الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، حيث نجد المبدأ ثابتا بدلائله العلمية.

ان العلم الوراثي الذي احتضنه الامام الكاظم (عليه‌السلام) مما تدل عليه الآثار وتصرح به الروايات الصادرة عن آبائه (عليه‌السلام) :

وهذا النوع من العلم له مصدران هما الكتاب والسنة ليس غير. واذا كان الأمر كذلك ، خرجنا من عهدة التساؤل والاثارة ، فهو علم كسبي يتدارسه الامام في ظل من كان قبله من الأئمة شفاها أو تدوينا أو رواية ، أو هي كلها ، والامام موسي بن جعفر تلميذ أبيه الامام الصادق ، والصادق تلميذ أبيه الامام الباقر حتي ينتهي أمر ذلك الي أميرالمؤمنين ، وعلم أميرالمؤمنين فرع أثير من علم رسول الله (صلي الله عليه وآله) ما في ذلك من شك.

اذن نحن أمام مخزون مدخر لكنوز العلم السائر مصدره ، ذلك الباب الذي لا يوصد ، وهو مبني اما علي الرواية المتسلسلة حتي تتصل برسول الله (صلي الله عليه وآله) واما علي أساس العلم التكسبي الذي يتلقاه الامام من أبيه ، وهكذا.

وكان الامام أحمد بن حنبل زعيم الحنابلة شديد الاعجاب بما يرويه عن الامام موسي بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) ، فيقول : «حدثني موسي بن جعفر ، (صفحه ٥٥) قال : حدثني أبي‌جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي‌محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن أبي‌طالب ، قال : قال رسول الله (صلي الله عليه وآله)».

ثم قال أحمد بن حنبل بعد رواية هذا السند بالحرف الواحد : «هذا اسناد لو قري‌ء علي المجنون لأفاق» (١).

ومن كان هذا سنده في الرواية عرفت مصدر علمه الوراثي. لقد سأل خلف بن حماد الامام موسي بن جعفر مسألة ، فأجابه عليها ، فقال له خلف : جعلت فداك؛ من يحسن هذا غيرك؟ فرفع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يده

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٦١

الي السماء ، وقال : «اني والله ما أخبرك الا عن رسول الله عن جبرئيل عن الله (تعالي) (١) وهناك ما هو أصرح من هذا في النظر الي موقع علم الوراثة من علمه ، قال ابن المغيرة : «كنت أنا ويحيي بن عبدالله بن الحسن عند أبي‌الحسن (عليه‌السلام) (يعني الامام موسي بن جعفر) قال له يحيي : جعلت فداك ، انهم يزعمون أنك تعلم الغيب فقال : ... لا والله؛ ما هي الا وراثة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)» (٢).

وهنالك انباء آخر عن العلم الوراثي التدويني لديه (عليه‌السلام) ، فقد سئل الحسين بن زيد عن معرفة الامام موسي بن جعفر ببعض الغيب ، فقال : «وكيف لا يعرفه ، وعنده خط علي (عليه‌السلام) ، واملاء رسول الله (صلي الله عليه وآله)» (٣).

وهذا العلم غير خاضع للاجتهاد ، وهو نص صريح مطلق ، ولا مصدر له الا الكتاب والسنة كما هو الواقع بما تفيده الآثار ، فقد روي سماعة عن الامام موسي بن جعفر ، قال : قلت له : أكل شي‌ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وآله) ، أو تقولون فيه؟ قال : بل كل شي‌ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وآله) (٤).

وبهذا يتضح للباحث المحايد أن مصدر علم الامام يستند الي الركنين الأساسيين في التشريع : القرآن العظيم والسنة النبوية.

وكان انتظام هذا المصدر متجانسا مع طبيعة حياة الامام الدراسية ، فما تحدث أحد أنه درس علي أحد ، أو أخذ عن أحد ، فليس له شيوخ أو أساتيذ كما هو شأن العلماء الآخرين ، ولم يحضر في حلقة أستاذ ، ولم يتخرج في معهد ما ، وانما تخرج في مدرسة أبيه ضمن التسلسل الاسنادي في الرواية والحديث والتفقه العام ، حتي أصبح قائد هذه المدرسة بعد حين.

_________________

(١) الكليني / الكافي ٣ / ٩٢ ، البحار ٤٨ / ١١٣.

(٢) الشيخ المفيد / الأمالي / ١٣.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٦٠ يرويه عن / الحميري / قرب الاسناد / ١٧٨.

(٤) الكليني / الكافي ١ / ٦٢.

