الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

والجاه والسلطان.

بينما تقول بعض الروايات : ان البرامكة بما فيهم الفضل وأبوه كانوا من أعداء الامام ، حتي روي أن الفضل قدم للامام مائدة فيها السم ، واستدعي له الطبيب ، فأراه الامام راحته وكانت خضرة ، تدل علي أنه قد سم ، فانصرف الطبيب قائلا : والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم (١).

وقد ورد عن الامام علي بن موسي الرضا تصديق ذلك ، فقد قال لأحمد بن محمد بن أبي‌نصر من حديث :

«ان الله يدافع عن أوليائه ، وينتقم لأوليائه من أعدائه ، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك ، وما انتقم لأبي‌الحسن (عليه‌السلام(٢).

هذا ملخص تأريخي اجمالي بسجون الامام في عهد الرشيد ، وقد تناوب عليها : في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور في البصرة ، ونقل الي بغداد فسجن فيها عدة مرات ، فكان من سجونه قصر الرشيد ، ثم سلمه الي مدير شرطته والموكل بقصره : عبدالله بن مالك الخزاعي ، ثم أطلق ، وأبقي في بغداد ، وقبض عليه وسجن عند الفضل بن الربيع مرفها عليه ، ثم أطلق لكرامة له ، وقبض عليه أخيرا ، فسجن عند الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي ، فوسع علي الامام ، وعاقبه الرشيد علي ذلك ، وقيل علي العكس من هذا ، ثم أمر به الي سجن السندي بن شاهك ، وكان سجنه من أضيق السجون معاملة مع الامام ، ومن أشد المعتقلات عليه.

وكان موقع هذا السجن في دار المسيب قرب باب الكوفة ، وباب الكوفة يقع اليوم ـ كما في خارطة بغداد ـ في منطقة «الوشاش» وهي احدي أحياء محلة الكرخ ببغداد.

__________________

(١) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٢١٢ عن الصدوق / الأمالي / ١٤٦.

(٢) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٤٩.

٢٦١

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«وسمعت من الأفواه أن المحل الذي سجن به الامام معروف لدي الأوساط البغدادية ، وهو أحد قصور آل الباججي» (١).

وقيل : ان الامام سجن في دار السندي بن شاهك نفسه ، وقد يدل علي ذلك أن أخت السندي سألت أخاها أن تتولي أمر هذا العبد الصالح في حبسه ـ وكانت من المتدينات ـ فوافق علي ذلك فكانت علي خدمته ، وحكي أنها قالت :

«كان اذا صلي العتمة حمد الله ومجده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتي يزول الليل ، فاذا زال الليل قام يصلي حتي يصلي الصبح ، ثم يذكر حتي تطلع الشمس ، ثم يقصد الي ارتفاع الضحي ، ثم يتهيأ ويستاك ، ويأكل ، ويرقد الي الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي ، ثم يذكر في القبلة حتي يصلي للمغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب الي العتمة ، فكانت تقول : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» (٢).

وقد ضيق السندي علي الامام أشد التضييق بأمر مباشر من هارون الرشيد ، وأوعز اليه أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد ، ويقفل الباب في وجهه ، ولا يدعه يخرج الا للوضوء ، فامتثل السندي ذلك ، ونفذ ما أراد الرشيد (٣).

وكان القبض علي الامام قد تم من قبل الرشيد لأول مرة لعشر ليال بقين من شهر شوال عام ١٧٩ ه ، وما انفك كما رأيت ، ينقل بين السجون ، حتي توفي مسموما في سجن السندي بن شاهك لخمس بقين من شهر رجب عام

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٨٧.

(٢) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٣١ ، ابن‌الأثير / الكامل ٥ / ١٠٨ ، أبوالفداء / التأريخ ٢ / ١٥ ، الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٣.

(٣) ظ : القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٨٧.

٢٦٢

١٨٣ ه علي المشهور (١).

وعلي هذا فقد قضي الامام في غياهب السجون خمس سنوات الا شهرين ونصف الشهر بالضبط.

