رحلة أفوقاي الأندلسي

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي

رحلة أفوقاي الأندلسي

المؤلف:

أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي


المحقق: د. محمّد رزوق
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-504-0
الصفحات: ١٨٨

بينهم لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تواطأت قوم على ترك الجهاد إلا ابتلاهم الله فيما بينهم» (١٢٦). وقد شاهدنا شيئا من ذلك. وبقي واضح أن الحجر الذي كسر الصنم وعظم حتى عمر الدنيا كان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل دينه ولم يكن سيدنا عيسى عليه‌السلام ولا النصارى الذين يزعمون أنهم على دينه. وكل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين ، المجاهدين في سبيل رب العالمين ، وهم السلاطين الفضلا العظما العثمانيون التركيون. وقد تقدم لنا ذكر ما رأيت وفهمت من النصارى في بلادهم من الخوف العظيم الذي في قلوبهم منهم. ورأوا ملوك النصارى أنه يليق بهم صحبتهم على وجه اللين واللطف ، حتى إن كل واحد منهم يبعث رسوله ليقعد على الدوام والاستمرار في القسطنطينية العظمى يطلب منهم الصلح والرضى عنهم وهم ـ نصرهم الله ، وخلد ملكهم ، وجعل النصارى والكفار الأعداء تحت أقدامهم ـ لا يبعثون رسولا لكافر على وجه القعود في بلادهم ، وصح أن سلطان إشبانية ـ وهي بلاد الأندلس ـ أراد أن يبعث رسولا للقعود مثل سائر ملوك النصارى ولم يقبلوه ، لما تحققوا من عداوته للإسلام ، وغدره فيما مضى ، مما صدر منهم مع سلطان الهنود المغربية بمدينة ميشق (١٢٧) المسمى متشمه (١٢٨) ، إذا مشوا إليه بهدية ، وقتلوه.

والعهود الذي عاهد المسلمين الأندلس حين أخذ بلادهم ، ثم نكثها ، وأن حين أمر على الأندلس بالخروج من بلاده كل من علم به أنه يمشي إلى بلاد المسلمين أخذ لهم الأولاد ، كل من كان من أقل من عشر سنين أو نحو ذلك ، وغير ذلك مما ذكر عنهم في أخذ مدينة ملان (١٢٩). ولم يكن لسلاطين المسلمين أعداء ولا أضر من سلاطين إشبانية. ويضرون سلاطين المسلمين وهم لا يشعرون ، وذلك بماله من القوة

__________________

(١٢٦) لا يوجد الحديث عند ج. السيوطي في الجامع الكبير.

(١٢٧) Mexico.

(١٢٨) أحد ملوك الهنود الحمر.

(١٢٩) Milan.

١٠١

بالمال ـ نسأل الله العظيم ببركة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ـ أن ينصر سلاطين المسلمين (١٣٠) ، على القوم الكافرين نصرا تعز به الدين ، يا رب العالمين ـ.

وقد ذكر في كتاب الجنشيش من كتب التوراية في الباب السادس عشر قال :

«وكلم الملك من عند الله لهاجر في البرية بقرب عين ماء ، قريبا من عين طريق القبلة ، وقال لها : يا هاجر من أين جئت؟ وأين تمشي؟ قالت : هربت من شر سيدتي ، قال لها الملك : ارجعي إلى سيدتك واخضعي إليها ، وقال لها الملك : تكون زريعتك حتى لا يحصى عددها من كثرتها ، وقال لها : أنت حملت وتلد ابنا ، وتسميه (١٣١) إسماعيل ، لأن الله سمع حزنك ، ويكون رجلا قويا ، يده الكل ، وأيدي الجميع عكسه. ويسكن قدام جميع إخوانه وولدت هاجر إسماعيل لسيدنا إبراهيم وسمى ابنه إسماعيل. ولما بلغ سيدنا إبراهيم مائة سنة ولد له إسحاق بن سارة».

وقال في الكتاب المذكور في الباب الواحد والعشرين : «وقام سيدنا إبراهيم من الصبح وأخذ خبزا ، وجلد ماء ، وأعطاه إلى هاجر. ووضع الطفل ابن على كتفها ، وبعثها ومشت ، وتلفت في فحص برشبا ، وفرغ لها الماء من الجلد وتركت الطفل (١٣٢) تحت شجرة ، وذهبت ، وجلست قبالته على بعد رمي قوس ، وهي تقول : ما نرى إلا الطفل يموت. وجلست ورفعت صوتها ، وبكت (١٣٣) ، وسمع الله صوت الطفل ، وقال الملك الله من السماء : مالك يا هاجر؟ لا (١٣٤) تخافي إن الله سمع صوت الطفل من حيث هو ، فقم ، وارفع ابنك ، وخذه من يده لأنه في كبير قوم يكون. حينئذ فتح الله عينيها ، وأبصرت عين ماء ، وعمرت الجلد من الماء ، وأعطت الولد يشرب ، وأصلح الله الولد ، وكبر في الخلاء ، وكان راميا بالقوس».

وقال في الكتاب المذكور في باب خمس وعشرين : «وهذه أسماء أولاد إسماعيل

__________________

(١٣٠) هنا ينتهي السقط من النسخة «ب».

(١٣١) «ب» : وسميه.

(١٣٢) كتب المؤلف كلمة «الولد» فوق كلمة «الطفل».

(١٣٣) «ب» : بالبكاء.

(١٣٤) «ب» : فلا.

١٠٢

بن إبراهيم : أول أولاد سيدنا إسماعيل كان : نبيوفتح ، وآسدر ، والامبشم ، ومش ، ومبد ، مشمشا ، ادد ، اتهما ، اجتهر ، ونافش ، ووسدما.

فهي أسماؤهم فكانوا في بلادهم وديارهم اثنا عشر ، جميع الإخوان وكل واحد عمل قبيلة وبلدا وحده» ؛ انتهى.

