الأساس في التفسير - ج ٢

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٢

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٥

١

نحن نعتقد أن هذا التفسير انفرد بنظرية جديدة في فهم الوحدة القرآنية ـ في علمنا ـ فلقد كان المفسرون على اتجاهات متعددة في هذا الموضوع ، بعضهم أهمله كلية ، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود وحدة السورة ، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود الوحدة الموضوعية الكلية للقرآن ، بمعنى أن المعاني القرآنية تتكامل ولا تتعارض ، وبعضهم تكلم فيه من حيث إن نهاية السورة السابقة لها صلة ببداية السورة اللاحقة ، ونحن مع ملاحظتنا لهذا كله نرى أن هناك شيئا آخر قد غفل عنه المفسرون وحاولناه في هذا التفسير ، ونعتقد أن هذه هي الميزة لهذا التفسير ، إذ ما من شىء فيه إلا ويمكن أن يشاركنا فيه غيرنا ، فإذا زاد في جانب فلربما نقص في جانب آخر ، ولقد تحدثنا في مقدمة المجلد الأول عما استهدفناه في هذا التفسير بل في السلسلة كلها فلا نعيده.

وفي سورة البقرة حاولنا قدر الإمكان أن نبرز وحدة السورة ، ولكنا من سورة آل عمران سنحاول أن نبرز وحدة السورة مع إبرازنا لصلة هذه السورة في السياق القرآني العام ، فلقد مر معنا من قبل أنه من خلال السنة ، ومن خلال المعاني يتضح لنا أن هذا القرآن أربعة أقسام : قسم السبع الطوال ، وقسم المئين ، وقسم المثاني ، وقسم المفصل ، وأن قسم السبع الطوال ينتهي بنهاية سورة براءة ، فهذا القسم في الحقيقة ثمانية سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة.

ومر معنا أن الأنفال وبراءة تشبهان أن تكونا سورة واحدة ؛ ولذلك فإنه لم يفصل بينهما بالبسملة.

وكنا ذكرنا كذلك من قبل ، أن السور اللاحقة لسورة البقرة من قسم الطوال ، تفصل في المعاني التي وردت في سورة البقرة. فمما ذكرناه هناك أن آل عمران. تقابل الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ، وكما أن هذه الآيات مبدوءة ب (الم) ، فإن «آل عمران» مبدوءة ب (الم) ، وكما أن هذه الآيات مختومة بكلمة الفلاح : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فإن سورة آل عمران مختومة بكلمة الفلاح : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)

وعلى هذا ، فسورة آل عمران تلقي أضواء التفصيل على الآيات الأولى من سورة البقرة. وسورة النساء تقابل بعد ذلك في سورة البقرة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ونلاحظ أن سورة النساء مبدوءة ب

٢

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً.) وليلاحظ الشبه بين آية البقرة وبداية سورة النساء. والمائدة بعد ذلك تقابل في سورة البقرة : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ....) ونلاحظ أن سورة المائدة مبدوءة ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). والأنعام بعد ذلك تقابل في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ....) ويلاحظ أن سورة الأنعام مبدوءة بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ...) والأعراف بعد ذلك تقابل في سورة البقرة : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.) ويلاحظ أن سورة الأعراف مبدوءة بقوله تعالى : (المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ....) والأنفال وبراءة ـ وهما في موضوع واحد ـ يقابلان في سورة البقرة قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ....) بعد آية فرضية القتال ، ويلاحظ أن سورة الأنفال مبدوءة بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ....) ثم يكون مضمون سورتي الأنفال وبراءة في معاني القتال.

فأنت تلاحظ ملاحظة أولية ـ ستتضح لك فيما بعد ـ أن هذه المجموعة تلقي أضواء على آيات في سورة البقرة بنفس الترتيب الموجود في سورة البقرة ، ومن ثم ندرك بعضا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سورة البقرة : «إن كادت لتستحصي الدين كله» وندرك سرا من أسرار الإعجاز في هذا القرآن العظيم. وسيتضح لنا من خلال تفسير بقية السبع الطوال هذا المعنى بشكل أعمق.

