الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

حينما رأي مسؤوليته تقتضي هذا الموقف. فأعلنها ثورة عارمة ضد الظلم والاستبداد والانحراف العقائدي ، فضحي بنفسه وآله وصحابته ، فكان مضرب المثل في الاباء والشمم والفداء والتضحية ، وذهب شهيد عظمته علي مذبح الحرية والوعي الديني ، وهو وان لم يحقق نصرا فعليا في معركة الطف ، ولكنه حقق نصرا مستقبليا قوض فيه أركان الحكم الأموي ، وأبقي جذوة النضال الديني متقدة مع الأجيال ، وظل رمزا شاخصا لكل عمل ثوري في تأريخ الاسلام. بينما نجد ولده الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) وقد عاش مأساة الطف بكل مشاهدها الدامية ، كن قد ادرع الصبر لباسا ، وأحيا ثبات الأبطال قائدا ، وجدد عهد الرسول الأعظم داعيا ، وأعلن حقوق الانسان مشرعا ، فعاد ما أثر عنه يفوق مقررات الأمم المتحدة ، ومنظمات حقوق الانسان الدولية.

وكان الامام محمد الباقر (عليه‌السلام) مؤسسا لمدرسة أهل البيت في فروعها العلمية المتعددة ، ومجددا للحضارة الاسلامية علي رأس القرن الثاني من الهجرة ، حينما كان الجهل مسيطرا علي الحياة الاجتماعية ، وحينما كانت الدعوات منحرفة عن النهج السوي ، ونزغات النزق واللهو متحكمة في ضمير الجيل الناشي‌ء ، فكانت ظاهرة العلم الرفيع الهادف يتزعمها الامام الباقر (عليه‌السلام) ، مبتعدا عن مظاهر الزيف المعقدة في الجهل والغرور والدجل السياسي ، متحفزا لخلق جيل تتكافأ فرصه الثقافية بما يتناسب مع حمل الاسلام نظاما وعقيدة وحياة ، فكان له ذلك.

وحينما تسلم الامام الصادق (عليه‌السلام) قيادة الأمة ، بعد وفاة أبيه ، عام (١١٤ ه) ، اتجه بالركب الحضاري ـ وقد رسخت أصوله ـ الي مبدأ جديد من القيم العليا ، في حين تتصارع الأحزاب ورجال المؤامرات في الساحة علي استصفاء الملك والسلطان ، الا أن تجربة الامام الصادق في السياسة

٤١

والحياة والاجتماع ، حددت له في ضوء مسؤوليته الرسالية التكليف الشرعي في بناء صرح الاسلام علي أسس رصينة لدي تنازع الأهواء ، وتعدد النحل والمذاهب.

أما حين يلتمع في الأفق بريق السلاح ، ويلتهب المناخ بالثورة اثر الثورة ، ويقرع الحديد بالحديد ، وتسفك الدماء بين أبناء الدين الواحد دون جدوي ودون أثر ، واذا بوريث النبوة يحتفظ بالبقية الباقية من حملة الاسلام ، ويشمر ساعديه لاعادة الدين غضا طريا نديا في مبادئه ، فتلتف حوله الأطراف كافة ، كما يلتف الورق حول الشجرة النضرة ، فكان زعيم الجماعة الاسلامية علما وعملا وكياسة ، كما كان زعيم مدرسة أهل البيت اصالة وموضوعية وازدهارا.

حتي اذا تسلم منصب الامامة سيدنا ومولانا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عند وفاة أبيه الصادق عام (١٤٨ ه) وهو في العشرينات من العمر في ظل حكم ارهابي صارم ، وسيف دموي قاطع عالج الأمر بروية فائقة ، وبظواهر مضادة لتلك الممارسات اللاانسانية ، فضاقت به السلطات ذرعا ، وارتهن مغيبا بين أطباق السجون وأقبية المعتقلات ، ولم يمنعه ذلك من ارسال أشعته النافذة الي القلوب من خلال تلك الظواهر التي سنتحدث عنها اجمالا.

