رحلة أفوقاي الأندلسي

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي

رحلة أفوقاي الأندلسي

المؤلف:

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي


المحقق: د. محمّد رزوق
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-504-0
الصفحات: ١٨٨

الباب الثاني

في قدومنا إلى بلاد المسلمين

وما اتفق لنا عند خروجنا من النصارى

اعلم ـ رحمك الله تعالى ـ أن البلاد التي على حاشية أبحر من بلاد الأندلس ، وأيضا فيما لهم في بلاد المسلمين ، أن النصارى فيها من الحرص والبحث في من يرد عليها من الغربا شيئا كثيرا. كل ذلك لئلا يذهب أحد أو يجوز عليهم إلى بلاد المسلمين ، وهمني الأمر كثيرا في كيفية الخروج من بينهم ، وركبت البحر في بلد يسمى شنت مريا (٥٩) ، وكان لي صاحب من بلدي من أهل الخير والدين ومشى معي مهاجرا إلى الله وبلاد الإسلام وسبل نفسه وأهل القارب لا يشكون فينا بأننا منهم ، فقطعنا البحر في يومين ونزلنا في بلد يسمى بالبريجة (٦٠) هو للنصارى وليس بينه وبين مدينة مراكش إلا نحو الثلاثة أيام للماشي المتوسط ، وتعجب من المنع الذي في بنيان سورها ، هو أساسه على حجر صلد ، وسقفه ثلاثة عشر ذراعا ولا يبالي بكور المدافع من إتقانه وغلظه ، حتى شاهدت ثلاثة من الفرسان بخيلهم يدفعون خيلهم جملة على السور ولا يخافون الوقوع منه ، ولما أن دخلنا سألنا القبطان : ما سبب قدومكم؟ قلت له : وقع لنا شيء من التغيير مع أناس ببلاد الأندلس وجئنا إلى حرمتكم ، قال : مرحبا بكم ، قلت أحب منك أن تأذن لنا في رجوعنا إلى بلادنا مهما أردنا ، قال : أذنت لكما ونزلنا عندهم واشتريت حصانا من أحسن الخيل ، وصرت من فرسانهم ، وكنت أحب أشتري آخر لصاحبي ولم يتيسر. وتلك البريجة في ركن من الأرض والبحر داير بها من الجانبين ، ولا يخرج أحد من البلد حتى تتقدم الفرسان ، ويقتسمون ، ويجوزون من البحر إلى البحر من الجانب الآخر البساتين مع البريجة ، وليس لأحد من النصارى أن يجوز الحد الذي تكون فيه

__________________

(٥٩) يقصد ميناءSanta Maria.

(٦٠) يقصد الجديدة ، وكانت آنذاك تحت حكم البرتغاليين.

٤١

الفرسان بحساب النوبة للحرس ولما رأيت ذلك قلنا نخرج من البريجة ونجلس بين البساتين ونستخفي فيه إلى الليل ، ونذهب إلى مدينة أزمور ـ هي للمسلمين ـ على ثلاثة فراسخ من البريجة ، وقلت لصاحبي إذا قدر الله علينا أن النصارى يتصلون بنا فواحد منا يستعمل نفسه أن الجن أصرعه ويخرج من فمه بحديد شيئا من الدم لعلنا ننجو ـ إن شاء الله ـ بذلك الكيد.

فخرجنا إلى بين البساتين واختفينا هناك ثم أن صاحبي مشى إلى بستان قريب من الموضع الذي كنا فيه وبقي هنالك إلى قبل غروب الشمس بقليل ، وأنا في أشد تغيير ، والفرسان تأتي إلى البلد ، ثم جاء صاحبي ، قلت له : ما السبب حتى قعدت إلى هذه الساعة؟ قال : كنت أتكلم مع صاحب بستان حتى عزم على الخروج منه ، جئت من عنده ، فبينما كنت بالغيظ أدبر كيف العمل إذ سمعت البواب يزمور مزمارا له ينادي الناس قبل سد الباب ، فاشتغلت أقرأ سورة (يس) و (الزمر) في زيادة. قلت لصاحبي : هذا الزّمر هو علينا ، قال لي : اعمل حيلة الاصراع ، لأن الناس جاءت إلينا قلت له : لا أعمل ذلك مما كان عندي من الغيظ والتغيير عليه ، قال : أنا أعمل ، قلت : افعل وأنا أتكلم عليك معهم. فأخرج شيئا من الدم ، ورمى بنفسه في الأرض ، فخرجت إلى جهة الرجال وأنا أشير إليهم أن يأتوا إلي ، فلما وصلوا قالوا : ما السبب في جلوسكم إلى هذه الساعة والبواب ينادي عليكم ، أما تخاف من المسلمين أن يأخذوكم أسارى؟ قلت في نفسي : ما نفتش إلا هم ، قلت لهم : بعثت صاحبي يشتري خيارا ، ولما تعطل جئت في طلبه حتى وجدته في هذه الحالة ، ما استطعت حمله وحدي لأنه يضطرب في الأرض ، فوصلوا إلى ناحيته ورأوه بالدم في وجهه وعنقه وهو يضطرب بيديه ، قالوا : هذا يموت. وكان من الذين جاءوا صاحب البستان الذي كان معه صاحبي في الكلام ، ووصل الخبر للقبطان بأمرنا ، وظنوا وقالوا : إننا هاربون إلى المسلمين ، وأمر أن ينظروا هل الحصان في الدار؟ قالوا : هو فيه وحوائجهم أيضا ، قال : لو كان يهربان لم يتركا الحصان ، وهذا أمر نزل بهما ، والتمت جميع الناس بحضرة القبطان ، والرجال الذين كانوا عندنا قالوا : إن هذا يموت ، واتفقوا أن يمشي واحد منهم ينادي القسيس ليثبته ويستقرره من الذنوب ليمشي مغفورا منه إلى الجنة ، فمشى واحد وأعلم القبطان بالأمر ، فجاء القسيس وهو على

٤٢

بعد منه يثبته ، قلت للقسيس : أظن أنه مصروع من الجن فاقرأ عليه أول ما ذكر يوحنا من الإنجيل ليذهب عنه الجن ، فقرأ عليه من الإنجيل ، وذهب الجن والشيطان ، وظهرت للقراءة البركة والبرهان ، وشهرت هنالك ولاية القسيس ، وضحك منه الجن مع إبليس ، وبرأ المريض في الحين ، وأخذه اثنان منهم كل واحد من تحت أبطه ، وصار يمشي معهم حتى صعد على حايط نار وهما معه ، فأطرح نفسه على واحد منهما عند هبوطه منه حتى كاد أن يوقعه.