وذكر في التوراية في الكتاب الثاني للملوك في الباب الثاني والعشرين : «إن السلطان يشيش كان ببيت المقدس بقي به سلطانا إحدى وثلاثين سنة ، وفي السنة الثامنة عشر بعث السلطان لشافن بن أزليه ، من الكتّاب ، للبيت المقدس ليبنوا ، ويصلحوا ما فسد فيها. وقال الحبر حلكه لشفان (١٣٥) وجدت كتاب الدين في بيت الله وهو هذا ، أعطه للسلطان ، فقال حلكه الحبر : أعطاني هذا الكتاب ، وقرأه السلطان ، ولما سمعه قطع اللباس الذي كان عليه ، وأمر بكسر الأصنام ، وأمر جميع الناس أن يعملوا عيدا ، ولم يعمل مثل في زمن السلاطين إلا في زمن الحكام ، حين كانوا التيه». ويظهر من هذا أن التوراية ليس كانت عند الناس في تلك الأزمنة ، وكيف يثبتون (١٣٦) أن هذا هي التي كانت في زمن سيدنا موسى عليه‌السلام والحمد لله ، والشكر له ، أن القرآن العزيز كان في كل بلد من بلاد المسلمين موجودا ، وكان عندنا ببلاد الأندلس مع الحكم القوي ، والحرص الشديد من الكفار على من يظهر عنده ، يقتلونه ، ويأخذونه ماله ، ويحرقونه. ومضت أكثر من مائة سنة من حين منعوه ، وهو موجود ، وصدق الله العظيم ، قوله تعالى : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١٣٧) ، وتقدم لنا أن الكتاب المسمى بلبنتق من كتب التوراية في الباب العاشر في المقالة الثامنة ، قال : «كلم الله هارون قائلا : أنت وأولادك معك لا تشربوا الخمر ، ولا مسكرا ، إذا أردتم الدخول في الجامع ، وما تموتون ، هذا أمر إلى الأبد ، لكل من يتنسل منكم. هذا لتفرقوا وتميزا بين الصلاح والفساد ، وبين الطاهر والنجس ، وتعلم بني إسرائيل ، وتبين لهم ما أمرهم الله به على يدي موسى».

__________________

(١٣٥) «ب» : لشافن الكاتب.

(١٣٦) «ب» : يثبت.

(١٣٧) الآية ٩ من سورة الحجر ، في المخطوط : القرآن بدل الذكر.

١٠٣

فانظر هذا القول الصريح على الخمر والمسكر ، إنه نجس ، وأنه مفسد. وجميع اليهود يشربونه. وانظر ما تقدم من قول الملك الذي جاء من عند الله إلى سيدنا زكريا عليه‌السلام ، وقال له : إن الله قبل دعاءك ، وامرأتك اليصبات تلد ابنا يدعى باسمه يوحنا ـ وعندنا في القرآن العزيز اسمه يحيى ويكون له فرح عظيم ، وتهليل وكثير يفرحون بمولده ويكون عظيما قدام الرب ، لا يشرب خمرا ومسكرا وهذا في الإنجيل.

فاليهود (١٣٨) تتعامى على ما عندهم في التوراية من المنع والتبيين أنه نجس. ويحللونه لنفوسهم النجسة. والنصارى تقأ هذا النص في التوراية ، وتقرأ أيضا ما في الإنجيل من قول الملك عن يحيى عليه‌السلام أنه لا يشرب خمرا ولا مسكرا. وتعتقد الحلية والطهارة في الخمر ، حتى لا تجوز الصلاة عندهم إلا به. فاشكر الله أيها الأخ الحبيب على ما وجدت في هذا الكتاب من التبيين على دين الإسلام أنه خير الأديان.

والتقيت بمسترضم بفلنضس بحبر مفتي اليهود ، مشى (١٣٩) من بلاد المشرق. وقال لي في أثناء الكلام عن سيدنا موسى عليه‌السلام أنه عمل ذنبا عظيما ، قلت له : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ منزهون عن الذنوب وكيف تقول أنت هذا الكلام؟ قال : نعم ، لأنه كان يوبخ بني إسرائيل ، ويقول فيهم : أنهم قوم قاسحون (١٤٠) لأنهم أهل الله ، ولا علت درجته عند الله تعالى إلا بسببهم. وهذا برهان في ما (١٤١) قلنا (١٤٢) : إن فيهم الكبر ، حتى أنهم يعظمون أنفسهم على أنبياء الله تعالى. وقال لي هنالك يهودي آخر : إن دين الإسلام يتم فيما هو قريب ، قلت له : من قال هذا؟ قال : التوراية ، إن كل من يأتي بدعوة باطلة لم تبلغ ، ولا تدوم ألف (١٤٣) سنة ، قلت له : هذا قول حسن ، لأن دعوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازت الألف سنة بأكثر من عشرين سنة. فلما أن سمع

__________________

(١٣٨) «ب» : فأما اليهود.

(١٣٩) «ب» : جاء إليهم.

(١٤٠) قاسحون : معاندون ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

(١٤١) «ب» : لما قلنا.

(١٤٢) «ب» : قلت.

(١٤٣) «ب» : باطلة لا تبلغ ألف سنة.

١٠٤

ذلك ، نزل عليه الذل والخزي والتغيير ، وخاب ظنه فيما كان يرجوه. وقد وصى عبد الحق الإسلامي ـ رحمه‌الله ـ في كتابه الذي تقدم ذكره المسمى بالسيف الممدود في الرد على اليهود ـ للمسلمين أن يتحفظوا من أطعمة اليهود بما علم من غشهم ، وأيضا في كتاب نسيت اسم مؤلفه من كتب المسلمين طلب مني واحد من فقهاء الأندلس أن أترجمه له بالعجمية من العربي بسلا بالمغرب ، وذكر فيه من غش اليهود شيئا كثيرا ، وحكايات مما وقع للمسلمين معهم تركتها للتطويل. ونذكر ما ذكر لي رجل من أهل العلم بمصر ، عن رجل من أكابر العلماء يعرفه ، قال : إنه كان يمشي إلى حومة ديار اليهود لدار حبر من أكابر علمائهم يقرأ عليه علم المنطق ، لأنه كان بالغا فيه ، ومشى يوما كما كانت من عادته ، فلما أن دخل عليه من الباب خرج إليه اليهود ، وأخرجه من داره بسرعة وسد الباب في وجهه ، ومشى العالم متعجبا ، ومتغيرا مما وقع له ، ثم لقيه بعد ذلك اليهودي وقال له في سر : لا تأخذ علي فيما عملت معك ، لأننا عندنا في ديننا أن اليهودي الذي يقدر على قتل من لم يكن على دينه (١٤٤) ، ولا يقتله ، فهو يرتد عن دين اليهود. وأنت يا سيدي في اليوم الذي جئت إلى داري لم يكن أحد في الدار (١٤٥) وكنت قادر على قتلك ، لو دخلت عندي ، وأسرعت بردك لئلا نقتلك ، أو نرتد (١٤٦) ، فانظر وتأمل في هذا الأمر ولا تأمنهم في شيء ، لا سيما أن تنادي طبيبا منهم يعالجك ، أو تأخذ منهم دواء لأنه يسهل عليه قتل العليل ، ولا يلزمه شيء ، وغير ذلك من الأمور التي تضر بالإنسان. انتهى الكلام على اليهود.