الورع والتقوي في ظاهرة ايجابية

وهي ميزة انفرد بها أئمة أهل البيت بأدق معانيها الهادئة ، وتجلت بنضائد تلك السيرة الزكية لأولئك الميامين الأبرار ، والامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) أحد النماذج الفضلي لهذا المنهج الدقيق ، والورع لديه ظاهرة ايجابية وليست انهزامية ، والتقوي لديه حقيقة ائتلافية وليست سلبية ،

٤٢

والتعامل مع الورع والتقوي منظور متطور لا يوازيه ذلك التهرب من الواقع ، ولا التخفف من أعباء الحياة ، وهما يمثلان لدي الامام حقيقة تأريخية في الاجتماع والاندماج مع الناس ، ولأنهما مفهومان من مفاهيم الاسلام فهما يتأطران بالصلاح والاصلاح ورباطة الجأش ، وينزعان الي الصلابة والايثار والايمان المطلق ، نعم هما مرتبطان بذلك الوثاق النزيه الطاهر : خشية الله في السر والعلن ، والخوف منه في الشدة والرخاء ، وهما مظهران للعبودية الخالصة المطمئنة ، ومن هذا الخلال وصف الامام بأنه أعبد أهل زمانه وأفقههم ، وكان يصلي نوافل الليل فيصلها بصلاة الصبح ، فاذا طلعت الشمس خر ساجدا لله ، ويقول في دعائه :

«اللهم اني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب».

ومن دعائه : «عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك».

وكان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه (١).

وكان يجازي المسي‌ء باحسانه اليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه (٢) وهذه ظواهر ايمانية ايجابية تمثل الورع والتقوي في صور متعددة ، وكان عمله يكشف عن هذه الحقيقة في ملامح من رياضة السلوك ، تحتضن الزهد والتقشف والدربة كما حدث أخوه علي بن جعفر ، قال : «خرجنا مع أخي موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في أربع عمر يمشي فيها الي مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشي فيها ستة وعشرين يوما!! وأخري خمسة وعشرين يوما ، وأخري أربعة وعشرين يوما!! وأخري أحد عشر يوما» (٣).

وفي هذا المسلك توطين للنفس علي الشدائد ، ورغبة ملحة في

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٢.

(٢) ابن‌طلحة الشافعي / مطالب السؤول ٢ / ٦١.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٠٠ وانظر مصدره.

٤٣

تحصيل منازل الأولياء ، وهو يسير علي قدميه في طريقه الي حرم الله تعالي.

أما اذ لحظت حياته الخاصة ، فكان يقنع بالجشب من الطعام والخشن من الثياب ، والاقلال من الأكل ، والانشغال بالسنن والفروض.

وكان مع هذا العيش البسيط يلبي نداء الاحتياج ، ويقف مع الناس في الفرح والحزن ، ويشاطرهم الأسي في البؤس والفقر ، ويدفع بهم شوطا كبيرا (صفحه ٣٩) نحو الألفة والتوادد وحسن العشرة ، وهو فيما بينهم كأحدهم في اصلاح ذات البين ، وقضاء الحقوق ، وحل الاشكال الاجتماعي.

حلم الامام وكظمه للغيظ

وهذه مميزة أخري اتسم بها الامام ، وهي مرتبة في ترويض النفس لا ينالها الا ذو حظ عظيم ، وقد كان حظ الامام منها الأوفر ، ألا وهي الحلم وكظم الغيظ ، وليس هذا شيئا جديدا علي الامام فقد عرف به في أدوار حياته كلها ، حتي أصبح ذلك شعارا لاصقا به ، ولقبا يتسابق مع اسمه الشريف في العلمية عليه ، حتي قال ابن أبي‌الحديد عنه «موسي بن جعفر بن محمد ، هو العبد الصالح ، جمع بين الفقه والدين والنسك والحلم والصبر» (١).

وللامام في المشهد شواهد وأمثال وأحداث ، ذكرها التأريخ في طياته ، حتي عرف عنه أنه يحسن لمن يسي‌ء اليه ، فقد ذكر السيد الأمين عن الخطيب البغدادي : «أن الامام موسي بن جعفر كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار» (٢).

وحديث صراره في هذا الملحظ متواترة ، حتي روي أبوالفرج بسنده عن يحيي بن الحسن ، قال : (كان موسي بن جعفر اذا بلغه عن الرجل ما

__________________

(١) ابن أبي‌الحديد / شرح نهج‌البلاغة ٥ / ٢٩١.

(٢) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٣٩.

٤٤

يكره ، بعث اليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلثمائة الي المائتين الي المائة دينار ، وكانت صرار موسي مثلا» (١).

