الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

جعلتك حسبي في أموري كلها

وما خاب من أضحي وأنت له حسب

والظاهرة الجديرة بالاهتمام أن الامام كان منذ صباه يتمتع بحياة عقلية نيرة ، يعي المسائل بفكر ثاقب ، ويجيب السائل بادراك متوهج ، حتي كان مثار اعجاب العلماء والفقهاء ، وقد تحدثوا عن ذلك بشكل مدهش ينم عن الاعجاب والاكبار.

فقد روي الاربلي عن أبي‌حنيفة امام المذهب الحنفي قوله :

«رأيت موسي بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريب منكم اذا أراد ذلك؟ فنظر الي ثم قال : يتواري خلف الجدار ، ويتوقي أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء».

قال : فلما سمعت هذا القول نبل في عيني ، وعظم في قلبي ، فقلت له : ممن المعصية؟ فقال :

«ان المعصية لابد أن تكون من العبد ، أو من ربه ، أو منهما جميعا. فان كانت من الله (تعالي) ، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ، أو يؤاخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه. والقوي أولي بانصاف الضعيف. وان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، واليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار».

قال أبوحنيفة : فقلت : «ذرية بعضها من بعض» (١).

وهذه الاجابة في شطرها الأول بدا بها الامام في صباه فقيها ناطقا بالسنة ، وصادعا بالافتاء ، وفي شطرها الثاني بدا متكلما نزه الباري عن

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٩.

٢١

الظلم والقبح العقلي ، ودحض نظرية الجبر والتفويض.

وليس عجيبا أن ينطلق الامام متهاديا بهذا المستوي الرفيع في سن مبكرة. فللنشأة أثرها في المعرفة والادراك والتمييز ، وللتربية الفذة ثمارها في الوعي والدراية المتنورة ، وخصائص الامام ـ باعتباره معصوما ـ تبدو متكاملة في ظل مواهبه وعصمته ، وهي مزيج بين ملكته الراسخة التكوينية وبين عبقرياته المتعددة. وبعد هذا فحديثه حديث أبيه ، وحديث أبيه حديث جده ، وحديث جده حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ، ورسول الله هو المشرع الأعظم ، وكفي بذلك شرفا.

وليس جديدا القول ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وريث النبوة الشرعي ، وحامل الرسالة اماما مفترض الطاعة ، وقد حمل بين جنبيه من عوامل الوراثة ، وصدور النص عليه ، ومقومات النمو الفكري ما يجعله حجة لله في بلاده وعلي عباده.

عاش الامام حياته في الصبا والشباب في أكناف مدرسة أبيه ، الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم مدرسة أهل البيت (صلي الله عليه وآله) في موسوعيتها وموضوعيتها ، وقد صقلت هذه المدرسة قابلياته وقدراته الخارقة ، وهي تستوحي مصادرها من ذلك المخزون الثقافي الحافل بأصناف المعارف الانسانية التي سيرها الامام الصادق في الخافقين ، وأشرقت بأشعتها الملونة في الفكر البشري ففاق حد الطموح المرتقب الي الأفق المديد ، فاذا أضفنا الي ذلك الاعداد الكريم الذي حظي به الامام ، والمواهب الراقية التي انفرد بها ، والفضائل العامة التي اكتسبها ، وما أحياه من مآثر ، خلصنا أنه خلاصة أطروحة أهل البيت في التربية والتأصيل ، وزبدة هذا الكون في العبقرية والنبوغ.

ولا أدل علي هذا من تنويه أبيه به ، وارشاد الناس اليه ، ووضعه موضع

٢٢

القيادة المرتقبة ، ذلك كله مع وجود الامام الصادق (عليه‌السلام). فقد كانت الخطابية في غلوها قد استشري داؤها وبلاؤها في عهد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي يد محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بأبي‌الخطاب ، وكان من أعنف الغلاة وأشدهم انحرافا ، وقد تبرأ منه الأئمة مدي التأريخ ، وحذروا شيعتهم ، وفندوا آراءه الغالية جملة وتفصيلا. وقد التجأ عيسي الشلقاني الي الامام الصادق (عليه‌السلام) مستجيرا من هذه الظاهرة ، طالبا القول الفصل فيها ، فقال له الامام الصادق (عليه‌السلام) : «يا عيسي : ما منعك أن تلقي ابني ـ يعني الامام الكاظم ـ فتسأله عن جميع ما تريد؟».

فاتجه عيسي صوب الامام الكاظم ، وكان صبيا في المكتب ـ كما تقول الرواية ـ فلما رآه الامام الموسي بن جعفر (عليه‌السلام) بدره بالقول : «يا عيسي؛ ان الله (تبارك وتعالي) أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا ، وأخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا ، وأعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم اياه ، وان أباالخطاب ممن أعير الايمان ، ثم سلبه اياه».