على أن هذا التفسير وإن كان يركز على موضوع الوحدة القرآنية ، والسياق القرآني العام ، فهو كذلك يركز على وحدة السورة ، وعلى إبراز سياقها الخاص ، بل إن هذه النظرية التي اعتمدناها في موضوع الوحدة القرآنية ، أعطت السياق الخاص لكل سورة آفاقا جديدة.

إن لهذا القرآن ملامح عامة مشتركة ، وله وحدته وترتيبه ، ثم إن لكل سورة من سوره ملامحها الخاصة بها ، وسياقها الخاص بها ، وقد عبر صاحب الظلال عن

٣

الشخصية الخاصة لكل سورة آنق تعبير ـ وهو يتحدث عن إحدى السور ـ بقوله :

«إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا .. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة ، أن تتجمع الموضوعات في كل سورة ، وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها ، تبرز فيه ملامحها ، وتتميز به شخصيتها كالكائن الحي المميز السمات والملامح ، وهو ـ مع هذا ـ واحد من جنسه على العموم.

ونحن نرى في هذه السورة ـ ونكاد نحس ـ أنها كائن حي ، يستهدف غرضا معينا ، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل .. والفقرات والكلمات في السورة ، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها ـ كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن ـ إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي ، المعروف السمات ، المميز الملامح ، صاحب القصد والوجهة ، وصاحب الحياة والحركة ، وصاحب الحس والشعور!» ا ه.

وسنحاول في هذا التفسير ، أن نبذل جهدا متوازنا ، لإبراز الوحدة القرآنية والسياق العام ، مع إبراز وحدة السورة وسياقها الخاص ، مع محاولتنا تفهيم القرآن بالقدر المستطاع لنا ، مع التركيز على قضايا بعينها ، وعلى ضوء ذلك ، نسير على بركة الله ـ عزوجل ـ وهذا أوان الشروع في السورة الثانية من قسم الطوال.

٤
٥

٦
٧

كلمة في سورة آل عمران :

كنا لاحظنا ملاحظة مبدئية ، أن الآيات الأولى في سورة البقرة ، بدأت بقوله تعالى : (الم). وأن تلك الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة ، انتهت بقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.) وأن سورة آل عمران مبدوءة ب (الم) ومنتهية بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.) فآخر آية فيها هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)

وقلنا كذلك مبدئيا : إن سورة آل عمران تفصل في الآيات الأولى من سورة البقرة. فإذا كان الكلام عن المتقين في سورة البقرة ، قد استتبع الكلام عن الكافرين والمنافقين ، حتى جاء قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ.) فإننا كذلك نفترض أن سورة آل عمران يستتبع الكلام فيها عن صفات المتقين أن يكون فيها تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة ، أي لما ورد في العشرين آية الأولى. هذا كله ندعيه وعلينا أن نأتي بالبرهان.

لنلاحظ الآن بعض الأمور : أول آيتين في البقرة هما : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.) فههنا حديث عن الكتاب مباشرة وليس فيهما حديث عن منزل الكتاب ، والملاحظ أن سورة آل عمران تبدأ بالحديث عن منزل الكتاب سبحانه : (الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.) كما نلاحظ أنه بعد آيات يأتي قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ....)

وبعد الآيتين الأوليين من سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.) والملاحظ أن القسم المبدوء بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ....) من آل عمران يرد فيه قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ.) فكأنه فصل من فصول الإيمان بالغيب تفصل فيه سورة آل عمران ، وبعد الآية الثالثة من البقرة يأتي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.) والملاحظ أن الآية قبل الأخيرة في سورة آل عمران هي : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.) ألا ترى أن هذه النقاط العلام الواضحة تدل على صحة ما ذهبنا إليه؟! ولكن الأمر سنرى براهينه

٨

بشكل أوضح.

