الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

يحمل عليهم حتي فأجاه سهم غادر رماه حماد التركي فقتله ، وقتل معه سليمان بن عبدالله بن الحسن ، وعبدالله بن اسحاق بن ابراهيم بن الحسن ، وأصابت الحسن بن محمد نشابة في عينه فتركها وجعل يقاتل أشد القتال ، حتي آضوه ثم قتلوه ، وجاء الجند بالرؤوس وقد احتزوها فكان عددها مائة ونيفا (١).

وأبرد بالرؤوس الي موسي والعباس وعندهما جماعة من العلويين وفي طليعتهم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فلم يسألا أحدا الاه ، فقالا : هذا رأس الحسين؟

قال الامام : «نعم؛ ان لله وانا اليه راجعون ، مضي والله مسلما ، صالحا ، صواما ، وقواما ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله». فلم يجيبوه بشي‌ء (٢).

ودفن العباسيون قتلاهم جميعا ، وتركوا الحسين وأهل بيته وأصحابه بلا دفن ثلاثة أيام تصهرهم حرارة الشمس (٣).

وقد روي عن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أنه قال :

«لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» (٤).

وجي‌ء بالأسري من الحسنيين وأصحابهم ، مقيدين بالأغلال ، وقد جمعت أيديهم الي أرجلهم بالحديدة ، وهم في حالة يرثي لها جهدا وعناء وبلاء ، وقدموا بين يدي موسي الهادي ، فأمر بقتلهم جميعا ، فقتلوا صبرا ، وصلبوا علي باب الحبس» (٥).

__________________

(١) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١٠ / ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار / ٤٨ / ١٦١ ـ ١٦٥ وانظر مصادره.

(٣) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧.

(٤) ابن عنبة / عمدة الطالب / ١٧٢.

(٥) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١٠ / ٢٩.

٢٠١

قال المجلسي : وحملت الأسري الي الهادي فأمر بقتلهم ، ومات في ذلك اليوم (١).

وكان في الأسري رجل قد أنهكته العلة ، فقال للهادي يستعطفه : أنا مولاك يا أميرالمؤمنين. فصاح به الهادي : مولاي يخرج علي؟ وكان مع الهادي سكين ، فقال : والله لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا ، ومكث الرجل ساعة ، فغلبت عليه العلة ، فمات حتف أنفه (٢).

وبعد أن قتل الهادي أسري «فخ» وضعت رؤوس القتلي من العلويين بين يديه ، والتي أبرد بها اليه ، فجعل ينشد هذه الأبيات : (٢)

بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

 فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله

فيقبل ضيما ... أو يحكم قاضيا

 ولكن حكم السيف فيكم مسلط

فنرضي اذا ما أصبح السيف راضيا

 فان قلتم انا ظلمنا ... فلم نكن

ظلمنا ... ولكنا أسأنا التقاضيا

وهكذا ذهبت هذه الدماء الزواكي جبارا ، وقتل الأسري جهارا ، ولم تكن هناك أدني رحمة انسانية بالرأفة والعفو المحمود.

وقد اكتوي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بلهيب هذه الثورة ، فمدت نحوه أصابع الاتهام بتدبيرها ، والامام براء منها كما سيأتي.

وكان اتهام الامام صادرا من أعلي سلطة في الدولة العباسية من الهادي

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٦٥ وانظر مصدره.

(٢) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٥٣.

(٣) ياقوت / معجم البلدان ٦ / ٣٠٨.

٢٠٢

نفسه ، فحينما قضي علي شهداء «فخ» وقتل الأسري بمجزرة رهيبة دامية ، أخذ يتعقب العلويين ويتوعدهم ، ويشير الي موسي بن جعفر بالقول : «والله ما خرج حسين الا عن أمره ، ولا اتبع الا محبته ، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت ، قتلني الله ان أبقيت عليه».

فقال له قاضي القضاة العباسيين أبويوسف يعقوب بن ابراهيم وكان جريئا عليه : يا أميرالمؤمنين أقول أم أسكت؟

فقال الهادي : «قتلني الله ان عفوت عن موسي بن جعفر ، ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور بما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعلمه وفضله ـ يعني الامام الصادق ـ وما بلغني عن السفاح من تقريظه وتفضيله لنبشت قبره ، وأحرقته بالنار احراقا».

فقال أبويوسف القاضي : «نساؤه طوالق ، وعتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدق بجميع ما يملك من المال ، وحبس دوابه ، وعليه المشي الي بيت الله الحرام ، اذ كان مذهب موسي بن جعفر الخروج ، لا يذهب اليه ، ولا مذهب أحد من ولده .. ولم يزل يرفق به حتي سكن غضبه» (١).

وكانت هذه اللفتة من أبي‌يوسف كلمة حق عند سلطان جائر ، وهي دليل حصافة رأيه ، ومتانة عقلة ، وصدق مروءته.

