الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

بالفشل والنهاية المحزنة دون حصيلة مرجوة في التغيير والانقلاب الجذري سياسيا وعقائديا.

فقد روي أن يحيي حينما عزم عن حركته كتب للامام :

«أما بعد : فاني أوصي نفسي بتقوي الله ، وبها أوصيك ، فانها وصية الله في الأولين ، ووصيته في الآخرين.

خبرني من ورد علي من أعوان الله علي دينه ونشر طاعته؛ وبما كان من تحننك مع خذلانك ، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه وآله) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك ، وقديما ادعيتم ما ليس لكم!! وبسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم الله!! فاستهويتم وأضللتم!! وأنا محذرك ما حذرك الله من نفسه».

تقول الرواية فكتب اليه الامام موسي بن جعفر في الجواب : «... أما بعد؛ فاني أحذرك الله ونفسي ، وأعلمك أليم عذابه وشديد عقابه وتكامل نقماته ، وأوصيك ونفسي بتقوي الله فانها زين الكلام وتثبيت النعم ، أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع وأبي من قبل ، وما سمعت ذلك مني ... وذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك ، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه ـ لو كنت راغبا ـ ضعف عن سنة ، ولا قلة بصيرة بحجة ... وأنا متقدم اليك أحذرك معصية الخليفة ، وأحثك علي بره وطاعته ، وأن تطلب لنفسك أمانا قبل أن ، تأخذك الأظفار ....» (١).

وأنت تري رسالة يحيي في التهجم علي الامام ، وهي بعيدة الصدور عنه ، فانه أدري بمنزلة الامام ومنزلة أبيه من ذي قبل ، واذا كان يدعو للرضا من آل محمد ، فالامام هو الرضا من آل محمد.

وأنت تري الرد فيما نسب للامام ، واذ شككنا في الأصل ثم لنا الشك

__________________

(١) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٣٦٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٦٦.

٢٢١

فيما يتفرع عنه.

وقد تولي تفنيد هذه الرسالة ورواياتها الأستاذ باقر شريف القرشي : «والرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها مرسلة أولا. وقد جاء في سندها روي بعض أصحابنا ، بالاضافة الي أن الكثيرين من رجال السند مجهولون ... فلا مجال للاعتماد عليها والتشكيك في حال يحيي» (١).

ومهما يكن من أمر ، فان الامام كان قاطعا بفشل حركة يحيي في الأساس ، ولا يستطيع تأييدها في حال من الأحوال ، وهو علي رصد تام ، ولكنه كان يري ضرورة الثورة المضادة للحكم العباسي سلبيا لا عن طريق العنف ، فلا هدنة معه ولا تأييد له ، ولا انخراط في صفوفه ، فهو في مجابهة معه غير دموية. ولكنها مجابهة تجرد الحكم عن صفة الشرعية ، وهي أرقي درجات المجابهة سياسيا في مقاومة الانحراف العباسي كما ستري هذا في الفصل الآتي من الكتاب.

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٩٩.

٢٢٢

الفصل السادس

البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي

١ ـ الإمام وسياسة الضال السلبي.

٢ ـ الإمام واختراق النظام العباسي.

٣ ـ الإمام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني.

٢٢٣
٢٢٤

الامام وسياسة النضال العباسي

في المناخ السياسي العام يبرز عاملان مهمان في مهمة الاصلاح الديني والتغيير السياسي ، وهما :

١ ـ النضال الايجابي ، ويعني بمقومات الاندماج الكلي في العالم السياسي واستيحاء ايجابياته الايدولوجية ، والافادة بالقوة وغير القوة ، وفي كل المفردات المتفرعة عليهما ، في سبيل الكسب السياسي والانعاش الاقتصادي والاستيلاء علي السلطة ، فالهدف هو السلطان ، فما يؤخذ بالقوة يسترجع بالقوة ، والحق يؤخذ ولا يعطي.