فقلت : «ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم» (١).

ونخلص من هذا الحديث الي أمور :

الأول : أن الامام الصادق (عليه‌السلام) قد أراد الاشادة العملية بولده ، وأمر شيعته بالتوجه نحوه ، عالما بقدرته علي الاجابة ، ليوحي بذلك أنه الامام المفترض الطاعة.

الثاني : أن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد بادر بالاجابة عما يختلج في ضمير السائل قبل سؤاله ، مما يشكل بعدا محوريا في القول بالعلم اللدني والموهبي لدي الامام كما سلف لنا فيه القول ببحث سابق.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١١.

٢٣

الثالث : الاستعداد الفطري لدي الامام موسي بن جعفر في استقبال ما يطرح عليه من المعضلات وهو في سن الصبا ، مما يعني تأثير النشأة المباركة في مسلكيته العلمية النادرة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين :

«هكذا نشأ موسي بن جعفر في هذه البيئة المباركة الناصعة النقاء ، وفي تلك البيوت التي يعلو فيها ذكر الله أطراف الليل وآناء النهار ، وتتردد في جنباتها همسات التسبيح والتهليل ، وأصداء الابتهال والترتيل ، وينتشر منها علي الناس فيوض العلم النافع ، ودروس العمل الصالح ، وأمثولة الخلق الرفيع. وسرعان ما اكتملت خطوط رجولته الناطقة ، ومعالم شبابه الندي ، واتضحت للعيان صفاته الخلقية ومواهبه الخلقية وملكاته الذاتية علي نحو ممتاز لافت للنظر» (١).

حتي اذا انتقل الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الرفيق الأعلي عام (١٤٨ ه) استقل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالامامة ، ونهد بأعباء القيادة ، فكان بطلها المجرب ، وعملاقها العظيم ، ورائد التحرر الاجتماعي ، ورافض الاستعباد الجماعي ، وناشر الفكر الانساني.

وكانت تطلعات الامام الرائدة تتقوم بعناصر حية تسعي الي اقامة المجتمع المتكامل بأساليب دفع ناهضة ، تبعثه من رقدة الجفاف والانكماش والتخدير الي صحوة الوعي والحرية ، وتطل به علي آفاق الأنشطة المتعددة في الموقف والتفكير ، وهو يتفجر بأنماط الحياة العاملة علي الايمان بقضية الانسان ، باعتباره نقطة الانطلاق في الكون.

__________________

(١) محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٢٠.

٢٤

المنزلة العليا

لم يكن حب الامام الصادق (عليه‌السلام) لولده الامام الكاظم (عليه‌السلام) عاطفيا ، ولا تقييمه لمكانته أبويا ، والتأكيد عليه اعتباطيا ، وان كانت العاطفة والأبوة أمرا طبيعيا ، ولكن الامام لا يصدر عنهما في النص أو الاشادة أو التقييم ، وانما ينطلق فيما يفيض به من خلال التكليف الشرعي والأداء الالهي ليس غير.

وهذه الظاهرة في السلوك لدي الامام الصادق ايديولوجية رسالية لا يحيد عنها في قول أو عمل أو اقرار ، فهو حينما يصرح باستيلاء حب ولده الكاظم عليه بقوله

«وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبه أحد ...» (١).

انما يعبر عن هدف آخر هو الاعلان بأنه الامام من بعده ، والقائم بالأمر في الناس ، والحجة علي الخلائق ، بدليل قوله لأوليائه : «قد وهب الله لي غلاما ، وهو خير من برأ الله ...» وقال لهم : «فدونكم ، فوالله هو صاحبكم» (٢).

وروي المفيد أن الامام الصادق دعا ولده الامام الكاظم ، وقال لمن عنده :

__________________

(١) الشبراوي الشافعي / الاتحاف بحب الأشراف / ٥٤.

(٢) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٥.

٢٥

«عليكم بهذا بعدي ، فهو والله صاحبكم بعدي» (١).

وهناك ما هو أكثر تفصيلا ، وأقدم رواية ، فعن علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) يقول : سمعت أبي‌جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : «استوصوا بابني موسي (عليه‌السلام) خيرا ، فانه أفضل ولدي ، ومن أخلف بعدي ، وهو القائم مقامي ، والحجة لله (تعالي) علي كافة خلقه من بعدي» (٢).

وهذه الابانة من الامام الصادق بحق ولده الامام انما تعني النص عليه ، واشهاد من يسمع علي ذلك ، وتبليغ أوليائه به ، وقد جمع الامام الصادق ولده ، وقال لهم : «هذا وصي الأوصياء ، وعالم علم العلماء ، وشهيد علي الأموات والأحياء» ثم قال : يا يزيد «ستكتب شهادتهم ويسألون» (٣).