٦٢

ولا أدل علي صحة هذا القول وواقعه من شهادة هارون الرشيد في حق الامام ، وهو يشير اليه فيما قاله لولده المأمون :

«يا بني؛ هذا وارث علم النبيين ، هذا موسي بن جعفر بن محمد ، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا» (١).

وكان من العلم الصحيح الذي أشار اليه الرشيد ، أن الامام (عليه‌السلام) يؤكد علي الكتاب والسنة فيما يتلقي من العلم ، ويدرأ الرأي والقياس في الافتاء ، فعن سماعة عنه (عليه‌السلام) قال : وسألته فقلت : ان أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك ، وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان شي‌ء يبتلي به بعض أصحابنا ، وليس في ذلك عندهم شي‌ء يفتيه ، وعندهم ما يشبهه ، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟

فقال : لا ، انما هلك من كان قبلكم بالقياس.

فقلت له : لم لا يقبل ذلك؟

فقال : لأنه ليس من شي‌ء الا وجاء في الكتاب والسنة» (٢).

واتساع السنة ، واستيعاب الكتاب كما يدور في الابتلاء العملي أو النظري للأمة ، مما لا شك فيه ، نعم قد يجهله من يجهل ، وقد يعلمه من يعلم ، وانما علم الكتاب والسنة عند أهله.

وقد أكد الامام هذا الملحظ في حديث آخر قال في آخره :

«... أتي رسول الله الناس بما استغنوا به في عهده ، وبما يكتفون به من بعده الي يوم القيامة».

فقلت له : فضاع منه شي‌ء؟ فقال : لا ، هو عند أهله» (٣).

وهو بهذا يشير الي وراثته لهذا العلم الذي انضوي عليه صدره. وبهذا

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٦.

(٢) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٨١.

(٣) المصدر نفسه / ٢٨٢.

٦٣

يتجلي لنا مصدر علم الامام استقراء وواقعا.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«وهكذا يتضح أن كتاب الله وسنة رسوله الأكرم (صلي الله عليه وآله) كاناهما المصدرين الحقيقين الوحيدين حصرا وتعيينا لعلم الامام الكاظم ، ودائرة معارفه الكبري الشاملة ، وأن كل ما كان يحمله من فضل وفكر متفرع منهما ، وكان أبوه الامام الصادق ـ وهو بحر العلم وينبوع المعرفة باجماع المسلمين واتفاق الباحثين ـ طريقه الأوحد الي تناول ذلك كله ، وأستاذه الأكبر الذي لم يعرف أستاذا غيره ، وقد تلقي من نميره المتدفق صفو العطاء والرواء ، فكانت حصيلة تلك الأستاذية المثلي وذلك الارث العظيم بروز هذا الانسان الملائكي الفريد ، مجسدا علي الأرض بصورة الامام موسي بن جعفر» (١).

واننا اذ نثبت هذا الأصل ، وهو ثابت بالدليل ، فليس من قبيل التعصب أو المبالغة ، فلسنا منهما في شي‌ء ، وانما هو البحث الموضوعي الخالص لا القول الجزاف ، بل هناك ما هو صريح بالسنة التدوينية لدي الامام ، وفيه ما يحتاج اليه الناس ، بل فيه فوق هذا الانفتاح علي مغاليق الأمور ، وقد أكد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي هذا الملحظ بقوله :

«ان عندنا ما لا نحتاج معه الي الناس ، وان الناس ليحتاجون الينا ، وان عندنا كتابا من املاء رسول الله (صلي الله عليه وآله) وخط علي (عليه‌السلام) ، صحيفة فيها كل حلال وحرام. وانكم لتأتون بالأمر ، فنعرف اذا أخذتم به ، ونعرف اذا تركتموه» (٢).

وأما العلم الموهبي الذي أشار له البحث ، فهو لطف الهي بعيد عن

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٢٤٢.

٦٤

المزاعم الغالية ، ولكنه فوق مدرسة الكسب والتعلم التقليدي ، وحقيقته نابعة فيما آتاه الله عباده المقربين في ضوء قوله (تعالي) ـ فيما اقتص من خبر موسي (عليه‌السلام) مع العالم الذي قد يعرف بالخضر ـ (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) (١) فهو علم لدني يهبه الله لمن يشاء من عباده الصديقين ، وكان أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) من أبرز مصاديق هؤلاء العباد.

وهذا ما يفسر لنا قول الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) :

«مبلغ علمنا علي ثلاثة وجوه : ماض ، وغابر ، وحادث ، فأما الماضي فمفسر ، وأما الغابر فمزبور ، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع» (٢).

