الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

قال الامام : فتقضي الصوم؟ قال : نعم.

قال الامام : ولم؟ قال أبويوسف : هكذا جاء.

قال الامام : وهكذا جاء (١).

وقد دحض الامام في اجابته هذه مبدأ القول بالقياس ، كما أوضح بأن الأحكام توقيفية تؤخذ كما ورد بها النص ، وأن لا اجتهاد في مقابل النص.

وعن علي بن يقطين ، قال : سأل المهدي أباالحسن (عليه‌السلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها ، ولا يعرفون التحريم لها.

فقال له أبوالحسن (عليه‌السلام) : بل هي محرمة في كتاب الله عزوجل.

فقال له : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ يا أباالحسن.

فقال الامام : قول الله عزوجل : (انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق ...) (٢).

وأما الاثم فانها الخمرة بعينها (٣).

قال أبوعلي الطبرسي (ت ٥٤٨ ه) والاثم : قيل هو الذنوب والمعاصي عن الجبائي ، وقيل الاثم ما دون الحد عن الفراء ، وقيل : الاثم الخمر ، وأنشد الأخفش :

شربت الاثم حتي ضل عقلي

كذاك الاثم تفعل بالعقول

وقال الآخر :

__________________

(١) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤.

(٢) سورة الأعراف / ٣٣ /.

(٣) الكليني / الكافي ٦ / ٤٠٦ ، الحر العاملي / الوسائل ١٧ / ٢٤١.

٨١

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا

وأن نشرب الاثم الذي يوجب الوزرا (١).

 وقد ظهر مما تقدم : أن الاثم لا يخلو من معنيين : اما أن يكون هو المعاصي والذنوب ، والخمرة أحد مفرداتها وأبرز مصاديقها ، واما أن يكون هو الخمرة بعينها كما تدل عليه الرواية عن الامام الكاظم ، ويؤيده لغة واستعمالا عند العرب الشاهدان الشعريان المتقدمان ، وعلي كلا المذهبين في المعني ، فالخمرة محرمة بهذه الآية ، اما لكونها أحد مصاديق الاثم ، واما لأنها الاثم ذاته ، واما بهما معا (٢).

ولم يكن علم الامام مقتصرا علي جانب معين ، وانما كان يعالج شتي المواضيع بأسلوبه الرقيق ، وبلغات متعددة؛ فقد كلم الامام غلاما بالحبشية ، وأمره ، ونهاه ، وأوصاه ... فعجب علي بن أبي‌حمزة من ذلك ، فقال الامام :

«لا تعجب ، فما خفي عليك من أمر الامام أعجب وأكثر ، وما هذا من الامام في علمه الا كطير أخذ بمنقاره من البحر قطرة من ماء ، أفتري الذي أخذ بمنقاره نقص من البحر شيئا؟ قال : فان الامام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده ، وعجائبه أكثر من ذلك ، والطير حين أخذ من البحر قطرة بمنقاره لم ينقص من البحر شيئا ، كذلك العالم لا ينقصه علمه شيئا ، ولا تنفد عجائبه» (٣).

ان هذه الظاهرة في التفوق العلمي تمثل ذاتية التحرك المعرفي لدي الامام ، حتي أنها جلبت انتباه السلاطين وهم لا يعبأون بالعلم ، ولكنهم تحلقوا حول الامام اختيارا ، وهم أدري الناس بكفايته العلمية ، فقد روي أن

__________________

(١) الطبرسي / مجمع البيان : ٢ / ٤١٤.

(٢) ظ : المؤلف / نظرات المعاصرة في القرآن الكريم / تحريم الخمر في القرآن / ٩٣.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٠١ عن قرب الأسناد / ١٩٤.

٨٢

هارون الرشيد أنفذ الي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فأحضره ، فلما حضر عنده ، قال ان الناس ينسبونكم يابن فاطمة الي علم النجوم ، وان معرفتكم بها معرفة جيدة ، وفقهاء العامة يقولون : ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال : اذا ذكرني أصحابي فاسكتوا ، واذا ذكروا القدر فاسكتوا ، واذا ذكروا النجوم فاسكتوا. وأميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) كان أعلم الخلائق بعلم النجوم ، وأولاده وذريته الذين يقول الشيعة بامامتهم كانوا عارفين بها.

فقال له الكاظم (عليه‌السلام) : هذا حديث ضعيف ، واسناده مطعون فيه ، والله تبارك وتعالي قد مدح النجوم ، ولولا أن النجوم صحيحة لما مدحها الله عزوجل ، والأنبياء (عليهم‌السلام) كانوا عالمين بها ، وقد قال الله تعالي في حق ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) :

(وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (١).

وقال في موضع آخر : (فنظر نظرة في النجوم ـ فقال اني سقيم) (٢).

فلو لم يكن عالما بعلم النجوم ما نظر فيها ، وقال : اني سقيم.

وادريس (عليه‌السلام) كان أعلم أهل زمانه بالنجوم.