والآن نريد أن نذكر لك شيئا جديدا حول الوحدة القرآنية لم نذكره من قبل : إن مقدمة سورة البقرة هي محور سورة آل عمران كما ذكرنا ، ولكن مقدمة سورة البقرة لها امتداداتها في سورة البقرة نفسها ، فمثلا في مقدمة السورة ورد قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.) ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى : (... وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ.) ومن امتداداته أيضا قوله تعالى : (. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ....)

وفي مقدمة السورة ورد قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ...) ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.) وقوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ ....) وإذن ففي سورة البقرة نفسها آيات تفصل آيات. فإذا اتضح ذلك فلنقل كلمة أخرى سيأتي دليلها : إن سورة آل عمران محورها مقدمة سورة البقرة ، ولكنها تفصل وتبني على المحور وامتداداته. ومن ثم فإن الحوار الذي جرى في سورة البقرة مع أهل الكتاب ـ في دعوتهم إلى الإيمان ـ نجد في موضوعه ـ قسما برأسه في آل عمران ، ومبنيا على الحوار الذي تم في سورة البقرة. فمثلا : في سورة البقرة كلام عن النسخ. وفي سورة آل عمران ضرب مثل على نوع من النسخ حدث في حياة يهود :(إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.) وقال تعالى في سورة البقرة : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.) وفي سورة آل عمران : (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا.) وهكذا نجد أن سورة آل عمران تفصيل لمقدمة سورة البقرة ، وامتداد معاني المقدمة في السورة كلها. فالأمر بالنسبة للوحدة القرآنية أوسع مما صورناه مبسطين في أول هذا التفسير ، وهو شىء لا ينقضي منه العجب كما سنرى.

وحتى الآن نعتبر أن كل ما قلناه دعوى وعلينا أن نقيم عليها البرهان ، ونكمل دعوانا فنقول : إن سورة آل عمران تنقسم إلى خمسة أقسام ، واضحة المعالم ، وقد دلنا على ذلك : المعاني ، وبعض المعالم. فالقسمان الأولان نهايتهما متشابهة ، والقسم الثالث نهايته

٩

مشابهة لبدايته ، والقسمان الأخيران بدايتهما متشابهة :

القسم الأول : يمتد من الآية الأولى إلى نهاية الآية (٣٢) وخاتمته : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.)

القسم الثاني : ويمتد من الآية (٣٣) : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ...) وينتهي بنهاية الآية (٦٣) التي خاتمتها : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ.) لاحظ التشابه بين نهايتي القسمين!.

القسم الثالث : ويمتد من الآية (٦٤) إلى نهاية الآية (٩٩). بدايته قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ....) ونهايته قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.) لاحظ أن البداية والنهاية فيها : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ.)

القسم الرابع : ويمتد من الآية (١٠٠) إلى نهاية الآية (١٤٨) وبدايته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.)

القسم الخامس :

وبدايته من الآية (١٤٩) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.) وينتهي بنهاية السورة ، لاحظ التشابه بين بدايتي القسمين!!

وسيأتي البرهان والتفصيل فيما بعد.

فلنبدأ ـ على بركة الله ـ تفسير السورة ، وقد رأينا من قبل الأحاديث الواردة في فضلها مع سورة البقرة. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران ؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو ـ غيايتان ـ أو كأنهما فرقان من طير صواف ، يحاجان عن أهلهما يوم القيامة». وكان سعيد بن جبير يروي عن عمر قوله : «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان ـ أو كتب ـ من القانتين». وكان يزيد بن الأسود الجرشي يحدث : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برىء من النفاق حتى يمسي ، ومن قرأهما في ليلة برىء من النفاق حتى يصبح. قال فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه.