وقول الامام للفيض بن المختار مشهور ، وقد سأله عن الامام فأشار الي موسي بن جعفر وقال : «هذا صاحبكم فتمسك به» (٤).

ولقد روي النص علي امامته جماعة من أعيان أصحاب أبيه ، منهم : أخوه علي بن جعفر ، واسحاق بن جعفر ، والمفضل بن عمر الجعفي ، ومعاذ بن كثير ، وعبدالرحمن بن الحجاج ، والفيض بن المختار ، ويعقوب السراج ، وسليمان بن خالد ، وصفوان بن مهران الجمال ، وحمران بن أعين ، وأبوبصير ، وداود الرقي ، ويزيد بن سليط ، ويونس بن ظبيان (٥).

وهذا التواتر مما أجمع عليه الامامية ، ونضيف الي هؤلاء : منصور بن

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ /.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٢٦.

(٣) المجلسي / البحار / ٤٨ / ٢١.

(٤) الاربلي / كشف الغمة / ٣ / ١١.

(٥) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٦.

٢٦

حازم ، وابراهيم الكرخي ، ويزيد بن أسباط ، وسلمة بن محمد (١) وسوي هؤلاء من الأعلام ، مما استقرت عليه الامامية. وكان المجلسي قد أوفي بأكثرها (٢).

وهي متوافرة في كل من عيون أخبار الرضا ، والكافي ، وبصائر الدرجات ، واعلام الوري ، وكمال‌الدين ، وقرب الأسناد ، وارشاد المفيد ، والاختصاص ، وغيبة النعماني ، والمناقب ، ورجال الكشي ، وكشف الغمة ، والفصول المهمة ، وسواها من كتب السير والتواريخ.

وكان ترشيح الامام له مدعاة اعتزاز أتباع أهل البيت من العلماء والفقهاء والمتكلمين وشرائح المجتمع كافة ، لأنه صادر عن صادق القول ، وكان جماع قوله في حق ولده علي وجه الاجمال ما تحدث به الصادق (عليه‌السلام) الي عيسي بن شلقان :

«يا عيسي ان ابني هذا الذي رأيت ، لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم ، ثم أخرجه ذلك اليوم بكتاب» (٣).

ومع كل هذا فقد اختلف سواد الناس بعد الامام الصادق (عليه‌السلام) ، ورجع قسم منهم الي ولده عبدالله دون دليل نصي أو استقرائي أو شرعي.

وقد اختبر جماعة من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) فيهم هشام بن سالم ، ومحمد بن النعمان حال عبدالله فلم يجدوه شيئا ، طبق المواصفات الدقيقة للامام ، فقالوا في بعض أزقة المدينة بعد خيبتهم : الي أين نتوجه؟ الي المرجئة؟ الي القدرية؟ الي المعتزلة؟ الي الزيدية؟ واذا بمن يشير علي هشام باتباعه ، فيوقفه عند منزل الامام الكاظم (عليه‌السلام) ، ويشير عليه بالدخول ، فيدخل ، ويقول : «فدخلت فاذا أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) ، فقال لي ابتداء :

__________________

(١) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٣٠٩ ، المجلسي / البحار / ٤٨ / ١٢ ـ ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ١٢ ـ ٢٨.

(٣) المصدر نفسه ٤٨ / ٢٤ وانظر مصادره.

٢٧

الي الي ، لا الي المرجئة ولا الي القدرية ولا الي المعتزلة ولا الي الزيدية ، ولا الي الخوارج.

قلت : جعلت فداك؛ مضي أبوك؟ قال : نعم؛ قلت : مضي موتا؟ قال نعم؛ فقلت : فمن لنا بعده؟ قال : ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت : جعلت فداك ، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام بعد أبيه!!

فقال : عبدالله يريد أن لا يعبد الله.

قلت : جعلت فداك ، فمن لنا من بعده؟ فقال : ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت : جعلت فداك ، فأنت هو؟ قال : لا أقول ذلك.

فقلت في نفسي : اني لم أصب طريق المسألة.

ثم قلت له : جعلت فداك؛ أعليك امام؟ قال : لا.

قال هشام : فدخلني شي‌ء لا يعلمه الا الله (تعالي) اعظاما له وهيبة.

ثم قلت له : جعلت فداك؛ أسألك كما كنت أسأل أباك؟

قال : سل تخبر ، ولا تذع ، فان أذعت فهو الذبح.

قال هشام : فسألته ، فاذا هو بحر لا ينزف. قلت : جعلت فداك؟ شيعة أبيك ضلال ، فألقي اليهم هذا الأمر؟ وأدعوهم اليك؟ فقد أخذت علي الكتمان.

قال (عليه‌السلام) : من آنست منه رشدا ، فألق اليه ، وخذ عليه الكتمان ، فان أذاع فهو الذبح ، وأشار بيده الي حلقه.