والله تعالي قد أقسم بمواقع النجوم : (وانه لقسم لو تعلمون عظيم) (٣).

وقال في موضع : (والنازعات غرقا) الي قوله : (فالمدبرات أمرا) (٤).

يعني بذلك اثني عشر برجا ، وسبعة سيارات ، والذي يظهر بالليل والنهار بأمر الله عزوجل ، وبعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم ، وهو علم الأنبياء والأوصياء وورثة الأنبياء الذين قال الله عزوجل :

__________________

(١) سورة الأنعام / ٧٥.

(٢) سورة الصافات / ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) سورة الواقعة / ٧٦.

(٤) سورة النازعات / ١ ـ ٥.

٨٣

(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١).

ونحن نعرف هذا العلم وما نذكره (٢).

وهذا الاتساع في الادراك المعرفي لا يصدر الا من تلك النجمة المختارة فيما وهبت من العلم الرفيع ، وكما قال هو (عليه‌السلام) :

«ان الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شي‌ء ، فيقول : لا أدري» (٣).

ولما كان الهدف العلمي معنيا باصلاح الذات أولا ، كان اهتمام الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالنفس الانسانية وتهذيبها معلما بارزا من معالم تنمية الأخلاق وتقويمها لديه ، فعمل علي شحذ الهمم وصقلها ، وحدب علي معالجة ظواهر التخلف الاجتماعي ، وعني بالتربية الفاضلة المهذبة ، وأراد للانسان حياة الصدق والايثار ، وحبب اليه محاسبة نفسه ، وموازنة عمله.

قال الامام : «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فان عمل حسنا استزاد الله ، وان عمل شيئا استغفر الله منه ، وتاب اليه» (٤).

هذه المحاسبة أداة فاعلة في الازدياد من الخير ، والعمل علي ضبط النفس وصيانتها من السيئات ، ولو ارتطم بها كان عليه الانابة والاستغفار ، وهذا كله من سيماء الصالحين.

ويضيف الامام (عليه‌السلام) الي هذا التوجه خصائص أخري ينبغي لأهل الخير الارتباط بها علي الصعيد العملي فيقول : «التحدث بنعم الله شكر ، وترك ذلك كفر ، فأربطوا نعم ربكم بالشكر ، وحصنوا أموالكم بالزكاة ،

__________________

(١) سورة النحل / ١٦.

(٢) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ وانظر مصدره.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٢٢٧.

(٤) المصدر نفسه : ٢ / ٤٥٣.

٨٤

وادفعوا البلاء بالدعاء ، فان الدعاء جنة ترد البلاء وقد أبرم ابراما» (١).

وندب الامام الي تعظيم أمر الخير ، واجتناب قليل الذنب ، وأشار الي مراقبة النفس بخوف الله سرا ، ودعا الي مكارم أخري بقوله : «لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلوا قليل الذنوب ، فان قليل الذنوب يجتمع حتي يصير كثيرا ، وخافوا الله في السر حتي تعطوا من أنفسكم النصف ، وسارعوا الي طاعة الله ، وأصدقوا الحديث ، وأدوا الأمانة ، فان ذلك لكم ، ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم ، فانما ذلك عليكم» (٢).

وهذا المنطق الجزل منحي جديد في استباق الخير ، والانتهاء عن الفكر ، والاسراع في الطاعة ، وحمل معالي الأمور شعارا.

ونهي الامام النفس عن الهوي ، والنفس أثمن متاع ينبغي أن لا يفرط فيه جزافا ، ولا يلقي له القياد انحدارا ، قال الامام : «اتق المرتقي السهل اذا كان منحدره وعرا» (٣).

والحديث هذا من غرر الأحاديث بلاغة ودلالة وايجازا.

ودعا الامام الي الموازنة في استقبال أيام العمر ، فلا يستوي لدي الانسان الأريب يوماه ، ولا يستغل بيوم عما قبله ، وليكن يومه خيرا من أمسه ، وغده خيرا من يومه ، لئلا يغبن.

قال الامام : «من استوي يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون ، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان ، ومن كان الي النقصان فالموت خير له من الحياة» (٤).

وكانت دعوة الامام الي التقوي تمثل ملحظا ايجابيا يتوصل معه المرء

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٢٤٨.

(٢) الكليني / الكافي ٢ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

(٣) المصدر نفسه ٢ / ٣٣٦.

(٤) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٤٦.

٨٥

الي الحق ، فيقول :

«اتق الله وقل الحق وان كان فيه هلاكك ، فان فيه نجاتك. اتق الله ودع الباطل وان كان فيه نجاتك ، فان فيه هلاكك ، اياك أن تمنع في طاعة الله فتنفق مثليه في معصية الله. المؤمن مثل كفتي ميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه» (١).

