن يغلبوا نفوسهم عن النسا المحرمات ، والميل لهن. فجاءني صاحبي على وجه السر والنصح ، وقال لي : يا سيدي ، أصابني تغيير بسبب الناقصة التي رأيتها منك ، قلت له : أذكر لي ما رأيت مني لعلك تنفعني ، قال : هذه البنت ما يخفى حالها وهي تعمل الخير الكثير معنا بسبب محبتها إليك إذ هي ظاهرة ليست بخافية وأنت تعرف العادة الجارية في هذه البلاد أن الرجل يمد للبنات ويلعبها ، وليس بعيب عند أحد من هذا الناس ، وهي تقف أمامك مرارا قريبا منك تنتظر أن تلاعبها ، وأنت لا تفرحها ، ولا تشرحها. قلت في نفسي : هذا أقوى من الشيطان. قلت : يا صاحبي هذا عندنا في ديننا أمر بالمنع من ذلك. والنص هو : والتكف عن ما لا يحل لك من مال أو جسد. وهذا جسد ليس بحلال لي ، قال : لا أقول لك إلا أن تلعبها فقط ، قلت له : قال صاحب البردة :

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها

إن الطعام يقوّي شهوة النّهم (٩٠)

قال : ما معنى هذا؟ قلت : الذي يفهم من المعنى حسبما سمعت. لا تحسب أنك إذا أعطيت للنفس القليل مما تشتهي من الحرام ، إنها تقنع بذلك ، بل تزداد

__________________

(٩٠) البردة ، البيت ١٧.

٧٢

شهوتها ، وتتقوى عليك وتغلبك حتى تفعل من الحرام أكثر مما قصدت. ومثال ذلك أن الإنسان إذا كان صايما فهو صابر على الطعام حتى يبتدي بالمأكول ، تتقوى شهوته عليه ، أن يأكل حتى يشبع ، والأحسن والأفضل مخالفة النفس والشيطان وأن يعصهما. فلا نفع مع صاحبي من كل ما قلت له شيئا ، لأنه جاء من ورائي والبنت واقفة تتكلم معي ، وأدحاني (٩١) إليها ، وحين ذهبت خاصمته على حمقه ، وسألتني : هل عندي امرأة في بلادي؟ قلت لها : عندي ، ثم قالت : وتتزوجون أكثر من امرأة؟ قلت لها : جائز ذلك في ديننا ، ثم قالت : هل عندك أولاد؟ قلت لها عندي ، وقلت في نفسي : حين علمت ذلك تنقص المحبة ، فلم تنقص شيئا ، ورأيتها يوما زينت نفسها وكانت ترعاني ، وليس لي خبر بما أضمرت ، وسرت إلى الجنان. والبساتين بتلك البلاد ما لها حيطان للتّحويط ، بل يحفرون خندقا دايرا بالبستان ، غريقا لمنع الناس من الدخول إليه إلا من الباب. وسمعتها تنادي ، فجئت من داخل الجنان إلى حاشية الخندق ، وهي واقفة على الحاشية من الجهة الأخرى ، وطريق صغير هابط إلى قعر الحفرة وطالع إلى الجنان. والخندق الكل عامر بالأشجار البرية حتى لا يظهر قعره إلا في بعض الموضع. فتكلمنا هنالك ، وفهمت من حالها ما لا يخفى وتكلم بعض أصحابي في الجنان وقرب من جهتي ، وذهبت ، وفكني الله بفضله ، وإحسانه ، وحمايته ، وتوفيقه الجميل. وأستغفر الله من الكلام الذي صدر مني إلينا والنظر. إنه غفور رحيم. إن الله يغفر الصغاير باجتناب الكباير. وقد جات بنت من أكابر الفرنج من مدينة فنتي إلى زيارة صنم بقرب المنزل الذي كنا فيه. وبعد زيارة جاءت إلي امرأة القائد ، والبنت التي فرغنا من الكلام عليها. فأقبلوا عليها. وبعد الطعام نادوني ، وأعطوني كرسيا ، وجلست ، وزوجة القائد عن يميني ، والبنات قبالتي ، والتي جاءت إلى الزيارة كانت أجمل وأزين من التي كانت في الدار ، وفي حال لباسها ظاهرة أنها من الأكابر. ومعها بنتان تخدمانها. وقبل أن نادوني أعلموها بي. ولما جلست نظرتني شزرا ، وأظهرت في وجهها الغضب ، وقالت لي : أنت تركي؟ قلت لها : مسلم ، الحمد لله ، قالت : كيف بكم لم تعرفوا الله؟ قلت لها :