وقد يستعين هذا المبدأ بنظرية الغاية التي تبرر الواسطة ، وبالوسائل الأخري التي تحقق هذا المبدأ ، ولا نريد أن نناقش هذا المبدأ في التسمية ولا في المكاسب المترتبة عليه ، فهو نفسه له ايجابيته وله سلبيته بوقت واحد.

وقد يتوج النضال الايجابي بالأسلوب الدبلوماسي ، وقد يعتمد المناورة والدوران في التماس ما يراد ، سواء أكان ذلك حقا أم باطلا!! اذ المهم العائدية بالنفع المرتقب ، وقد يغلف هذا المناخ بستار من الضبابية القاتمة ، والمجاملة الكاذبة ازاء الغاية المتوخاة بهذا المنهج أو ذاك.

٢ ـ النضال السلبي : ويعني بمفارقة النظام السياسي قولا وعملا وموضوعية ،

٢٢٥

وذلك يقتضي الاعراض حينا ، والانكار حينا آخر ، وقد يدعو الي المقاطعة للحكم في كل شي‌ء فيجعل حركته مشلولة متعثرة ، وبهذا تكون المعارضة الرافضة شعارا ودثارا ، ويد يعني بالمطالبة لتحقيق العدل واستنقاذ الحقوق المهدورة ، وقد يدعو الي الحياة الحرة الكريمة في ضمن ذلك ، وقد يكون مقتصرا علي رفض التعاون والتعامل مع الجهات الحاكمة في مؤسساتها ومرافقها ودواوينها بشكل عام.

وأئمة أهل البيت بالتزامهم منهج التقية لدي تفجر حياة القسر والارهاب الدموي ، قد يلتزمون النضال السلبي خطا في عدة طرق ، فينطلقون من مبدأ اضعاف الأنظمة ورفضها ، واحكام عزلتها السياسية من قبلهم ، واشعار الشعب المسلم بانكارهم لأعمال السلطان وأعوان السلطان.

وقد يستقبل الأئمة الوجه المشرق للنضال الايجابي لاقامة دولة العدل ، كما مثل ذلك أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) في قتاله للناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد يكون النضال الايجابي انكارا عمليا لبسط حكام الجور وولاة السوء فيلتجأ الي الكفاح المسلح ، كما مثل ذلك سيدالشهداء الامام الحسين بن علي (عليهما‌السلام) في ثورة الطف.

والامام المعصوم هو صاحب القرار وحدة في هذا الاتجاه أو ذاك بما تمليه عليه ضرورة الوظيفة الرسالية الملقاة علي عاتقه ، دون النظر للعواطف والأحاسيس والانفعالات الذاتية ، فهي بعيد منها ومنزه عنها ، فهو حينما يتصرف فبوحي من التكليف الشرعي ، وبعناية من التسديد الالهي ، ناظرا المصلحة العليا وحدها دون التأثر بالأهواء أو الانصياع للضغوط مهما كان ، وكلا المنهجين الذين يسلكهما الامام لهما منطلق واحد هو الحفاظ علي بيضة الاسلام من وجه ، وقيادة الأمة بأمانة واخلاص من وجه آخر.

٢٢٦

فالامام اذن مصدر القرار في الجو السياسي المحموم ، وله البصيرة النافذة بكيفية تنفيذ القرار سلبا أو ايجابا ، فهو قد يتوسط عند السلطان لقضاء حوائج أوليائه ، واستنقاذ حقوق المسلمين ، ولكنه في الوقت نفسه يمانع ممانعة شديدة من الانضواء تحت راية السلطان ، أو الانخراط في ديوانه وحاشيته وبطانته ، فذلك شي‌ء وهذا شي‌ء آخر.

والامام الصامد موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد تبني الأمرين ، وسلك النهج بأناة وروية وتطلع سليم.