وكانت هذه المدة حقبة انقطاع للامام عن شيعته الا لماما ، وكانت حياته في السجن حياة ابتهال وتهجد وصلوات ودعاء ، ولم تكن تقتصر علي ذلك من النشاط الروحي ، فهناك أنشطة ذات بال ستراها في المبحث الآتي.

__________________

(١) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١ / ٧٠ ، ابن‌الأثير / الكامل ٦ / ٥٤ ، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٣٢ ، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان ٢ / ٧٣ ، الكليني ١ / ٤٧٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٠٦.

٢٦٣

حياة الامام في طوامير السجون

أرأيت طهر السماء ، ونقاء الأفق ، وصفاء البحر؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر في ضميره الزكي النابض ، واذا به يمني بعصف الرياح ، وتلبد الأجواء ، ومرارة الارهاب.

أرأيت عزة الخليل ، ومهابة الكليم ، وقداسة المسيح؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر ، وهو يعايش سلاطين الجور ، وجلاوزة الطغيان ، وأجهزة القمع.

أرأيت محمدا في قيادته ، وعليا في شجاعته ، والزهراء في عفتها ، والحسن في صبره ، والحسين بنضاله ، وزين‌العابدين في دعائه ، ومحمدا الباقر في أصالته ، وجعفر الصادق في علمه؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر ، وارثهم جميعا؛ مغيبا بين جدران السجون ، ومكبلا بأثقال الحديد ، يتجرع الغصص والاغتراب.

هكذا أراد الرشيد ، وهو القائل عن الامام :

«أما ان هذا من رهبان بني‌هاشم».

فقيل له : فما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟.

٢٦٤

قال : هيهات ، لابد من ذلك (١)

أجل ، لقد ضيق الرشيد علي الامام ، وفي سجن السندي بالذات ، فما بدا من الامام اعتراض ، ولا حاول اطلاق سراحة بوسيلة ، بل ترفع عن التنازل لهارون ، وأبي‌وساطة أي انسان في شأنه ، وامتنع عن تلبية الراغبين بذلك ، وقال لهم :

«حدثني أبي عن آبائه ، أن الله عزوجل أوحي الي داود : يا داود ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، وعرفت ذلك منه ، الا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته» (٢).

وكان منهجه في السجن المواظبة المثلي علي العبادة الخالصة ، والانابة والخشوع والتسليم ، قال الشيخ المفيد ، وهو يتحدث عن حال الامام في السجن :

«وكان (عليه‌السلام) مشغولا بالعبادة ، يحيي الليل كله صلاة ، وقراءة قرآن ، ودعاء ، واجتهادا ، ويصوم النهار أكثر الأيام ، ولا يصرف وجهه عن المحراب» (٣).

وفي قبال هذا التوجه العبادي ، كان الامام محاطا بزمر أهل المعاصي ومرتكبي الكبائر ، ولا حول ولا طول لديه علي التغيير. فقد حدث كاتب عيسي بن جعفر ، والامام سجين لديه ، قال : «لقد سمع هذا الرجل الصالح ـ يعني الامام ـ في أيامه هذه؛ في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش والمناكير ما أعلم ولا أشك أنه لم يخطر بباله» (٤).

وكانت الحياة العلمية وهو سجين تنام وتستيقظ ، فقد يسمح السندي

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٩٥.

(٢) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٢٥.

(٣) المفيد / الارشاد / ٣٣٨.

(٤) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٢١ وانظر مصدره.

٢٦٥

بلقاء الامام من قبل العلماء ، وقد يسمح بتبليغه الرسائل من أوليائه ، وقد يوصل الأجوبة من قبل الامام الي السائلين.

ويعتبر الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين : أن هذه الأساليب التي سلكها السندي من جملة طرائقه في التغطية والتمهيد لقتل الامام (١).