__________________

(٩١) أدحاني إليها : دفعني إليها ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

٧٣

المسلمون يعرفون الله خير منكم ، قالت : خير منا ، قلت لها نعم قالت لي : بما تثبت ذلك؟ فنظرت إليها ، ورأيت تحت إبطها كتابا كما هي من عادة بنات التجار والأكابر من الفرنج ، كل واحدة تحمل كتابا ، مثل تهليل ، وفي كل واحد خمسة أدعية أو سور ، التي هي فرض على كل بالغ حفظها. قلت لها : البرهان بما قلت في كتابك الذي عندك ، وبه تثبت ما قلت لك. فأخذت الكتاب ووضعته بين يدي على المائدة ، وقالت : ها هو الكتاب. قلت لها : انظري العشرة الأوامر الربانية. ففتشت في الكتاب ، وقالت : ها هي. قلت لها : اقرأي الأمر الأول من العشرة في دين الله فقرأت ، وقالت : الأمر الأول من العشرة : قال الله تعالى : لا تعمل صورا ، ولا تعبدها ، اعبد الله وحده. ولما أن قرأته قلت لها : المسلمون ما يعملون صورا ولا يعبدونها ويتحفظون من ذلك حتى أن النسا اللاتي ترقمن لم تصورن في رقمها أبدا شيئا له روح ، وكذلك الرسامون الذين يرسمون ويزوقون ديار الملوك والجوامع ، ولم يصوروا أبدا شيئا فيه روح. قالت : ليس عبادتنا للأصنام لذاتها ، إنما ذلك للمشبه به. قلت لها : كان لي كلام أقوله لك في الشبيه والمشبه ، ولكن اتركه لنحرك لمسألة أخرى لن تجدي لها جوابا. قالت : ماذا هي؟ قلت لها : الأمر الرباني بالنص قال : لا تعملوا صورا ، ولا تعبدوها ، قالت : نعم ، قلت لها : تعملون أصناما أم لا؟ ، فكان لها إنصاف للحق وعقل ، ونظرت النسا ، وقالت لهن بلسانهن : غلبني وما وجدت بما نجاوبه به ، فنظرت إليها ، ونزل بها فرح وانشراح ، كأن زال من قلبها غشاء. وأقبلت علي بحسن الكلام ، وذهب عنها الغيظ والغضب الذي كان فيها للمسلمين ، وقالت لي كم سنة الذي ظهر في الدنيا نبيكم؟ وهل هو تاريخ السنين من ميلاده كما هو عندنا من ميلاد عيسى عليه‌السلام؟ قلت : بلغ حساب تاريخ أهل ديننا في هذه السنة إحدى وعشرين ألف من الهجرة ، وهي السنة التي خرج نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة لشهرة دين الله تعالى. قالت : والسنة عندكم كعامنا في أيامه؟ قلت لها : أما السنة عندكم فهي شمسية ، وفيها من الأيام ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، والسنة عندنا فهي قمرية وفيها من الأيام ثلاثمائة وأربع وخمسين يوما بتقريب ، قالت : الشهر كأشهرنا ، قلت لها : كل شهر عربي ينقص يوما عن الشهر الشمسي ، قالت : والنسا عندكم محجوبات؟ قلت لها نعم ، قالت : وكيف يكون العشق عند البنات ومن