كان لرجل من أهل الري بقايا أموال يطالبه بها بعض الولاة ، فطلب للامام أن يسعفه بمفاتحة الوالي في أمره ، فاستجاب الامام ملبيا طلبه. وكتب الي الوالي بالنص الآتي :

«بسم الله الرحمن الرحيم؛ اعلم أن لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الا من أسدي الي أخيه معروفا ، أو نفس عنه كربة ، أو أدخل عليه سرورا ، وهذا أخوك والسلام».

فذهب الرجل برسالة الامام الي الوالي فلبي حاجته ، وما اكتفي بذلك بل قاسمه دينارا بدينار ، ودرهما بدرهم ، وثوبا بثوب ، وأعطاه قيمة ما لم يمكن قسمته ، وهو يقول له :

يا أخي هل سررتك؟ فيقول : أي والله ... (١).

ولما حمل الامام موسي بن جعفر الي هارون الرشيد ، جاء اليه هشام بن ابراهيم العباسي ، فقال للامام : يا سيدي قد كتب لي صك الي الفضل بن يونس ، تسأله أن يروج أمري!!

قال : فركب اليه أبوالحسن (عليه‌السلام) ، فدخل عليه حاجبه ، فقال : يا سيد أبوالحسن موسي بن جعفر بالباب.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٧٤ عن الاختصاص.

٢٢٧

قال : ان كنت صادقا فأنت حر ...

فدخل الامام ، فخرج اليه الفضل بن يونس حافيا ، ووقع علي قدميه يقبلهما ، فقال له الامام : اقض حاجة هشام بن ابراهيم فقضاها (١).

هذه الايجابية بهذه الحدود ، كانت بتقدير الامام وساطة ناجحة لاستباق الخيرات والمسارعة بانجازها ، وقضاء حق من حقوق الأخوة في الله ، وفيها تنفيس كرب واغاثة ملهوف.

ولكن الامام يقف الموقف الصارم والحازم تجاه الانضمام لعمل السلطان ، والانضواء في رف معيته وسطوته.

فقد حدث زياد بن أبي‌سلمة ، قال :

«دخلت علي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) ، فقال : يا زياد انك لتعمل عمل السلطان؟

قلت : أجل؛ قال لي : ولم؟ قلت : أنا رجل لي مروة وعلي عيال ، وليس وراء ظهري شي‌ء. فقال لي : يا زياد لئن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة؛ أحب الي من أتولي لأحد منهم عملا ، أو أطأ بساط رجل منهم ، الا لماذا؟ قلت : لا أدري جعلت فداك ، قال : الا لتفريج كربة عن مؤمن ، أو فك أسرة ، أو قضاء دينه.

يا زياد : ان أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفزع الله من حساب الخلائق.

يا زياد : فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك ، فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك.

يا زياد : أيما رجل منكم تولي لأحد منهم عملا ثم ساوي بينكم وبينهم فقولوا له : أنت منتحل كذاب.

__________________

(١) ظ : الكشي / الرجال / ٣١١ ، البحار ١٠٩ / ٤٨.

٢٢٨

يا زياد : اذا ذكرت مقدرتك علي الناس فاذكر مقدرة الله عليك غدا ، ونفاد ما أتيت اليهم عنهم ، وبقاء ما أتيت اليهم عليك» (١).

ان هذا التحدير المخيف الصادر عن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تجاه مغبة العمل عند السلاطين ، والانخراط في صفوف الظلمة ، لحري بكل مسلم أن يجعله نصب عينيه وهو يتولي المسؤولية في الحكم ، أية مسؤولية أصغيرة كانت أم كبيرة ، لأنه قد ينحرف وتأخذه العزة بالاثم ، أو قد يتيه بولايته علي الآخرين فيضل عن الطريق السوي ، وما أكثر من تورطوا في هذا الانهيار السحيق فتجاهلوا الخدمة العامة ، وحدبوا علي المصالح الذاتية ، ولم يعيروا أذنا صاغية لظلامات الناس ومشكلات الأمة ، فصاروا من جبابرة الأرض ، متجاهلين أن المسؤولية عبارة عن نيابة فعلية عن الشعب يفترض فيها الاحسان الي الاخوان ، وتفريج كروب الانسان ، ودرء أحداث الزمن عن الأسري وذوي الاحتياج ، وما يجري هذا المجري في ضوء توجيه الامام.