وكان من أروع ما تحدث به الامام بيانا ودلالة واستقطابا تلك النفحات الندية العطرة التي تختلج في جوانحه الحري ، وهي تسترعي مشاعر الانسان نحو أخيه الانسان ، وسعي المؤمن في قضاء حاجة أخيه المؤمن ، ووقوف الأخ جنب أخيه في الله لدي الشدائد ، ومتابعة الاحسان ، ذلك كله في توجيهات رائعة المساس بصلب حياة الناس وتفجير طاقاتهم ، واعادة جزء من حقوقهم اليهم ، مما أتاحه الله علي أيدي الساعين الي الخير. قال الامام : «ان لله عبادا في الأرض يسعون في قضاء حوائج الناس ، هم الآمنون يوم القيامة ، ومن أدخل علي مؤمن سرورا أفرح الله قلبه يوم القيامة» (٢).

أين نحن اليوم من هذه الحياة الحرة الكريمة التي يدعو الامام الي الالمام بها؟ وأين هو السعي الحثيث لقضاء حوائج الناس؟ وأين أصحاب الجاه والمال والسلطان عن هذه المعاني التي تنبع من الضمير في تلبية النداء الانساني؟ وأين هم الراغبون بالأمن يوم القيامة؛ مساكين هؤلاء الذين تتاح لهم الفرص في اجراء المعروف وهم يتخلفون عنه ، وما الحياة الا اصطناع الخيرات ، والأيام دول ... ألا وازع من شعور واحساس بالنفع الاجتماعي؟ ألا عودة بالغرائز الي ما فيه خير الدنيا والآخرة؟ ألا اصلاح لدخائل هذا الكائن

__________________

(١) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة : ٤ / أول / ٥٩.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٩٧.

٨٦

التائه فيلجأ الي مواني‌ء الايثار والعمل الصالح؟

يخيل الي أن الناس هم الناس في الأثرة والأنانية ، يسعي أكثرهم الي الشر والمكر ، ويسعي القليل منهم الي الخير والمعروف ، وقليل أولئك الذين يعانون من أجل مصلحة الآخرين ، ولكنهم الآمنون يوم القيامة.

وهنالك حديث ذو اسناد عال يرويه العبد الصالح علي بن جعفر الصادق عن أخيه الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فيه التحذير كل التحذير من التقصير في قضاء حاجة المسلم لأخيه المسلم ، وهو من مضامين الاختبار العملي لحقيقة ولاية أهل البيت ، وهو محك الاتصال بهذه الولاية والفوز بها ، والا فهو النهش في القبر من قبل أبشع ضروب الأفاعي حتي يوم القيامة.

يقول الامام : «من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك وتعالي ساقها اليه ، فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا ، وهو موصول بولاية الله تبارك وتعالي ، وان رده عن حاجته وهو يقدر علي قضائها سلط الله سليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة مغفورا له أو معذبا ، فان عذره الطالب كان أسوأ حالا» (١).

وكان الامام شديد الوطأة علي الرافضين لاصطناع هذا المعروف المفترض ، فهو ينذر ويحذر ، وهو ينبي‌ء ويخبر ، عسي أن تتسع ذهنية أهل الحول والطول والفاعلية لاستقبال هذا التوجيه والتسديد. قال الامام : «من قصد اليه رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره وهو قادر ، فقد قطع ولاية الله عزوجل» (٢).

ولم ينس الامام أن يتعاهد الناس بضروب التوجيه نحو الخير بكل طرقه ووسائله وأساليبه ، وهو يريد للمسلم أن يتسم بالرجولة والاستقلالية

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٥٠.

(٢) الكليني / الكافي ٢ / ٣٦٦.

٨٧

والقرار ، وأن لا يعيش ذنبا أو تبعا ، وأن لا يري مذبذبا لا الي هؤلاء ولا الي هؤلاء فالانسان موقف ، والموقف سمة ذوي الادراك العقلي في التمييز الدقيق بين الحق والباطل ، وافراز الخير عن الشر ، في رؤية مركزية.

فعن الفضيل بن يونس الكاتب ، قال : قال لي أبوالحسن موسي بن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) :

«أبلغ خيرا ، وقل خيرا ، ولا تكونن امعة».

قلت : وما الأمعة؟

قال الامام : تقول أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس. ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) ، قال :

«يا أيها الناس ، انهما نجدان ، نجد خير ونجد شر ، فما بال نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير» (١).

ولقائل أن يقول ما علاقة هذا كله بسيرورة علم الامام ، وقد يكون الاعتراض وجيها ، الا أن نظرة فاحصة في المثل العليا التي يدعو اليها العلم ، تفترض أن هذه الانسانيات الصارخة من أهم أهداف ذلك العلم الذي يدعو (صفحه ٨٣) الي الحب والاخاء والسلام والمواساة ، وهو ما رأيته في هذا الطرح ، وكان استقبال النخبة الواعية لهذه المعطيات الخيرة سبيلا رائعا الي انتشار علم الامام في الآفاق ، وهذا ما يؤكد عليه الامام الرضا نجل الامام موسي بن جعفر (عليهما‌السلام) ، قال الامام الرضا : «رحم الله عبدا أحيا أمرنا؛ فقيل له : وكيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا» (٢).