٧٤

ينكحهن؟ قلت لها : لن يراها أحد ممن يخطبها حتى تكون له زوجة. ومعنى قولها وسؤالها عن العشق : قد تقررت العادة ببلاد الفرنج والفلمنك أن كل من يريد أن يتزوج بنتا فهو له مباح من قرابتها أن يزورها وينفرد بها للكلام لتحصل المحبة بينهما ، فإذا ظهر له أن يخطبها ، وللبنت أيضا ، حينئذ يقع الكلام على النكاح. وإذا ظهر له غير ذلك فلا يلزمه شيء فيما فات من مخالطتها. وقد يكون للبنت غير واحد من يزورها على الوجه المذكور. ووجب للمسلم أن يشكر الله على دين الإسلام ونعمته وصفائه. وأما ما ذكرنا للبنت في شأن الأصنام ، فقد قال في التّوراية التي بأيديهم الآن ، أعني بأيدي اليهود والنصارى ، قال في الكتاب الثاني المسمى بالأشظ في الباب العشرين منه : قال سيدنا موسى عليه‌السلام إن الله تعالى أمره أن ينزل من جبل الطور ، وأن يقول عن الله تعالى لبني إسرائيل : أنا إلهكم أخرجتكم مصر من ديار لأسر ، لا تتخذوا آلهة غيري ، ولا تعملوا صورا من صور السماء العلية ولا من صور الأرض ولا من تحت الأرض ، لا تسجدوا لها ، ولا تعبدوها لأني إلهكم ، غيور ، ولا تحلف حانثا.

الثالث : قال : وعظموا المواسم.

والرابع : وأطع والديك ، ليطول عمرك.

الخامس : لا تقتل.

السادس : لا تزني.

السابع : لا تسرق.

الثامن : لا تكذب ، ولا تشهد بالزور ، ولا تفتري.

التاسع : لا تتمنى دار صاحبك ، ولا زوجته ، ولا ماله.

وهذه الأوامر أخذها النصارى من التوراية ، وزادوا العاشر ، وقالوا :

العاشر : أن تحب الله فوق كل شيء ، وتحب لغيرك ما تحب لنفسك.

فهذه العشرة أوامر الربانية ، فالمملل الثلاثة متفقون عليها وهي عندنا في القرآن العزيز متفرقة. والنصارى دمرهم الله ـ لم يعلموا بالأمر الأول وهو الأصل. وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور ، وقال : المصورون في النار. وقال : إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور. والحمد لله الذي جعل الملة المحمدية نقية سالمة من هذا الذنب العظيم.

٧٥

وقال في التوراية في باب ـ لم نستحضره ـ إن الوثان الكاين فيه ذهب أو فضة أن لا ينتفع بها أحد ، وأن يجعلوا ذهبه وفضته في النار.

وقال سيدنا عيسى عليه‌السلام في الإنجيل : «أنذر صاحبك عن الفعل القبيح بينك وبينه فإن لم ينته فأنذره بحضرة اثنين ـ أو كما قال ـ فإن لم ينته فدعه كوثني أو عشار». ومعنى وثني : عابد الأوثان والأصنام.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مدمن خمر كعابد وثن» (٩٢). وذكر الشيخ جلال الدين السيوطي في الخصائص الكبرى : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل مكة المشرفة في عام الفتح ، كان بالكعبة ثلاثمائة وستون صنما بأرجل من رصص وكان يشير إلى كل واحد منها بقضيب بيده من غير أن يصل إليها ، ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، فيقع الصنم على ظهره أو وجهه».