وأما الحوائج التي كانت مطروحة ببرضيوش التي نهب الرايس لأهل الحجر الأحمر ، فاتصلت بها بعد أن جاز علينا نحو العام ونصف. والحمد لله أن كل من وكلني من جميع الأندلس وصل إليه شيء من الدراهم. ولما تقضينا من أمورنا ببرضيوش ولينا إلى بريش ، بلد السلطان ، والتقيت هنالك بأكبر المنجمين في الأحكام النجومية وقال لي : هذا العلم لم نر له نتيجة أبدا في الأحكام ، وقد جربت كثيرا من الاختيارات ،

__________________

(١٤٤) «ب» : على دينه من غير أن يلحقه ضرر من الحكام ولا يقتله.

(١٤٥) «ب» : داري لم يكن فيها أحد وكنت.

(١٤٦) «ب» : لئلا نرتد أو نقتلك.

١٠٥

ولم يصدق فيها واحد ، ولم نترك شيئا من التحقيق في النّصبات ، وأخذ الارتفاع للبروج في الطالع مما قال المؤلفون للكتب ، وعندي أكثر من مائة تأليف في الفن ، ونفهم ما فيها. ولما قتل السلطان ببريش أبولوش الذي هو الآن سلطان ، قلت في نفسي : الشمس التي ينسب الحكم إليها على السلاطين تكون في تلك الساعة التي قتل فيها متصلة بنحس. ولما نضرت ذلك وجدتها مع الزهر وهي سعد ، ولا يحكم للسلطان بذلك إلا بسعد إذا كانت الزهرة مقترنة أو متصلة بالشمس. والعلماء الذين وضعوا هذه القواعد ، والأقاويل ، والأحكام ، فلا نتيجة بعد العمل على مقتضى أقوالهم ، بل نجد المسألة بالعكس مما قالوا ؛ انتهى.

وأقول : اعلم إني كنت قرأت شيئا في علم الأحكام على الفقيه أحمد المعيوب (١٤٧) الفاسي الأندلسي نسبا ، وكان بالغا في الفن في علم التنجيم والخط الرملي ، وعلم الجدول العديد والحرفي. وكانت له من الكتب في تلك الفنون شيء كثير. لأن السلطان مولاي أحمد ـ رحمه‌الله ـ ظهر لي أنه كان يمده بالكتب من خزانته التي قالوا نهاية كتبها اثنان وثلاثون ألف كتابا. وقال لي الشيخ ـ رحمه‌الله ـ مرارا (١٤٨) إذا سألني السلطان شيئا في الأمور المغيبات نترك الكتب ، ونعمل جدولا مخمسا ، ونعمره بخمسه أسماء من أسماء الله تعالى ، وهي الهادي ، الخبير ، المبين ، علم الغيوب ، بالتداخل في الصنعة ، بحيث يقرأ طولا وعرضا وقطرا على هذا النعت :

الهادي

الخبير

المبين

علام

الغيوب

علام

الغيوب

الهادي

الخبير

المبين

الخبير

المبين

علام

الغيوب

الهادي

الغيوب

الهادي

الخبير

المبين

علام

المبين

علام

الغيوب

الهادي

الخبير

__________________

(١٤٧) بالأصل المصيوب ، وهو تحريف ، إذ إن أسرة معيوب شهيرة بالأندلس. انظر أ. المقري ، نفح ، ٤ : ١٢. وانظر ترجمة أحمد المعيوب عند م. حجي ، الحركة ، ٢ : ٣٩٣ ، والمصادر بالهامش ٥٥ من نفس الصفحة.

(١٤٨) مرارا : سقطت من «ب».

١٠٦

ثم نقرأ ما تنقط جميع الحروف بالجزم الكبير. وإذا فرغت من القراءة في الليل قبل النوم ، فنضع الجدول تحت رأسي ، ويأتيني في النوم من يخبرني بالجواب مما أضمرته في نفسي (١٤٩). قال إنه يصدق فيما يجوب به ، ويحتمل أنه كان يعمل نصبة على المسألة ويظهرها ليظن أن الجواب استخرجه منها. ومما رأيت ببريش امرأتين تركيتين : إحداهما عجوزة ، والأخرى من نحو أربعين سنة ، وهي مشغولة بالأشغال العجيبة (١٥٠) للسلطان. وكانت النساء جميعا تتعجبن من حسن شغلها ، وضرفها في الرقم. وكانت تأخذ من عند السلطانة كل يوم ريالة كبيرة ، وسألتها عن السبب الذي جاءها من بلاد المسلمين (١٥١) إلى بلاد الفرنج ، قالت كنا في البحر قاصدين الحج وأخذنا النصارى وأتوا إلى البندقية ، وكتب رسول سلطان فرنجة ، وأعلم السلطانة بشغلها ، وبعثت له يرسلنا إليها ، ثم أن السلطانة ونساء الأكابر دعوها إلى دينهم ، ودخلت فيه ، فقلت لها : ما ألهمني الله في أمور الأديان ، وأنه لا ينجو الآن أحد إلا في دين الإسلام ، وأتيت لها ببراهين على ذلك (١٥٢). وهي كانت تقرأ بالعربية والعجوز كذلك قالت : إنها كانت من الدار الكريمة للسلاطين بإصطنبول (١٥٣). ونادتني يوما ، وبعد الطعام العجيب ، قالت لي : أطلب منك حاجة لوجه الله تعالى ، قلت لها : اذكري حاجتك ، قالت لي : تدبر علي لنمشي إلى بلاد المسلمين ، قلت لها : وتسمح لك السلطانة في الانتقال؟ قالت : ما تسمح لي أبدا ، قلت لها : إن شاء الله أدبر عليكما حتى ترجعا إلى بلاد المسلمين. حينئذ ودعتهما ،

__________________

(١٤٩) كتب في الطرة : وقد حكم علي تاريخه ... بإشبانيه ... من أكابر ... بأن عمري يكون من أربعين إلى خمسين سنة ، ووجد في مراكش الشيخ أحمد المعيوب على مقتضى كتب الأحكام أنا نعيش ست وستين سنة ، واليوم بلغت إلى أربع وسبعين سنة قمرية ...

(١٥٠) «ب» : العجمية.

(١٥١) «ب» : جاء بها من بلدها إلى بلاد الفرنج.

(١٥٢) «ب» : وقالت أنها كانت تقرأ بالعربية.

(١٥٣) «ب» : بالقسطنطينية.

١٠٧

وسيأتي الكلام في شأنهما. فمشينا من بريش إلى مدينة روان ، ثم منها إلى مرس البركة أين كان نزولنا من البحر حين جئنا إلى بلاد الفرنج ، وركبنا البحر ، ومشينا إلى فلنضس ، وبلغنا في أربعة أيام أو أكثر. وكنا في مرورنا ذاهبين إلى جهة القطب الشمالي. وبلاد فرنجة عن يميننا ، وبلاد الأنجليز عن يسارنا. ونرو البرين في بعض المواضع.