ولو استعرضت مصادر حياة الامام في هذا الملحظ الخاص لرأيت عجبا كبيرا فيما يستفز الامام من تولية أبسط الأمور لدي الحاكمين ، وقد لا نري فيها بأسا كثيرا ، ولكنه ينكرها ويشجبها ويستحسن تركها والاعراض عنها. (صفحه ٢٠٨) فهذا صفوان الجمال ، ومنزلته لدي من عاصر من الأئمة غير مجهولة ، وهو علي قدر عظيم ، ومع هذا فان الامام يتجه نحوه بالقول :

«يا صفوان؛ كل شي‌ء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا!!

قال صفوان : جعلت فداك؛ أي شي‌ء؟

قال الامام : كراؤك جمالك من هذا الطاغية (الرشيد).

قال صفوان : والله ما أكريته أشرا ، ولا بطرا ، ولا للصيد ، ولا للهو ،

__________________

(١) الكليني / الكافي ٥ / ١٠٩ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٧٢ ـ ١٧٣.

٢٢٩

ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق الحج ـ ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.

فقال له الامام : أيقع كراك عليهم؟

قال صفوان : نعم جعلت فداك.

قال الامام : أتحب بقاءهم حتي يخرج كراك؟

فقال الامام : من أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان واردا للنار» (١).

فما كان من صفوان الا أن باع جماله وترك المهنة ، وكان هذا النكير من الامام والتشديد فيه لئلا ينتظم أولياؤه في عداد أولياء الظلمة وأعوانهم ، وهو ما تحرمه الشريعة الغراء.

ولئن حقق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عزل النظام في نضاله السلبي هذا ، فانه قد اخترق هذا النظام من الداخل بما لم يسبق اليه تأريخ الامامية السياسي ، وكان ذلك باقرار من الامام ، حيث استطاع اولياءه المقربون أن يصلوا الي أعالي مراكز السلطة ، وأن يكافحوا أمن النظام العباسي ضدهم بالأمن المضاد الذي ستراه في المبحث الآتي

__________________

(١) ظ : الكشّي / الرجال / ٢٧٦.

٢٣٠

الامام واختراق النظام العباسي

واخترق النظام العباسي من الداخل علي يد أولياء الامام ويعلم من الامام ، وكان ذلك يحظي باهتمامه ورعايته ومباركته فيما توصلنا اليه.

فهذا علي بن يقطين ذو الشرف الأصيل والولاء العريق لأهل البيت ، وكان أبوه من دعاة الدولة العباسية ، ونشأ ولده بالقرب منهم ، فكانت ثقة العباسيين به متناهية ، واخلاصه ـ في الظاهر ـ لهم متواترا ، فكان من رجال الدولة أيام المهدي والهادي ، وتقلد منصب الوزير الأول في عهد الرشيد ، والامم يسدد خطاه ، ويخترق بوجوده النظام ، ويدعو له ، ويعضد سيرته في اغاثة الملهوفين ، والدفع عن الضعفاء ، وقد طلب الاذن من الامام أن يتخلي عن منصبه هذا ، فنهاه الامام عن ذلك نهيا شديدا ، معللا ذلك ، ومبرمجا له ، بقوله (عليه‌السلام) :

«لا تفعل ، فان لنا بك أنسا ، ولاخوانك بك عزا ، وعسي أن يجبر الله بك كسيرا ، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه ، يا علي : كفارة أعمالكم الاحسان الي اخوانكم ، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثا ، اضمن لي أن لا تلقي أحدا من أوليائنا الا قضيت حاجته وأكرمته ، وأضمن أن لا يظلك سقف سجن أبدا ، ولا ينالك حد سيف أبدا ، ولا يدخل الفقر بيتك أبدا ، يا

٢٣١

علي من سر مؤمنا فبالله بدأ ، وبالنبي (صلي الله عليه وآله) ثني ، وبنا ثلث» (١).