١٠
١١

القسم الأول من سورة آل عمران

يمتد هذا القسم من الآية (الأولى) حتى نهاية الآية (٣٢) ، وهو يتألف من مقطعين : المقطع الأول : وهو ثمان عشرة آية بدايته : (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.) ونهايته : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ.) لاحظ أن بداية المقطع حديث عن قيوميته ـ جل جلاله ـ وأن خاتمته حديث عن قيوميته كذلك.

والمقطع الثاني : بدايته : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ....) ونهايته : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.)

وبين المقطع الأول والثاني تلاحم عجيب سنراه ، ومن ثم فإنهما يشكلان قسما واحدا. والقسم كله يفصل في مقدمة سورة البقرة ـ كما سنرى ـ فلنعرض مقطعيه :

المقطع الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤))

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ

١٢

الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ

١٣

بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

كلمة في المقطع :

(١) يتألف المقطع من ثلاث فقرات ، فقرة تتحدث عن القرآن وإنزاله ومنزله ونوعي آياته ، والموقف الصحيح منهما ، وفقرة تتحدث عن الكافرين ، وفقرة تتحدث عن تزيين الحياة الدنيا للناس ، وتبيان أن الآخرة خير لمن كان تقيا. والمقطع يبدأ بالكلام عن وحدانية الله وقيوميته ، وينتهي بهذا المعنى ، وهذا الذي دلنا على البداية والنهاية ، وكما تحدثت البداية والنهاية عن الوحدانية والقيومية ، فقد تحدثت البداية والنهاية عن عزته ـ جل جلاله ـ وحكمته.

ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته : إنزال الكتب ، وامتحان الخلق بمعانيها ومحاسبتهم عليها ، ومعاقبة الكافرين وإثابة المؤمنين.

ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته : أن ينصر المؤمنين على الكافرين في الدنيا والآخرة ، ويعذب الكافرين في الدنيا والآخرة.

ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته : تزيين الحياة الدنيا للناس لتقوم هذه الحياة! وليبتلي بذلك خلقه وليمحص أهل التقوى من غيرهم!.

(٢) الفقرة الأولى ذكرت موقف أهل الإيمان من هديه المنزل ، وتوعدت الكافرين ، والفقرة الثانية ذكرت موقف الكافرين من هديه وما يستحقونه بسبب ذلك ، وذكرت الفقرة الثالثة تزيين الحياة الدنيا ، فكأن الفقرة الثالثة فيها تعليل لسبب كفر الكافرين ، ومن ثم جاءت الآيات ـ بعد ذلك ـ لتنهض بهمة المؤمنين إلى الله.

(٣) قلنا : إن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة ، فلنلاحظ الآن مايلي : في مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

١٤

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.) وفي الفقرة الأولى من المقطع الأول جاء كلام عن منزل القرآن ، وأدب الاهتداء بالقرآن في اتباع المحكم ، والتسليم للمتشابه ، والدعاء لله ـ عزوجل ـ بالهداية. وفي مقدمة سورة البقرة جاء كلام عن الكافرين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.) وفي الفقرة الثانية ـ من المقطع الأول من سورة آل عمران ـ كلام عن الكافرين وما أعد الله لهم من العذاب ، واستحقاقهم عذاب الدنيا ؛ وأمر للمؤمنين في أنواع من الخطاب يخاطبون بها الكافرين.

وفي مقدمة سورة البقرة تأتي فقرة عن المنافقين بدايتها : (وَمِنَ النَّاسِ.) والفقرة الثالثة من هذا المقطع هي : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ ....) وقد وصف المتقون في مقدمة سورة البقرة بالاهتداء بالقرآن ، وبالإيمان بالغيب ، وبإقام الصلاة ، وبالإنفاق ، وقد جاء في أواخر المقطع ما هو تفصيل لهذه الصفات : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.) فالمقطع إذن فصل في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل.