ودخلنا البلد وجميع الناس مع القبطان وحكوا له كل ما طرأ ، وأن المريض بعد أن كان يموت برأ ببركة ما قرأ عليه القسيس ، ومشينا إلى الدار وجاء من أكابرهم ينصحونني أن لا نتركه يركب الحصان ، ولا يطلع على السور لئلا يصرعه الجن ، ثم جاء الطبيب وكانت له صنايع غير الطب كثيرة ، فكان يصقل السكاكين ، ويركب الرماح ، وأظنه يحلق ، وبيطار الخيل ، فقال الحكيم : ما هذا الذي أصابه فحكينا له ، وبقي متحيرا ماذا يأمرنا به من العمل للعليل ، اجعل عليه حوايج لعله يعرق ، فشكرته على حكمته ووضعنا الحوايج عليه ، فلما أن ذهبوا جميعا لم يسمع المريض أحد أخرج رأسه من تحت الحوائج وقال : كيف حالنا يا سيدي؟ قلت له : غط رأسك ما عندنا إلا الخير ، إن شاء الله ، وذهب النوم عنا في الليلة كلها ويوم أخر تبين لنا أن الله تعالى لطف بنا ، وبقي المريض سالما ونحن ندبر كيف العمل لنقضي الغرض حتى نخرج من بين الكفار. قلنا : لو كان واحد منا وحده كان يمكن الهروب والخروج بأن يخفي ويهرب والحال الاثنين صعب ، وكانت سفينة عازمة على الرجوع إلى بلاد الأندلس ، قلنا نرمي القرعة من يرجع منا في السفينة ، فرميناها وجات في ، وكانت الناس تتكلم بنا تقول : إني كنا نريد الهروب إلى بلاد المسلمين. فمشيت إلى القبطان وقلت له : أحب أرجع إلى بلاد الأندلس في هذه السفينة ، وإذا استغرضت شيئا من تلك البلاد فأعطني زماما به أبعثه إليك ، قال : وصاحبك يمشي معك : قلت له : أراد القعود هنا وأنت ترد بالك عليه ، لأنه غريب. فخرجت عشية وأوجدت ما يحتاج من الطعام في السفر ، فوجدت بقرب باب قاربا صغيرا ، فقال : أركب ، فأعطيته الطعام والحوايج وقلت له : إذا خرج التاجر الذي كان يمشي من البريجة نركب القارب الصغير ليبلغنا إلى السفينة الكبيرة ، فجلسنا هنالك ندعو الله تعالى أن

٤٣

يتعطل التاجر حتى ينسد الباب ، ثم قالوا لصاحبي : ادخل عند سد الباب ، قلت لهم : دعوه معي حتى يخرج التاجر ، قالوا : نعم ، يقعد ، فأظلم الليل إلى أن صلنا العشاء الآخرة ، ثم دعونا الله أن يرشدنا ويسترنا من أعدائنا. قلنا : هذا وقت الخير فنذهب ـ إن شاء الله ـ إلى أزمور ، قلت لصاحبي : ما ظهر لك أن نصنع في ذهابنا ، قال : كيف ما ظهر لك ، قلت له : يا صاحبي ، الطريق القريب هو من هنا إلى أزمور ، قلت : ومن الممكن أنا إذا شرعنا في الطريق ربما يخرج التاجر الذي هو يمشي في السفينة ، وإذا طلبوا علينا لم يجدونا ، ويتبعونا كما هي من عادتهم ويدركوننا بالخيل ، قال : كيف العمل؟ قلت : هذا طريق أزمور هو هذا الشمالي على حاشية البحر ، قال : نعم ، قلت : نمشوا على حاشية البحر اليمنى إلى غد ـ إن شاء الله تعالى ـ نمشو إلى أزمور على بركة الله ، فمشينا ، وبعد ساعة أو أقل سمعنا مكحلة لعلي نفيق من النوم إن كنا نائمين ، فمشينا الليل كله في بلاد الأسد إلى انشقاق الفجر أخلوا المدفع الكبير وهي علامة عندهم إذا أدخلوا ذلك أنه لا يتخلف أحد عن الخروج من البلاد. وعلمنا أنهم ما خرجوا إلا في طلبنا ، فاتفق أن ندخلا في وسط شجرة كبيرة ونجلس هنالك إلى الليل وكنا نسمع حس البارود الكثير ثم يئسوا منا وولوا خائبين ، وسبب رجوعهم أن قائد أزمور لما سمع حس المدفع الكبير عند الصبح علم أن أحدا من النصارى هرب من عندهم فأمر في الحين الفكاك أن يمشي إلى البريجة ليتكلم مع القبطان في شأن أسير كان عنده ، ويأتي بالخبر ، فلما مشي التقى بالنصارى في الفحص. وسأله ترجمان القبطان عن نصرانيين هل رآهما؟ قال له : نعم ، هما عندنا من الصبح. فلما بلغ الخبر للقبطان وهو مع جنده ، فكان يقبض بيده شعر لحيته ، وينتفها ويرمي في الأرض ، والفكاك قال لهم ذلك لييأسوا ويرجعوا فقنطوا ، وولوا خائبين. ونحن جلسنا بين الأشجار إلى الليل وكان الحر الشديد ، ونحن بالعطش سائرين فوجدنا عينا من ماء عذب فشربنا ، وبتنا إلى الصبح ، وكنا سرنا في الليل كثيرا قبل وجود الماء. وبعد ذلك بزمن التقينا بمراكش برجل من أولاد الولي سيدي علي بن أبي القاسم (٦١) ، وسألنا عن حالنا وهروبنا من البريجة إلى

__________________

(٦١) انظر ترجمته عند م. بن عسكر. دوحة ، ١٠ ـ ١٠٢.