وليس ما تحدث عنه الامام في الوجه الثالث وهو العلم الحادث ، من العلم بالغيب اختصاصا ، ولكنه من علم الغيب افاضة أو اخبارا ، فعلم الغيب بحد ذاته مما يختص به الله وحده ، وهو بوصفه مما يختص به الله غيره باعتباره حالة ممكنة يخص بها الله من يشاء من رسله وأصفيائه ضمن قوله (تعالي) :

(عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا ـ الا من ارتضي من رسول ..) (٣).

وهذا ليس من قبيل الوحي ، ولكنه يتأتي بوسائط تحدث عنها الامام ، فالقذف في القلوب ، والنقر في الأسماع ، والالهام اليقيني الخالص ، كل أولئك من مفردات هذا العلم.

فعن علي بن يقطين ، قال : قلت لأبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) :

«علم عالمكم؛ سماع أم الهام؟

__________________

(١) سورة الكهف / ٦٥.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٢٦٤.

(٣) سورة الجن / ٢٦ ـ ٢٧.

٦٥

فقال : قد يكون سماعا ، ويكون الهاما ، ويكونان معا» (١).

وهذا ما يفسر لنا تلك الانباءات الغيبية المتواترة التي تحدث عنها الامام ببصر قاطع ، وأخبر عن وقوعها فوقعت. فكتب الامام الي الرشيد : «يقول موسي بن جعفر : رسولي يأتيك يوم الجمعة ، ويخبرك بما يري ، وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي علي صاحبه».

فأخبر هارون بذلك فقال :

(ان لم يدع النبوة بعد أيام ، فما أحسن حالنا).

فلما كان يوم الجمعة مات الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) (٢).

وكاخباره عن مدي بعض الأعمار ، وما تبقي منها ، وما أزيد عليها ، بلغة جادة ، فكان ذلك (٣).

وكالتماسه أن يدعو للمفضل وهو في النزع الأخير ، فأخبر بموته قائلا : قد استراح (٤).

وكتعظيمه لأجر بيان بن نافع بأبيه ، واخباره بأنه قبض في هذه الساعة ، فيقي ابن نافع متحيرا ، حتي أتاه الخبر مطابقا (٥).

وكاخباره بمن سيموت في سفره قبل أن يصل الي أهله (٦).

وكاخباره بحضور أجل من وصل عمته فزيد الي أجله عشرين (٧).

وكقوله (عليه‌السلام) لعبدالله بن يحيي الكاهلي :

«اعمل خيرا في سنتك هذه ، فان أجلك قد دنا».

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٨٦.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٩.

(٣) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٦٨.

(٤) المصدر نفسه ٤٨ / ٧٢.

(٥) المصدر نفسه ٤٨ / ٧٢.

(٦) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٣٦.

(٧) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٣٦.

٦٦

فما لبث الا يسيرا حتي مات (١).

وكأمره الفوري لعثمان بن عيسي ، وقد نزل هو ورفاقه في منزل ، فأمره أن يخرجوا منه الساعة. فلما خرجوا انهارت الدار (٢).

وكقوله (عليه‌السلام) لاسحق بن عمار :

«يا اسحاق تموت الي سنتين ، ويتشتت أهلك وولدك ، وعيالك ، وأهل بيتك ...» فكان كما أخبر (٣).

وكالخبر المستفيض المعروف بدرهم شطيطة ، وهو درهم أرسلته هذه المرأة الصالحة حقا شرعيا للامام ، وقد أخفاه المرسل بيده عن الامام ، ازدراء بقلة المبلغ وتواضعه ، فطالبه الامام بذلك الدرهم عينه ، ووزنه درهم ودانقان ، في الكيس الذي فيه أربعمائة درهم (٤).

وكان هذا كله رصدا لحقائق الأشياء بلمح غيبي لا سبيل معه الي التردد والانكار ، فهو واقع بالفعل.

وقد سئل الامام الصادق (عليه‌السلام) عن الامام يعلم الغيب؟

فقال : «لا ، لكن اذا أراد أن يعلم الشي‌ء ، أعلمه الله» (٥).

وقد سئل الامام موسي بن جعفر نفسه : أتعلمون الغيب؟

فقال : قال أبوجعفر (عليه‌السلام) : «يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنا فلا نعلم». وقال : «سر الله (عزوجل) ، أسره الي جبرئيل ، وأسره جبرئيل الي محمد (صلي الله عليه وآله) وأسره محمد الي من شاء» (٦).

__________________

(١) ظ : الكشي / الرجال / ٢٨٠.

(٢) الحميري / قرب الاسناد ١ / ١٩٤.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٤٨٤.