وقد يكون ذلك من بواعث التعتيم علي معاناة الامام لجملة الضغوط والمضايقات ، فيشاع أنه يتمتع بحرية واستقلالية ، بحيث تصله رسائل شيعته ، وحيث يجيب عليها بمحض ارادته واختياره.

فقد روي عن علي بن سويد الطائي ، قال :

كتب الي أبوالحسن الأول (عليه‌السلام) في كتاب :

«ان أول ما أنعي اليك نفسي في ليالي هذه ، غير جازع ، ولا نادم ، ولا شاك فيما هو كائن ، مما قضي الله وحتم ، فاستمسك بعروة آل محمد ، والعروة الوثقي الوصي بعد الوصي ، والمسالمة والرضا بما قالوا» (٢).

وكما في رواية الحسين بن المختار ، قال :

«خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي ، وهو في الحبس ...» (٣).

وقد تتأخر اجابة السؤال من قبل الامام لأسباب أمنية فرضت عليه ، أو لأسباب تتعلق بالامام ، فعن علي بن سويد ، قال : كتبت الي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) وهو في الحبس كتابا ، أسأله عن حاله ، وعن مسائل كثيرة ، فاحتبس الجواب علي أشهرا!! ثم أجابني بجواب مفصل ، ورد فيه بعد حمد الله والثناء عليه ، قوله : «أما بعد؛ فانك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة ، وحفظ ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشده ، وبصرك من أمر دينك ...»

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٨٨.

(٢) الحميري / قرب الأسناد / ١٩٢ ، البحار ٤٨ / ٢٢٩.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٣١٢.

٢٦٦

ثم نعي الامام نفسه لابن سويد ، وأجابه عن عدة مسائل مسائل فقهية في الغصب والشهادات ، ومسألة كلامية في مدي علم أهل البيت (١).

وكانت مدرسة الامام قد انتشر روادها في الآفاق وهو في السجن ، فكانت اجابات الامام يذاع خبرها بانتظام رغم الرصد والعيون ، وسبب ذلك أن التشيع قد استطار في الأقاليم الاسلامية وشاع ، وكان العلماء والوكلاء يقومون بالمهمات في التبليغ والدعوة ، ويتعاونون علي تسلم الحقوق المالية ويصرفونها في مواقعها الشرعية ، كما أشار لمواليه بالامام من بعده ، ونص علي ولده علي الرضا قائلا : «ان ابني «علي» أكبر ولدي ، وآثرهم عندي ، وأحبهم الي ، وهو ينظر معي في الجفر ، ولم ينظر فيه الا نبي أو وصي نبي» (٢).

وكما عن الحسين بن المختار ، قال : خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) وهو في الحبس : عهدي الي أكبر ولدي (٣).

وبذلك لم يترك الامام الأمة سدي بل نص علي حجة الله في خلقه. وأدي الأمانة التي استحفظ عليها ، كما أوصي وأوقف وحرر كما سنري.

__________________

(١) الكليني / الكافي ٨ / ١٢٤ ـ ١٢٦ ، البحار ٤٨ / ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٤٣.

(٣) المصدر نفسه / ٣٤٣.

٢٦٧

الامام يوصي بأمواله ويوقف أراضيه

وشعر الامام (عليه‌السلام) بدنو أجله ونهاية أيامه واخترام عمره الشريف ف «لكل أجل كتاب» ولكل بداية نهاية ، ولأنه يتعايش مع الخطر المحدق به ليل نهار ، يصبح الوحدة القاتلة في سجنه ، ويمسي الغربة الموحشة في ليله.

وكان هذا الشعور من الامام يمثل انقداحا روحيا في لمح الغيب القريب ، فأعد لذلك عدته في وصية كثبية ، أشهد عليها الأعيان من أهل بيته وأصحابه ، وكانت هذه الوصية نموذجا فريدا لما ينبغي علي المسلم لدي احساسه بالموت.