(٤) قلنا : إن معاني مقدمة سورة البقرة لها امتدادات في سورة البقرة نفسها وههنا لنفصل قليلا : بعد المقدمة في سورة البقرة يأتي قوله تعالى في وصف النار : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ.) وكأن هذا المعنى امتداد للحديث عن الكافرين في المقدمة. وههنا يقول الله ـ عزوجل ـ عن الكافرين في آل عمران : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.) وبعد المقدمة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ.)

وذلك امتداد للكلام عن المتقين في أول السورة. وههنا يأتي تفصيل للإيمان والعمل الصالح والجزاء (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ.) وفي سورة البقرة آية البر التي فصلت في وصف المتقين فكأنها امتداد لمقدمتها ، فذكرت الصبر والصدق من صفات المتقين ، وههنا يأتي تفصيل لذلك كله :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

١٥

خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.)

ومن السياق نفهم أن من لم تجتمع له مجموعة هذه الخصال لا يستطيع أن يتخلص من أسر شهوات الحياة الدنيا فيضبطها على أمر الله.

ونحب قبل أن نبدأ عرض المعاني العامة للمقطع أن نعقد فصلا نتحدث فيه عن بعض أقوال المفسرين في الحروف التي بدئت بها بعض السور استكمالا لما كنا قد ذكرناه من قبل.

فصل في الحروف التي بدئت بها بعض السور القرآنية :

قلنا من قبل : إن مجموع ما ذكره المفسرون في شأن الحروف ، لا يعدو أن يكون من باب تسجيل الملاحظات حولها دون أن يكون تفسيرا لها ، ولم يزل المفسرون ولا يزالوا يسجلون ملاحظات. ومن أهم الملاحظات التي سجلت حول هذه البدايات ثلاث ملاحظات :

الأولى : أن فيها إشارة إلى الإعجاز.

والثانية : وهي امتداد لقضية الإعجاز أنها تشير إلى نسبة ورود الأحرف المبدوءة بها السورة بالنسبة لسور أخرى لم ترد في أوائلها هذه الأحرف.

والثالثة : أن هذه الأحرف جزء من فواتح السور التي ندرك من خلالها ، ومن خلال معان أخرى مفاتيح الوحدة القرآنية ، مما سنراه في هذا التفسير. ونزيد ههنا فنقول :

إن بعضهم اعتبر كل حرف من هذه الأحرف ، فيه إشارة إلى كلمات. فالألف مثلا تشير إلى آلاء الله ، واللام تشير إلى لفظ الجلالة «الله» وهكذا.

وذهب بعضهم إلى أنها أسماء للسور التى وردت فيها ، وذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل ، وأول من حاول أن يبني على هذا الفهم ، اليهود في زمن النبوة ، إذ ظنوا أن في ذلك إشارة إلى مدة أجل الإسلام ، كما سنرى الرواية في

١٦

ذلك ، وقد بنى بعضهم على هذا الاتجاه واستخرج أمورا ، ومن كلام الألوسي :

«ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام : أن عليا رضي الله عنه استخرج وقعة معاوية من (حم عسق) واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره (فتح بيت المقدس) سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى (الم غُلِبَتِ الرُّومُ.) «وهناك أقوال كثيرة أخرى يذكرها المفسرون : من أنها لإيقاظ السامع أو التالي ، أو للإشارة إلى ما في هذا القرآن من جديد غير معتاد. ولبعض الكفرة رأي في هذا الشأن ، نسجله ليعرف ويتأمل ، وهو أن هذه الأحرف تحدد جرس السورة ، فهي بمثابة المفتاح لطريقة الأداء. وما من أحد يدعي أنه أصاب في شأنها مراد الله فيها ، ولكن في كل ما قيل ويمكن أن يقال ـ مما يستطيع أصحابه أن يدللوا عليه ـ تظهر بعض أسرار هذه الحروف ، ويظهر بذلك بعض أسرار الإعجاز.