والامام (عليه‌السلام) يكظم غيظه عن أعدائه حتي يعودوا أولياءه ، وعن مبغضيه حتي يكونوا أحباءه ، وله في ذلك أخبار حسان.

قال الشيخ المفيد بسنده ، وكذلك الخطيب البغدادي عن جده عن أصحابه : «أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب (رض) كان بالمدينة يؤذي أباالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، ويسبه اذا رآه ، ويشتم عليا (عليه‌السلام) ، فقال للامام بعض جلسائه : دعنا نقتله ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي ، وزجرهم أشد الزجر ، وسأل عن العمري ، فذكر له أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة. فركب اليه في مزرعته فوجده فيها ، فدخل المزرعة بحماره ... ونزل فجلس عنده ، وضاحكه وقال له :

كم غرمت في زرعك هذا؟

قال : مائة دينار.

قال الامام : فكم ترجو أن تصيب؟

قال : أنا لا أعلم الغيب. قال الامام : انما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟

قال : أرجو أن يجيئني مائتا دينار.

فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك علي حاله ، فقام العمري فقبل رأسه ، وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم اليه أبوالحسن (عليه‌السلام) وانصرف.

وذهب الامام الكاظم الي المسجد فوجد العمري جالسا ، فلما نظر الي الامام ، قال : «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

__________________

(١) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٩

٤٥

فوثب أصحابه فقالوا له : ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا ، قال : فخاصمهم وشاتمهم ، وجعل يدعو لأبي‌الحسن موسي كلما دخل وخرج» (١).

ومن برامج حلم الامام وكظمه الغيظ : مداراته للناس ، وذلك ما يحتاج الي رحابة صدر ، وسعة أفق ، وانفتاح نفس ، وله في ذلك أمثلة نابضة ، ولعل من أطرفها : «أنه اجتاز بشر ذمة وفيهم ابن‌هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام ويدعيها ، فمضي الرجل الي الأمام ، وتعلق بلجام بغلته وادعاها ، فعرف الامام غايته ، فنزل عن بغلته ، وأعطاها له (٢).

ومن أمثلة حلمه الرائعة ضم الحلم الي الكرم ، والتجاوز عن أصحاب السيئات ، وقد روي الكليني عن معتب قال :

«كان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) في حائط له يصرم ، فنظرت الي غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمي بها وراء الحائط ، فأتيته فأخذته وذهبت به اليه ، فقلت : جعلت فداك؛ اني وجدت هذا وهذه الكارة ، فقال للغلام : فلان ، قال : لبيك ، قال : أتجوع؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فتعري؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فلأي شي‌ء أخذت هذه؟ قال : اشتهيت ذلك. قال : اذهب فهي لك ، وقال : خلوا عنه» (٣).

وقد يكون الحلم وكرم الأخلاق عسيرا في اللحظات الحاسمة ، وقد يخرج المرء عن طوره في الاتزان عند الحرج ، ولكن الامام في مثل هذا الموقع كان سيد الموقف ، فقد روي ابن أبي‌الحديد المعتزلي :

«أن عبدا لموسي بن جعفر (عليه‌السلام) قدم له صحفة فيها طعام حار ، فعجل فصبها علي رأسه ووجهه ، فغضب فقال له :

__________________

(١) المفيد / الارشاد / ٣٣٣ ، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ /.

(٣) الكليني / الكافي ٢ / ١٠٨.

٤٦

(والكاظمين الغيظ) قال الامام : قد كظمت.

قال : (والعافين عن الناس) قال : قد عفوت.

قال : (والله يحب المحسنين) قال : «انت حر لوجه الله ، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية» (١).

وأنت تري الامام في هذه الشواهد يصدر عن نفس مندمجة في معايير جديدة من الحلم والكظم ، فهو لا يكظم الغيظ فحسب ، بل يتفضل ويعفو ويجود ، فيخلق جوا نديا من المحبة والألفة والسلام.

والامام يقصد عامدا الي هذا المنهج ، فقد جمع أولاده وأوصاهم :

«يا بني؛ اني أوصيكم بوصية من حفظها انفتح بها ، اذا أتاكم آت ، فأسمع أحدكم في الأذن اليمني مكروها ، ثم تحول الي اليسري فاعتذر لكم ، وقال : اني لم أقل شيئا فاقبلوا منه» (٢).

والامام في هذا كله ينطلق من مفهوم قرآني بعيد النظر ، قوي الأسر ، وهو يطبقه فعلا ، ليدعم القول بالعمل.