أشهد الامام الشهود ، وأشهد نفسه :

«أنه يشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آيتة لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الحساب والقصاص حق ، وأن الوقوف بين يدي الله عزوجل حق ، وأن ما جاء به محمد (صلي الله عليه وآله) حق ، وأن ما نزل به الروح الأمين حق ، علي ذلك أحيا ، وعليه أموت ، وعليه أبعث ان شاء الله ، أشهدهم أن هذه وصيتي بخطي ... وأوصيت بها الي «علي» ابني ، وبني بعده

٢٦٨

ان شاء وأنس منهم رشدا ، وأحب اقرارهم فذلك له ، وان كرههم وأحب أن يخرجهم فذلك له ، ولا أمر لهم معه.

وأوصيت اليه بصدقاتي وأموالي وصبياني الذين خلفت وولدي ... والي علي أمر نسائي دونهم ، وثلث صدقة أبي وأهل بيتي يضعه حيث يري ، ويجعل منه ما يجعل ذو المال في ماله ... وان أحب أن يبيع ، أو يهب ، أو ينحل ، أو يتصدق علي غير ما وصيته فذاك اليه ، وهو أنا في وصيتي في مالي ، وفي أهلي وولدي.

وان رأي أن يقر اخوته الذين سميتهم في صدر كتابي هذا أقرهم ، وان كره أن يخرجهم غير مردود عليه ، وان أراد رجل أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها الا باذنه وأمره.

وأي سلطان كشفه عن شي‌ء ، أو حال بينه وبين شي‌ء مما ذكرت في كتابي ، فقد بري‌ء من الله تعالي ومن رسوله ...

ولي عنده مال ، وهو مصدق فيما ذكر من مبلغه ان أقل أو أكثر ، فهو الصادق ... وليس لأحد أن يكشف وصيتي ، ولا ينشرها وهي علي ما ذكرت وسميت ... ومن أساء فعليه ، ومن أحسن فلنفسه ، وما ربك بظلام للعبيد» (١).

وأنت تري ما في هذه الوصية ـ وقد اختزلتها لك اختزالا ـ من التأكيد علي عقيدة التوحيد ، والنبوة ، والمعاد يوم القيامة ، وما يستلزم ذلك من بعث ونشور وحساب ووقوف بين يدي الله تعالي ، وأن ما نزل به روح الأمين من القرآن والشريعة حق ، وأنه يحيا ويموت ويبعث علي هذا.

والملفت في الوصية حقا تأكيده الشامل علي ولده الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) ، في تمييزه علي ولده ، ورعايته لشؤونه ، وعنايته بادارته ، واقراره علي ادارة أمواله وصدقاته والقصر من أبنائه ، بل علي جميع ولده ،

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٧٦ ـ ٢٨٠.

٢٦٩

كما جعل له أمر نسائه وأخواته دونهم ، وبصرف ثلث صدقة أبيه أني يري ، وحيث يشاء ، كما خوله تخويلا مطلقا بأمواله ، وما يصنع فيها من هبة أو نحلة أو بيع أو صدقة ونحو ذلك فيما لم تشتمل عليه الوصية. ثم اعتره نفسه في الوصية والمال والأهل والولد ، وله اقرار أبناء الامام الذين ذكرهم في وصيته ، وله أيضا اخراجهم. وجعل أمر بناته بيده ، ولا يزوج أحد احداهن الا باذن الرضا وأمره ، ولا سلطان لأحد عليه في جميع وصيته ، وأي سلطان حال بينه وبين تنفيذها فقد بري‌ء من الله ورسوله ، وأبان الامام في ختام الوصية أن له مالا عند ولده الرضا ، وهو مصدق فيما ذكره عنه قل أو كثر ، وشهد بحقه بأنه الصادق.