قال هشام : فخرجت من عنده فلقيت أباجعفر الأحول. فقال لي : ما وراءك؟ قلت : الهدي ، وحدثته بالقصة.

قال : ثم لقينا زرارة وأبابصير ، فدخلا عليه ، وسمعا كلامه ، وسايلاه ،

٢٨

وقطعا عليه ، ثم لقينا الناس أفواجا ، فكل من دخل عليه قطع بالامامة ...» (١).

وكان لا مناص للمسيرة الاسلامية ـ كما ألزم قائدها الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) ـ من جواد امام مفترض الطاعة في كل عصر وزمان حتي قيام الساعة ، يكون هو الحجة علي الخلق ، ويقتدي الناس به ويهتدون بهديه ، ويستضيئون بنور علمه ، ويتقربون الي الله بمعرفته المطلقة.

وتلفت المسلمون الملتزمون بأحكام دينهم ـ يمينا ويسارا ـ بحثا عن الامام الجامع الشرائط الشرعية المقررة في مواصفات الامامة وضوابطها العامة والخاصة ، فلم يجدوا من تجتمع فيه تلك الضوابط والمواصفات الا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بل لم يكن من هو أهل لها غيره علي وجه الحصر والتعيين ..» (٢).

وهذا الحصر وذلك التعيين قد نبه اليه الامام الصادق (عليه‌السلام) كما رأيت ، فهو الحجة علي أهل الأرض ، بما انضمت عليه جوانحه من مآثر ومعارف أشار اليها الامام الصادق بقوله :

«فيه علم الحكم ، والفهم ، والسخاء ، والمعرفة بما يحتاج الناس اليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق ، وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب الله (عزوجل) ...» (٣).

وهذ جماع ما عليه اشتراط الامام من سمات ومميزات.

وقد أجمع أصحاب السنن والصحاح علي افتراض وجود امام باللازم من هذا الحديث الشريف : «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

وقد قامت الدلائل علي امامة موسي بن جعفر من مصادرها كافة ، ولم تكن مقتصرة علي أولياء أهل البيت ، وانما نص عليه المعتدلون كافة.

__________________

(١) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ١٤.

(٢) محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٢٩ ـ ٣٠ / بتصرف جزئي.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢ وانظر مصدره.

٢٩

فقد روي القندوزي ـ علي سبيل المثال ـ أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نص في تسميته للأئمة ، وفيهم موسي بن جعفر ، وما نص عليه من الأوصياء من بعده ، ومنهم موسي بن جعفر الذي يدعي بالكاظم (١).

هذا بالاضافة الي عشرات الأحاديث المستفيضة في النصوص المتوافرة علي تعيين أئمة أهل البيت حصرا ، وما سارت به الركبان من بشارته بذلك ، ومنها ما أخرجه الحافظ أبونعيم بسنده عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) : «من سره أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدي ، فانهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، للقاطعين صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي» (٢).

وهذه اللمحات العابرة تكفي للاستدلال علي ما نحن بصدده. أما التوسع في موضوع الامامة كلاميا ، وموقعها من النظام الاسلامي ، فقد تكفلت به بحوث سابقة أوردنا فيها رأي المسلمين (٣).

أما الامام موسي بن جعفر نفسه فقد قال لعلي بن صالح :

«ان الله لا يخلي أرضه من حجة طرفة عين أبدا ، اما باطن واما ظاهر ، أنا حجة الله وحجته الباطنة ... أنا المؤدي الناطق عن الرسول ... أنا موسي بن جعفر» (٤).

ومهما يكن من أمر ، فقد تسلم الامام قيادة الأمة ، وهي قدره الالهي من الله (تعالي) ، في ظروف سياسية غائمة ، وحياة عقلية مضطربة ،

__________________

(١) القندوزي / ينابيع المودة / ٤٤١ ـ ٤٤٣.

(٢) أبونعيم / حلية الأولياء ١ / ٨٦.

(٣) ظ : المؤلف / موسوعة اهل البيت الحضارية / المجلد الخامس ، الفكر الامامي من النص حتي المرجعية.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١٩.