٤٤

جهة طيط ـ هو بلد خال كان للمسلمين ـ وذكرنا له عين الماء الذي وجدناه في الليل ، فقال للناس الحاضرين : تلك البلاد نعرفها كلها وليس فيها ماء على وجه الأرض إلا في الآبار الغارقة. وبعد أن تنعمنا بالماء وصلينا الصبح مشينا في طلب أزمور وبسبب السحب لم نر الشمس حتى كانت في وسط السماء ، ثم سرنا نطلب على الما ونجد آبار غارقة يابسة ، ثم استظللنا بشجرة كبيرة بعد العصر ، وسمعنا حس البحر ، ولينا إليه لعلنا نجد ماء فلم نجد شيئا في حاشية البحر للشرب. ثم مشينا على طريق وكنت أظن أنه ماش إلى أزمور. فبعد نصف الليل بلغنا إلى بساتين البريجة ، ثم جزنا وتركناها من ورائنا ، وسرنا من البريجة. ثم صعدنا على جبل ورأينا المسلمين يحصدون الزرع ولما قربنا منهم جاءوا إلينا بأسلحتهم وخيلهم ، فلما وصلوا إلينا قلنا لهم : نحن مسلمون ، فأمسكوا عن الحرب ، وفرحوا بنا فرحا عظيما ، وأعطونا الخبز والطعام الذي لم نره من يوم الجمعة قبل الزوال إلى يوم الاثنين عند الضحى. ثم بلغنا إلى أزمور فأقبل علينا قائدها وبحثنا كثيرا في أمور دين المسلمين ، وقال لي : أتكتب بالعربية في هذه الورقة؟ قلت له : ما أكتب؟ قال : الذي تحب ، فكتبت ما ألهمني الله تعالى ، وشكرته على قضاء الحاجة وخلاصنا من الكفار ، ودعوت بالخير للقائد محمد بن إبراهيم السفياني على ما أحسن إلينا ، وقبض الورقة ، وأظن أنه بعثها للسلطان مولاي أحمد ـ رحمه‌الله ـ ، وكتب له وأمره أن يمشي بحضرته في عيد الأضحى ، وأن يحملنا معه ، فلما أن بلغنا في دكالة إلى سوق كبير أمر القائد بخديمه أن يركب معي إلى السوق ، فلما أن دخلنا فيه جاء المسلمون يسألون الخديم عني ، قال لهم ، هو مسلم ، فجاءوني من كل جانب وهم يقولون لي : شهد! شهد! وأنا ساكت حتى ألحوا علي وكثروا في ذلك ، قلت : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قالوا : والله إنه قالها خير منا ، ثم مشوا وأتوني بتمر وغير ذلك مما كانوا يبيعونه وفضة دراهم. قلت لهم : لا أطلب منكم شيئا من ذلك ، فلما ولينا عند القايد قال لي : ما ظهر لك؟ قلت : الحمد لله إذ لم نر عدوا في هذه الناس ، لأن في بلاد النصارى لم نر فيها في الأسواق إلا أعداء لنا يمنعونا من الشهادتين جهرا ، والمسلمون يحرضونني عليها وفرحوا جميعا حين سمعوا مني ذلك. وقد شبهت ما أصابنا من خوف النصارى وما رأينا من التعب في الطريق إلى أهوال

٤٥

يوم القيامة ، ووصولنا إلى المسلمين للدخول في الجنة ، نسأل الله العظيم أن لا يحرمنا منها وجميع المسلمين أجمعين ببركة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.

٤٦

الباب الثالث

في بلوغنا إلى مدينة مراكش

وما كان السبب حتى مشيت إلى بلاد الفرنج

ولما أن بلغنا إلى محلة السلطان مولانا أحمد ابن مولاي محمد الشيخ الشريف الحسني وكان يقرب المدينة بنحو الستة أميال بسبب الوباء العظيم الذي نزل بتلك البلاد ، وكان عيد الأضحى في اليوم الآتي من بلوغنا ، وخرج السلطان في جنود ـ لم نظن ذلك ـ ، وعجبني حال الرماة فحزامهم هو أفضل وأحسن وأزين من حزام النصارى بكثير. وأما العرب الذين جاءوا وحضروا مع قوادهم ، فكانوا تسعا وعشرين ألف فارس وكذا مائة ما عدا السبيجية ، وفرسان المدينة ، والفرادة ، والجند كثير. وبعد ذلك دخلنا مراكش ، هي مدينة كبيرة ، وفواكهها كثيرة ، وعنبها ليس في الدنيا مثله. عرضها إحدى وثلاثون درجة ونصف. وطولها تسع دراج ، لأنها قريبة من الجزر الخالدات المسماة الآن بقنارية ، ومنها ابتدأ الطول وبعد أن دخل السلطان من المحلة وكان ذلك عام سبع وألف ، وأنعم علينا ، وأذن لنا في الدخول إلى حضرته في يوم الديوان ، ولما ابتدأت بالكلام الذي اخترته أن أقوله بحضرته العالية بصوت جهير سكت جميع الناس الحاضرون كأنها خطبة. ففرح السلطان وقال كيف يكون ببلاد الأندلس من يقول بالعربية مثل هذا الكلام ، لأنه كلام الفقها ، وفرح بذلك كافة الأندلس القدما ، ورأينا العافية والرخا في تلك البلاد إلى أن مات مولاي أحمد ـ رحمه‌الله ـ في مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سنة اثنتي عشرة وألف. وقامت القوام والهرج في المغرب كله ، ثم ثبت في المملكة مولانا زيدان ابن السلطان مولاي أحمد ـ رحمهما‌الله تعالى ـ وفي أيامه أمر السلطان النصراني ببلاد إشبانية ـ أعني بلاد الأندلس ـ المسم بفلب الثالث ـ من اسمه ـ بإخراج جميع المسلمين من بلاده ، وابتداء ذلك كان لسنة ثمان عشرة وألف. وآخر من خرج منهم كان عام عشرين وألف. وكان الأندلس يقطعون البحر في سفن النصارى بالكراء ، ودخل كثير منهم في سفن الفرنج ونهبوهم في البحر. وجاء إلى مراكش أندلس منهوبون من الفرنج من

٤٧

أربع سفن. وبعث رجل أندلسي من بلاد فرنجة بطلب منهم وكالة ليطلب الشرع عنهم ببلاد الفرنج واتفق نظرهم أنهم يبعثون خمسة رجالا من المنهوبين ويمشي بهم واحد من الأندلس الذين سبقوهم بالخروج ، واتفقوا أنني نمشي بهم وأعطاني السلطان كتابه ، وركبنا البحر المحيط بمدينة أسف.