(٤) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٧٤ وانظر مصدره.

(٥) الكليني / الكافي ١ / ٢٥٣ ، ١ / ٢٥٦.

(٦) الكليني / الكافي ١ / ٢٥٣ ، ١ / ٢٥٦.

٦٧

وهذا الطرح الموضوعي للأئمة يوحي بصريح القول : أن علم الغيب خاصة الهية ، ولكن الله (تعالي) قد يفيض من هذا الرافد علي رسوله ، ورسوله يفيض علي أهل بيته ، وأهل بيته قد يتحدثون بجزء منه بضرس قاطع ، فينبئون عن الحدث المستقبلي بلغة الحتم.

وقد كان أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) دقيقا في الرد علي من نسب اليه علم الغيب ، فقال :

«ليس هو بعلم غيب ، وانما هو تعلم من ذي علم ، وانما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده الله بقوله :

(ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) (١).

وما سوي ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ، ودعا لي أن يعيه صدري ، وتفتطم عليه جوانحي» (٢).

والامامية لا تستكثر امداد العلم الموهبي لأئمة أهل البيت ويشاركهم في هذا ذوو النظر العقلي من أهل الاسلام ، وأدلته في السيرة أكثر من أن تحصي ، ولقد قال الامام الصادق لعبدالله النجاشي : «والله ان فينا من ينكث في قلبه ، وينقر في اذنه ، وتصافحه الملائكة».

فقلت : اليوم ، أو كان قبل اليوم؟

فقال الامام : «اليوم والله يابن النجاشي» (٣).

ولا أدل علي هذا من خوف الجبابرة وهلع الطغاة من هذه الظاهرة ، فهم يتحسسون منها ، وترتعد لها فرائصهم ، فقد تتحدث عن مستقبلهم ، وقد تكشف عما خبأ الدهر لهم.

__________________

(١) سورة لقمان / ٣٤.

(٢) محمد عبده / شرح نهج‌البلاغة / ٢٣٩ / طبعة دار الأندلس / بيروت.

(٣) الاربلي / كشف الغمة ٢ / ٤١٦.

٦٨

وقد يبدأ الامام ذلك كما أخبر المأمون بأنه سيلي الخلافة (١).

ولا برهان علي حقيقة هذا الأمر مما اكده الدينوري في روايته :

ان الرشيد قال يوما للأصمعي ، وهو يحدثه عن ولديه الأمين والمأمون : «كيف بكم؟ اذا ظهر تعاديهما ، وبدا تباغضهما ، ووقع بأسهما بينهما؟ حتي تسفك الدماء ، ويود كثير من الأحياء أنهم كانوا موتي».

فسألنا الأصمعي : ... هذا شي‌ء قضي به المنجمون عند مولدهما ، أو شي‌ء أثرته العلماء في أمرهما؟

قال الرشيد : بل شي‌ء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما.

قال الرواة : «فكان المأمون يقول في خلافته : قد كان الرشيد سمع جميع ما جري بيننا من موسي بن جعفر بن محمد ، فلذلك قال ما قال» (٢).

وسواء استجاب أعداء الامام لهذا النوع من العلم الذي تحدث به القرآن فيما اقتص من نبأ موسي مع العالم ، وصفة هذا العالم بأنه علم من الله علما ، أم لم يستجيبوا ، فقد ألمحت الي نماذج من لمحات هذا العلم في ضوء ما نطقت به الوثائق التأريخية.

ومهما يكن من أمر؛ فان الامام موسي بن جعفر في علمه الوراثي واللدني قد بلغ الغاية القصوي ، فما سئل الا أجاب ، وما حدث الا استوفي ، وما أنبأ الا كان ، وما قال الا صدق.

وكان سبيل انتشار علمه وجوده الشريف مباشرة قبل اعتقاله ، فهو يدلي به لرواد المعرفة وقادة الفكر العلمي. وكان سبيل انتشاره بعد اعتقاله ، تلامذته المقربون ، وما صدر عنه من رسائل واجابات وهو في غياهب السجون. وقد ظهر من هذين ما طبق الخافقين.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٣١ وانظر مصدره.

(٢) الدينوري / الأخبار الطوال / ٣٨٩. سيرورة علم الامام

٦٩

سيرورة علم الامام

نهض الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بأعباء الامامة في ريعان الشباب وعنفوان الفتوة ، وعمره عشرون عاما. ورغم الظروف القاتلة للتحرك ، والليالي الحالكة التي قضاها في السجون ، فان المهمة الأساسية لديه هي «تعليم الانسان» وهذا التعليم الانساني له أبعاده في آفاق متعددة من الهداية والتشريع والمعارف الانسانية بمفرداتها الهائلة ، وكل هذه الآثار كانت تدور في فكر الامام ، فيجسدها بأطاريح تعبر عن آرائه المتميزة ، وهي تعبر عن الفكر الاسلامي ليس غير.