قال تعالي : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (٣).

وقال تعالي : (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (٤).

ومن أولي من عدل القرآن بتطبيق مبادي‌ء القرآن.

يضاف الي هذا كله؛ أن الامام يزين حلمه بالتواضع ، وسيرته هذه بمكارم الأخلاق ، وذلك مسلك عرفاني له شواهده عند الامام.

أورد السيد الأمين عن تحف العقول : ان الامام مر برجل من أهل

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٤٨ عن شرح النهج ١٨ / ٤٦.

(٢) ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / ٢٢٠ ، وقريب منه في كشف الغمة للاربلي ٣ / ٩.

(٣) سورة الأعراف / ١٩٩.

(٤) سورة فصلت / ٣٤.

٤٧

السواد ، دميم المنظر ، فسلم عليه ونزل عنده ، وحادثه طويلا ، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجته ... فقيل الامام : يابن رسول الله ، أتنزل الي هذا؟ ثم تسأله عن حوائجه ، وهو أحوج اليك؟

فقال : «عبد من عبيدالله ، وأخ في كتاب الله ، وجار في بلاد الله ، يجمعنا واياه خير الآباء آدم ، وأفضل الأديان الاسلام ، ولعل الدهر يرد من حاجتنا اليه ، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه» (١).

وهذا النحو من التواضع فيه نظرة فاحصة لأصول الأخوة البشرية في ضوء انسانية الاسلام ، وفيه تلويح بأن بقاء الحال من المحال ، فهذا الرجل المحتاج اليوم ، قد يضطر الآخرون لاحتياجه يوما ما ، وتلك نظرات قل من يدقق فيها منفتحا عليها كما صنع الامام (عليه‌السلام).

ظاهرة السخاء والكرم النفسي

نظر الامام الي سرف أبي‌جعفر المنصور ، وسرف ولده المهدي ، وتبذير موسي الهادي ، ومجون هارون الرشيد ، وهم يتناوبون علي احتجان أموال المسلمين ، ويمعنون بمصادرة أملاكهم ، وحقوق الناس بأيدي الطغمة الحاكمة تدار بها الكؤوس وموائد القمار ، ومجالس العبث واللهو ، فكان الامام بظاهرة سخائه يمثل ردة فعل لاستبداد العباسيين في بخلهم علي الآخرين ، وجشعهم المفرط في الاستيلاء علي مصادر الغني والثروة ، فعمد الي انعاش الضعفاء ، وارفاد المحرومين ، واجراء الرزق علي أهل الفاقة ، فسارت الركبان بأنباء كرمه الفياض ، وتحدث الشعب المسلم عن أفضال هذا السخاء والعطاء. قال الشيخ المفيد : «وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل ، فيحمل اليهم الزنبيل فيه العين والورق ،

________________

(١) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٤١.

٤٨

والأدقة والتمور ، فيوصل ذلك ، ولا يعلمون من أي جهة هذا» (١).

وهذا منهج جديد في الاسرار بهذه الأعطيات ، لتكون خالصة لوجهه الكريم ، ولئلا يزري بالفقير فقره ، وقد كفاه الامام ذلك. ولم تكن بين الامام والفقراء أية وساطة ، وانما هو معهم في قضاء حوائجهم وجها لوجه. فقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي : ان بعض الفقراء دخل علي الامام يسأله العطاء ، فقال له الامام : لو جعل لك التمني في الدنيا ، ما كنت تتمني؟

قال : كنت أتمني أن أرزق التقية في ديني ، وقضاء حقوق اخواني ، فاستحسن الامام جوابه ، وأمر أن يعطي ألف دينار (٢).

وكان الامام في كرمه يقابل الألطاف بالاحسان ، والهدية بالعطاء الوفير ، فقد أهدي اليه أحد العبيد في بعض أسفاره شيئا من الألطاف فقبلها الامام بقبول حسن ، وسأل عن اسم العبد ومولاه ، فوقف عليه.

فقال الامام لمولاه : «غلامك فلان تبيعه؟ قال له : جعلت فداك؛ الغلام لك والضيعة ، فاشتري أبوالحسن الضيعة والرقيق بألف دينار ، وأعتق العبد ، ووهب له الضيعة ...» (٣).