وقد أفردت في الرحلة بابا في ذكر الأصنام وحكيات عليها ، ولم نذكر هنا إلا واحدة منها ، وهي : إن الفقيه علي بن محمد البرجي الأندلسي ـ رحمه‌الله ـ ذكر لي بمراكش أن بقرب البلد الذي كان ساكنا فيه في زماننا هذا كان مسلم أسيرا اسمه أحمد ، وسيده فلان ، ذكر اسم مرتبته مثل مركش اوقند وله بلدان ملك له ، وفي قرية من بلاده اتفق أعين سكانها على شرائهم ، وبعد شرائه في بلد آخر ظهر لهم أن أحمد المسلم يبعثونه ليأتيهم بالصنم ، وأعطوه حمارا ومشى ووضع الصنم عليه وهو يمسكه إلى أن خرج إلى الطريق ولم ير أحدا من النصارى. قال للصنم : والله ما نحملك إلا مربوطا مجرورا على الأرض ، وربطه بحبل في الحمار بعد أن أطرحه على الأرض ، وركب أحمد ، ومشى ولما أن قرب من القرية ، فكان الذين بعثوه ينتظرون الصنم ، ورأوا أحمد راكبا والصنم مجرورا على الأرض فأسرعوا جميعا ، وعروا رؤوسهم تعظيما للصنم وهم يمسحونه ، ويبكون على ما أصابه وقبضوا المسلم أحمد وهم ينظرون بينهم ماذا يصنعون به : هل يقتلونه أو يضربونه؟ واتفق نظرهم أنهم يحملونه إلى سيده ومولى بلدهم ليقتله. ومشوا جميعا. وببركة ما جاهد في الصنم قال لهم سيدهم بعد أن اشتكوا إليه : أنتم تستحقون أشد العقوبة إذ بعثتم مسلما

__________________

(٩٢) أخرجه ابن ماجة في السنن ، باب الأشربة ، ٣ ، والطبراني في المعجم الكبير.

٧٦

يأتيكم الصنم ، فهو عمل بمقتضى دينه. وبقي أحمد سالما ، فارحا ضاحكا عليهم ، وهم في خزي ، وهم ، وذل وإلههم مجرور. وأما معنى ما قال في النص : «لا تصوروا صورا من صور السماء ولا من صور الأرض» المفهوم : لا تصوروا شيئا مما فيه روح ، والله أعلم. والمجوس تصور الدراري السبعة لكل واحد على صورة رجل أو حيوان. وما زالت النصارى الآن تصور تلك الصور في كتب التنجيم ، فيصورون زحلا على هيئة رجل شيخ كبير بمنجل في يده ويحش الأرواح ، والمشتري على هيئة رجل قاض ، والمريخ على صورة رجل بسيف في يده ، وكل واحد من السبعة بما يناسبه. وأما صور البروج ، فإن منها صورة الكبش للحمل ، وصورة ثور لبرج الثور ، وصورة الجوزا ، والسرطان ، والأسد ، وعقرب ، وجدى ، وحوت. ويكون المنع بسبب ذلك لأنها صور أشياء لها أرواح في الوجود. وأما صورة نجوم أو شجر من الأرض وأشياء مما لا روح فيها ، فلا يظهر أن ذلك ممنوع. وقد قال لي بعض الرهبان : أنتم تصورون الورد والأشجار ، قلت : النص ليس بمانع لصور الجمادات والأشجار ، إنما المنع تصوير شيء يشبه شيئا حيا.

وأما المسألة التي جئنا إليها بكتاب السلطان لقبض الرياس الذين نهبوا الأندلس ، وكانوا بألونه ، فلم نقض شيئا هنالك. وأظن أن قائد الطابع قبض منهم شيئا لنفسه. وأردت القدوم من عنده ، وطلب مني أن نترك القدوم من عنده ، وطلب مني أن نترك له كتب السلطان ، وأبيت أن نتركه له ، ومشينا من هنالك إلى مدينة برضيوش.