وقد بدأ المد الاسلامي العقلي بالانحسار نتيجة السياسة المترفة والحياة اللاهية التي انتهجها الطغاة ، فكان علي الامام التصدي للمفاهيم والنظريات الجديدة التي تسربت الي البيئة العربية جراء هذا التلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب ، وكان عليه أن يرصد ذلك بحذر ويقظة واعداد ، من أجل الحفاظ علي جوهر الاسلام ، وكانت المبادي‌ء والنظريات الوافدة تشكل محورا جديدا فيه كثير من الأخطار ، وفيه كثير من التحديات ، وفيه كثير من الاضافة المعرفية أيضا.

٧٠

وبدأ الامام في تصديه لهذه الظواهر ، فدرأ منها ما رآه يصطدم بتعاليم السماء ، وأقر منها الأفكار التي تحمل سمة التقاليد العريقة للحضارات بحيث يري مداليلها الموروثة تصب في روافد معرفية لا تتعارض مع مفاهيم الاسلام في رسالته الانسانية. وكل حرصه أن لا يهمش دور التراث الاسلامي في بناء الحياة العقلية الجديدة كما ستري هذا في الفصل القادم مفصلا.

وقد مهد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بذهنه الوقاد المتفجر ، بين يدي تلك الامدادات الداعية الي احياء التراث التشريعي في الاسلام ، ورفد القيم الدينية وتطويرها واغنائها بالعناصر النابعة من صميم العقيدة لا من خارجها ، وهو بذلك يوحد الفكر الانساني في ملامح متأصلة في خضم التيارات الكبري المتصارعة.

وكانت ثقافة الامام التكاملية ـ باعتباره قد أعد اعدادا خالصا ـ تفيض عبر صور مشرقة تحمل بين سماتها ألوان الأصالة والابداع ، فتشكل ألقا مذهلا في استيحاء الفكر الاسلامي الخالص من مصادره الأولي ، وهو يزخر برهافة عالية وحس مجرد.

وكانت نقطة الانطلاق في هذا الخط المحوري : التأكيد علي تلقي العلم الناهض ، والتحصن بسياجه المحكم ، ومن ثم الشروع بتحقيق الهدف المركزي الذي يسعي اليه.

ولتطبيق هذا المبدأ كانت دعوة الامام بادي‌ء ذي بدء تتمثل بتوجيهه النابض : «تعلم من العلم ما جهلت ، وعلم الجاهل ما علمت» (١).

وهذه الدعوة ترمي الي هدف ذي شقين رئيسيين في الارادة : تعلم ما تجهل ، وتعليم من يجهل ، وتلك هي النظرة الشمولية التي تدرأ الأنانية ، وتدعو الي السماح بانتشار العلم وضبطه ومدارسته وتعليمه.

_________________

(١) ابن‌شعبة / تحف العقول / ٢٩٤.

٧١

وقد ندب الامام لهذه المهمة من يستمع الي القول فيتبع أحسنه ، وأكد طلب العلم ، وعلل فضيلة ذلك بقوله : «زاحموا العلماء في مجالسهم ولو حبوا علي الركب ، فان الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» (١).

وهذا التشبيه التمثيلي الذي يسره الامام الكاظم (عليه‌السلام) ، صورة ناطقة حية تمثل احياء القلوب بنور الحكمة ، كاحياء الأرض الميتة بوابل المطر ، وهذا يقضي بأن الجاهل من الأموات ، والمزاحم للعلماء من أجل الافادة من الأحياء فعلا.

ودخل علي الامام الحسن بن عبدالله وكان زاهدا ، ومن أعبد أهل زمانه في المسجد ، فأومأ اليه الامام فأتاه ، فقال له الامام : يا أباعلي ما أحب الي ما أنت عليه وأسرني به ، الا أنه ليست لك معرفة ، فاطلب المعرفة. فقال له : جعلت فداك ، وما المعرفة؟ قال الامام : اذهب تفقه واطلب الحديث.

قال عمن؟ قال الامام : عن فقهاء المدينة ، ثم اعرض الحديث علي ...

ففعل ، فدله الامام علي ما يلزمه من المعرفة (٢).

وروي ابن‌حمدون في تذكرته :

قال موسي بن جعفر (عليه‌السلام) : وجدت علم الناس في أربع :

أولها : أن تعرف ربك.