٤٨

الباب الرابع

في قدومنا إلى بلاد الفرنج

ولما أن دخلنا البحر سافرنا إلى أن تركنا بلاد المغرب عن يميننا ، ثم عبرنا في البحر المحيط إلى جهة القطب الشمالي ، وتركنا أيضا بلاد الأندلس عن يميننا ، وبلغنا إلى بلاد الفرنج إلى مرسى هبردي غرسي ـ معنى ذلك الاسم مرسى البركة ـ بعد ثلاثين يوما من خروجنا ، وبتنا في السفينة بنية الخروج في البر في غد ، وتلك الليلة على طولها نرى في النوم أني كنت نتلوا سورة (الإخلاص) ، وبعد أن نزلنا في البربان لي أن قراة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) كان لي تثبيتا على التوحيد ، والأمر من الله تعالى به إذ كنا نازلين ببلاد الشرك ، ثم مشينا إلى مدينة روان ، وجاء إلينا تاجر كنت عرفته في مراكش اسمه فرط ، ولطول مكثه ببلاد المسلمين كان يعرف العربية غاية ، وبدا يتكلم في دين المسلمين ، ويشكر دينه. وقال : المسلمون في دينهم مباح الزنا والسرقة ، قلت : هذا باطل ، قال : بل صحيح لأني سمعت علماءكم يقولون أن بعضا سأل نبيكم ، قال : المومن يزني؟ قال له : يزني ، قال : والمومن يسرق؟ قال : يسرق ، قال أيضا : المومن يكذب؟ قال له : المومن ما يكذب. قلت له : المومن الذي ما يكذب فلا يسرق ولا يزني ، وكيف تقول ذلك وعندنا أن من سرق ما يساوي ربع دينار تقطع يده شرعا ، وإذا زنا المحصن يرجم إلى أن يموت. ثم زاد في مدح دينه إلى أن قال : سيدنا عيسى عليه‌السلام كان ابن الله ، وابن إنسان ، وأنه مات ليخلص الذنب الأول عن سيدنا آدم عليه‌السلام ، قلت : أقول لك في الجواب شعرا نسبه بعض للقاضي عياض ، وهو هذا :

عجبا للنصارى في نبيهم

وإلى أي والد نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا

إنهم بعد صلبه قتلوه

٤٩

فإذا كان ما يقولون حقا

فاسألوهم أين كان أبوه؟

فإذا كان راضيا لأذاهم

فاشكروهم لأجل ما عذبوه

وإذا كان ساخطا لأذاهم

فاعبدوهم لأنهم غلبوه (٦٢)

فبهت التاجر ولم يعرف ما يقوله :

وكان قد ذكر لي رجل من علماء النصارى في مدينة مراكش ، وكان راهبا ثم أسلم ، وسمي برمضان ، ثم مشى إلى بلاد السودان ، ومات بها ـ والله أعلم ـ ، وقال لي : إن السلطان مولاي أحمد ـ رحمه‌الله تعالى ـ أمر بإحضاره بين يديه بعد أن علم أنه من علماء النصارى ، فقال له : ماذا تقولون في سيدنا عيسى عليه‌السلام؟ قال : إنه أحد الثلاثة في الألوهية أو كما قال : وإنه مات ليخلص العالم من الذنب الأول الذي عمله أبونا آدم. قال له السلطان : أنا أضرب لك مثلا حتى ترى الغلط الذي أنتم عليه ، فقدر أنني أمرت أن من يدخل في هذا البستان الذي بدارنا السعيدة نقتله ، واتفق أن واحدا ممن علم بالمنع دخل البستان وعصاني ، فلما صح ذلك عندي أمرت الخدام أن يأتوني بابني ، فلما أحضروه قلت لهم : اقتلوه لأجل دخول فلان في الجنان الذي نهيت عن الدخول فيه. قال للراهب : هذه مسألتكم على زعمكم أن عيسى هو ابن الله وقتل ، وهل يقول عاقل بمثل هذا القول؟ فخرس الراهب وبهت ، ولم يجد ما يجاوب به ، قلت للراهب : هذا الكلام لم يبق لكم ما تقولون ، قال لي الراهب : بقي لي جواب ، قلت له : ماذا هو؟ قال لي : بعد أن مشيت إلى الدار أصبته ، وذكره لي ، وكان كلاما ليس فيه ما يقال ولا ما يكتب ، فما بعد الحق إلا الضلال. وقد وقع لي كلام في مدينة روان مع قاضي القضاة بعد أن زرته ، وكان يعرف اللسان العجمي الأندلسي ، فسألني عن مسألة في ديننا لأنهم كانوا مختلفين

__________________

(٦٢) بالمخطوط في الأبيات الثلاثة الأولى فإن بدل فإذا المثبتة إقامة للوزن.

٥٠

(كذا) فيها أعني أصحاب الباب وكان القاضي على مذهبه وبين النصارى الذين يكفرون به ، وبكل ما يقول ما عدا التثليث ، لأنهم متفقون فيه. وذلك أنه قال لي : إذا مات المرء هل تصل إليه حسنة من عند غيره؟ فقلت له : قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به الناس ، أو ولد صالح يدعو له» (٦٣) ، ففرح وانشرح لأنه موافق لاعتقادهم ، والذين يكفرون بالباب من النصارى يقولون : إنه لا يصل للميت دعا ولا صدقة ولا شيء من الدنيا بعد موته. ثم قال لي القاضي : أنتم التركيون تصنعون فعلا قبيحا بقتلكم جميع أولاد السلاطين إلا واحدا أو اثنين ، قلت ذلك لصلاح المسلمين ، لأن كل من هو ابن سلطان يحب مملكة أبيه ، فإذا أصاب ... (٦٤) والمملكة عظيمة ومنيعة ، فيقوم معه كثير وتكون بسبب ذلك تفريق الكلمة ، وتكون الفتنة ، وقد يشاهد في النحل أمر عجيب ، وهو أنه إذا أفرخ وكثر فتخرج النحل من الجبح ، وتدخل في جبح آخر فارغا ، وعندهم فيها بين النحل سلالة سلاطين ليكون سلطانها ، وتقتل جميع من هو من ذلك الجنس ، وهذا مشاهد يعلم ذلك كل من يخالط النحل ، وهذا إلهام رباني.