وأمثلة كرم الامام عديدة ، وهدفها البر والاحسان ، وطبيعتها اغاثة الملهوف ، وامدادها ذلك الحلال الخالص الذي ينتقيه الامام من طيب ماله وغلات مزارعه ، وأراضيه الموروثة ، وتلك موارد سليمة الأصل ، وربما افتقرت أن يعمل الامام بنفسه علي انمائها ، وأن يتفقدها بذاته من أجل اعمارها؛ وقد يستغرب هذا من الامام مع توفر مساعديه وغلمانه من جهة ، ومع جلالة قدرة وعظيم منزلته من جهة أخري ، ولكنه العمل الذي يوجهنا

__________________

(١) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٣.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ١٥٤ وانظر مصدره.

(٣) ظ : الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / ١٣ / ٢٩ ـ ٣٠ ، محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١.

٤٩

نحوه ، وليكون به قدوة تحتذي لأتباعه وأوليائه ، فالعمل شرف لا يدانيه شرف. وعمل الامام لا يقلل من قيمته القيادية علي الاطلاق ، بل يقربه من النفوس الوادعة المطمئنة ، ويعلي منزلته في أنظار ذوي الهمم العالية.

روي علي بن حمزة قال :

«رأيت أباالحسن (عليه‌السلام) يعمل في أرض له ، قد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت : جعلت فداك؛ أين الرجال؟

قال (عليه‌السلام) : يا علي؛ قد عمل باليد من خير مني في أرضه.

فقلت : ومن هو؟

فقال (عليه‌السلام) : رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين (عليه‌السلام) وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين» (١).

فاذا علمنا أن للامام ضياعا موروثة ، وأن بعض المزارع كانت بحيازته بالاحياء لأراضيها ، وأن قسما منها تملكها بالشراء ، علمنا مصدر هذا الكرم ، ومورد هذا السخاء الرهيف (٢).

يقول الأستاذ الشيخ محمدحسن آل‌ياسين :

«وكلمة يجب أن تسجل هنا ... تلك هي أن هذا الكرم الواسع الذي أصبحت صرره مضرب المثل ، لم يكن بفضل ما يصل الامام من الأموال الشرعية من أتباعه وشيعته في شرق الأرض وغربها ، لأن ايصال تلك الأموال لمستحقيها لا يعد كرما وجودا. وانما تجسد ذلك السخاء الثر والعطاء المغدق بسبب ما كان يصله من حاصل ضياعه ومزارعه التي دخلت في ملكه شراء أو ارثا من أسلافه» (٣).

وهنا نسجل ظاهرة يرددها المعنيون بسيرة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)

_________________

(١) الكليني / الكافي ٥ / ٧٥ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١١٥.

(٢) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨ ، ياقوت / معجم البلدان ٥ / ٢٣.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١.

٥٠

وهي ظاهرة صراره التي يضرب بها المثل حتي قيل :

«عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» (١).

ومعني هذا أن في صراره الغني والاغناء ، وفي صلاته بها الكفاية والثراء ، واذا دققنا النظر في قيمة الدينار الذهبي في عصره عرفنا مدي قيمة صراره بالصلات بالمائة والمائتين والثلاث والأربع حتي الألف من الدنانير ، فهي تسبب لمن تصل اليه الغني بحدود معينة ، وللامام في ذلك أخبار طريفة تقدم بعضها في موقعها من الرسالة شاهدا أو نموذجا.

قال الاربلي : «وذكر جماعة من أهل العلم أن أباالحسن (عليه‌السلام) كان يصل بالمائتي دينار الي الثلاثمائة دينار ، وكانت صرار موسي (عليه‌السلام) مثلا» (٢).

وروي عن محمد بن عبدالله البكري قال : «قدمت الي المدينة أطلب دينا فأعياني ، فقلت : لو ذهبت الي أبي‌الحسن (عليه‌السلام) فشكوت اليه ، فأتيته ... وسألني عن حاجتي فذكرت له قصتي ، فدخل ولم يقم الا يسيرا حتي خرج الي ، فقال لغلامه : اذهب ، ثم مد يده الي فدفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار ...» (٣).

فاذا علمنا أن ثمن الدار في عصر الامام أربعون دينارا كما يقول المؤرخون ، عرفنا أن هذا المبلغ ضخم في حينه.