والثانية : أن تعرف ما صنع بك.

والثالثة : أن تعرف ما أراد منك.

والرابعة : أن تعرف ما يخرجك عن دينك.

وقد فسر ابن‌حمدون هذه الأربع :

__________________

(١) المصدر نفسه / ٢٩٣.

(٢) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٨.

٧٢

الأولي : وجوب معرفة الله تعالي التي هي اللطف.

الثانية : معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر والعبادة.

الثالثة : أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك ، وندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي أراده منك ، فتستحق بذلك الثواب.

الرابعة : أن تعرف الشي‌ء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه (١).

وبديهي أن الامام قد أراد بهذا العلم ذلك العلم الروحي ، وغايته أن ينبع من المعرفة الداخلية للانسان ، وهو العلم الالهي الذي يقف بالانسان علي الحقيقة ، فتصقل بها روحه ، ويمسك بها عمله ، ويتعلق بأضوائها ضميره. فهو يتحدث عن العلم ويريد غايته.

ولهذا نجد الامام يحث علي العلم ، ويفضله علي العبادة الساذجة ، فيقول : «فقيه واحد ... أشد علي ابليس من ألف عابد ، لأن العابد همه نفسه فقط ، والفقيه همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وارضائه ... ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد ، وألف ألف عابد» (٢).

ويعلل الامام قبول العمل مع العلم ، ورده مع الجهل ، فيقول :

«قليل العمل من العالم مقبول مضاعف ، وكثير العمل من أهل الهوي والجهل مردود» (٣).

وكان من غرر أقواله ، وعجيب نصائحه ، وبليغ وصاياه قوله : «محادثة العالم علي المزابل خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» (٤).

والمزابل معروفة وهي مجتمع النفايات ، والزرابي هي البسط والفرش

_________________

(١) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٤٨.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٧ عن الاحتجاج / ٢١٥.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ١٧.

(٤) المصدر نفسه ١ / ٣٩.

٧٣

الفاخرة ، واذا كانت الأولي رفضها العلم طبيعة ومنطقا ، فهي خير من الثانية مع اقبال النفس عليها.

وهدف الامام في هذا التوجه هو التوصل الي حقائق ناصعة ومرضية عند الله تعالي ، لأنها الطريق الأمثل في استقراء المجهول. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ولكي يكون العلم في جانبه الديني مرضيا عند الله تعالي ، ومحققا هدفه الكبير في تعزيز الايمان وترسيخ الاعتقاد والابتعاد عما يسخط الله عزوجل ، نهي الامام عن الأخذ بالبدع ، وحذر أشد التحذير من العمل بالرأي خلافا لحكم الله ونص رسوله (صلي الله عليه وآله) وفي ذلك يقول مخاطبا بعض أصحابه :

«لا تكونن مبتدعا ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلي الله عليه وآله) ضل ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه (صلي الله عليه وآله) كفر» (١).

ولما كان القياس في بعض حالاته ضربا من ضروب الابتداع ، ولونا من ألوان الأخذ بالرأي ، فقد نهي (عليه‌السلام) أصرح النهي عن العمل بالقياس في تقرير حكم النظير والمشابه ان لم تكن العلة المشتركة منصوصة بصريح اللفظ.

وجاء في الرواية عن سماعة بن مهران أنه قال للامام : «انا نجتمع فنتذاكر ما عندنا ، فلا يرد علينا شي‌ء الا وعندنا فيه شي‌ء مسطر ، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم. ثم يرد علينا الشي‌ء الصغير ليس عندنا فيه شي‌ء ، فينظر بعضنا الي بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس علي أحسنه». فقال الامام (عليه‌السلام) :

ما لكم وللقياس!! انما هلك من هلك قبلكم بالقياس (٢) (٣).

وكان علم الامام متنقل الأفياء في موضوعات متعددة ، ومفردات لا

__________________

(١) المصدر نفسه ١ / ٦٥.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٥٧.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٨.

٧٤

حصر لها ، وقد اشتملت عليها المصادر المتخصصة ، وقد أوردت أحاديثه ورواياته واستنتاجاته وهي تزخر بالعطاء السمح الكثير ، وكان أبرزها ما ضم الكتاب واحتوته السنة من الروائع ، وقد تلقاها الناس في شتي القصبات والأقاليم فحدبوا علي مدارستها.

وله شذرات ثمينة استخرجها من القرآن الكريم ، تتجلي بتفسيرها منزلة أهل البيت القيادية ، وتؤكد دور الولاية الكبري في قبول الأعمال وتلقي الحسنات ، والانابة الي الله عزوجل.