ومن كلام الألوسي فيها :

«ومن عجائب هذه المفاتح أنها نصف حروف المعجم على قول ، وهي موجودة في تسع وعشرين سورة ، عدد الحروف كلها على قول ، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة». ا ه.

وبعد أن عرض ابن كثير للأقوال الكثيرة في هذه الفواتح ، رجح أن يكون المراد منها الإشارة إلى الإعجاز والتحدي ، ثم ختم كلامه عنها برد كلام من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، فلننقل كلامه لأن فيه سردا لما نقل عن اليهود في هذا الشأن :

قال ابن كثير : «وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم ، فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك به على صحته ، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي : حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن زياد قال : مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فقال : أنت سمعته. قال : نعم فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٧

فقالوا : يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك (الم* ذلِكَ الْكِتابُ)؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى» فقالوا : جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال : «نعم». قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم مامدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه ، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟. ثم أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال نعم ، قال ماذاك قال (المص) قال هذا أثقل وأطول. الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد سبعون (١) فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة : هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم ، قال : ماذاك؟ قال : الر. قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : «نعم» قال ماذا؟ قال : «المر» قال : هذا أثقل وأطول : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال : قوموا عنه ، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون ، وإحدى وثلاثون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات أنزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك ـ إن كان صحيحا ـ أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها ، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة ، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم!!!.

أقول : إن حسبنا مجموع هذه الأحرف بحساب الجمل ـ على بعض اتجاهات أهله ـ فإن مجموعها يكون (٢٩٨٠) ألفان وتسعمائة وثمانين عاما. وعلى فرض صحة الحديث ، فالحديث لا دليل فيه كما قال البيضاوي ـ معلقا على رواية أبي العالية ـ : والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم ..

__________________

(١) هكذا في ابن كثير ولعلها ستون ؛ لأن مجموع ما ذكره إحدى وأربعون ومائة.

١٨

أقول : وسنرى كيف أن ابن كثير سينقل نقلا غريبا أيده الواقع عند تفسير (حم عسق) في سورة الشورى مما يجعلنا لا نغلق البحث في هذا الباب.

ولننتقل إلى ذكر المعنى العام للمقطع الأول من القسم الأول من سورة آل عمران :

المعنى العام للمقطع :

ـ في الآية الثانية بعد (الم) يخبر الله ـ عزوجل ـ عن وحدانيته واتصافه بالحياة ، والقيومية ، فهو قائم بذاته ، وغيره لا يقوم إلا به ـ تعالى ـ هو لا يفتقر لغيره ، وغيره مفتقر إليه ، فهو وحده الإله ، ومن مقتضى ألوهيته وقيوميته ما ذكره في الآية الثالثة.

ـ يخبر تعالى في الآيتين الثالثة والرابعة أنه أنزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق الذي لا شك فيه ولا ريب ، وأن هذا الكتاب يصدق الكتب المنزلة قبله من السماء ، وكما أنزل هذا القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنزل التوراة على موسى ، وأنزل الإنجيل على عيسى عليهما‌السلام ، من قبل أن ينزل هذا القرآن ، من أجل هداية الناس ؛ وهذا من مقتضى قيوميته أن يهدي عباده ويبين لهم الطريق ، وكما أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس من قبل ، فقد أنزل هذا القرآن هاديا ، فارقا بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والغي والرشاد ، بما ذكر الله فيه من الحجج والبينات ، والدلائل الواضحات ، القاطعة ، وبينه ووضحه وفسره ليهدي ويرشد وينبه ، وإذا كان هذا مقتضى ألوهيته ووحدانيته وقيوميته ؛ فقد وجب على الخلق أن يهتدوا ويؤمنوا ويعلموا ؛ فمن لم يفعل فقد استحق العذاب. ومن ثم ذيلت الآية بتقرير استحقاق العذاب الشديد يوم القيامة للذين جحدوا بآيات الله ، وأنكروها ، وردوها ـ وما ردوها إلا بالباطل ـ ثم وصف الله ـ عزوجل ـ ذاته بالعزة ، فهو منيع الجناب ، عظيم السلطان ، ووصف ذاته بالانتقام لمن كذب بآياته ، وخالف رسله الكرام ، وأنبياءه العظام.