ففرح القاضي وأظهر صحبة ومودة ، ونفعني نفعا جيدا في الأحكام.

__________________

(٦٣) أخرجه مسلم في الصحيح ، ٥ ، ٧٣ ، عن أبي هريرة.

(٦٤) كلمة لم نهتد إلى قراءتها.

٥١

الباب الخامس

في قدومنا إلى بريش

هي دار سلطنة الفرنج ، وبينها وبين مدينة روان نحو الثلاثة أيام ، وطولها خمسة آلاف وخمسمائة خطوة وعرضها أربعة آلاف وخمسمائة خطوة ، وبيوتها عالية ... (٦٥) وأكثر وأقل ، وكلها عامرة بالناس ، وديار الأكابر مبنية بالحجر المنجور إلا أنه بطول الزمن يسود لون الحجر ، وتقول النصارى أن أعظم مدن الدنيا القسطنطينية ، ثم مدينة بريش ، ثم مدينة اشبونة (٦٦) ببلاد الأندلس. وكان من حقهم أن يذكرا مصر إلا أنهم يقولون لها القاهرة الكبيرة. وإذا جمعنا مع مصر مصر العتيق وبولاق وقاية باي (٦٧) لم ندر من هي أعظم بريش أو مصر بما ذكرنا. وقد رفعنا أمرنا الذي جئنا بسببه إلى تلك البلاد إلى الديوان السلطاني وأعطوا كتب السلطان للقضاة الذين ذكرنا لهم ، وأيضا لقاضي الأندلس ، وذلك أن في ديوانهم وجهوا قاضيا منهم إليهم ، ويقضي بينهم ، ويأخذ خمس المال للأغنيا من الواردين على بلاد الفرنج ويقيم بذلك فقرأوهم ، ولا صح عند سلطان اسطنبول بخروج الأندلس الذين يسمونهم ببلاد بالترك بمدجنين كتب كتابه السني إلى سلطان فرنجة بالوصية عليهم ، ونفع ذلك الكتاب الأندلس نفعا عظيما ـ تقبل الله منه وجعله في أعلى عليين

__________________

(٦٥) بياض بالأصل.

(٦٦) Lisbonne بالبرتغال.

(٦٧) نسبة إلى السلطان قايت باي بنى عدة منشآت بالقاهرة ، وتعد الأستاذة سيركا أنه لم يوجد حي بهذا الاسم بها ، وأنه من المحتمل أن يقصد المنطقة التي تركزت فيها المنشآت العمرانية لهذا السلطان.

انظر : C. S. Cerqua." un voyageur Arabo ـ Andalou au Caire ـ au XVIIe siecle international sur l\'histoire du caire, p. ٦٠١, note ٠١.

٥٢

ببركة سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين ـ. ولما أعطوني كتب السلطان قلت لبعض من كان يعتقدوني منهم أن يترجم لي الكتب ، وبعد الكلام الذي من عادتهم يصدرونه قالوا للقضاة. نأمركم أن تقفوا مع حامل هذا الذي يتكلم على الأندلس لأن السيد الكبير كتب لنا في شأنهم. وهذا الاسم لا يسمون به أحدا من ملوك الدنيا وذلك ببركة الإسلام إذ هو أعظم سلاطينها. والتقيت في تلك المدينة برجل من علمائهم كان يقرأ بالعربية ، وبعض النصارى يقرأون عليه ، كان يسمى بأبرت ، وقال لي : أنا أخدمك فيما تحتاجني لأكلم لك من كبراء الناس ، وغير ذلك ، وما نحب منك إلا نقرأ عليك في الكتب التي عندي بالعربية ، وتبين لي فيها شيء مما فيها ، قلت له : ائتني بها ، ومن جملة الكتب جاء بالكتاب العزيز ، فسألته أين اتصلت بهذا القرآن ، قال : كنت بمدينة مراكش ، وهنا لك تعلمت نقرأ بالعربية ، وكان جلوسي هنا لك على أمر سلطان فرنجة لنعلمه بحروف الزمر كلما نعلم أنه يقع السلطان مراكش في ديوانه وحركاته ، فتغيرت حين رأيت كتاب الله تعالى بيد كافر نجس ، ثم ساق قانون ابن سينا في الطب ، وكتاب أقليدس في الهندسة وكتبا في النحو مثل الأجرومية ، والكافية ، وكتاب بالعربية فيه مناظرات بين مسلم ونصراني وفي الأديان ، وغير ذلك من الكتب. وكنا نبتدي بالكلام في العلم ثم تقع المنازعة بيننا على الأديان. وقرأت يوما في القرآن الذي كان له ووجدت بالفرنج مكتوبا بطرة الكتاب : من هنا أخذ المسلمون إباحة اللواط ، قلت له : من قال لك أنه مباح عندنا؟

قال ظاهر من هذه الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(٦٨). قلت : نحن عندنا أن اللواط أشد ذنبا من الزنا لأنه إذا زنا محصن يرجم إلى أن يموت ، وإذا كان غير محصن يجلد مائة جلدة ويغرب عن بلده ويسجن فيه عاما ، وإذا فعل قوم لوط كان محصنا أو غير محصن يموت مرجوما شرعا ، وكيف تفسر أنت في القرآن والمفسرون له يحتاجون علوما شتى وأن لا تعلم لغة العربية ولا النحو ، فضلا عن غير ذلك. قلت له امح الذي كتبت! وأبى أن يمحو ما في الطرة ، وكان هو ذكر أن في كنيسة كذا فيها كتب بالعربية ، قلت له : أحب أطالعها ، ومشينا فوجدنا قبة كبيرة ،

__________________

(٦٨) البقرة : ٢٢٣.