والامام بهذا النحو من التوجيه ، يبدي تفهمه الدقيق لمهمة علي بن يقطين من خلال موقعه الخطير ، وهو يشجعه علي البقاء فيه ، وهو ينهاه عن الاستقالة منه ، وهو يتوسم فيه جبر الكسير واطفاء نائرة المخالفين عليه ، والامام يلمس منه ايجابية مطلقة ، فيبين له ما يكفر به عن عمل السلطان في الاحسان الي الاخوان ، وقضاء احتياج المؤمن ، ويحدد له بعض الآثار الوضعية في اكرامه لأولياء الله ، ويلخصها له في ثلاث :

الاعتصام من السجن ، والاحتزاز من السيف ، والاستعاذة من الفقر ، فليت أولياء الامام التزموا بذلك لدي تسلمهم لبعض المناصب في الدولة ، ونظروا ببصائرهم لهذه المكاسب الكبري التي يحققها من عمل بنصح الامام وتوجيهه الكريم.

اننا نلمس في سيرة علي بن يقطين ألقا من هدي أهل البيت ووهجا من عمق تطلعهم لحقائق الأشياء ، فهو القدوة في هذا المجال الرفيع ، ومع ذلك نراه يضيق ذرعا بعمل السلطان لئلا يقصر بالتزامه الانساني ، ويكتب للامام : «ان قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان ، فان ، أذنت لي جعلني الله فداك ، هربت منه؟»

ويرد عليه جواب الامام بالنص :

«لا آذن لك بالخروج عن عملهم ، واتق الله ...» (٢).

لقد تراءي للامام بلمح بعيد يعسر رصده علي الكثيرين ، أن بقاء علي بن يقطين في موقعه هو الأصلح لأمور الدنيا والدين ، فهو لا يأذن له في الخروج منه ، ومع ذلك فهو يأمره بتقوي الله ، تأكيدا علي مراقبة النفس من

__________________

(١) المجلسي / بحار الأنوار ٤٨ / ١٣٩ وانظر مصدره.

(٢) ظ : المجلسي / بحار الأنوار ٤٨ / ١٥٨ يرويه عن قرب الإسناد / ١٧٠.

٢٣٢

الاصطدام بالأهواء.

ولما قدم الامام (عليه‌السلام) الي العراق في احدي استدعاءاته من قبل الرشيد ، زاره علي بن يقطين ، فشكا الي الامام حاله ، وطلب منه الاذن في التخلي عن منصبه فنهاه الامام ، وقال له : «يا علي ، ان لله أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه ، وأنت منهم يا علي» (١).

ان هذا الاعتداد بعلي بن يقطين يعني أن الامام قد أخلصه لمهمة رسالية يتعاهدها ، ويؤديها علي الوجه الأمثل ، فهو يعتمده في اختراق النظام لا لارادة الحكم بل لانعاش حياة المضطهدين ، ـ وما أكثرهم ـ وانقاذهم من جور السلطان ، وللنظر في شأن أولياء الله من وراء ستار حديدي من السرية التامة من خلال هذا الجندي المجهول ، فهو في الظاهر من رجال النظام ، وهو في الواقع من أولياء الامام ، وأي ولي هذا والامام يشهد له بالجنة ، ويدعو له أن يكون في أعلي عليين.

أورد الأستاذ باقر شريف القرشي : ان ابن يقطين أقبل علي الامام ذات مرة ، فقال الامام :

من أراد أن يري رجلا من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلينظر الي هذا المقبل ، وأشار الي علي ، فقال بعض من حضر :

أو في الجنة؟ قال الامام : أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة. وقال الامام في مورد آخر : ضمنت لعلي بن يقطين أن لا تمسه النار أبدا. بل وأكثر من هذا ، فقد دعا له الامام ، وهو علي الصفا بقوله :

«الهي؛ في أعلي عليين ، اغفر لعلي بن يقطين» (٢).