١٠٨

الباب الحادي عشر

في ذكر بلاد فلنضس

اعلم أننا مشينا ، وقصدنا تلك البلاد. وهي أبعد عن بلادنا من بلاد الفرنج.

ولكن ينبغي للإنسان أن يستعيذ (١٥٤) من غيره ، أو من نفسه. وما رأيت ، وتحققت من عمل الفرنج البحرية مع المسلمين ، قلت : لم نولّي إلى بلادنا (١٥٥) في سفنهم؟ بل نمشي إلى فلنضس ، لأنهم لا يضرون المسلمين ، بل يحسنون إليهم ، كما سيأتي. ولما أن بلغنا إلى مدينة مسترضام ، رأيت العجب في حسن بنياتها ، ونقائها ، وكثرة مخلوقاتها ، كاد أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش بفرنجة. ولم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها. قيل أن في جميع سفنها ، صغارا وكبارا ، ستة آلاف سفينة. وأما الديار ، كل واحدة مرسومة ، ومزوقة من أعلاها إلى أسفلها بالألوان العجيبة. ولن تشبه واحدة أخرى في صنع رقمها. والأزقة كلها بالأحجار المنبتة.

والتقيت بمن رأى بلاد المشرق ، وبلاد الصقالبة ، ورومة ، وغيرها من بلاد الدنيا. قال لي إنه ما رأى مثلها في الزين والملاحة. واعلم أن هذا فلنضس ، هي سبع عشرة جزيرة ، وجميعها كانت لسلطان بلاد الأندلس. وبعد أن ظهر في تلك البلاد رجل عالم عندهم يسمى بلطري (١٥٦) ، وعالم آخر يسمى بقلبن (١٥٧) ، وكتب كل واحد منهما ما ظهر له في دين النصارى عن التحريف ، والخروج عن دين سيدنا عيسى ، والإنجيل ، وأن البابا برومة يضلون الناس بعبادة الأصنام ، وبما يزيدون في الدين ، بمنع القسيسين ، والرهبان من التزويج ، وغير ذلك كثير. ودخل في هذا المذهب جميع أهل فلنضس ـ أعني الجزر السبعة ـ ، وقاموا على سلطانهم إلى الآن. وهم أيضا على

__________________

(١٥٤) «ب» : يستفيد.

(١٥٥) «ب» : بلدنا.

(١٥٦) Luther.

(١٥٧) Calvin.

١٠٩

هذا المذهب أهل سلطنة الأنجليز. وكثير منهم بفرنجة ، وحذرهم علماؤهم من الباب ، ومن عبّاد الأصنام ، وأن لا يبغضوا المسلمين لأنهم سيف الله في أرضه على عباد الأصنام. وبسبب ذلك لهم ميل إلى المسلمين.

وأما السبعة عشرة جزيرة ، فالسبع منها قامت على سلطان بلاد الأندلس قبل هذا العهد بنحو السبعين سنة. وما قدر عليهم حتى يئس منهم. وهم أقوى من جميع النصارى في البحر بالسفن. وكل جزيرة البحر دائر بها من كل جانب ، وهو المحيط (١٥٨). ولما دخلنا مدينة ليدا (١٥٩) رأينا فيها مدارس لقراءة العلوم. ووجدت فيها رجلا كان يقرأ بالعربية ، ويقرئ بها غيره ، ويأخذ راتبا على ذلك ، وكنت عرفته بفرنجة ، وحملني إلى داره ، وكان يتكلم معي بالعربية ، يعرب الأسماء ، ويصرف الأفعال. وكان له كتب كثيرة بالعربية ، ومن جملتها القرآن العزيز ، فأخذنا في الكلام ، وهو يثبت قوله بالتثليث في الألوهية ، لأنهم متفقون في ذلك مع الباب وأتباعهم (١٦٠). وكان يشكر ويمدح دينه كثيرا بالمدح التام لسيدنا عيسى. قلت له كلما تقول فيه من خير ومدح ، فنحن متفقون معكم فيه ، إلا قولك أنه إله ، أو ابن الله حقيقة. وذكر أيضا الروح القدس ، قلت له : الروح القدس هو البّارقليط المذكور في الإنجيل ، قال : نعم ، هو قلت له : أنت تعرف الألسن واللغات ، ما معنى البارقليط؟ قال : هي كليمة ليست من لغة اللّطين ، إنما هي من لغة اليونان ، ومعناها بالعربية شفيع. قلت له : هذا من أسماء نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا اسم يدل على اسم شخص ، قال : نعم قلت : ولماذا تجعلونه إلها ، وتقولون ثلاثة وواحد معنى شيء واحد.

ثم جاء رجل حكيم مشهور في الطب والعلوم قال لي : نحن عندنا القرآن مترجم باللطين ، وليس فيه معجزات لنبيكم كما عندنا في الإنجيل ، وقال : هل عندكم

__________________

(١٥٨) «ب» : وكل جزيرة من السبعة في البحر المحيط وهو داير بها من كل جانب وهو ليس بمالح كثيرا.

(١٥٩) Leyde.

«ب» : فلما دخلنا مدينة ليدا والتقينا فيها رجلا يقرأ بالعربية ويقرئ بها غيره.

(١٦٠) «ب» : مع الباب وأهل مذهبهم.

١١٠

كتب في معجزات نبيكم ، قلت : عندنا وواحد من الكتب المشهورة في ذلك للقاضي عياض ، وذكرت له شيئا ، وإن عندنا في ذلك كتب كثيرة ، وكان (يعملها بحضرة أقوام كثيرة. ولما رأت الناس فضله ، وبركاته ، وصدقه في القول والفعل ، وتوحيده ، مع أنه لم يعرف يقرأ ، فدخلت الناس في دينه ، والله تبارك وتعالى ينصر الحق ، حتى أظهر دينه ، على الأديان ، وأكثر معمور الدنيا على دينه. قال الحكيم : والله إننا تمنيت نقرأ هذا الكتاب. ثم قال : هذه المعجزات فيها احتمالات ، لن كثيرا يصنعون مسائلا بواسطة الشيطان ، قلت : وليس في علمكم بما تفرقون بين المعجزة النبوية الربانية أو الشيطانية المستعملة أو بالشعوذة؟ قال لي : اذكر لي أنت كيف يعرف ذلك؟ قلت : أما النبي فلم يعمل معجزة إلا إذا طلبت منه غالبا ، وينتج منها نفع باطن وظاهر. أما الباطن : حصول اليقين في القلوب ، والصدق لما ذكر لهم (١٦١) من جانب الله تعالى ، وأمرهم به (١٦٢) ، ونهاهم عنه. وأما الظاهر يكون فيه نفع ظاهر للناس (١٦٣). مثال ذلك أن يغيث جيشا من مخلوقات الله تعالى بالماء أو بالطعام ، ولو لم يفعل ذلك لماتوا جميعا ، كما وقع لنبينا مرارا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا نفع ظاهر ، أو يطلب المطر ، أو يشفي مريضا. وأما ما يكون مستعمل من الشيطان فإنه لا يعود النفع إلا على خاصة نفسه لا لغيره. وأما بالشعوذة فإنهم يصنعون ذلك من غير أن يطلب منهم ولا يحصل منها نفع حقيقي أبدا ، لا ظاهرا ، ولا باطنا. وهم الذين يجذبون ليروا ما يعملونه. وإذا طلبهم أحد أن يصنعوا شيئا من خوارق العادات غير الذي يظهرون ، فلا يقدرون عليها. وصاحب الشعوذة يعمل العجائب لعله بذلك يفرح الناظرين ، ويعطونه شيئا يعيش به ، ولو قيل له : علمني هذا الذي أنت تعمله وأعطيك دراهم فيعلمه حتى يكون مثله في العمل حينئذ. قال الحكيم : صدقت فيما قلت ، هذا هو الحق.