أليس ما قدمناه من محاسن الكلام؟ أليس كلامهم جزءا من علومهم؟

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٣٤٣.

(٢) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٣٠٧.

٨٨

واذا ودعت هذا الجانب من العطاء العلمي السمح ، وأردت الوقوف علي الحياة العقلية عند الامام ، فستجده عملاق النظر العقلي ، وبكل الجدل الكلامي المفعم بروح الحضارة والتألق الفكري ، بما سيره من مناظرات ومحاضرات ومحاورات تكفل بها الفصل القادم.

واذا أردت طلائع الاصرار علي افاضة العلم في أحلك الظروف ، فما عليك الا الوقوف علي تلك المراسلات والمكاتبات التي حررها الامام (عليه‌السلام) سواء أكان في المدينة المنورة في ظل الرقابة والرصد السياسي ، أم كان في محنة الارهاب في قعر السجون والمعتقلات ، فان الظاهرة اللائحة في هذا الأثر أن الامام كان علي أهبة الاستعداد المتكامل للاجابة الناجعة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين في هذا الشأن :

«لم يكن بامكان السائلين والمستفهمين الراغبين في معرفة حكم الشرع ورأي الدين ، أن يحضروا الي المدينة لملاقاة الامام وسماع ما يغنيهم به فيما يريدون معرفته والوقوف علي وجه الصواب فيه ، بل كان بين هؤلاء المؤمنين المنتشرين في أصقاع العالم الاسلامي من لا يجد وسيلة الا مكاتبة الامام (صفحه ٨٤) للسؤال منه عما يخص شؤون دينه أو هموم دنياه ومشاكلها المستجدة علي الدوام ، وكان الامام يتلقي تلك الكتب برحابة صدر ، ويقرأها بامعان ، ويحرر لهم أجوبة ذلك كتابة أيضا (١).

ويبدو من قراءة تلك المكاتبات والجوابات أن الامام لم يكن يكتفي في بعض الأحيان بمجرد الرد علي مورد السؤال وبيان الحكم الشرعي فيه ، وانما كان يتعدي هذا الجانب بعد الاجابة عليه الي التنبيه علي أمور أخري

__________________

(٢) ظ : علي سبيل المثال : الكليني / الكافي ٣ / ١٨ ـ ١٥٥ ـ ١٩٧ ـ ٣١٥ ـ ٣٢٦ ـ ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ـ ٣٣٢ ـ ٣٤٠ ـ ٣٤٦ ـ ٣٨٠ ـ ٥١٠ ـ ٥٣٩ ... الخ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، المفيد / الارشاد / ٣٣٠ ـ ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، المناقب ٣ / ٤٠٨ ، الفصول المهمة / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، كشف الغمة ٣ / ١٦ ـ ١٧ ـ ١٨ وسواها.

٨٩

ليست من صلب المطلب الذي حرر الكتاب لأجله ، ولكنها ذات مساس بصاحب الرسالة فيما يتعلق بوهم فكري قد سقط فيه ، أو شأن دنيوي قد جهله أو غفل عما ينطوي عليه من نتائج غير محمودة العاقبة ...» (١).

وهنالك آثار تدل علي هذا الملحظ بالاشارة الي تنبيهات خارجة عن الموضوع داخلة فيه ، فهي غيره وهي امتداد له (٢) والذي يعنينا هذا الزخم الهائل من الاجابات التي تندفع بدقة وامعان لتعيد الي الذهن ما رآه السيد أمير علي الهندي عندما تحدث عن مدي الخسارة الكبري التي مني بها العالم الاسلامي بوفاة الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) ، ولكنه استثني بقوله :

«غير أن الحلقة العلمية ـ لحسن الطالع ـ لم تتوقف بوفاته ، اذ طفقت تزدهر برئاسة ابنه موسي ، الملقب بالكاظم».

لقد كان هذا الازدهار علي يد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حقيقة علمية لا فرضية اعلامية ، فعلي الرغم من كل المعوقات الجامحة التي مني بها عصره ، وفي ظل جميع الافرازات السياسية المضنية ، رأينا عطاء الامام حثيثا في شموليته ، (صفحه ٨٥) مشرقا في انسانيته ، متوسعا في ترامي أطرافه. وكان من التوفيق الالهي واللمح الغيبي المتواصل أن نشأ في ظل الامام ورعايته جيل عتيد من أعاظم تلامذته وطلابه في مرافقتهم اياه وملازمتهم له ، فهم قد انتهلوا من نمير علمه العذب ، وهم أيضا قد بادروا الي تسجيل ذلك في الآثار ، مما أوجد حالة علمية تحدوها الرغبة الملحة في اشاعة المعرفة الانسانية ، وتدفعهم النيات الخالصة الي تعميق ما حصلوا عليه من الثقافية التشريعية النقية ، وتواكبهم الآمال المشرقة في تحصيل المعارف الاسلامية الجوهرية ، وكان هذا الترويض قد حرمهم كثيرا من الامتيازات والحقوق في

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٠.