ويبدو بكل وضوح من لوازم هذه الوصية ونصوصها وفقراتها ، أنها نص لا يقبل الشك علي امامة ولده الرضا ، وهو كذلك ، ويأتي هذا بعد أن نص عليه أمام جماعات كثيرة وأشهدهم علي ذلك. ويبدو أن للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) صدقات جارية ، وأراضي زراعية عامرة ، نص علي جعلها وقفا ذريا في وصيته قال فيها :

«بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما تصدق به موسي بن جعفر ، تصدق بأرضه مكان كذا وكذا ... كلها ، نخلها ، ومائها ، وأرجائها ، وحقوقها ، وشربها من الماء ، وكل حق هو لها ، في مرفع ، أو مظهر ، أو عنصر ، أو مرفق ، أو ساحة ، أو مسيل ، أو عامر ، أو غامر ، تصدق بجميع حقه من ذلك علي ولده من صلبه الرجال والنساء ، يقسم ما أخرج الله عزوجل من غلتها ـ بعد الذي يكفيها في عمارتها ومرافقها ، وبعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين أهل القرية ـ بين ولد موسي بن جعفر ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، فان تزوجت امرأة من ولد موسي بن جعفر ، فلا حق لها في هذه الصدقة حتي ترجع اليها بغير زوج ، فان رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج

٢٧٠

من بنات موسي ، ومن توفي من ولد موسي وله ولد ، فولده علي سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين علي مثل ما شرط موسي بين ولده من صلبه ، ومن توفي من ولد موسي ولم يترك ولدا رد حقه علي أهل الصدقة.

وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق ، الا أن يكون آباؤهم من ولدي. وليس لأحد في صدقتي حق من ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فان انقرضوا ولم يبق منهم أحد ، فصدقتي علي ولد أبي من أمي ـ ما بقي منهم أحد ـ ما شرطت بين ولدي وعقبي ، فان انقرض ولد أبي ، وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فان لم يبق منهم أحد ، فصدقتي علي الأولي فالأولي حتي يرث الله الذي ورثها وهو خير الوارثين.

تصدق موسي بن جعفر بصدقته هذه ، وهو صحيح صدقة حبيسا بثا بثلا ، لا مثنوية فيها ولا رد أبدا ، ابتغاء وجه الله تعالي والدار الآخرة ، ولا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ، أو يبتاعها ، أو يهبها ، أو يغير شيئا مما وضعتها عليه ، حتي يرث الله الأرض ومن عليها» (١).

ويخلص لنا من هذه الوقفية أن الامام (عليه‌السلام) بضبطها واحكامها ، وتفصيلها وجزئياتها ، وادخال من أراد ادخاله ، واخراج من أراد اخراجه ، انما يريد أن يوجهنا في أعمالنا ووصايانا وأموالنا وصدقاتنا الوجه الصحيح المحكم ، بحيث يكون ما يريده صاحب المال هو الأصل فيما يعمل به ، وأن تكون الوصية جامعة مانعة فلا يدخل فيها ما يراد اخراجه ، ولا يخرج منها ما يراد ادخاله ، وأن ذلك جميعا ابتغاء وجه الله تعالي واليوم الآخر.

ومن هنا نعرف أن موارد سخاء الامام وعطاياه وهباته وصراره ومنحه ، انما كانت من خالص ماله وطيب حلاله.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٢٧١
٢٧٢

الفصل الثامن

الامام في مدارج الشهادة

١ ـ فزع الرشيد من منزلة الإمام.

٢ ـ اغيال الإمام بالسم.

٣ ـ الإشهاد على وفاة الإمام.

٤ ـ تجهيز الإمام وتشييعه إلى مقررّه الأخير.

٢٧٣
٢٧٤

فزع الرشيد من منزلة الامام

انتشر ذكر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الأقاليم الاسلامية انتشار النار في الحطب الجزل ، فقد تناقل الناس أخباره في العلم والحلم والورع والتقوي والانابة والاخبات لله تعالي.

وكان الرشيد أعرف الناس بهذه الحقائق ، وأجرأ الناس علي تغافلها ، وكان الترف السياسي قد طفح الكأس بأنبائه بين صفوف الشعب ، وبلغ الاستياء حده من الأثر والطغيان اللذين طبع عليهما النظام العباسي ، وانكمش الناس من الجور والاستعباد ، وسئم المجتمع العراقي بخاصة من حياة اللهو والعبث والمجون.