ففي قوله تعالي : (بلي من كسب سيئة) (١).

قال الامام : بغضنا (٢).

وفي قوله تعالي : (وأحاطت به خطيئته ...) (٣).

قال الامام : «من أشرك في دمائنا» (٤).

وفي قوله تعالي : (فاكتبنا مع الشاهدين ...) (٥).

قال الامام : «نحن نشهد للرسل علي أممها» (٦).

وفي قوله تعالي : (واذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ...) (٧).

قال الامام : «هم عدونا أهل البيت ، اذا سألوا عنا قالوا ذلك.» (٨).

وفي قوله تعالي : (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (٩).

__________________

(١) سورة البقرة / ٨١.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٣) سورة البقرة / ٨١.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٥) سورة آل‌عمران / ٥٣.

(٦) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٧) سورة النحل / ٢٤.

(٨) ابن شهر آشوب ٣ / ٤٠٣.

(٩) سورة البقرة / ٥٧.

٧٥

قال الامام : «ان الله أعز وأمنع من أن يظلم ، أو ينسب نفسه الي الظلم ، ولكن الله خلطنا بنفسه ، فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته» (١).

وفي قوله تعالي : (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين ...) (٢).

قال الامام : «الذين فجروا في حق الأئمة ، واعتدوا عليهم» (٣).

وفي قوله تعالي : (ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكريا ويحيي وعيسي ...) (٤).

استدل فيهما الامام علي الرشيد بأن أبناء أميرالمؤمنين هم أبناء رسول الله (صلي الله عليه وآله) من جهة أمهم فاطمة (عليهاالسلام) ، فقال : «انما ألحق عيسي بذراري الأنبياء من قبل مريم ، وألحقنا بذراري الأنبياء من قبل فاطمة ، لا من قبل علي (عليه‌السلام)».

فقال له الرشيد : أحسنت أحسنت يا موسي ، زدني من قوله.

فقال الامام : اجتمعت الأمة برها وفاجرها ، أن حديث النصراني حين دعاه النبي (صلي الله عليه وآله) الي المباهلة ، لم يكن في الكساء الا النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) ، فقال تبارك وتعالي : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا وأنفسنا وأنفسكم ...) (٥).

فكان تأويل (أبناءنا) الحسن والحسين ، و (نساءنا) فاطمة ، و (أنفسنا) علي بن أبي‌طالب.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٤.

(٢) سورة المطففين / ٧.

(٣) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٤.

(٤) سورة الأنعام / ٨٤ ـ ٨٥.

(٥) سورة آل‌عمران / ٦١.

٧٦

فقال الرشيد : أحسنت (١).

وفي هذا السياق أورد الامام موسي بن جعفر عند المهدي العباسي ، في قوله تعالي : (وآت ذا القربي حقه ...) (٢).

قال الامام : ، ان الله تبارك وتعالي لما فتح علي نبيه فداك وما ولاها ، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله علي نبيه (صلي الله عليه وآله) : (وآت ذا القربي حقه ...) (٣) ، فلم يدر رسول الله (صلي الله عليه وآله) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل (عليه‌السلام) ربه ، فأوحي الله اليه : أن ادفع فدك لفاطمة (عليهاالسلام) (٤).

وفي مقام التحذير والانذار اتخذ الامام سبيلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أورده الامام رفيقا تارة ، وعنيفا تارة أخري ، ليحقق أبعاد هذه الفريضة التي ابتعد عنها الناس ، وهو يسير ذلك ـ مضافا الي التحذير ـ في سياق العبرة والموعظة ، وله في هذا مواقف أغمض التأريخ عنها عينا ، وأضرب عن ذكرها صفحا ، وأكتفي منها بنموذج صريح صارخ ، فيما أورده الشيخ المفيد بسنده : «فقد أدخل الامام علي الرشيد ، فكان مما قاله الرشيد له حين أدخل عليه ، ما هذه الدار؟

قال الامام : هذه دار الفاسقين ، قال الله تعالي : (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ...) (٤).

فقال له هارون : فدار من هي؟

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٥٦.

(٢) سورة الاسراء / ٢٦.

(٣) سورة الاسراء / ٢٦.

(٤) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٥٤٣ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ١٥٧.

(٥) سورة الأعراف / ١٤٦.

٧٧

قال الامام : هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة.

قال هارون : فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

فقال الامام : أخذت منه عامرة ، ولا يأخذها الا معمورة.

قال هارون : أين شيعتك؟

فقرأ الامام : (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتي تأتيهم البينة) (١).

قال هارون : فنحن كفار؟

قال الامام : لا ، ولكن كما قال الله :

(... الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) (٢).