(٢) ظ : تحف العقول / ٣٠٥ ، الارشاد للمفيد / ٣٢٩ ، البحار ٤٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٩٠

حياتهم السياسية ، فلم ينعموا برفاه اقتصادي ، ولم يحلموا بجاه اعتباري ، ولم يحصلوا علي مكسب اضافي ، وكان العكس هو الصحيح ، فالدولة لهم بالمرصاد ، تتعقب حركاتهم وسكناتهم ، وتحتجن حقوقهم العامة والخاصة ، وتصادر لهم كل حرية.

وبتعبير أوضح :

فان تلامذة الامام بالتفافهم حول علم أهل البيت (عليهم‌السلام) ، قد اتخذوا التضحية مبدأ ، والحرمان شعارا ، لما سوف يتعرضون له من النقمة والبؤس والشقاء ، ولما سوف يطرأ علي حياتهم واستقرارهم من جور وعسف ، ولما سوف تتعرض له حريتهم الشخصية من ملاحقة أجهزة القمع والارهاب.

٩١

تلامذة الامام والتراث العلمي

احتضن تلامذة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خزانة التراث العلمي للامام ، ونهض هؤلاء التلامذة بعب‌ء الرواية والتحديث والتأليف والتصنيف ، وشرعوا بمهمة التلقي الحثيث لينهضوا بمهمة الابلاغ والتبليغ ، وما عتموا أن أجادوا فني المدارسة والبحث ، ومن ثم تخصصت كل طائفة منهم بفن من الفنون الأساسية كان أبرزها : علوم القرآن ، الحديث ، الفقه ، الأصول ، الكلام ، الغريب ، المنطق ، الفلسفة ، والانسانيات بعامة.

فكان منهم المفسرون والمحدثون والرواة وعلماء الأخبار ، ورجال التشريع ، وقادة الفكر الامامي ، ورواد الثقافة الحرة ، وحماة التراث.

ولم تكن معارف الامام لتفرض علي الطلاب فرضا في شي‌ء من مفرداتها الموسوعية الضخمة ، وانما كانت حرية الاختيار من ألمع ملامحها ، وارادة التخصص هي الحاكمة في المشروع العلمي ، دون أية ضغوط أو احراجات أو تعقيد ، فالاكراه غير وارد علي الاطلاق في فرض علم معين؛ نعم لا ريب أن علوم الشريعة أسماها منزلة ، وأجداها عائدية ، لأنها من سبل الهداية.

والظاهرة التي تلحظ في الاتجاه كثرة تلامذة الامام ، وتعدد نزعاتهم

٩٢

العلمية ، والمنظور العام لهذه الظاهرة يؤكد حقيقتين :

الأولي : تتمثل بهذه الأعداد الهائلة لأولئك التلامذة مع وجود الصارف التعسفي لازديادها ، نظرا لاجراءات الضغط السياسي.

الثانية : تتمثل بذلك المخزون الثقافي المدخر وهو يفيض بالحرية والأكاديمية في مجالي التخصص والبحث الطليق علي حد سواء ، وهذا ما نهضت به في بداية القرن العشرين الجامعات الرصينة في العالم ، والا ما كان لدي الأثنيين والاغريقيين قبل المسيح (عليه‌السلام) ، حينما كان بعض الفلاسفة يتنعمون الهواء الطلق وهم يلقون دروسهم بحرية في حدود.

ولست أعلم مصدرا حديثيا أو روائيا من موسوعات الامامية الا وعرض لمئات الرواة والمحدثين والعلماء من أصحاب الامام وتلامذته ، يضاف لذلك كتب التراجم والسيرة والفهارس والببلغرافيا (١).

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«لقد احتفي بالامام ـ موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ـ أثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء ورواة الحديث ممن تتلمذ في جامعة أبيه الكبري التي أنارت العقل الانساني ، وأطلقته من عقال الجهل ، وقد أفاض عليهم الامام الشي‌ء الكثير من علومه ومعارفه المستمدة من علم جده الرسول (صلي الله عليه وآله) ، كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه ...» (٢).

وكان احتفاء هؤلاء التلامذة فيه كثير من الاعداد الحضاري ، وكثير من الحرص المعرفي ، وهناك نص ثمين في هذا السياق رواه ابن طاووس ، والنص هذا يشير الي : أن أصحاب الامام وخواصه كانوا يحضرون مجلسه ،

__________________

(١) ظ : علي سبيل المثال : رجال الكشي / رجال الطوسي / رجال النجاشي / مجمع الرجال / رجال بحرالعلوم / رجال المامقاني / خلاصة العلامة / معجم رجال الحديث / فهرست ابن‌النديم.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ١ / ٣٣.

٩٣

ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف ، وأميال ، فاذا نطق الامام بكلمة ، أو أفتي في نازلة ، بادروا الي تسجيل ذلك (١).