ومن النماذج الراقية لكرمه الفياض ما حدث به عيسي بن محمد بن مغيث القرظي ـ وكان قد بلغ تسعين سنة حينما حدث بهذا الحديث ـ (صفحه ٤٧) قال : «زرعت بطيخا وقثاء وقرعا في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها : «أم عظام» فلما بلغ الخير واستوي الزرع ، بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله ، وكنت قد غرمت علي الزرع وفي ثمن جملين : مائة وعشرين دينارا. فبينما أنا

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار / ٤٨ / ١٠٤ و ١٠٨.

(٢) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢١.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ٢٠.

٥١

جالس طلع موسي بن جعفر بن محمد ، فسلم ثم قال : ايش حالك؟ فقلت أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي ، قال : وكم غرمت فيه؟ قلت : مائة وعشرين دينارا مع ثمن الجملين ، فقال : يا عرفة؛ زن لأبي المغيث مائة وخمسين دينارا ...

فقلت : يا مبارك ، ادخل وادع لي فيها ، فدخل ودعا ...

ثم علفت عليه الجملين وشيعته ، فجعل الله فيها البركة ، زكت فبعث منها بعشرة آلاف» (١).

وكان الامام (عليه‌السلام) يتصدق بالمزارع والضياع والبساتين ، ويوقف بعضها علي ذريته من بعده ، وقد جمع روايات ذلك وأشار اليه الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين (٣).

وهذا أيضا يضاف الي قاموس كرم الامام وفيضه الزاخر. ولنا أن نتساءل عن هذه النفس الكريمة في العطاء والايثار ، كيف اندفعت هذا الاندفاع لاحياء النفوس ، وبعث الأمل في القلوب البائسة والمنكوبة؟ والاجابة عن هذا لا تحتاج كثير تأمل أو طول تفكير ، فما يصدر عن الامام في هذا الصدد نابع من مفاهيم انسانية عليا سبق لها آباؤه وأجداده ، ولا حاجة بنا أن نذكر أن الامام الحسن بن علي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) كان يوصف بأنه (كريم أهل البيت) وهذا أشهر من أن يذكر ، ولا كبير جهد لدينا أن نعتبر هذا الجود الغامر من صميم المفردات (صفحه ٤٨) الانسانية التي طرحها الامام بحيث اعتبر ذلك مثالا لشجرة في الجنة فقال : (السخاء شجرة في الجنة ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلق بغصين منها أدته الي الجنة. والبخل شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، من تعلق بغصن منها أدته الي النار) (٣).

__________________

(١) الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ١٣ / ٢٩ ، الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٢.

(٢) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١ ـ ٥٢.

(٣) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٥٢

الفصل الثاني

الامام والمسيرة العلمية الرائدة

١ ـ المدرسة الأولى.

٢ ـ مصادر علم الإمام عليه السلام.

٣ ـ سيرورة علم الإمام عليه السلام.

٤ ـ تلامذة الإمام والبراث العلمي.

٥ ـ تعليمات الإمام لتهذيب الشعب المسلم.

٥٣
٥٤

المدرسة الأولي

كانت جامعة أهل البيت (عليهم‌السلام) هي الأمل الباسم لصيانة التراث الاسلامي من الضياع ، ومؤسس هذه الجامعة هو أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) بما غرس من أصول معرفية ذات ارتباط عريق بالفيض النبوي الشامل ، فالنبي مدينة العلم وعلي بابها باجماع المسلمين ، وكان سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين يغذيان أصول هذه الجامعة بما سمح لها العصر ، وما وجدا الي ذلك سبيلا ، وكان الامام زين‌العابدين مشفقا علي هذه الجامعة من الانحلال والتدهور بعصر فقدت به مقاييس الفضيلة ، ولكنه استطاع من خلال قيادته ومناداته بحقوق الانسان ، وسيل أدعيته الهادرة أن يضفي ظلال الاستقرار علي المبادي‌ء العامة للجامعة دون الاغراق بالتفصيلات الدقيقة.

حتي اذا أوشك القرن الأول الهجري علي الغياب ، التمع في الأفق ذلك الشهاب الثاقب الامام محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام). فكان المجدد الحقيقي لحضارة التشريع ، وكان الرائد الصادق لمعارف الرسالة الاسلامية ، بناء

٥٥

وتطويرا واذاعة ونشرا (١).