٥٣

والكتب صفوفا على ألواح وكراسي ، وكل كتاب في أسفله حلقتين حديد ، وسلسلة حديد تجوز على جميع الكتب ، كل ذلك لئلا تذهب وتسرق. وكانت في كل لغة ، ففتشنا حتى وجدنا كتابا عربيا وفتحناه لنقرأ فيه ، والموضع الذي وجدت كان تفسير الآية التي ذكرت أنه في الطرة عليها وهي : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...) وذلك من غير قصد مني للآية ، إذ هداية من الله سبحانه وبرهان لما قلت للنصراني. ومن جملة ما ذكر في تفسير الآية أبيات شعر فأخذت القلم ، وكتبت والنصراني حاضر ، وهذا الذي كتبت من الكتاب ، ونظرت أوله لنذكر مؤلفه ، وخصت ورق في أوله ، وهذا هو الشعر ، ولكن إصلاح فيه الشيخ العلامة الأجهوري عند قراءتي الكتاب عليه :

حبذا من وهب النسا الصالحات

هن للنسل وهن للدين ثبات

يهب الله لمن يشاء النساء الخيرات

إنما الأرحام لنا محترثات

فعلينا بالزرع فيها وعلى الله النبات (٦٩)

ولم يسعني الحال أن نتم القراءة على معنى ما بقي.

وقال النصراني : ما هذا الذي كتبت؟ قلت : شيء من تفسير الآية التي كتبت أنت عليها في الطرة بإباحة النكاح في الدبر. وقلت له معنى الشعر بالأعجمية ، قلت له قول الله تبارك وتعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، قال : نعم ، قلت له : هل رأيت أو سمعت أن أحدا يحرث في حجر؟ قال : لا ، قلت لم يحرث أحد إلا في موضع النبات أو الزرع ، والنسا هن حرث الرجال في محال النبات كانت بوجهها إليه أو بظهرها. وحينئذ أخذ القلم ومحا ما كان كتبه في ... (٧٠) الآية. وقال الشيخ الأجهوري عن سيدنا مالك أن بعضا نسب إليه أنه قال بجواز النكاح في الدبر ، فقال لهم أم أنتم قوم عرب ، هل يكون الحرث في غير موضع الزرع!

__________________

(٦٩) واضح أن هذا كلام غير موزون.

(٧٠) بياض بالأصل.

٥٤

وأما هذا الفعل القبيح فقد اشتهر عند المسلمين حتى توهم النصراني أن ذلك مباح في ديننا ، وذلك لشهرته ، ولعدم العقوبة عليه ، حتى أنه ذكر أن بعضا يكون عنده أولا محجبون للفعل بهم ، ولم يتذكروا أنه ممنوع في دين الإسلام وأن الله تبارك وتعالى غضب غضبا شديدا على ذلك الفعل حتى خسف بأربعة بلدان بجميع من كان فيها. وهذا الذي يترك ما أحل الله له من النساء ، وفي جماعهن تفريح لمن الذي يحصل له من ذلك أجر وحسنة. ويظهر أن من جامع الذكر أن يحصل له ذنب من أربعة وجوه : الأول تضيع حق النساء اللاتي تحت حكمه ، ومعصية الله الذي حرم عليه ذلك ، وإفساد الذكر الذي فعل لأنه يتركه ناقصا عن درجة الذكور للشجاعة وغير ذلك من قوة الرجال ، وأيضا من وضع منيه في محل لا يرجى منه نسل ومن يرضى لنفسه من المفعولين بذلك لم يتوقف عن ذنب من أنواع الذنوب. وللمناكح في الحلال حسنة على الفعل ، وحسنة على تفريح من هي تحت حكمه منتظرة منيه ، وحسنة عظيمة على قصده أن يرزقه الله من يذكره ويعبده. والذي رأيته في مناظرة النصارى أني إذا قويت نفسي في الرد عليهم كان ينزل علي من عند الله إجلال وتعظيم ، ونعظم في أعينهم بذكر توحيد الله تعالى ، وذكر فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبطلان تثليثهم. وقد قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)(٧١). ومهما قصرت من الخوف أو الجزع فكان ينزل علي الذل عندهم ، ولما رأيت ذلك وتحققت وفهمت أن الله سبحانه أراد مني أن نجاهد معهم بقوة ، فكنت أقول لهم ما لا سمعوه من مسلم قط ، وينصرني الله عليهم ، ويقولون لي إن احتجت منا شيئا نقضيه لك ، حتى أن بعضهم يقول لي ـ عند مدح رسول الله (: وهذاك السيد محمد نبيكم عمل كذا أو قال كذا ، وأجاوبهم بما يلهمني الله المعين العليم الحكيم ، وقد ذكرت يوما لابرت الذي كان يقرأ بالعربية أن يريني الموضع الذي فيه الحيال حيث يجذبون به الماء من تحت الأرض المسمى عندهم ببنبه (٧٢) ، قال : هو في دار المترهبين ، ومشينا وبلغنا إلى الباب وكان مغلوقا ويد من عود معلق من حبل ،

__________________

(٧١) سورة المائدة ، الآية ٧٣.

(٧٢) لفظة إسبانيةpompa تطلق على الآلة التي يرفع بها الماء ، وهي مستعملة في العامية المغربية.

٥٥

فجذبه ، وحرك الحبل داخلا ناقوسا فيه ، فسمع ضربه الموكل وجاء راهب إلى الباب وتكلم من طاقة صغيرة في دفة الباب بعد أن أزاح منها لوحا صغيرا ، وطلب منه أبرت الدخول ، ولما دخلنا رأينا الحيال والمترهبين يجذبون الماء به ، ورأيت الرهبان باللحا غير مقصوصة ، ما ليس من عادة المترهبين ، قلت لأبرت : هذا الرهبان عندهما أولاد؟ قال ـ هو متعجب كيف تسأل عن أولادهم ـ : أما علمت أن الرهبان لا يتزوجون؟ قلت : رأيتهم بلحا طوال ، فاستدللت (كذا) أنه يكون لهم أولاد وأنا عارف بأمرهم ، قال لي : الدراوش على أنواع. وسأله الراهب عني ، قال له : مسلم من مراكش ، فتعجب وقال : بلغني أن أخي فلانا شقيقي كان بإصطنبول ودخل في دين التركييين ونفسي تحدثني أن أمشي إلى تلك البلاد نلتقي بأخي ، قال له ابرت : ماذا تريد ببلاد المسلمين؟ قلت للراهب : هل هو أفضل عند الله تعالى ، وعندكم ترك الزواج. قال الراهب : كثير يتزوجون. قلت له : قدر أن السلطان نادى رجلين وأنعم عليهما ، فالواحد قبل نعمة السلطان وشكره عليها شكرا دايما ، والثاني لم يقبلها ، وذلك أن الله ـ عزوجل ـ زين هذا العالم من أجل بني آدم الذي يعمل قدر جهده ليكون له أولاد ليشكروا الله تعالى بعده على ما أنعم عليه فهو بشاكر ، والذي لم يقصدهم ولا يريدهم فليس بشاكر. قال كثير من يتزوج ، قلت : الزواج سبب في الأولاد لعمارة العالم وعبادة الله ، والشكر عليها ، لأن الإنسان فان ، ثم قلت له : هل في دينكم يوم الحساب؟ إذا سئل إنسان عن عمل صالح تركه أو عمله ، هل ينجو بقوله أنا ما عملته ولكن عمله غيري؟ فتوقف الراهب عن الجواب ، وقال لنا : ادخلوا معي فدخلنا بستانا. وبينما كنا سائرين في الطريق بين الأشجار رأيت شجرة لم تثمر ، قلت : لماذا غرستم هذه الشجرة؟ قال : لتثمر وتعمل فاكهة ، قلت : إذا لم تعمل فاكهة ما يصنع بها؟ فتبسم ، وعلم أن المثال كان عليه. ثم جزنا إلى قدام ، إلى بين الأشجار غلاظ وطوال جدا ، وظهر لي أن من مثلها يعلمون صواري السفن ، ولما كنا في الموضع بين الأشجار الكبار ، ولم يظهر أحد قالا لي : تعجبنا منك تحفظ الألسن وتقرأ الكتب ، وسرت في المدن وأقطار الدنيا ومع هذا تكون مسلما! قلت لهم : العجب هو منكم تقرؤون الكتب والعلوم وأنتم من أهل هذه المدينة الكبرى ومع ذلك تقولون على الله تعالى الذي خلق كل شيء وهو واحد قبل كل شيء وبعده أنه