وبعض العلماء هنالك اتوني بكتاب عربي قالوا لي : أتعرف تقرأ هذا؟ فلما

__________________

(١٦١) «ب» : للناس.

(١٦٢) «ب» : وأمرهم به.

(١٦٣) «ب» : وأما الظاهر يكون النفع للناس.

١١١

طالعته ، كان يتكلم في التصوف وأن بعض الصالحين لم يتكلم في الجامع مع أحد من الناس ، وإذا احتاج أن يرد الجواب يخرج إلى باب الجامع ويرده. قلت لهم : فهمت ما فيه ، وأقدر أن أترجمه بالأعجمية. فتعجبوا فيما بينهم ، وقالوا لي : هذا الكتاب ساقوه من جزيرة كذا من الهنود المشرقية التي بيننا وبينها في البحر زمن طويل ، أقل من سنة في البلوغ إليها. وهذا عجب ، لأن بين بلادك وبينه شيء كثير ، وأنت تفهم ما في الكتاب ، وهذا يدل على أن العربية لسان واحد عام في كل بلد ، وكلامنا في هذه البلاد مختلف لسائر الألسن ، لأن في بلاد الأنجليز كلام واحد ، وأهل فرنجه بلغة أخرى ، وكذلك ببلاد الأندلس عجمية أخرى ، وكذلك في إيطالية ، وألمانية ، ومشقبيه (١٦٤). وكل لسان مختلف عن غيره ، وهذه العربية واحدة في الدنيا. وقالوا الحق في ذلك ، فهو كلام مبارك ، ومن يتكلم بها لا بد يذكر الله ، ولذلك كان يقول بعض من الأندلس : لا عربية بلا الله ، ولا عجمية بلا شيطان ، لأن النصارى يذكرونه كثير في كلامهم. ولا يكره العربية ، والكلام بها إلا من لا يعرف فضلها وبركتها (١٦٥) ، انتهى (١٦٦).

ثم مشينا من مدينة ليذا إلى مدينة الهايه (١٦٧) ، فيها دار أميرهم ، والديوان. والتقيت هنالك برسول الأمير. كنت عرفته بمراكش ، وكان شاكرا إلي كثيرا على ما وقفت معه في سجنه حتى خلصته منه. وسبب قدومه إلى مراكش أن سلطان بلاد الأندلس بعث الأغربة إلى الجزر التي قلنا أنها على غير طاعته ، فخرج إليهم أهل الجزر ، وأخذوا الأغربة ، ورموا من كان فيها من النصارى في البحر ، كذا قيل. وفكوا كل من كان فيها من المسلمين ، وكانوا أكثر من ثلاثة مائة ، وجعلوهم في سفينة عظيمة ، وبعثهم أهل فلنضس هدية إلى سلطان مراكش ، وكان ابن مولاي أحمد ،

__________________

(١٦٤) «ب» : ومسقوبيه.

(١٦٥) «ب» : فضلها قالت الصالحة مريم عليها‌السلام في كتاب مواهب الثواب لعباد الله المؤمنين فضل لسان العربية على ساير الألسن كفضل الشمس على دراري السماء ثم مشينا إلى النهاية.

(١٦٦) كتب في الطرة : وصح من هذا الكتاب العربي الذي ... أنهم سكان مسلمون.

(١٦٧) La Haye.

١١٢

اسمه أبو فارس ، وكان ذلك في نحو أربعة عشر سنة وألف. ومشى بهم رسولا بدرمرتين الذي التقيت به من غير ظن ، وذلك بإلهايه ، وهي بلاده. وبعد أن جلس هذا الرسول بمراكش سنين في زمن الهرج والشر ، ثم ثبت في المملكة السلطان مولاي زيدان ، فسجن هذا الرسول ، لأنه ما مشى بالهدية في زمانه ، وبعد أن جاز زمن على الرسول في سجنه ، بلغني الخبر ، وتذكرت الخير الذي عملوا للمسلمين حين بعثوهم هدية إلى ملتهم. وقفت ، ودبرت ، وكلمت ، المفتي العالم الشهير محمد أبا عبد الله (١٦٨). وكلم السلطان وانطلق من السجن ، فلما أن زارني ببلاده مشى إلى الأمير ، وأعلمه ، وحملني إلى عنده ـ واسم الأمير مورسي ـ وأقبل علي ، وعرّ رأسه ، وأخذ بيدي ، وأجلسني معه ، وزرته أربع مرات. وبعد أن جلست يوما قال لي : ماذا تعرف من الألسن ، قلت له : العربية ، ولسان إشبانية ، ولسان أهل برتغال ، وكلام الفرنج نفهمه ولكن ما نعرف نتكلم به. قال لي : فأنا نعرف كلام الفرنج ، ونفهم كلام إشبانية ـ وهو كلام أهل بلاد الأندلس كما قلنا مرارا ـ ولا أعرف أتكلم به ، وإلى هذا فأكلمك بالفرنج ، وتكلمني بلسان أهل بلاد الأندلس العجمي ، قلت : نعم ، قال لي : ما السبب الذي ظهر لك حمل سلطان إشبانية على إخراج الأندلس من بلاده ، قلت : اعلم أن الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى ، ولكن تارة يظهر عليهم الإسلام ، ويحكمون فيهم ، ولما تحقق منهم ذلك لم يأمن فيهم ، ولا كان يحمل منهم أحدا إلى الحروب ، وهي التي تفني كثيرا من الناس ، وكان أيضا يمنعهم من ركوب البحر لئلا يهربوا (١٦٩) إلى أهل ملتهم ، والبحر يفني كثيرا من الرجال ، وأيضا في النصارى كثيرون قسيسون ، ورهبان ، ومترهبان ، ومترهبات ، وبتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل ، وفي الأندلس لم يكن فيهم قسيسون ولا رهبان ولا مترهبات ، إلا جميعهم يتزوجون ، ويزداد عددهم بالأولاد ، وبترك الحروب ، وركوب البحر. وهذا الذي ظهر لي حمله على إخراجهم ، لأنهم بطول الزمن يكثرون ، ثم

__________________

(١٦٨) يقصد محمد بن عبد الله الرجراجي (المتوفى سنة ١٠٢٢ ه‍ / ١٦١٤ م) انظر ترجمته عند : م. حجي ، الحركة ، ٢ : ٣٨٩ ، والمصادر بالهامش ٤١ من نفس الصفحة.