٧٧

الباب التاسع

في قدومنا إلى مدينة برضيوش

وما وقع لي فيها من المناظرات

اعلم إنها من أعظم مدن فرنجة على حاشية نهر عظيم (٩٣). وفيها ثمانون قاضيا ، ومائتان وكيلا ، والمفتون ، والكتاب بلا حساب ، وفيها ديوان يحكم على كثير من البلدان. ومما وقع لي مع بعض القسيسين في دار قاضي الأندلس ، جاء إليها قسيسان لقضاء غرض قيل لهما عني إني مسلم ، وجاء اني وقالا لي : أنت مسلم؟ قلت لهما : نعم ، قالا : تعتقدون أن في الجنة أكلا وشربا وتنعما مثل ما في الدنيا ، قلت لهما : لم تنكران ذلك؟ قالا : لأن من تفل الطعام تكون النجاسة ، ومن المحال أن تكون النجاسات فيها ، قلت لهما : أما عندكم في كتبكم أن الله تبارك وتعالى حين خلق أبانا آدم عليه‌السلام أذن له أن يأكل من جميع الفواكه في الجنة ، إلا من شجرة واحدة ، قال له : لا تأكل منها ، لأنك إذا أكلت منها تموت. قالا : هكذا هو ، قلت لهم : لو لا أكل من الشجرة لكان فيها إلى الآن ، قال نعم هو كذلك ، قلت : فكان يأكل من الفواكه ولم يعمل له تفلا ، وكذلك لو بقي إلى الآن. وأما التفل ما كان إلا من فاكهة الشجرة المنهى عنها ، وكذلك رجع أبونا آدم عليه‌السلام وجميع من كان من أهل السعادة من أولاده يأكلون فيها ، ولا تخرج منهم نجاسة أبدا. قالا : الجنة التي كان فيها أبونا آدم كانت في الأرض ، والتي تمشي إليها الناس في الآخرة هي السماء قلت : ما كان أبونا آدم عليه‌السلام إلا في السماء لأن كل ما يكون في الأرض لا يسقى بجنة لأنه مقهور بالعناصر الأربعة ، ولابد من التغيير بسببها ، ولابد من النور والظلمة ، والجنة ليس فيها تغيير ولا ظلمة. وهذا برهان أن سيدنا آدم عليه‌السلام كان في جنة من السماء ، فبهت الذين كفروا.

واعلم أن النصارى واليهود يقولون بما في الباب الأول من التوراية. قال إن الله

__________________

(٩٣) يقصد نهرLA garonne.

٧٨

تبارك وتعالى خلق آدم عليه‌السلام في جنة الأرض ، وفيها أشجار تسقى بغير ماء ، ومنه تخرج أربعة أنهار ، وهم : النيل ، والفرات ، وقيصون ، والدجلة. وهذه الأنهار معروفة الآن أن كل نهر في بلاد مختلفة عن غيره ، ومعروف ابتداؤه. وهذا دليل أن هذا النص باطل بالبرهان ، مثل الشمس. ومعنى الأحاديث النبوية في ذلك ـ والله أعلم ـ أنها تخرج من الجنة ، فيفهم ذلك من البركة التي أودعها الله تعالى فيها لأن الاعتقاد في الجنة أنها في السماء لا في الأرض ، والأنهار ابتداؤها وانتهاؤها على الأرض. وقال في بعض كتب عبد الوهاب الشعراوي (٩٤) ، نفع الله تعالى به : أن سيدنا جبريل عليه‌السلام نزّل ماء من الجنة ووضعه في أماكن من الأرض ، ومنها ابتداء الأنهار الأربعة ، كل واحد مختلف عن غيره ، وأن الجنة في السماء. وجميع شراح الرسالة قالوا : إن منها أهبط أبونا آدم عليه‌السلام. وقد أمرني السلطان مولاي زيدان ـ رحمه‌الله ـ أن أترجم له كتابا عجميا كبيرا سماه مؤلفه بدران لعظم جبل مسمى بهذا الاسم ، لأنه عند الجغرافيين أعظم أعظم (كذا) جبال الدنيا المعروفة ، ولم نر في كتب الجغرافيات مثله ، وكان بلسان الفرنج ، وصاحب الكتاب كان فرنجيا اسمه القبطان. وبلاد الدنيا كلها مصورة في ذلك الكتاب بطول كل بلد وعرضه ، والأنهار ، وكل نهر بأي أرض ، وموضع منبعه ، وابتداؤه ، والمدن التي على حاشيته كل واحدة باسمها ، وجميع الأبحر ، والجزر ، والأقاليم ، وجميع كتب الجغرافيات متفقون أن بحر النيل يخرج من جبل القمر ، وموضعه ثمان عشرة درجة من خط الاستواء إلى جهة الجنوب ببلاد السودان. والأنهار الثلاثة في غير هذا القسم الإفريقي الذي هو ربع الدنيا وفيه هو النيل ، وليس واحد من الثلاثة في هذا الربع ، وكل واحد من الثلاثة في قطر بعيد بعضها عن بعض. أما الفرات ، ابتداؤه بقرب بلاد الجرجان ، ثم يجتمع مع وادي الدجلة الذي يجوز على بغداد. والثالث ببلاد الطّطر ، والرابع ببلاد أرمانية ، كما قال من يدعي بمعرفة الدنيا. وقال القبطان الفرنج حين بان له غلط التوراية هذا الكلام الذي عندنا في التوراية عن الأنهار أنها تخرج من موضع واحد ، فهو باطل وكذب بالعيان ، لأن هذه الأنهار الأربعة التّين قال تخرج من غير واحد ،