٣٠

تمثل التقلب السياسي والعقائدي المرير ، فقد انقسمت الأمة علي نفسها فئويا ومذهبيا نتيجة التخطيط السياسي الحاكم ، وانقسم أتباع أهل البيت أنفسهم ، فكان الأمر يدور بين الافراط والتفريط. وانقسم الحكام أنفسهم فيما بينهم ، فبين قائل بابادة الأئمة واستئصالهم علنا ، وبين من مهد لذلك بالسجن والاستدعاء ، وبين من فرض حدود الرقابة الصارمة ، فكمت الأفواه ، وخمدت الأنفاس ، الا أن الثورات الدموية من هنا وهناك بددت مناخ الصمت حينا ، واستبدلته بقعقعة اللجم واحتكاك الأسنة حينا آخر ، فنتج عن هذا وذاك ضبط وشماس ، أدي الي الانكماش الاجتماعي من جهة ، والي الانهيار النفسي من جهة أخري. وعاش الامام بين ذلك في رقابة ورصد واعتقال ، ولكن صفحته هي البيضاء في نظر التأريخ ، وقد انجلت عن واقع مؤثر في الأحداث ، فرغم (صفحه ٢٧) المنظور الضيق في التفكير والارادة والتنفيذ لدي الطبقة الحاكمة ، نجد الامام منفتحا في نظرته الشمولية الي الأمة ، والأمة في مناخ مرير لا تحسد عليه في البؤس والحزن والشقاء ، حتي ليغيب الأمل المرتقب عن الميدان ، واذا بالامام يتقدم في خطواته المضادة للاتجاه السلطوي ، فينقذ الأمة من التدهور والضياع ، ويرتفع بها تدريجيا الي مستوي الحياة المليئة بالأمل والتفاؤل ، فيقضي علي التيار التشاؤمي العارم لدي كثير من الأحاسيس والعواطف المغالية بالانكماش والكآبة ، وهما داء قد استشري في عصر الامام حتي عاد داء العصر نتيجة افرازات مغرقة في الحيف والعسف والاستبداد ، فأدي الي التمزق الداخلي في صفوف الأمة ، فتداركه الامام بقدراته الفائقة علي التغيير ، فأعاد للأمة الاستقرار النفسي المفقود باذكائه الجذوة الكامنة في قرارة النفس الانسانية ، فأفاقت مستيقظة علي هدير هذا الانبعاث الجديد الذي انتشلها من ذلك المستنقع الغارق بالتشاؤم والخمول والحزن السرمدي.

٣١

الامام في مرآة التأريخ

كان اللمعان الفكري المتألق في ذهنية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يضفي بأشعته الغامرة في نقلة للانسانية عبر مواصفات مثالية في السلوك والأخلاق والحياة والاجتماع ، ولم تكن أفكار الامام في هذا المنحني الفسيح غارقة في دنيا من المآثر الخارقة علي سبيل التحدي ، وانما هي امتداد موضوعي للعقل المفكر الواهب ، وثمرة فعلية للحس العملي الذي نهد به الفكر الامامي من عهد أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) حتي قيادة موسي بن جعفر نفسه.

وكان هذا التخطيط المنهجي في ذلك المناخ المتفجر الرهيب ، قد أعطي نتائج مدهشة في الثبات الذي كاد أن يتلاشي ويذهب ضوؤه الخافت من الأعماق ، وكان هذا الثبات مرتكزا في الاتكاء علي قاعدة صلبة تعني بعودة (صفحه ٢٨) الاستقرار النفسي بعد أن مني بالقلق والتمزق والانفراط ، وبذلك تحول المجتمع ـ رغم كل المعوقات ـ الي صورته الجديدة في الاعتداد بالشخصية بعد فقدان الأمل بالاصلاح والتوازن.

لقد كان الشعب المسلم يعاني من الغربة القاتلة في ظل الحكم العباسي

٣٢

الجاثم بثقله علي النفوس ، وقد ينتابه شعور عارم رقيق أو كثيف بالكآبة المطبقة لما يشاهده من التدارك السفلي في القيم والاعتبارات والتعامل العام ، وهي صفحات تحكي عن اللون القاتم المميز للعصر بما أبقته لنا الوثائق المعتمدة ، وما أملته النصوص التأريخية المفعمة بالمآسي كصورة حقيقية تتحدث عن انحلال وانحطاط تلك الحقبة من الزمن الصعب ، حتي لم يعد مسلم متحفز جاد ليتذوق طعم الحياة.

وبالرغم من أن التأريخ ـ وهو يكتب بلغة رسمية ـ قد ناصب العداء لأئمة أهل البيت عن قصد وعمد ، لأنه بسبيل من ارضاء شهوة خلفاء الجور وولاة السوء الذين يضطربون اضطرابا عنيفا لأية بادرة تؤكد التماع ذلك الأفق الرفيع في حياة أئمة أهل البيت ، الا أن النصاعة لهذه الحياة في السيرة والسمت والعطاء قد أرغمت التأريخ علي الاقرار بالنتائج المذهلة التي حققتها في الميدان الاجتماعي حين فضحت أساليب الزيف والدجل السياسي ، وحين عصفت بتلك الكيانات الهزيلة وكشفت الأقنعة عن تلك الممارسات اللاانسانية ، وظهر من بين هذين ذلك الوجه المشرق للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وهو يتزعم تلك المهمة الصعبة ، في حين تمتنع مصادر الهوس الديني من التفوه باسمه ، فقد جذت الألسن عن الحديث حوله أو الاشارة اليه ، فذلك من المحظور الذي لا يباح ، ورغم هذه الضبابية وذلك التعتيم ، رأينا الامام موسي ابن جعفر (عليه‌السلام) يمثل الألق الهادي لسنن الطريق ، فكان النجم المتألق شعاعا ونورا وقد عصف بالشبهات والانحرافات ، في صراع مرير.