ان هذه الرعاية التامة لهذا الرجل تعبر عن مدي ما قدمه من خدمات

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٨٧.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٨٧.

٢٣٣

للأمة ، وما وفي به من التزامات للامام ، وما أسداه من أعمال جباره تجاه الشعب الضائع في عواصف النظام ، مما استحق معه هذا الثناء العاطر والدعاء العظيم.

وهذا يلزمنا جميعا أن نتوجه هذا التوجه في رعاية شؤون الناس ، ومتابعة احتياج الآخرين ، كل بحسب موقعه من المنصب والمكانة والجاه ، والا فهي الأيام القصيرة مهما طالت ، ومن وراثها المساءلة والمحاسة فيما قدم الانسان وما ترك.

ولسنا ندري بالضبط حجم هذه المكرمات التي انتهجها ابن‌يقطين في خلال منصبه ، ولسنا نعلم مدي اتساع عطائه الانساني وهو علي رأس السلطة ، لأن أعماله محاطة بكثير من الكتمان لئلا يفتضح أمره لدي السلطان ، الا أننا نستشعر أهميتها القصوي من خلال اعتداد الامام به ، ومتابعته من قبله في تصرفاته ، وتسديده له في كثير من شؤونه التي يقصر ادراكها الا بعد حين ، ناظرين بذلك ما ذكره الشيخ المفيد (ت ٤١٣ ه) وهو أقرب الي عهد الامام ، وما يرويه لنا نعتبره من أصول الروايات.

أولا : روي عبدالله بن ادريس عن ابن منان ، قال : حمل الرشيد في بعض الأيام الي علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها ، وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك. فأنفذ ابن‌يقطين بالدراعة وبعض الثياب الي الامام الكاظم (عليه‌السلام) ومعها خمس ماله ، فلما وصلت ، قبل الامام الثياب والمال ، ورد الدراعة ... وكتب اليه : أن احتفظ بها ...

فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين علي غلام فصرفه ... فسعي به الي الرشيد ، وقال : انه يقول بامامة موسي بن جعفر ، ويحمل اليه خمس ماله في كل سنة ، وقد حمل اليه الدراعة ... فأنفذ الرشيد الي ابن‌يقطين من

٢٣٤

يحضره ... فحضر ... قال له : ما فعلت بالدراعة؟ .. قال هي عندي في سفط مختوم ...

قال الرشيد : أحضرها الساعة ،

فاستدعي بعض خدمه وقال له : ... افتح الصندوق الفلاني ، وجئني بالسفط الذي فيه بختمه ، فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوما ، فوضع بين يدي الرشيد ... ففتح ونظر الي الدراعة فيه بحالها ... فقال لعلي بن يقطين : أرددها الي مكانها ، وانصرف راشدا ، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا ، وأمر أن يتبع بجائزة سنية ، وتقدم بضرب الساعي ألف سوط ، فضرب نحوا من خمسمائة سوط ، فمات في ذلك (١).

ولك أن تسأل : أني توافر هذا العلم بهذه الحال في الاستدعاء والسؤال عن الدراعة من قبل الامام؟ وكيف احتاط الامام لذلك بهذه الصورة التي حكمت ببراءة ابن‌يقطين يمثل هذا الموقف الحرج؟

ولنا أن نجيب : ان هذا العلم لدي الامام قد فتح عليه كما تقدم في موارد علم الامام ـ من ذلك الباب الذي فتح لجده أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) «علمني رسول الله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب» (٢). واذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فقد انتفي الاستغراب والعجب والاستبعاد ، وليس هو بأعجب مما ترويه الحادثة الأخري في الموضوع نفسه.