وتلامذة الامام كتلامذة غيره من العظماء ، ليسوا في سوية واحدة ، وانما تختلف مراتبهم في الضبط والعدالة والوثاقة ، فمنهم الطبقة العليا الرفيعة المعبر عنهم : بأصحاب الاجماع الذين أشار اليهم الشيخ الطوسي (ت ٦٦٠ ه) بقوله :

«انه اجتمع أصحابنا علي تصديق ستة نفر من فقهاء الكاظم والرضا (عليهما‌السلام) ، وهم : يونس بن عبدالرحمن ، وصفوان بن يحيي بياع السابري ، ومحمد بن أبي‌عمير ، وعبدالله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب السراد ، وأحمد بن محمد بن أبي‌نصر ...» (٢).

ومنهم من هو دون ذلك ، وهو ما تتكفل بالاشارة اليه مصادر الجرح والتعديل عند الامامية.

وهؤلاء أصحاب الاجماع يمتازون بأن لهم مؤلفات وروايات تؤخذ بعين الرضا والتسليم لمضامينها كما قيل أن مراسيل ابن أبي‌عمير كمسانيد غيره من الثقات.

وقد ألف صفوان بن يحيي أكثر من ثلاثين مؤلفا ، وروي عن أربعين من تلامذة الامام الصادق (عليه‌السلام).

وألف يونس بن عبدالرحمن أكثر من ثلاثين مؤلفا نص عليها آل‌ياسين (٣).

وألف عبدالله بن المغيرة الكوفي الخزاز ثلاثين كتابا ، أبرزها : كتاب الزكاة ، وكتاب الصلاة ، وكتاب الفرائض ، وكتاب الوضوء ، وكتاب في

__________________

(١) أورده القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ١ / ١٠١ عن الأنوار البهية / ٩١.

(٢) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٨.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤٤.

٩٤

أصناف الكلام (١).

أما الحسن بن محبوب السراد فمؤلفاته كثيرة ، وهو من ثقات أصحاب الامامين موسي بن جعفر ، وولده علي الرضا (عليهما‌السلام) (٢).

ولأحمد بن محمد بن أبي‌نصر البزنطي عدة مؤلفات نص عليها ابن النديم (٣).

يقول الأستاذ هاشم معروف الحسني بعد ذكره لهؤلاء الثقات : «هؤلاء الستة ، وستة من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق ، قد أجمع المحدثون علي تصديقهم والأخذ بمروياتهم ، وهذا ما تعنيه تسميتهم بأصحاب الاجماع» (٤).

والحديث عن ثقات الأصحاب قد يطول بنا ، فهم من الكثرة بمكان ، والذي يعنينا من هذا كله : أن هؤلاء فرادي ومجتمعين قد شكلوا المحور الأساسي لنشر علم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فنهد كل منهم بمهمته ما استطاع الي ذلك سبيلا دون ملل أو كلل. فكانوا رجال المهمات الصعبة كما يقال اليوم.

ولا نريد أن نؤكد علي هؤلاء فحسب ، فقد كان من ثقاته : الحسن بن علي بن فضال الكوفي ، وعثمان بن عيسي ، وداود بن كثير الرقي ، وعلي بن الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام).

ومن خواص أصحابه : علي بن يقطين ، وأبوالصلت : عبدالسلام الهروي ، واسماعيل بن مهران ، وأحمد بن محمد الحلبي ، وموسي بن بكير

__________________

(١) المرجع نفسه / ١٣٤.

(٢) ظ : هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٥.

(٣) ابن النديم / الفهرست / ٢٧٦.

(٤) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٥.

٩٥

الواسطي ، وابراهيم بن أبي‌البلاد الكوفي (١).

وقد تحدث الأستاذ باقر شريف القرشي عن كوكبة أصحاب الامام وتلامذته والرواة عنه من المشهورين شهرة مستفيضة في مائة وخمسين صفحة احتضنت تراجم ثلاثمائة وواحد وعشرين علما من أعلامهم ، بما يعد مرجعا مهما في معرفة أحوالهم ، وتعداد مؤلفاتهم ، وبيان منزلة كل واحد منهم (٢).

وقد رصد الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين مهمات طائفة من هؤلاء المنفلين عن الامام ، وأكد دورهم في التصنيف والتأليف ، وتناول ضبطهم في تدوين الأمالي وتسجيل الأصول ، فقال : «وأمر يجب أن يسجل بفخز واعتزاز أن النوابغ والبارعين من حضار مجلس الامام وحلقة درسه ، ومن المتلقين الواعين الذين سمعوا منه وشافهوه ، قد بادروا أولا بأول الي تسجيل تلك الأمالي والمسموعات في مدونات خصصوها لهذا الغرض سماها بعضهم (الأصول) وربما أضافوا فيها الي تلك المشافهة من الامام الكاظم (عليه‌السلام) ما رووه مباشرة أو اسنادا عن أئمة أهل البيت السابقين (عليهم‌السلام) ، وكان منهم من بوب تلك الروايات بحسب مطالبها وموضوعاتها ، فجعل كل ما يتعلق بموضوع منها في كتاب خاص مستقل باسمه ومحتواه» (٣).