٥٦

ثالث ثلاث ما لا يقبل العقل أبدا ، وذلك نقصان في حقه تعالى. وقال أبرت : هذا التثليث في الإله لا يعرفه ولا يفهمه إلّا من قرأ علم المنطق ، قلت : وأنت قرأته ، قال : نعم. قلت له : بين لي كيف هم ثلاثة وواحد ، لأن أهل ديننا لا يقبلون إلا واحدا ، ولا عبدوا إلا إلها واحدا ، وفي الحساب أما واحد وأما ثلاثة ، وهم واحد فضدان لا يجتمعان ، قال الراهب : جاني اليوم الآخر إلهام وبيان مقبول يدل على أن سيدنا عيسى عليه‌السلام كان ابن الله حقيقة ، وكان هو أيضا إلها ، وكتبته أتجب أن آتيك به تسمعه ، قال له أبرت إيتني به ، فمشى سريعا لبيته ، وأتى به ، وقرأه بالفرنج وعجبتهما ، وقالا هذا شيء عجيب ، قلت له : ماذا قال في ورقته؟ قال الراهب : الله تبارك وتعالى حين خلق الدنيا أمر كل شيء من المخلوقات في الدنيا أن يخرج وينبت ويلد على طبعه ونوعه ومثله ، ورا الله تعالى أن ذلك صلاح ، فعرفت أن هذا القول أخذه من الباب الأول ومن التوراية ، قال لي : ماذا تقول : فهل ذلك صلاح؟ قلت : نعم ، كلما أمر الله تعالى به فهو صلاح ، قال حين رأى الله تبارك وتعالى أنه صلاح ، أن كل شيء يخرج ويلد على كيفه ومثله أراد هو أن يكون له ولد مثله ، قال : ماذا تقول؟ قلت له : على هذا القياس كان سيدنا عيسى يحتاج أن يكون له ولد مثله وابنه يكون له ابن آخر ، فتكثر الآلهة إلى ما لا نهاية لها ، قلت له : ما تقول؟ فبهت ، وبقي بورقته مبطلة غير مقبولة ، وكذبه ظاهر. قال الله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(٧٣) ، وذهبنا عن الراهب.

__________________

(٧٣) سورة الكهف ، الآية ٥.

٥٧

الباب السادس

في قدومنا إلى قاضي الأندلس

بفرنجة بكتاب السلطان

ولما خرجنا من بريش إلى مدينة برضيوش إلى قاضي الأندلس قالوا لنا هو في البلد الذي تخرج إليه الأندلس وهو البلد الأول من بلاد فرنجة القريب للحدود بين فرنجة وبلاد الأندلس ويسمى بسان جوان ذلز (٧٤) ، فمشيت إليه ، وذلك عام عشرين وألف ، وكانوا فيه آخر من خرج من الأندلس ، وذكر لي من جاء بعدهم رجل أندلسي من بلاد الثغر اسمه فلش : أن كتاب الديوان السلطاني بمذريل قالوا : بلغ نهاية جميع الأندلس بصغارهم لثمان مائة ألف مخلوق ، أكثرهم خرجوا بتونس ، وكان عثمان داي أميرا فيها ، وتكفل أمورهم بالسكنى في المدينة وغيرها في القرى ، وأحسن إليهم غاية الإحسان ـ أحسن الله إليه ـ ومات ـ رحمه‌الله ـ عام تسعة عشر وألف ، وكذلك الولي الشهير سيدي أبو الغيث القشاش (٧٥) ، كان يعطيهم في كل يوم نحو ألف وخمسمائة قرصة من الخبز صدقة ـ جزاهما الله خيرا كثيرا ـ. ولما التقيت بالقاضي كان يشكر لي دينه ، حتى قال لي مرارا : يا فلان ، رأيت أنه يليق بك أن ترجع نصرانيا ، قلت له : على أي مذهب من مذاهب النصارى؟ قال : ليس لنا إلا مذهب واحد ، قلت له : لو كان الله تعالى : يحيي نصرانيا من زمن سيدنا عيسى عليه‌السلام ، ثم يحيي نصرانيا من كل قرن من القرون الماضية وجميعها ستة عشر قرنا ،

__________________

(٧٤) Saint ـ jean ـ de ـ luz.

(٧٥) انظر ترجمته عند المنتصر القفصي ، نور الأرماش ، في مناقب سيدي أبي الغيث القشاش ، مخطوط المكتبة الأحمدية بتونس رقم ٣٨٨٣.

وقد نشر عبد المجيد التركي الجزء المتعلق باهتمام أبي الغيث القشاش بالجالية الأندلسية بتونس. انظر مقاله : «وثائق عن الهجرة الأندلسية الأخيرة إلى تونس» ، حوليات الجامعة التونسية ، العدد ٤ ، ص. ٦٨ ـ ٧٠.