حتي اذا تسلم الامام جعفر بن محمد الصادق قيادة الأمة ، كان زعيم مدرسة أهل البيت الريادية دون منازع ، وبدأ التحرر الانساني في العقل يخطو خطوات رهيفة في الانفتاح علي كل جديد ، وبدأ الفكر المعرفي يتطلع الي المزيد من الثقافة العليا ، وانحسر المد العلمي عن كوكبة من المعارف السائرة مع الزمن ، فللتشريع أساطينه ، وللفقه جهابذته ، وللحديث رجاله ، وللعلم التجريبي متخصصوه ، وللعلوم الانسانية روادها الأوائل ، وللابداع في النظر والفنون والحياة العقلية جمهرة من المتتبعين والعاملين باخلاص وأمانة.

ولدي اضطلاع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالمسؤولية القيادية ، نهد بصيانة هذا التراث الضخم ، وعمل علي اذاعته في الآفاق ، وأصبح العلم الشاخص الذي ترنو له الأبصار والضمائر.

وكانت هذه المدرسة عالمية الدلالة ، انسانية العطاء ، اسلامية المصادر ، تتسم بالعمق والأصالة ، وتمتاز بالموسوعية النادرة ، وكان من خصائصها الشمولية والاستيعاب لمفردات الحضارة الاسلامية ، لا تجمد علي مادة ، ولا تقف عند موضوع ، فهي متجددة الآراء ، موضوعية النظرة ، سليمة الأداء.

وكان من رصانتها الاجتماعية أنها للانسان بكل شرائحه المتعددة ، وللمسلم المتحفز بكل آثارها الراسخة ، وهي بذلك تحقق مبدأ الرسالة العامة التي لا تقتصر علي موقع ، ولا تتحدد باقليم ، بعيدة عن الأثرة ، قريبة من التفاعل الاجتماعي.

واذا تدارسنا ببصيرة وامعان مركز الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام محمد الباقر / مجدد الحضارة الاسلامية / مؤسسة العارف / بيروت / ٢٠٠٢ م.

٥٦

هذه المدرسة؛ رأيناه القائم علي ادارتها واستمراريتها بعد أبيه ، ووجدناه المشفق الحدب علي اغناء هذه المدرسة واثرائها ، فكان العامل اليقظ علي تطبيق أهدافها المركزية من جهة ، والناشط الواعي في نمو حركتها من جهة أخري ، وقد حقق ذلك بما عرف عنه بأنه الرائد المتمرس لمعالم التحضر الانساني ، والقائد المجرب في ميادين التجديد والابداع.

ولم يكن الامام مخلي السرب ، آمن الجريرة ، وليس لديه من النفوذ ما يجعله في وضع استقراري يحمد عليه ، وليست له الحرية الكاملة في التحرك والانطلاق ، ومع هذا كله ، لم تكن السجون والمعتقلات التي تعرض لها ، ولا موجات الارهاب السياسي التي واجهها لتعيق مسيرة هذه المدرسة الصاعدة ، لأن الكفاح في غمرات هذا المناخ كان متواصلا علي أية حال ، حتي ان رسائله واجاباته وفتاواه لتصدر عنه وهو في غياهب السجون ، فيتلقاها تلامذته وأولياؤه بالنشر والاذاعة وابلاغ الناس.

ولم تكن الرقابة الصارمة لتحد من نشاط هذه المدرسة الا بحدود ، وذلك أن الامام قد غرس في كل دار منها نبتة طيبة تجد التربة الصالحة للازدهار والاثمار ، فيتناولها تلامذته المقربون بكل حرص وأمانة ، وهم أداة التبليغ الاسلامي الأمين.

ان معاناة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) كانت كفيلة بالقضاء علي كيان هذه المدرسة ، ولكن الشعلة ما كان لها أن تنطفي‌ء ، وقد خلق من حولها الرواة والمحدثون والأعلام يذكون جذوتها ، ويتابعون ايراءها وايقادها ، وهي تزدهر ما بين المغرب والمشرق. ومن هنا بلغت الذروة في العطاء السائر الذي يدان فيه للامام عبر تطلعاته في جعل العلم بديلا لجاهلية النظام العباسي في كل ممارساته التي تدل علي الجهل والضلال والزيغ المتعمد ، وكان ذلك خطرا داهما علي كيان الأمة يهددها بالدمار والبوار ،

٥٧

لولا أن يتداركها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في ذلك التوجه النابض.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي : «وكان من أهم ما عني به الامام موسي (عليه‌السلام) نشر الثقافة الاسلامية ، واشاعة المعارف العامة بين الناس ، وقد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول ، وتثقيف الأفكار ، وتقدم المسلمين في الميادين العلمية ... ونظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد ، وتحدث الركبان بوفرة مواهبه ومقدراته العلمية ، وقد دان شطر كبير من المسلمين بامامته ، وجعلوا مودته ، والأخذ بقوله ، فرضا من فروض الدين» (١).