هذا وأمثاله كاد أن يطوي بساط الشرعية من تحت هارون وولاته وعماله في الميدان السياسي ، أما في الميدان الديني فلا شرعية للحكم من قبل أبناء الطلقاء تجاه أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكان لابد للرشيد من اشغال الناس عن النظر في شأن الحكم ، فأعلن الأحكام العرفية ليقمع كل تفكير ـ فضلا عن التحرك ضد النظام في مآسي الحكم وشؤون الدولة حتي قال الناس : انج سعد فقد هلك سعيد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخري عمد الرشيد الي سياسة التبعيد والتشريد مضافا

٢٧٥

الي سياسة كبت الحرية ، فقد قذف بالشباب المسلم في لهوات الحروب ، وأشغل الفكر العام بالبعوث وارسال الكتل البشرية نحو الثغور ، وهو لا يهمه بذلك أمر الاسلام في شي‌ء ، وانما همه الوحيد هو تثبيت دعائم الملك.

وكانت شعبية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تخترق كل الحواجز التي وضعها الرشيد في سبيله ، لا بقوة عسكرية ، وانما بذلك التغلغل العقائدي الذي تتنطوي عليه قلوب المسلمين ولاء وايمانا وحبا بقيادة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وهنا مصدر الخطر علي السلطة حيث أن هذا التغلغل في الفكر والضمير انما يكتسب نفوذه العام من خلال قناعات ثابتة ، تجعل القوة الي جنب الكتاب في استيحاء الأسس الفكرية للاسلام ، وهذا ما يخيف الحاكمين ويجعلهم في فزع وهلع شديدين ، لأن هذا المنظور الخارق انما ينطلق من صميم المشاعر الانسانية دون تأثير خارجي ، أو دعم سلطوي ، أو اجراء سياسي ، فهو انطلاق داخلي يجري في الانسان مجري الدم في الأوردة والشرايين.

وكان الرشيد يعرف هذا جيدا بالنسبة للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فهو وريث هذه الأطروحة الضخمة التي تجعل مصير السلطان في مهب الريح ، وتجعل أتباعه وأولياءه في قلق مستمر ، اذن الدولة في نظره في معرض الخطر من هذه الأحاسيس التي يمتلك أمرها الامام.

ومع علم الرشيد أن ليس من وكد الامام ولا من شأوه نشدان الحكم ولا تطلب السلطان ، الا أن هواجس الخوف والذعر من مكانة الامام تجعله يفكر جديا في التخلص منه بشتي الوسائل ، دون أن يثير حفيظة المتسائلين أو الاهتمام الجماهيري.

٢٧٦

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من أدري الناس بهذه الارهاصارت لدي الرشيد ، فقد يجامله مرة ، وقد يتقيه أخري ، وقد يتقرب منه ثالثة ، وقد يذكره الرحم فيمسه سوي ذلك ، وقد يروي له في ذلك «أن الرحم اذا مست الرحم تحركت واضطربت» (١) كما قد يجابهه في مرارة واصرار اذا اقتضت المصلحة العليا ذلك (٢).

وقد رأيت فيما سبق أن الرشيد كان مصمما علي سجن الامام فسجنه حتي انتهي به المطاف الي سجن السندي بن شاهك ، فكانت كرامات الامام يتصل بعضها ببعض ، وفضائله تسير مسير الشمس ، فاستنجد الرشيد بيحيي بن خالد البرمكي ، وقال له :

«يا أباعلي؛ أما تري ما نحن فيه من هذه العجائب؟

ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا يريحنا من غمه؟

فقال يحيي بن خالد : الذي أراه لك أن تمن عليه ، وتصل رحمه ، فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا.

فقبل ذلك منه ، وأمره بفك القيود عنه واطلاقه بشرط الاعتراف بالاساءة. فامتنع الامام (عليه‌السلام) ، وقال ليحيي :

يا أباعلي؛ أنا ميت ، وانما بقي من أجلي أسبوع ...