ثم قدم الأستاذ آل‌ياسين كشفا ببلغرافيا دقيقا للمؤلفين من تلامذة الامام (عليه‌السلام) وسجل أسماء كتبهم وموضوعاتها ، وأشار الي المصادر التي ذكرتها ، فكان عدد ما توصل اليه : مائة وخمسة عشر مؤلفا ، تصل بعض أعداد مؤلفات الواحد منهم الي ثلاثين كتابا ، وتلك لعمري ثروة طائلة. كما أشار الي الأحاديث التي جمعها أبوعمران موسي بن ابراهيم المروزي

__________________

(١) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٨.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ٢ / ٢٢٣ ـ ٣٧٤.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٢.

٩٦

مما سمعه من الامام (عليه‌السلام) ، ودونه عنه ، ويعرف ب «مسند الامام موسي بن جعفر».

وقد وقف علي نسخته المخطوطة في خزانة الكتب الظاهرية بدمشق ، وعرف بها في بحث تفصيلي في مجلته «البلاغ» الصادرة في الكاظمية : ١٣٩٦ ه (١).

وكان لتسجيل مرويات الامام من قبل طلابه النابهين وتدوينها في رسائل وكتب وأطاريح ـ حذر التلف والضياع والنسيان ـ أهمية كبري ذات هدفين في سياق واحد ، الأول : كونها سلاحا معرفيا متميزا بكفايته العالية المتقدمة يقضي فيه علي الجهل والأمية والتخلف.

والثاني : كونها عبارة عن وثائق مكتوبة عن الامام مباشرة لها قيمتها التأريخية الدقيقة. وهما معا مما تحتاج له مرحلة التدوين الموثق للاحتفاظ بذخائر أهل البيت من مصادرها الأولي.

وللأمانة والتقدير؛ فلله در تلك الصفوة المختارة في تحقيق هذه المهمة الريادية بتلك الأجواء القاتمة ، حتي ليعد عملهم هذا ثورة شعواء علي التقاليد السياسية (صفحه ٩١) الموروثة في الغاء دور أهل البيت في المجالات كافة. كما يعتبر هذا الجهد الجبار حيوية نابضة جديدة في احكام الروابط المصيرية الكبري بين الامام وتلامذته ، بحيث تحولت تلقائيا الي أواصر مثبتة من الحب والولاء والتفاني ، فتشابكت العلاقات الأساسية بينهما بحيث عادا ممثلين حقيقيين لتلك الثوابت الأخلاقية في وجه مشرق من الاخلاص والتضحية للمبادي‌ء التي يحملها فكر أهل البيت في ميادين العقيدة والحياة ، وبما يتطلب ذلك الاخلاص وتلك التضحية من ثبات ، وجرأة ، وألم ، وخوف ، وقلق ، ومداراة ، وترقب ، وحرمان ، ومأساة. وهذا سبيل النضال

__________________

(١) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٣ ـ ١٤٧.

٩٧

المرير المعاكس لتيار الضغط والشر والارهاب ، وليس هو مجرد أفكار عابرة تنام حينا ، وتستيقظ حينا ، ولكنه الاعتداد بالفكر المناوي‌ء لحقائق الأشياء ، وهو لذلك يحسب له ألف حساب وحساب من قبل السلطان.

ولك أن تقدر مدي عناء هؤلاء العلماء من ملوك الزمان ، ولك أن تتصور تلك التضحيات الضخام التي قدموها من أجل اعلاء كلمة الله في الأرض ، فهم بين هلع واضطراب من الولاة ، وهم بين رقابة واستنفار من الأجهزة ، بل حتي قذف ببعضهم الي السجون.

فهذا محمد بن أبي‌عمير ، وهو من أوثق الرواة ، وتقدم أن مراسليه بمنزلة الصحاح ، وقد ألف أربعة وتسعين كتابا في مختلف الفنون ، فكان أحد أساطين الفقه والحديث (١).

وكان من عباد الله الصالحين ، شديد الورع ، معروفا بالتقوي ، ذا منزلة متميزة في العابدين ، مشتهرا بسجوده وتخنثه حتي ضرب به المثل (٢).

ويبدو أن سجلا خاصا بأعيان أصحاب الامام كان لديه ، أو أنه علي معرفة بعلية القوم كما يقال ، فأمر به الرشيد الي السجن ، وبقي في غياهبه (صفحه ٩٢) سبعة عشر عاما ، وجي‌ء به مكبلا بالقيود ، فطلب اليه الرشيد أن يعرفه بأسماء الشيعة ، فامتنع عن ذلك ، فأمر به أن يضرب مائة سوط ، فكاد أن يبوح بأسمائهم.