«فغضب عند ذلك الرشيد وغلظ عليه ، فقد لقيه الامام أبوالحسن (عليه‌السلام) بمثل هذه المقالة وما رهبه ، وهذا خلاف قول من زعم أنه هرب منه من الخوف» (٣).

وبهذه الشذرات النادرة نكتفي ايرادا لما فجره الامام موسي (عليه‌السلام) من طاقات قرآنية تهدي سواء السبيل فاذا وقفنا عند باب الفقه والأحكام تشريعا وانتقاء وافاضة ، فاجأنا ذلك البحر الخضم الذي استقت منه مصادر التشريع أحكامها في الفقه والحديث. وأبرزها : الكافي للكليني ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ، والاستبصار والتهذيب للشيخ الطوسي ، ووسائل الشيعة للحر العاملي ، وسواها من كتب الفقه والحديث والاستدلال بما هو متوافر فيها من فتاوي وأحاديث وروايات ، جعل لها القرآن شاهدا ، واستخرج من آياته دليلا ، وذلك من باب النوادر التي لا يمكن أن تقدر بثمن لأنها من الكنوز والذخائر النفيسة.

__________________

(١) سورة البينة / ١.

(٢) سورة ابراهيم / ٢٨.

(٣) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٦٢.

٧٨

«سئل (عليه‌السلام) : ما يقول العالم (عليه‌السلام) في رجل قال : نذرت لله لأعتقن كل مملوك كان في رقي قديما ، وكان له جماعة من المماليك؟ فكان الجواب بخطه (عليه‌السلام) : ليعتقن من كان في ملكه من قبل ستة أشهر ، والدليل علي صحة ذلك قوله تعالي : (والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم) (١).

«والحديث ما ليس له ستة أشهر» (٢).

وفي السياق نفسه ، سئل (عليه‌السلام) : ما يقول العالم في رجل قال : والله لأتصدقن بمال كثير؛ فما يتصدق؟

فأجاب الامام بخطه : ان كان الذي حلف من أرباب شياه ، فليتصدق بأربع وثمانين شاة ، وان كان من أصحاب النعم ، فليتصدق بأربعة وثمانين بعيرا ، وان كان من أرباب الدراهم فليتصدق بأربعة وثمانين درهما ، والدليل عليه قوله تعالي :

(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (٣).

فعدت مواطن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قبل نزول تلك الآية ، فكانت أربعة وثمانين موطنا (٤).

وسئل (عليه‌السلام) ، ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت ، وقطع رأس الميت وأخذ الكفن؟

فكان الجواب بخطه : يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الحرز ، ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميت ، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح (٥).

__________________

(١) سورة ياسين / ٣٩.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٧٤ وانظر مصدره.

(٣) سورة التوبة / ٢٥.

(٤) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب : ٣ / ٤١٠ ـ ٤١١.

(٥) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٧٥ وانظر مصدره.

٧٩

وعن علي بن أبي‌حمزة ، قال : كنا بمكة سنة من السنين ، فأصاب الناس تلك السنة صاعقة كبيرة حتي مات من ذلك خلق كثير ، فدخلت علي أبي‌الحسن (عليه‌السلام) ، فقال مبتدئا من غير أن أسأله : يا علي ينبغي للغريق والمصعوق أن يتربص به ثلاثا الي أن تجي‌ء منه ريح يدل علي موته.

قلت : جعلت فداك ، كأنك تخبرني أن دفن ناس كثير أحياء؟ قال : نعم ، يا علي ، قد دفن ناس كثير أحياء ، وما ماتوا الا في قبورهم» (١).

ان هذه الاجابات وهي سمحة لا عسير فيها ، وواضحة لا ابهام بها ، توحي بالمستوي العلمي لموازين الشريعة وأحكامها ، وكانت استدلالاتها حجة لا تقبل الريب أو الشك ، وهي غيض من فيض.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ويظهر من بعض النصوص المأثورة عن الامام أن هناك من كان يعترض عليه في أحكامه وفتاواه ، فلا يجد مناصا من اضافة شرح أو زيادة استدلال ، لاقناع خصمه بصواب قوله وصحة فتواه». وقد أورد بعض النماذج علي ذلك (٢).

ومن ذلك : أن أبايوسف أمره الرشيد بسؤال الامام. فقال للامام : ما تقول في التظليل للمحرم؟

قال الامام : لا يصلح.

قال أبويوسف : فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟

قال : نعم. قال : فما الفرق بين الموضعين؟

قال الامام : ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟

قال : لا.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١١.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١١٢.

٨٠