يا أباعلي؛ أبلغه عني ، يقول لك موسي بن جعفر :

رسولي يأتيك يوم الجمعة ، فيخبرك بما تري ، وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي علي صاحبه؟ والسلام.

فأخبر يحيي الرشيد بذلك ، فقال الرشيد :

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٦.

(٢) ظ : علي سبيل المثال : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ـ ١٤٥ ـ ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨ ... الخ.

٢٧٧

«إن لم يدع النبوة بعد أيام ، فما أحسن حالنا.»

فلما كان يوم الجمعه بوفي الإمام. (١)

ومهما يكن من أمر ، فإي الإمام قضى في سجن السيدي أضيق أيام حياته ، ولم يمكث بعدها في السجن ، إذ قضى عليه الرشيد بالسم. وهذل ما يحتاج إلى شيء من العرض الدقيق.

__________________

(١) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

٢٧٨

اغتيال الامام بالسم

ذهب أغلب المؤرخين الي أن الامام مات مسموما في سجن السندي بن شاهك ، وانفرد أبوالفرج الأصبهاني بأن الامام لف في بساط وهو حي ، فجلس عليه السجانون حتي توفي (١).

ووافقه ابن‌عنبة بالقول : بأنه لف في بساط وغمز حتي مات (٢).

الا أن الروايات الأكثر شيوعا : أن الامام دس له السم في سجن السندي بأمر الرشيد فمات مسموما ، وهذه الروايات يمكن تصنيفها كالآتي :

١ ـ ان السندي بن شاهك حضر ، بعدما كان بين يدي الامام السم في عشر رطبات ، وأنه (عليه‌السلام) أكلها.

فقال له السندي : تزداد؟ فقال (عليه‌السلام) له : حسبك فقد بلغت ما يحتاج اليه في ما أمرت به.

ثم ان السندي أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام ، وأخرجه اليهم ، وقال : ان الناس يقولون : ان أباالحسن موسي في ضنك وضر ، وها هو ذا لا علة به ولا مرض ، ولا ضر.

__________________

(١) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٥٠٤.

(٢) ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٨٥.

٢٧٩

فالتفت الامام (عليه‌السلام) ، فقال لهم : اشهدوا علي أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام ، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم ، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة ، وأصفر غدا صفرة شديدة منكرة ، وأبيض بعد غد ، وأمضي الي رحمة الله ورضوانه ، فمضي (عليه‌السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث (١).

٢ ـ ان يحيي بن خالد البرمكي خرج علي البريد حتي وافي بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكل شي‌ء ، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمور العمال ، وتشاغل ببعض ذلك أياما ، ثم دعا السندي بن شاهك ، فأمره بأمره فامتثل ، وكان الذي تولي به السندي قتله (عليه‌السلام) ، سما جعله في طعام قدمه اليه.

ويقال : انه جعله في رطب أكل منه ، فأحس بالسم ، ولبث بعده ثلاثا موعوكا منه ، ثم مات في اليوم الثالث (٢).

٣ ـ ان يحيي بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام بأمر الرشيد مباشرة : فعن عبدالله بن طاووس ، قال :

قلت للرضا (عليه‌السلام) : ان يحيي بن خالد سم أباك موسي بن جعفر صلوات الله عليهما؟ قال : نعم ، سمه في ثلاثين رطبة (٣).

٤ ـ وفي عيون الأخبار جاء النص الآتي :

«ثم حبس ـ يعني الامام موسي بن جعفر ـ وسلم الي السندي بن شاهك ، فحبس ، وضيق عليه ، ثم بعث اليه الرشيد بسم في رطب ، وأمره أن يقدمه اليه ، ويحتم عليه في تناوله منه ، ففعل ، فمات صلوات الله

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ عن عيون المعجزات / ٩٥.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٣٩ ، الأربلي / كشف الغمة ٣ / ٢٧.

(٣) النجاشي / الرجال / ٣٧١ ، المجلس / البحار ٤٨ / ٢٤٢.

٢٨٠