٥٨

فكل واحد منهم يقول لغيره : أنهم كفار لما يرى من الزيادة والنقصان عند غيره في الدين والعقل السالم يحكم بحكم قطعي أن دين الله تعالى لا فيه زيادة ولا نقصان كما هو ديننا. قال القاضي : ديننا كذلك ، قلت : دينكم مفتوح للزيادة والنقصان ، لأن كل باب له أمر عندكم ليزيد وينقص ما يظهر له في الدين ، قال : هذا سيدنا عيسى ، أو كما قال : ذكره الأوائل من الأنبياء ، حتى قالوا إنه لا يكون قبر واحد من الأنبياء معروف حقيقة إلا قبره. قلت له : ذلك قبر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال كيف ذلك؟ قلت : ليس هو كما تقول النصارى إنه في حلقة من حديد في الهوى في وسط قبو مبنية بحجر المغناطيس الذي من خاصيته يجذب الحديد إليه ، لأنه مدفون في الأرض ، في مدينته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بينها وبين مكة عشرة أيام. قال لي : انظر هذه العافية التي عندنا في بلادنا ، بخلاف بلادكم لأن الأحكام تدل على صحة ديننا ، قلت : ليس أحكامكم وشريعة دينكم مأخوذة من الإنجيل ، إنما شرعكم على مذهب المجوس ، الذين كانوا برومة ، وكتب شريعتكم مترجمة من كتبهم مثل الكتاب الكبير المسمى ببلض وغيره. قال : صدقت. وجلسنا هنالك زمنا طويلا وهو مشغول بالأندلس واحتجت الرجوع إلى بريش. وأما ما قلته للقاضي إن في دين النصارى الزيادة والنقصان في كل زمان فهذا برهان ذلك كما اشترطت في أول الكتاب البرهان والنصوص مما نذكره ، فأما ما يكون من يطبع كتابا إلا بالأمر من أصحاب الديوان إلى صاحب التأليف. قال كرتش المنجم في كتابه ، وأيضا سمران الإشبيلي ، وقد عرفته في المدينة إشبيلية اسما وعينا ، وأيضا جبش ، ذكر كل واحد في كتابه ما زاده وما نقص كل واحد من البّابس.

فأما البّابّ ليون : أمر أن النسا يدخلن مغطيات الرؤوس في كنايسهم.

الباب ألبرت أناني : أمر أن كل نكاح يكون بحضرة قسيس ، وإن لم يكن بحضرته فهو زنا ما لا كان قبل.

الباب إسكندر : أمر أن القسيس لا يصلي إلا صلاة واحدة في اليوم ، وزاد في فرايض الصلاة ، وأمر أن الخمر الذي يشرب القسيس في أثناء الصلاة أن يزيد له ماء ، وأن يجعلوا ماء مباركا على أبواب الكنائس ؛ انتهى كلامه. وأقول إن فرائض الصلاة القسيس الذي يؤم النصارى أنه يوجد رغيفا رقيقا قدر كف الإنسان في

٥٩

الانشراح مستدرة فيها صورة سيدنا عيسى عليه‌السلام وإذا كان في حال الصلاة التي هي فرض على كل مكلف مرة كل يوم الأحد ، وبعض أيام المواسم وبعد أن يقرأ الإنجيل ما يناسب لذلك اليوم لأن كل يوم له جزء معروف من الإنجيل لأنهم قسموا الإنجيل كله ثلاثمائة وخمس وستين جزءا ، لكل يوم من السنة جزء. وبعد أن يقرأ الإمام الجزء لذلك اليوم ، وعند قراءته من الكتاب تكون جميع الناس قائمين عريانين الرءوس ، ثم يأخذ القسيس القرصة ويرفعها فوق رأسه ليراها المأمومون ، ويقول كلاما معناه : «هذا هو جسدي» ، وهي كلمة مأخوذة من الإنجيل ، لأن فيه أن سيدنا عيسى عليه‌السلام قال للحواريين ـ وهو بخبز في يده ـ : هذا هو جسدي ، وقال لهم على الخمر : هذا هو دمي ، وإذا رفع الخمر في كأس فوق رأسه فيقول : هذا هو دمي ، ويجعل القرصة في الخمر لترطب قليلا ثم يأكلها ، ثم يشرب الخمر كله ، ثم يرجع بوجهه إلى الناس ويقول لهم : انصرفوا ، فقد أتمت الصلاة. ولا يتوضأ أحد ولا يغتسل أبدا ، بل هم متنجسون ظاهرا وباطنا. أما في الباطن فباعتقادهم الشرك ، والباطل في الجانب الأعلى وفي أجسادهم وما يلبسونه كله ، وإذا كان للمصلي كلب أو كلاب فيسبقونه للكنيسة ولا يردها أحد. وفيها أصنام مصنوعة من خشب ، والحيطان بالصور ، ولا يدفنون الموتى إلا في الكنايس ، وإذا كان الإمام في أثناء الصلاة فيضربون آلات الزّمر المسمى بأرغنش ، يشتمل على خمس وعشرين زمرة من نحاس أو معدن غيره ، وبعضا منها قدر الخشب. ومعلم يضربها ، ولها حس قوي ولذيذ للسمع ، وواحد يصوط (٧٦) كيرا لكثرة ريح للمزامر. وقبل أن يتم الصلاة ينزل الإمام من المحراب لأنه مرتفع بدروج ، وبيده طرف حرير على طول ذراع ويمشي بين الرجال ويمد لهم الشقة يقبلونها ، وصبي وراءه بكأس الدراهم التي يعطونه وإذا فرغ من الرجال يدخل بين النسا ، وهن في غاية الزينة ، وكل واحدة تأخذ الشقة من يده ويقبلها ، ويعتقدون أن الإمام أعطاهم بذلك العافية ، ثم يعود إلى محرابه ، ويتم الصلوات كما تقدم.

وأما الإنجيل فقدرت فيه ستة وثلاثين حزبا من أحزاب القرآن. وقد ذكرت هذا كله. كما شاهدته ، ولتعلموا ما بين هذه عبادة الكافرين وعبادة المسلمين ، وأشكر

__________________

(٧٦) يصوط : ينفخ ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

٦٠