يقول هو نفسه : فكدت أن أبوح بأسمائهم ، الا أنني سمعت نداء يونس بن عبدالرحمن يقول لي : يا محمد بن أبي‌عمير؛ أذكر موقفك بين يدي الله ، فتقويت بقوله ، فصبرت ، ولم أخبر ، والحمد لله (٣) ويبدو أن يونس بن عبدالرحمن كان معه في السجن ، فناداه بذلك.

__________________

(١) ظ : النجاشي / الرجال / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) ظ : الكشي / الرجال / ٣٦٤.

(٣) المصدر نفسه / ٣٦٤.

٩٨

وهذا هشام بن الحكم ، وهو من أبرز علماء الكلام من الامامية ، وذو منزلة عليا عند الامام الصادق وولده الكاظم (عليهما‌السلام) ، وهو في الشرف الباذخ من التكريم والتجلة لديهم ، وله باع طويل في الاحتجاج لمبدأ الامامة ، ونصر فكر الأئمة في العقائد ، وله من المؤلفات العدد الأكثر كما ذكر ذلك ابن‌النديم والنجاشي (١).

وقد ذكر له القرشي ثلاثين كتابا فيما تتبعه (٢).

وقد عدد آل‌ياسين من مؤلفاته بأسمائها : اثنين وثلاثين كتابا (٣) وقد قوبل بالجحود ، ووجد عليه يحيي بن خالد البرمكي ، فوشي به الي الرشيد بأنه يقول بالامامة ، وأن الامام اذا أمره بأمر نفذ ذلك.

ووقف الرشيد علي هذا الأمر ، واستمع الي هشام يقول : «ان الامام اذا أمره بحمل السيف ، أذعن لأمره ، ونفذ طلبه».

فأمر الرشيد بالقاء القبض عليه ، فهرب هشام الي الكوفة مستخفيا ، ونزل علي بشير النبال ، وكان من حملة الحديث ، فأخفاه.

ثم اعتل علة شديدة ، والطلب عليه حثيث ، فقال له آتيك بطبيب؟ قال : لا؛ أنا ميت. ولما حضره الموت قال لبشير : اذا فرغت من جهازي ، فاحملني وضعني في الكناسة ، واكتب رقعة : هذا هشام بن الحكم الذي طلبه الرشيد مات حتف أنفه.

وكان الرشيد قد أخذ به اخوانه وأصحابه ، فاعتقلهم؛ ونفذ بشير الوصية ، فحضر القضاة والمعدلون فشهدوا بذلك ، وكتب به الي الرشيد (٤).

وهذا يونس به عبدالله ، كثر حساده وأعداؤه ، لقوله بهذا الأمر ، حتي

__________________

(١) ابن‌النديم / الفهرست / ٢٦٤ ، النجاشي / الرجال / ٣٣٨.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر / ٣ / ٣٤٣.

(٣) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٤) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٢٠٢ وانظر مصدره.

٩٩

ضجر ، وشكا ذلك الي الامام ، وقال له : انهم يقولون لي زنديق!! فنهنه الامام عن وجده ، وقال له : «ما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة ، فيقول الناس : هي حصاة. وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة ، فيقول الناس لؤلؤة» (١).

وكان سلاح الاتهام بالزندقة قد يشهر في وجوه أولياء أهل البيت ظلما وعدوانا ، فينكل بهم ، ويعتدي عليهم.

كل هذا المناخ الجاف البغيض لم يمنع أصحاب الامام موسي بن جعفر من التوجه اليه حتي وهو سجين ، وكان من بينهم : هند بن الحجاج ، وعلي بن سويد ، والمسيب بن زهرة الذي نيطت به حراسة الامام ، أو حبس عنده (٢).

الا أن الامام هداه السبيل ، فأصبح من أوليائه ، ومن حملة أسرار الأئمة (٣).

وكان من أبرز أصحابه الذين تشرفوا بخدمته في سجن السندي : موسي بن ابراهيم المروزي. وقد سمح له السندي بالاتصال بالامام ، والاستماع اليه ، لأنه كان معلما لولده.

وقد قام موسي هذا بدور مشرف حينما ألف كتابا مما رواه عن الامام مباشرة وسماه «مسند الامام موسي بن جعفر» (٤) وقد سبق الحديث عنه.

وهكذا تابع تلامذة الامام أستاذهم الأعظم ، ونشروا علمه بين الناس ، واستخدموا الوسائل المشروعة لاذاعته ، حتي بلغوا بهذه الغاية الذروة ، بما قضي علي الجمود والاخفاق المعرفي ، وبما حرر تلك الأحاسيس الكئيبة ـ نتيجة ظلم العصر ـ وأطلق منها بالثقافة الواعية.

__________________

(١) الكشي / الرجال / ٣٠٤.

(٢) الجهشياري / الوزراء والكتاب / ٩٧.

(٣) ظ : المامقاني / تنقيح المقال ٣ / ٢١٧.

(٤) ظ : النجاشي / الرجال / ٣١٩.

١٠٠