__________________

(٩٤) انظر ترجمته عند خ. الدين الزركلي ، الإعلام ، ٤ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، والمصادر بالهامش ١ من الصفحة.

٧٩

فالخلاف من ذلك فهو ظاهر لمن يعرف مواضع الدنيا ؛ انتهى. وبهذا البرهان الظاهر الموجود الآن لكل من أراد أن يسأل عن الأنهار الأربعة في أيّ بلد هو ابتداؤها ، فيجد ذلك بخلاف ما قال عن الجنة أنه كان فيها أبونا آدم عليه‌السلام. وإذا رأى وتحقق من خفي عليه ذلك أن كل ما ذكر في الأنهار وهي أربعة تشهد شهادة متفقة أن من قال عليها أنها تخرج من عين واحد في الجنة في الأرض قال الباطل ، فيبطل أيضا كلما قال في أبينا آدم عليه‌السلام أن الله تبارك وتعالى خلقه في الأرض. وأما ما تقوله النصارى واليهود عن الجنة أن ليس فيها شيء من نعايم الدنيا من المأكل والمشرب وغير ذلك ، فقالوا الحق في خاصتهم ، لأنها محرمة عليهم ، إذ هم كفار ، والمسلمون هي لهم ـ بفضل الله سبحانه ، وشفاعة نبيه ورسوله : سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد وقع كلام مثل هذا في مدينة برضيوش مع القاضي المسمى فيّرض ، وكانت مواجبي في الأمور الشرعية عنده ، وكان ينصحني كثيرا. وكان يعرف اللسان الأندلسي العجمي. وقد وجب له دراهم كثيرة ، وأردت أن أخلصه ، ولا قبل مني شيئا ، وقال لي : يا فلان تعجبت منك ، كيف أنت على دين المسلمين؟ قلت له : لماذا؟ قال : لأن عندنا في كتبنا أن المسلمين يزورون مكة ليروا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديد في الهواء ، لأن الحلقة في الهواء في وسط قبة حجر المغناطيس ، والمعروف منه أنه يجذب الحديد ، والجذب في القبة على حد سواء من كل جهة ، وتبقى الحلقة في الهواء بنبيكم ، والمسلمون يعتقدون أن ذلك معجزة لنبيهم. قلت له : هل يجوز في دينكم لأحد أن يكذب ، وإن كان بنية تقبيح دين غيره لتحسين دينه وتزيينه لأهل ملته؟ قال : لا يجوز ذلك ، قلت : النصارى الذين قالوا ذلك أذنبوا ذنبا كبير في دينكم ، قال : كيف ذلك؟ قلت : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو بمكة ، وليس هو في حلقة الحديد ، بل هو مدفون في المدينة ، وبينها وبين مكة عشرة أيام ، والمسلمون يزورون الكعبة لأنها دار (٩٥) مباركة بناها سيدنا إبراهيم عليه‌السلام. قال : زرتها أنت ورأيت قبر نبيكم تحت الأرض؟ قلت له : لا ، ولكن الذين مشوا عندنا يقولون ذلك من غير اختلاف ، وهي مسألة لا شك فيها قال : عندكم مسألة أخرى : إنكم

__________________

(٩٥) كتب أسفل كلمة (دار) كلمة (بيت).

٨٠