(١٦٩) «ب» : يهربون.

١١٣

قلت له : أتفهم كلامي ، قال لي بالفرنج : كلما قلت فهمته ، وما ذكرت هو الحق. قال لي لو اتفقنا مع كبراء الأندلس ، ونبعث لهم عمارة من سفن كبيرة ليركبوا فيها مع جنودنا نأخذ إشبانية ، قلت : لا يمكن للأندلس أن يتفقوا على هذا إلا بإذن السلاطين الذين خرجوا ببلادهم وسكنوا بها ، قال : لو كنا نتفق مع سلطان مراكش ، ونبعث للسيد الكبير ـ أعني السلطان الأعظم ، سلطان الإسلام والدين ـ ونتفق جميعا على سلطان إشبانية نظفر به ، ونأخذ بلاده ، قلت له هذا أمر عظيم لو حصل ، وفي تحصيله شك. وأما لو كان هذا الاتفاق ، فيأخذون بلاد الأندلس ـ أعادها الله إلى الإسلام ـ وقال للرسول : أكتب رمزا في الحروف ، واعطه نسخة ، لتكون المكاتبة بيننا وبينه. وأعطاني نسخة ، ثم قال لي : تمنى علي ، معنى هذا القول : اطلب ما تحب مني ، وهي عادة عند ملوك النصارى ، أن قالوا لإنسان أطلب مني ما شئت : إنهم يعطونه ما يطلبه منهم ، ولا يقولون ذلك إلا نادرا ، لمن رضوا عنه عامة الرضا. قلت في نفسي النصارى تقول عن المسلمين أنهم طماعون كثيرا في متاع الناس ، وهذا لم ير من المسلمين إلا قليلا منهم ـ وأنا أحدهم ـ وليعلم ويتحقق أن الذي يقولونه فيهم ليس بصحيح ، ولمن فيهم من لا يطمع في ماله ، فلا نطلب منه مالا ، قلت له : أطلب من فضلك مسألة أو شيئا ، قال : ما تطلب ، قلت : أن توصي بنا رايس السفينة التي نمشي فيها ، قال : هذا فقط ، قلت : نعم ، فابحث حتى تتحقق من السفينة التي تمشي ، واعرف إسم الرايس ، وأيضا إسم التاجر مولا السفينة ، واتني. فأخبرنه بأسمائهما ، وأمر الكاتب للسر (١٧٠) أن يكتب لكل واحد براة بالوصية علينا ، وعلم عليها ، وفرح كل واحد بكتابه ، فالتاجر استعمل لنا من السكر أنواعا من الأطعمة ، وأعطانا حتى التمر التي هي غريبة عندهم ، لأنها مجلوبة من بلاد المسلمين ، إذ ليس هي في الدنيا ، إلا في بلادهم. وأما الرسول الذي فرح بي في بلاده قلت له : إن (١٧١) تركيتين ببلاد الفرنج ببريش ، واتفق لهما بأن دخلنا في دين النصارى ، وطلبتا مني أن أدبر عليهما حتى ترجعا إلى بلاد المسلمين ، وأنا راجع

__________________

(١٧٠) «ب» : لكاتب سره.

(١٧١) «ب» : قلت له اعلم أن.

١١٤

إلى مراكش في هذه الأيام ـ إن شاء الله تعالى ـ ، وكيف يكون التدبير عليهما ، قال : اكتب لهما تأتيان إلى داري ، وأنا أدبر عليهما حتى ترجعا إلى بلادهما. وكتبت لهما بذلك ، وبعثت البراة إلى رجل أندلسي ، وبلغها لهما ، وسترهما الله تعالى في الطريق من الفرنج حتى بلغتا إلى فلنضس. ووقع التدبير مع الأمير (١٧٢) ، وبعثهما في سفينة تجار إلى اصطنبول ، وبلغتا سالمتان. وصنع معهما ذلك بعد أن مشيت من تلك البلاد ولا رأيتهما ، والخير يأتي بخير. وأما الرايس كان يفرح بنا في سفينته ، وذلك مقصودنا.

وأما مدينة إلهاية التي كان فيها الأمير ، فعرضها اثنتان وخمسون درجة ، وذلك في إقليم السادس من الدنيا. وأصابنا الحال ونحن فيها أطول أيام العام عند حلول الشمس بالسرطان ، وليس طول الشمس وغروبها كهذه البلاد ـ أعني مصر والمغرب والشام وبلاد الأندلس ـ. فاليوم هنا لك من أول الفجر من نحو سبعة عشرة ساعة بتقريب ولا ظلمة في الليل إلا قليلة ، وغروب الشمس ثم بعد ذلك بساعة ونصف بتقريب نصلي الصبح.

ويطول الكلام على ما رأينا بفلنضس ، ذكرنا شيئا (١٧٣) في الرحلة ، وأيضا حكاية

__________________

(١٧٢) زيادة في «ب» : «بواسطة الرسول وكان قد قال لي الرسول إن المسلمين الذين وجدوا في بلدهم في الأغربة حين أراد الأمير أن يبعثهم هدية إلى بلاد المسلمين جاء التجار إليه وقالوا له أن يبيع لهم المسلمين ليفدوا بهم نصارى أسارى عند المسلمين ، قال لهم : نبعثهم هدية للمسلمين ليعملوا الخير مع أهل بلدنا الذين يردون عليه. حينئذ قالوا : المسلمون طماعون ولا يرون الخير. قال لهم : إن لم يكن فيهم واحدا من يرى بهذا الخير لوجه هاذا الواحد نعطي هؤلاء الأسارى كلهم. ولما أن وقفنا مع الرسول في مراكش حتى خرج من السجن وردوا له حصانه وغير ذلك قال إنه كتب للأمير وأخبره وقال له هاذاك الواحد الذي قلتم إنه يرى بالخير الذي عملتم مع المسلمين الذين بعثوني بهم قد ظهر. وذكر ذلك الخير حتى بلغ السلطان وأطلقني من السجن ، ولنكذب التجار الذين قالوا العيب في المسلمين ما درات نطلب شيئا من المال ورضى المسلمين عندي أفضل من كل متاع الدنيا».