ثانيا : روي محمد بن اسماعيل عن محمد بن الفضل ، قال : اختلفت الرواية بين أصحابنا في الوضوء ، فكتب علي بن يقطين بذلك للامام ، فكتب اليه الامام : فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي أمرك

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) ظ : الشيخ المفيد / الاختصاص ٢٨٢ ـ ٢٨٣ في طرق وأسانيد هذا الحديث ، وبما روي فيه عن الأئمة (عليهم‌السلام) بعبارات متقاربة.

٢٣٥

به في ذلك : .... أن تغسل وجهك ثلاثا ، وتخلل شعر لحيتك ، وتغسل يدك من أصابعك الي المرفقين ، وتمسح رأسك كله ... وتغسل أصابعك الي المرفقين.

فلما وصل الكتاب عجب بما رسمه له ... ثم قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ...

وسعي بعلي بن يقطين لدي الرشيد ، فقيل له : اختبره بالوضوء ... فلما دخل وقت الصلاة ، وقف الرشيد وراء حجاب ينظر وضوءه ، فتوضأ علي الصورة التي رسمها له الامام. فقال الرشيد : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة.

وورد علي ابن‌يقطين كتاب الامام (عليه‌السلام) :

«ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرة فريضة ، وأخري اسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح مقدم رأسك ، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام» (١).

ومع كل هذه المنزلة لعلي بن يقطين عند الامام ، فقد يجابهه بما يصحح سيرته ، ويخفف من غلوائه ، رائده في ذلك ايقافه عند المنهج السوي الذي لا يحاد عنه ، فقد حجبه ، وامتنع عن مقابلته ، لأنه حجب ابراهيم الجمال ، وهو من أولياء الامام.

فقال علي بن يقطين للامام موسي بن جعفر : يا سيدي ما ذنبي؟

فقال (عليه‌السلام) : حجبتك لأنك حجبت أخاك ابراهيم الجمال.

وقد أبي الله أن يشكر سعيك ، أو يغفر لك ابراهيم الجمال.

فدخل علي بن يقطين علي ابراهيم داره ، وقال له : ان المولي أبي أن

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٢٣٦

يقبلني أو يغفر لي.

فقال إبراهيم : يغفر الله لك ، فألحّ علي بن يقين عليه أن يطأ خدّه ، ففعل ذلك بعد ممانعة ، فقبله الإمام بعد هذل (١).

ومن هنا نستشعر أن رعاية الإمام لعلي بن يقطين لم تكن لذابه ، وإيما كانت بأسباب موضوعية أهمها أن يكون عند حسن ظن القاصدين من ذوي المشكلات ، وأن يكون في تواضع المؤمن لدى استقبال ذوي الدين ، وأن يكون لإخوايه حصناً منيعاً تردّ به عاديه الزمن.

وبتوافر هذه الشروط وإمثالها ، يكون العمل عند السلطان مبرراً ، ويكون الاندماج كلياّ بهذه الشروط ضرورياً لتنفيذ ذلك ، فبهذا وذاك دفع الظلامة وإقرارالعدالة وتلبية الاحتياج ، وهذا كلّه هو الذي يسوع اخبراق البظام من الداخل لهدف أسمى.

وهكذا بمكن الإمام موسى بن جعفر عليه السالم ، وبشكل إيجابي بنّاء ، أن يتجاوز كثيراً من العبات التي اعترضت مسيرته النضالية والعلمية من خلال أوليائه الأمناء.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٨٥.

٢٣٧

الامام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني

ومع الصورة الناصعة لأدب المجاملة الفاعل لدي الامام ، وحفاظه المتكامل علي شعيرة التقية الواجبة ، الا أننا نجده وباصرار قد يجابه المركز الأول في السلطة مجابهة صريحة صارمة ، اذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك ، واذا كان لابد من الاصحار بالرأي الخارق للأباطيل.

نلمس هذا الاتجاه عند الامام متجاوب الأصداء اذا حاذر من التضليل الديني وخداع المسلمين ، ليصد بذلك الانحراف المتعمد ، ويصون الحقيقة الكبري من الابتذال والضياع.