ـ وفي الآية الخامسة يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض ، لا يخفى عليه شىء من ذلك ، وهذا مرتبط بموضوع الألوهية والقيومية ، فالإله الحق لا بد أن يكون عليما بكل شىء ، وبدون علم لا تكون القيومية.

ـ ويدلل تعالى ـ في الآية السادسة ـ على إحاطة علمه ، بتصويرنا في أرحام أمهاتنا كما يشاء ، من حسن وقبح وصفات وخصائص تحير عقل المتأمل!! فأي علم عظيم

١٩

علمه جل جلاله؟!! وكما دل على إحاطة علمه في الآية الخامسة بتصويرنا في الأرحام دلل في الآية السادسة على إحاطة علمه بإنزاله هذا القرآن على ما هو عليه ؛ إذ أخبر في الآية السابعة أنه أنزل هذا القرآن وجعل آياته نوعين. النوع الأول : الآيات المحكمات ، أي : البينات الواضحات الدلالة التي لا تلتبس على أحد. والنوع الآخر : الآيات التي فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس ـ أو بعضهم ـ وذلك امتحان لعباده من أجل أن يردوا ما اشتبه إلى الواضح منه ، ويحكموا محكمه في متشابهه. وذلك لأنه أودع في هذا الكتاب من الكمالات ، والعلوم ما لا يحيط به إلا هو ، فكانت عباراته على ما ذكر. وإذن ففي الآية تدليل على إحاطة علمه.

وكما قلنا : فإن إحاطة العلم هي مقتضى الألوهية والقيومية فلنر كيف كان موقف الناس من كتابه؟ :

أما المنحرفون ، الضالون ، الزائغون ، فهؤلاء يتركون المحكم ، ويتبعون المتشابه ، تعمدا منهم ، لأنهم يستطيعون أن يحرفوا المتشابه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه إليه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دافع لهم ، وحجة عليهم ، وإنما يفعلون ذلك من أجل تضليل الناس ، ومن أجل حمل القرآن على أهوائهم ، فيفسرونه بالهوى لا بالعلم. وأما المهتدون فهم الراسخون في العلم ، الذين يردون المتشابه إلى المحكم ، ويقرون بأن المحكم والمتشابه من عند الله ، والجميع حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ؛ لأن الجميع من عند الله ، وليس وحي الله بمختلف ولا بمتناقض ، ثم ذيل الله ـ عزوجل ـ الآية بتبيان أن أصحاب العقول السليمة والفهوم المستقيمة هم الذين يفهمون ، ويعقلون المعاني على وجهها ، ويتدبرون ويقفون عند الحدود ، فهؤلاء هم الذين أعطوا الألوهية حقها ، وهؤلاء كما أقروا للقرآن ـ بما فيه من حق ـ فإنهم كذلك يقولون داعين الله ـ عزوجل ـ بدعوتين ذكرتهما الآيتان الثامنة والتاسعة في الدعوة الأولى يطلبون من الله أن لا يميل قلوبهم عن الهدى بعد إذ أقامها عليه ، فيكونوا كالذين في قلوبهم زيغ يتبعون بسببه المتشابه ، كما يطلبون من الله أن يهبهم رحمة تسعهم في دنياهم وأخراهم ، مثنين على الله بإسمه الوهاب. وإذ طلبوا من الله ـ عزوجل ـ رحمة في أحوج ما يكون الخلق إلى رحمة الله يوم القيامة ، فإنهم في دعوتهم الثانية لم يقولوا سوى : يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم ، وتفصل بينهم ، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه ، وتجزي كلا بعمله ، وما كان

٢٠