وكانت ألسنة الخطف هي أقلام الحق فيما وصف به الامام ، وكان التأريخ مع تجهمه العابس للامام قد أفلت منه كثير من الاعتراف والاقرار بالواقع المشهود ، وتلك سمة خاصة بأئمة أهل البيت ، فهم وان كتم التأريخ

٣٣

جل فضائلهم ومآثرهم ، الا أنه ما استطاع أن يلوح بمنقصة واحدة في أي معلم من معالم أي امام ، وما ذاك الا لقرب الصلة مع الله (تعالي) ، دون الاغترار بملحظ الرضا والغضب في المشاعر القابلة لخيانة الذمم واتباع العاطفة أو المصلحة في كتابة التأريخ.

وتأسيسا علي ما تقدم ، فقد وجدنا العزل السياسي للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) متقاطعا مع الأضواء المتلألئة ليقظة التأريخ في التحدث عنه ، وهذا ما يفسر تلك الاشارات الرائعة عن شخصية الامام في سجل الخالدين ، مما يعني أن التخطيط المتواصل لاقصاء أهل البيت سياسيا ، لم يوفق لاقصائهم فكرا ، وأن البعد عن السلطة والحكم لم ينسحب طردا ليعزلهم عن القيادة والتشريع ، وأن السلطان الدنيوي لم يستطع ان يطوح بالسلطان الديني الماثل.

ولقد كان ما منح به التأريخ الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من السمات في المستوي الفكري والعلمي والعقلي والمعرفي والنفسي يفوق في مفرداته ما وصف به أساطين الاسلام وقادة الأمة ، ومعني هذا أن الامام قد اقتطع هذا المنح اقتطاعا عن ذمة التأريخ بين كل الدواعي القاضية باقصاء شبح الامام عن الأفق سياسيا ومذهبيا.

لقد قال التأريخ بمل‌ء فيه أن الامام (عليه‌السلام) :

«كان أجل الناس شأنا ، وأعلاهم في الدين مكانا ، وأسخاهم بنانا ، وأفصحهم لسانا ، وأشجعهم جنانا ، قد خص بشرف الولاية ، وحاز ارث النبوة ، وبوأ محل الخلافة ، سليل النبوة ، وعقيد الخلافة» (١).

والنظرة التحليلية لهذا النص تقضي باختفاء الأجواء الضبابية المحيطة بتأريخ الامام ، فهي تنتزع الصورة الحقيقية للامام انتزاعا ، وهي تعني

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧.

٣٤

بالمنظور الصادق في الأداء والتعبير.

وليس بالامكان التفرغ لتدوين ما كتبه التأريخ عن الامام بهذا الملحظ ، فهو كثير جدا ، وسبق اليه من تناول الموضوع ، ولكني أقف منه موقفا وسطا ، لا أتغافله ولا أستوعبه ، وانما هو شي‌ء بين ذلك.

فقد قال ابن الصباغ أنه : «الامام الكبير القدر ، والأوحد الحجة الحبر» (١) وقال أيضا : «وأما مناقبه وكراماته الظاهرة ، وفضائله وصفاته الباهرة ، فتشهد له بأنه : افترع قبة الشرف وعلاها ، وسما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها ، وذللت له كواهل السيادة فامتطاها ، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها ، فاصطفاها» (٢).

وقال أبوحاتم ـ واصفا الامام ـ بأنه : «ثقة أمين صدوق» (٣) وأضاف ابن تغري بردي أنه : «كان سيدا ، عالما ، فاضلا ، سنيا ، جوادا ، ممدحا ، مجاب الدعوة» (٤).

وقال ابن‌تيمية : «موسي بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك» (٥).

وقال الشيخ المفيد : «وكان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) أعبد أهل زمانه ، وأفقههم ، وأسخاهم كفا ، وأكرمهم نفسا» (٦).

ووصفه ابن‌طلحة الشافعي بأنه : «الامام الكبير القدر العظيم الشأن ، المشهور بالكرامات» (٧) أما الذهبي فقد أجمل القول ـ تارة ـ بأنه «الامام

__________________

(١) ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة / ٢١٣.

(٢) المصدر نفسه / ٢١٤.

(٣) الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٠.

(٤) ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة ٢ / ١١٢.

(٥) ابن‌تيمية / منهاج السنة ٢ / ١٢٤.

(٦) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٢.

(٧) ابن‌طلحة / مطالب السؤول ٢ / ٦١.

٣٥

القدوة» (١) وفصل القول شيئا ما بقوله : «كان موسي بن جعفر من أجواد الحكماء ، ومن العباد الأتقياء ، وله مشهد معروف ببغداد» (٢).