(١٧٣) «ب» : ذكرنا شيئا من ذلك في الرحلة.

١١٥

الستة رجال (١٧٤) الذين جاءوا في سفينتهم من البحر الذي يكون فيه اليوم من ستة أشهر أو قريبا من ذلك ، لا ليل فيها. وبعكس ذلك في زمن الشتاء لا شمس فيها من مثل ذلك الزمن الشتاء (١٧٥).

وأما ما ذكرته في هذا الباب مما جوبت به للأمير في شأن الأسباب التي حملت لسلطان النصارى على إخراج الأندلس من بلاده ، فنذكر هنا شيئا ، ولم نذكر في النسخ التي سبقت لهذا المختصر.

اعلم أن سلطان البلاد المسمى بفلبّ الثاني ، من اسمه ، أعني ممن سمي من السلاطين بفلب. وبينت هذا لأني طالعت بعض كتب التواريخ للمسلمين فيما وقع لهم من الحروب مع سلطان البلاد المسمى بألفنش ، ولم يبينوا أيهم كان ، لأن ببلاد الأندلس كان فيها أكثر من اثنا عشر سلطانا من سمي بألفنش ، إلا أنهم يذكرون كل واحد بحسابه من الاسم ، مثل أن يقولوا ألفنش الرابع ، أو الثامن ، أو العاشر. والمؤرخون المسلمون لا يذكرون درجة للاسم. وهذا فلب الثاني أمر في بلاده كلها قبل خروجي منها أن يزمّموا (١٧٦) جميع الأندلس صغارا وكبارا ، حتى التي في رحم النساء بظهور الحمل. ولا علم أحد السر في ذلك.

ثم بعد ذلك بنحو السبع عشرة سنة عملوا زماما آخر مثل الأول ـ كما أعلموني بمراكش ـ ولم يدر أحد السر في ذلك حقيقة. ولكن قال لسان الحال أنهم أرادوا يعلموا هل كانوا في زيادة م لا؟ ولما وجدوا زيادة كثيرة أمروا بقرب ذلك بإخراجهم. وكتب السلطان فلب الثالث ـ من اسمه ـ كتابا لقريبه ، وخليفته بمدينة بلنسية يأمره أن يشرع في إخراج الأندلس وترجمت نسخة من البراءة للسلطان مولاي زيدان ابن السلطان مولاي أحمد بمراكش. وكان تاريخ الكتاب ـ والله أعلم ـ في أول عام ثمان

__________________

(١٧٤) «ب» : وأيضا حكايات ستة رجال.

(١٧٥) هناك زيادة في «ب» : «إنه لا يرى فائدة في ذكرها ، لأنها تشوش على النص الأصلي ، وبالتالي لا يستقيم معها معنى».

(١٧٦) يزمموا : يسجلوا ، والكلمة مستعملة في العامية المغربية.

١١٦

عشرة وألف من الهجرة (١٧٧).

قال فيه (١٧٨) :

«مركش ذا قرسنا (١٧٩) ، قريبنا ، وخليفتنا في سلطنتنا ببلنسيه. سلام.

قد علمت ما صنع ، وعمل مع النصارى الجدود الأندلس أهل تلك السلطنة ، وقشتالة على طول السنين الكثيرة الماضية من التحريض ، والإرشاد لإثباتهم في ديننا المجيد وإيماننا. ولا نفع معهم قليلا ولا كثيرا لأنه لم يجد فيهم واحد من هو نصراني حقيقة. والغرر والشر الذي يمكن أن يحدث بسبب ما تعامينا عليهم ، قد ذكره إلينا رجال وصلحاء ، وأنه لزمنا إصلاح ذلك الأمر ، لنرضي به الله ، ونزل غضبه من أجل هذه الأمة ، وأفتوا فيهم أنه يجوز لنا من غير شك أن نعاقبهم في أنفسهم وأموالهم ، لأن الاستمرار على سوء أفعالهم ختم وحكم عليهم أنهم منافقون ، وأعداء للمقام الإلهي والإنساني (١٨٠) ، وهب أننا قادر على أن نجزيهم ونعاقبهم بما أوجب سوء فعلهم ولومتهم. فمع ذلك اخترت معاملتهم على طرق الحلم واللين ، وترك المؤاخذة. وبسبب ذلك أمرنا باجتماع المحفل الذي حضرت فيه مع العلماء والأكابر في تلك المدينة لعلي نجد سبيلا لترك إخراجهم من مملكتنا. ونحن في هذا تحققنا ، وصح من وجوه ، أنهم بعثوا للتركي الكبير بإصطنبول ، ومولاي زيدان بمراكش رسلهم يطلبون منهم أن ينجدوهم ، وأنهم عندهم مائة وخمسون ألف رجلا مسلمون مثل الذين ببلاد المغرب الإفريقية. وأيضا بعثوا لأعدائنا البحرية بالجهة الشمالية التي تحت القطب ، وأنعموا أنهم يعينهم بسفنهم. وأما سلطان إصطنبول قد اصطلح مع سلطان الفرس ، لأنه كان يشغله ، وأما سلطان مراكش فقد عزم على تدويخ البلاد وتسكينها. وإذا اتفقوا جميعا مع هؤلاء نرو نفوسنا في الأمر الذي لا يخفى. وللقيام بما لزمنا من حفظ مملكتنا ، ودفع ما يعرض لها اتفق نظرنا ـ بعد أن دعوت الله وأمرت

__________________

(١٧٧) «ب» : من حسابنا.

(١٧٨) انظر النص الإسباني عند : M.G.Arenal ,Los Moriscos ,pp.١٥٢ ـ ٥٥٢.

(١٧٩) Marques de Carazena.

(١٨٠) «ب» : هنا يبدأ سقط آخر في «ب».

١١٧

بالدعاء له طامعا ، ومتوكلا في تأييده ونصره لما يجب لمجده وفضه ـ على إخراج جميع الأندلس الذين هم في تلك السلطنة لأنهم أقراب للغرر وللانجاز بذلك أمرنا بإشهار هذا الأمر وينادى به.

فأولا يعرف منه أن جميع الأندلس التي في تلك المملكة رجالا ونساء ، بأولادهم في ثلاثة أيام من شهرة هذا الأمر بالبلاد التي هم ساكنون ، أن يخرجوا ويمشوا ليركبوا البحر في الموضع الذي يومر به ، وأن يحملوا من العروض والأثاث ما يستطيعون عليه ، ليركبوا في السفن والأغربة التي هي موجودة لحملهم إلى بلاد المغرب ، وينزلونهم من غير مضرة لأحد في النفوس والأموال ، ويعطونهم ما يحتاجون إليه من الطعام ما داموا فيها. ومن أراد أن يحمل لنفسه ما يقدر عليه فليفعل. ومن يتعدى عن هذا الأمر فليقتل في الحين.