ومبدأ المجابهة لاعلاء كلمة الحق لدي الامام من خصائصه الثابتة التي أذهلت الكثيرين في عصره ، لأنها ـ عادة ما ـ تكون بأشد اللحظات حراجة ، وعند أصعب المجالات محاججة ، وهي قد تستلزم التضحية ، وتتطلب الجرأة العالية ، وتعني قطع خطوط العلاقات القائمة.

وسجل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حافل بهذا التوجه الفريد اذ كان لابد منه لتمييز الواقع عن الدجل ، وتخليص الحق من الشوائب ، وكشف الأقنعة دون محاباة.

٢٣٨

فحينما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله) ومعه الناس ، فتقدم الرشيد نحو القبر وقال :

السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يابن العم ـ مفتخرا بذلك علي غيره ـ فتقدم الامام موسي بن جعفر الي القبر ، وقال :

السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبتاه.

فتغير وجه الرشيد ، وتبين الغيظ فيه (١).

ان الملحظ الدقيق لهذه الحادثة يشير الي أن الرشيد أراد اضفاء صيغة الشرعية علي خلافته ، لأنه ابن عم رسول الله (صلي الله عليه وآله) فأراد الامام ابطال ذلك ، واحتج علي الرشيد بلغته نفسها ، فسلم علي النبي (صلي الله عليه وآله) باعتباره أباه ، فهو أولي بالشرعية ـ اذن ـ من الرشيد.

وكان الرشيد كثيرا ما يفتح الحوار مع الامام ، بيد أنه يتحري مواطن الاحراج في ذلك ، وكان الامام بين خيارين : اما أن يغضب السلطان ، واما أن تشوه الحقائق ، فكان الامام (عليه‌السلام) يختار الخيار الأول ، وكان هذا قدره عند الحاكمين.

قال الرشيد للامام : لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) منا ، وأنتم بنو علي ... والنبي جدكم من قبل أمكم؟

فقال الامام : لو أن النبي (صلي الله عليه وآله) نشر فخطب اليك كريمك هل كنت تجيبه؟

فقال الرشيد : سبحان الله! ولم لا أجيبه؟ بل أفتخر علي العرب والعجم وقريش بذلك.

فقال الامام : لكنه (عليه‌السلام) لا يخطب الي ، ولا أزوجه.

فقال : لم؟

__________________

(١) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤ ، البحار ٤٨ / ١٠٣.

٢٣٩

فقال الامام : لأنه ولدني ولم يلدكم (١).

وفي رواية : ان الامام قال للرشيد في هذه المسألة أو سواها :

هل يجوز أن يدخل علي حرمك ـ يعني النبي ـ وهن منكشفات؟

فقال لا ، قال الامام : لكنه يدخل علي حرمي كذلك ، وكان يجوز له (٢).

ويبدو أن مسألة النسب كانت الذريعة الوحيدة لبني العباس ، لاثبات أنهم أولي بالنبي من أهل بيته ، لكثرة ما سألوا الامام عن ذلك عسي أن يفحم ، ولكنهم كانوا في وهم ، فمتي كل الأئمة عن الاجابة في شي‌ء؟

سأل الرشيد الامام : كيف قلتم أنا ذرية النبي ، والنبي لم يعقب ، وانما العقب للذكر لا للأنثي ، فائتني بحجة من كتاب الله ...

فقال الامام : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكريا ويحيي وعيسي ...) (٣).

من أبوعيسي؟ فقال : ليس لعيسي أب.

فقال الامام : «انما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم‌السلام) من طريق مريم وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلي الله عليه وآله) من قبل أمنا فاطمة.

وزاده الامام قوله (تعالي) : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) (٤).

ولم يدع أحد أن النبي أدخل تحت الكساء الا علي بن أبي‌طالب ،

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) ظ : الآبي / نثر الدر ١ / ٣٥٩.

(٣) سورة الأنعام / ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) سورة آل‌عمران / ٦١.

٢٤٠