وهنالك عشرات الشهادات في حق الامام (عليه‌السلام) ، سردها الأستاذ باقر شريف القرشي ، وتطلب من مظانها للباحثين عن المزيد (٣).

والتأريخ حينما يصور هذه اللقطات ، فانما ينزع الي الموضوعية المحدودة بأقلام هؤلاء العلماء ، والا ففضائله أسمي رفعة ، وأكثر عائدية ، وأجل منزلة مما دونوه وأفادوه.

والذي بهرني حقا أن أجد هارون الرشيد يغتصب نفسه اغتصابا ، فيدلي برأيه في الامام ـ مضطرا ـ لولده المأمون ، وقد دهش المأمون باحترام الرشيد للامام وتقديمه وتعظيمه ، قال هارون : «يا بني : هذا امام الناس وحجة الله علي خلقه ، وخليفته في عباده ، أنا امام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وانه والله لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعا ، والله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه ، فان الملك عقيم ...

يا بني : هذا وارث علم النبيين ، هذا موسي بن جعفر ، ان أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» (٤).

ولئن ذكر القدامي جزءا يسيرا من ملامح الامام القيادية والمرجعية. فقد أورد المحدثون شيئا من ذلك. وقد أورده أغلبهم اقتضابا ، ومهما يكن من أمر ، فان ما ذكره القدامي والمحدثون يعتبر تبلورا محدودا التصق بمرآة التأريخ فحكي توهجا لامعا في سيرة الامام وآثاره.

قال الدكتور زكي مبارك من رواد النهضة الحديثة في مصر : «كان موسي

__________________

(١) الذهبي / سير اعلام النبلاء ٦ / ٢٧٠.

(٢) الذهبي / ميزان الاعتدال ٣ / ٢٠٩.

(٣) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ١٦٥ ـ ١٧٦.

(٤) القندوزي / ينابيع المودة ٣ / ٣٢.

٣٦

بن جعفر سيدا من سادات بني‌هاشم ، واماما مقدما في العلم والدين» (١).

وقال الأستاذ خيرالدين الزركلي : «موسي بن جعفر الصادق بن الباقر ، أبوالحسن ، سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية ، كان من سادات بني‌هاشم ، ومن أعبد أهل زمانه ، وأحد كبار العلماء الأجواد» (٢).

وقال الدكتور عبدالجبار الجومرد وزير الخارجية العراقية الأسبق :

«الامام الكاظم ... كان ذا تأريخ حافل بالزهد والورع والكرم ودماثة الخلق ، وقد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسي‌ء اليه» (٣).

وقال العلامة محمد أمين السويدي البغدادي :

«موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر ، الكثير الخير ، كان يقوم ليله ويصوم نهاره ، وسمي الكاظم لكثرة تجاوزه عن المعتدين» (٤).

وقال سيدنا الأستاذ السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي :

«موسي بن جعفر بن محمد : هو الامام السابع المنصوص علي امامته من قبل أبيه وأجداده الطاهرين ، سلام الله عليهم أجمعين» (٥).

وقال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي :

«الامام موسي الكاظم : روي عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ، حاملا بطون الدفاتر ، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة : وكان يعرف بين الرواة بالعالم» (٦).

وقال السيد هاشم معروف الحسني :

__________________

(١) زكي مبارك / شرح زهر الآداب ١ / ١٣٢.

(٢) خيرالدين الزركلي / الأعلام ٣ / ١٠٨.

(٣) عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد ١ / ١٧٧.

(٤) السويدي / سبائك الذهب / ٧٣.

(٥) السيد الخوئي / معجم رجال الحديث ١٩ / ٤٤.

(٦) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٣٧.

٣٧

«كان أبوالحسن موسي بن جعفر يتابع رسالة آبائه في نشر العلم والحديث والأخلاق والدفاع عن الاسلام ، وروي عنه أصحابه آلاف الأحاديث في مختلف المواضيع ... وقد روي عنه المحدثون في مختلف أبواب الفقه وغيره من المواضيع الاسلامية أكثر مما رووه عن غيره ممن جاء بعده من أئمة أهل البيت» (١).

وقال الشيخ باقر شريف القرشي :

«الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فذ من أفذاذ العقل الانساني ، ومن كبار أئمة المسلمين ، وأحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي أضاء الحياة الفكرية في الاسلام» (٢).

وقال الشيخ محمدحسن آل‌ياسين :

«نشأ الامام موسي بن جعفر في حجر هذا الأب العظيم (الامام الصادق) متفيئا ظلال شجرة النبوة ودوحة الامامة ، حيث اختار الله موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ، وحيث استقر ملتقي رافدي السماء والأرض ، واجتمع الثقلان اللذان لن يفترقا حتي يردا الحوض : كتاب الله وعترة الرسول. فكانت نشأة متميزة فذة لا يتسني مثلها الا لنظرائه من ذرية النبيين وسلالة المرسلين ، فاذا هو منذ صباه : بحر مواج بالعلم ، دفاق بالمعرفة ، زخار بفقه الكتاب وحقائق الدين وأسرار الشريعة» (٣).