وإن كل من يوجد بعد ثلاثة أيام التي ينادى بالأمر خارجا عن بلده ، يجوز لكل من لقيه أن ينهب ما عنده ، ويسلمه للحكام وإن امتنع يجوز له قتله. وإن كل من سمع النداء لا يخرج من بلده إلى غيره حتى يمشي مع من يقودهم إلى ركوب البحر.

وإن كل من يدفن شيئا من أمتعته إن لم يستطع الرّفود معه ، أو يحرق شيئا من الزرع أو الأشجار ، أن يقتل على ذلك ، وأمرنا جيرانه بتنفيذ الحكم فيهم.

ولما يصلح بالبلاد في معاصر السكر ، والروز ، وسقي البلاد ، ليعلموا السكان الجدد أمرنا بقعود ستة من الأندلس بأولادهم الذين لم يتزوجوا في كل بلد يكون من مائة دار ، والأمر في ذلك لسيدهم ، فهو لمول كل بلد ، ويكون من الفلّحين القدماء الذين ظهر عليهم القرب والميل لديننا ، ويرجى فيهم الثبات عليه.

وإن الرماة والنصارى القدما لا يأخذون شيئا من أموالهم ، ولا يقربوا إلى نسائهم وأولادهم ، ولا يكتم منهم أحدا في داره ، ومن يفعل ذلك يجعل في مقدف الأغربة ست سنين ويزداد على ذلك ما يظهر لنا.

وليعلموا أن السلطان (١٨١) ما مراده إلا إخراجهم من بلاده إلى بلاد المغرب ، فلا يضرهم أحد بوجه من الوجوه ، وأنه ينفق عليهم ، ويحملهم في سفنه ، وإذا بلغوا ،

__________________

(١٨١) «ب» : هنا ينتهي السقط في «ب».

١١٨

فليرجعوا عشر منهم ليعلموا لغيرهم. وكبراء الأغربة والسفن فليعلموا بهذا الأمر.

وإن الصبيان والأيتام من أقل من أربع سنين ، وإذا أرادوا القعود برضاء وكلائهم والأوصياء ، فليقعدوا.

وإن الصبيان الذين يكون أولاد نصارى لا يخرجوا ، ولا لأمهاتهم معهم ، وإن كانت أندلسية. وإن كان أبوهم أندلسي وأمهم نصرانية فتقعود (١٨٢) المرأة بأولادها التي من ستة فأقل ، وهو يذهب ويخرج».

وشهر هذا الأمر ونودي به في الثاني والعشرين من شهر شتنبر من عام تسع وست مائة وألف من ميلاد سيدنا عيسى عليه‌السلام (١٨٣) ، انتهى.

وبعد أن خرجوا أهل سلطنة بلنسية ، فأمر بالخروج للذين كانوا بالأندلسية وغيرها من البلاد القريبة إليها أن يخرجوا. وبعد أن اكتروا السفن ـ وهم في واد إشبيلية ـ بعث السلطان أمرا عكس الأول ، وقال : إن كل من اكترى سفينة ليمشي لبلاد المسلمين أن يأخذوا لهم كل من كان من أقل من سبع سنين من الأولاد والبنات ، وأخرجوا كل من كان في عشرين سفينة. وأخذوا لأهل الحجر الأحمر نحو ألف من الأولاد. وكل من جاز على طنجة ، وسبتة ، فأخذوا لهم أولادهم مثل الآخرين. والله تعالى قادر على أخذ الحق منهم في الدنيا على يدي من فضله الله واختاره من سلاطين المسلمين (١٨٤).

__________________

(١٨٢) «ب» : فتقعد.

(١٨٣) «ب» : ثم بعد ذلك أمر أمرا عكس هذا الذي فرغنا منه إن كل من يكري سفينة للخروج في بلد المسلمين يأخذ أولاده كل من كان من نحو العشر سنين أو سبعة وأخذوا منهم شيئا كثيرا من الأولاد والبنات وأخرجوا من عشرين سفينة كل من كان فيها من الأولاد وأخذوا لأهل الحجر الأحمر.

(١٨٤) «ب» : إنه على ذلك قدير إنه نعم المولى ونعم النصير.

١١٩

الباب الثاني عشر

فيما اتفق لنا في مصر مع راهب عالم كان بالغا

في فنون العلم ويقرأ بالعربية وأيضا ما وقع لي من المكاتبة لراهب من

أكابر علماء النصارى بمراكش

وذلك أنه جاء في البحر في سفينة من الهنود ، قاصدا إلى بلاد الأندلس ، ليحضر في الديوان الكبير للقسيسين ، ليبعثوا الرهبان لأقطار الدنيا (١٨٥) ، كما هي من عادتهم ، لأنهم لا يتركونهم (١٨٦) للسكنى في البلاد التي يمشون إليها ، إلا نحو العامين أو ثلاث (١٨٧) ، ثم يرحلونهم (١٨٨) إلى بلاد غيرها. ورايس السفينة جاء إلى مرسى أزمور من بلاد المسلمين ، وظن أنها من بلاد النصارى ، ودخل فيها وبقي أسيرا هو وجميع من كان في السفينة ، ومن جملتهم الراهب الكبير ، وأتوا [ا] بالجميع إلى مراكش ، وقبل أن جاء ، كنت تكلمت مع السلطان مولاي زيدان ـ رحمه‌الله ـ في فداء راهب أسير ، ودفع المال في فدائه ، وذهب إلى بلاده ، وفرحت بذلك ، بأنه كان يثبت كل من يسلم من النصارى في دين الكفار في خفاء من الناس ، ولو تحقق سلاطين المسلمين من سوء فعل القسيسين ، والرهبان ، وأنهم يحتالون على أكثر من يرجع مسلما من النصارى ليرتد في خفاء عن دين الإسلام ، وأن يكون عدوا للمسلمين ، لا يتركون أبدا واحدا منهم في بلادهم. وهذه نصيحة مني إليهم. وما قلت فيهم فهم صحيح لا شك فيه. ثم إن الراهب الذي جاء من الهنود بلغه الخبر بأني تكلمت في فداء الراهب الذي كان قبله وانفدا ، ومشى. وبعث لي كتابا

__________________

(١٨٥) «ب» : لأقطار بلدهم.

(١٨٦) «ب» : لا يتركون.

(١٨٧) «ب» : أو ثلاث سنين.

(١٨٨) «ب» : يرحلون.

١٢٠