وهنا يقترن الهدف الديني بالهدف العلمي ، فتكون الحصيلة المزدوجة من اقترانهما : أن ما يبلغ علميا يصدر عن قناعة دينية ، وبذلك يكتب لأي أثر في هذا المنظور السيرورة النافذة.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد استشف من وراء الغيب أن حياته مهددة بالخطر سياسيا ، وليس في مقدوره تغيير هذا المنحني السياسي الطائش ، فاتجه الي الرسالة العلمية مناضلا في ميادينها كافة ، والتزم الخط المنهجي لجامعة أهل البيت في تخطيطها البعيد ، وهو يستشرف العالم الاسلامي في حركته العلمية الدائبة ، فغذاها ـ أعني الجامعة ـ بفيض امداده الذي لا ينضب ، وتبني الملتفين حول أغصانها بأبوة مانحة للتوجيه والنصح الكريم ، وتلقي هؤلاء هذا العطف المثالي بجد واجتهاد فما فرطوا في شي‌ء ، بل اهتبلوا الفرص المواتية ـ علي شدة الرقابة ـ للافادة والاضاءة ، وكان هذا الحافز الشريف ، يسترعي نظر الامام في العطاء ، فكتب ، وألف ، وحدث ، وأفتي ، وناظر ، وحاضر ، فصان الجامعة بأبنائها الواثقين ، ونشر مبادئها الكبري في شتي الممالك والأقاليم ، فكانت قبلة

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٣٣.

٥٨

الطالبين والسالكين معا.

وعاد هذا التراث الهادي متوافرا لدي العلماء ، وفي أيدي العاملين علي ارفاد الثقافة الملتزمة ، والصابرين علي شدة المحنة في التحري والرصد. ونجم عن هذا كله : خلود هذه المدرسة السيارة بعطائها الجزل ، وكيانها المستقل.

واستقلالية مدرسة أهل البيت حقيقة زمنية شاخصة ، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة ، وهي لا تسير بركاب الحاكمين ، وهي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي العقول ، وهي لا تتوسل بالمال علي تعزيز نفوذها ، وهي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس ، بل قامت علي سجيتها ، فطرية الأداء ، عفوية الارادة.

وكان دور الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) دور المجدد والمطور لمبادي‌ء هذه المدرسة بما أوتي من قوة عقلية وادراك علمي متميز ، وبما استقي من معارف متسلسلة من ذلك الرافد الأساس الذي تفجرت منه أمواج الثقافة عند أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام).

وعندما تتحقق هذه الظواهر في أي أثر معرفي يكون الخلود السرمدي الرابض في صدر الحياة ، وتكون الافادة من تراثه الأثير في الموقع المتجدد ، واذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فما علينا الا أن نتحدث لماما عن موارد هذا العلم ومصادره.

٥٩

مصادر علم الامام

هناك مسألة كبري تشغل مساحة كبيرة من التساؤل ، وتثير في طريقها جملة من الاشكاليات التي لا يستهان بها ، وقد يبدو عليها الاستغراب حينا ، والاستبعاد حينا آخر.

هذه المسألة تنحصر في مصادر علم الأئمة (عليهم‌السلام). وتشكل الاجابة عن هذه المسألة مشكلة معقدة عند بعض الباحثين الذين يجهلون كنه حقائق الأشياء.

وما دمنا في هذا الصدد ، فان الموروث الاستقرائي هو الذي يجيب عن هذه الحقيقة باعتبارها أرفع مستوي عن الأوهام ، فقد بحثنا من قبل موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام) فكانت من منبعين ، هما :

١ ـ العلم التكسبي الذي توارثه كل امام عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه وآله).

٢ ـ العلم الموهبي الذي يرتبط بالله (تعالي) بما يفيضه من لدنه علي الأئمة لاكمال متطلبات الرسالة ، باعتبار الامامة امتدادا للنبوة (١).

ونحاول استقراء لمحات من الموضوع ، في ضوء مصادر علم الامام

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة اهل البيت / الباب الثاني الفصل الأول / موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام).

٦٠