وبعد هذه الاضمامة من الأقوال العطرة الندية ، أحسبني في غني عن القول : ان الامام موسي بن جعفر ، أحد عمالقة الفكر الانساني ، والنموذج الأرقي لحضارة العقل البشري ، شأنه بذلك شأن الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

__________________

(١) هاشم معروف / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٣.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٢٨.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٨ ـ ١٩.

٣٨

من خصائص الامام

أ. المنظور المشترك في خصائص الأئمة

هنالك ملحظ جدير بالأهمية أن الأئمة (عليهم‌السلام) يشتركون بمميزات فريدة ، فلا يعني التأكيد علي خصائص امام منهم ، نفي تلك الخصائص عن الآخرين ، لأنهم يصدرون عن نبع واحد ، ويصبون في روافد متقاربة المصادر ، وكلها تتجاذب أطرافها من ذلك المورد الثر الذي أسال فيضه اللامتناهي جدهم الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله). الا أن لكل امام سمات بارزة تلوح وكأنها من مآثرة بخاصة. وما ذاك الا نتيجة الظروف الموضوعية لشتي الأحداث التي يحياها الامام بكل تداعياتها وملابساتها ، فيتجه الامام مبادرا للرد العملي علي الظواهر السلبية بظواهر ايجابية ، وعلي التناقضات بالقصد والاعتدال. فحينما نري الغضب والطيش والانتقام ضاربا أطنابه في المجتمع المسلم من قبل الطغاة ، نجد الامام يقابل ذلك بالحلم والأناة ورحابة الصدر ، وحينما تكون أموال المسلمين مبذر بالعبث والاسراف ، وموارد الحياة مصادرة لترفيه الحاكمين والولاة ، نجد الامام مشاركا للشعب المضطهد في رزقه وعيشه ، فيناهض ذلك الاحتكار والاختلاس بظاهرة الكرم والسخاء تلبية للضروريات الملحة في الاغاثة والانقاذ ، وحينما تكون

٣٩

أوضار الجهل والضياع والتسيب متفشية في المناخ الاجتماعي ، نجد الامام مشمرا عن ساعديه في نشر العلم ، واذاعة المعارف ، وبث الدعاة والمبلغين للقضاء علي مظاهر الأمية وحياة التخلف.

وهكذا الأمر في بقية الظواهر المتجددة علي الشعوب المغلوبة وهي تساس بالارهاب والتسلط الغاشم ، فنجد الامام ـ أي امام لا علي التعيين ـ ينهد بمسؤوليته القيادية لصد الاعتداء المتلاحق الأثيم علي الحريات والحرمات والذمم؛ ومن هنا تبرز خصائص كل امام قائمة بذاتها ، تعبيرا عن الحالة المضادة التي يعني بمقاومتها ، والا فالأئمة (عليهم‌السلام) في ميزان واحد راجح بالعطاء والبر والتقوي والعلم والمجاهدة والنضال ، وينبغي لفت النظر بجدية معمقة الي أن الظرف الاجتماعي في كثير من الأحيان قد يملي التكليف الشرعي علي الامام ، فيؤدي رسالته تبعا لمسؤوليته ، علي الوجه الأتم.

ومن هنا رأينا أميرالمؤمنين عليا (عليه‌السلام) : محاربا ومجاهدا ، وزاهدا ومعرضا عن السلطان ، حتي جاءه الأمر يسعي اليه دون العمل من أجله ، فنهض بمسؤوليته الشرعية لا تأخذه في الله لومة لائم ، فكان النموذج الأرقي للخليفة الحاكم بأمر الله (تعالي). بينما نجد الامام الحسن بن علي (عليه‌السلام) صابرا محتسبا مترصدا ، لأنه رأي الغدر والخيانة تفتك بجيشه غير المقاتل ، ونظر الي الذمم وهي تشتري ، والي الضمائر وهي تباع ، فأعرض عن الحكم لتفاقم هذه الظواهر المعقدة ، وقد شكلت خطرا متفاقما ، كاد أن يعصف بكيان الاسلام ، فبادر الي الصلح المشروط الذي ما وفي به عدوه علي رؤوس الأشهاد ، وبذلك سجل الامام الحسن نصرا فعليا علي معاوية ، بأنه يغدر ويفجر ، وبأن من كان كذلك ليس أهلا للامامة الشرعية. في حين نلحظ الامام الحسين بن علي سيدالشهداء (عليه‌السلام) يتجه الي الكفاح المسلح

٤٠