وقد عاجل الموت الهادي بدعاء الامام كما سبق بيانه في الفصل الماضي ، فما استطاع تنفيذ وعيده ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٥١ وانظر مصدره.

٢٠٣

انتفاضة يحيي بن عبدالله المحض

وكان يحيي هذا من أنصار الحسين (صاحب فخ) فلما قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه ، فر بنفسه ، واستتر عن سلاطين بني العباس حقبة من الزمن ، وأخذ يجول البلدان بحثا عن ملجأ يلتجأ اليه ليظهر أمره فيه.

واستقر المكان بيحيي في بلاد الديلم ، وهو المراد بقول المؤرخين : «صاحب الديلم» فقد ظهر هناك ، واجتمع عليه الناس ، وبايعه أهل تلك الأعمال ، وعظم أمره ، وخاف الرشيد لذلك وأهمه ، وانزعج منه غاية الانزعاج ، فكتب الي الفضل بن يحيي البرمكي : «ان يحيي بن عبدالله قذاة في عيني ، فأعطه ما شاء ، واكفني أمره» (١).

ويري أبوالفرج الأصبهاني :

ان الفضل بن يحيي علم بمكان يحيي بن عبدالله في بعض النواحي ، فأمره بالانتقال عنه ، وقصد الديلم ، وكتب له منشورا لا يعرض له أحد ، فمضي متنكرا حتي ورد الديلم ، وبلغ خبره الرشيد ، وهو في بعض الطريق ، فولي الفضل بن يحيي نواحي المشرق ، وأمره بالخروج الي يحيي.

فكتب الفضل الي يحيي : اني أريد أن أحدث بك عهدا ، وأخشي أن

__________________

(١) ظ : ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٣٩ ، البحار ٤٨ / ١٨٠.

٢٠٤

تبتلي بي وأبتلي بك ، فكاتب صاحب الديلم ، فاني قد كاتبته لك لتدخل الي بلاده فتمتنع به.

ففعل ذلك يحيي ، وكان صحبه جماعة من أهل الكوفة ... كانوا يخالفون يحيي في أمره ، وحينما ولي الرشيد الفضل جمع كور المشرق (صفحه ١٨٦) وخراسان ، أمره بقصد يحيي والجد به ، وبذل الأمان والصلة له ، ان قبل ذلك. فمضي الفضل فيمن ندب معه ، وراسل يحيي فأجابه الي قبوله ، لما رأي من تفرق أصحابه وسوء رأيهم فيه ، وكثرة خلافهم عليه ، الا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له ، ولا الشهود الذين شهدوا له ، وبعث بالكتاب الي الفضل ، فبعث به الي الرشيد. فكتب له الرشيد بما أراد ، وشهد له من التمس.

فلما ورد كتاب الرشيد علي الفضل ، وقد كتب له الأمان علي ما رسم يحيي ، وأشهد الشهود الذين التمسهم ، وجعل الأمان علي نسختين : احداهما مع يحيي ، والأخري معه. وشخص يحيي بن عبدالله ـ بناء علي الأمان الموثق ـ حتي وافي بغداد ، ودخلها معادلة في عمارية علي بغل ، فلما قدم يحيي أجازه الرشيد بجوائز سنية. يقال : ان مبلغها مائتا ألف دينار ، وغير ذلك من الخلع والحملان ، فأقام علي ذلك مدة ، وفي نفس الرشيد الحيلة علي يحيي ، والتتبع له ، وطلب العلل عليه وعلي أصحابه.

ثم ان نفرا من أهل الحجاز تحالفوا علي السعاية بيحيي ، وهم : عبدالله بن مصعب الزبيري ، وأبوالبختري وهب بن وهب ، ورجل من بني‌زهرة ، ورجل من بني‌مخروم ، فوافوا الرشيد لذلك ، واحتالوا الي أن أمكنهم ذكره له ، فأشخصه الرشيد اليه ، وحبسه عند مسرور الكبير في سرداب ، فكان في أكثر الأيام يدعوه ويناظره ، الي أن مات في حبسه ، واختلف في كيفية موته ، وكيف كانت وفاته؟

فقيل : ان الرشيد دعاه يوما ، وجمع بينه وبين ابن‌مصعب ليناظره ، فيما

٢٠٥

رفع اليه ، فجبهه ابن‌مصعب بحضرة الرشيد قائلا : ان هذا دعاني الي بيعته.

فقال يحيي : يا أميرالمؤمنين أتصدق هذا علي وتستنصحه؟ وهو ابن عبدالله بن الزبير الذي أدخل أباك وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار ، حتي تخلصهم أبوعبدالله الجدلي صاحب علي (عليه‌السلام) ، وهو الذي بقي أربعين يوما لا يصلي علي النبي (صلي الله عليه وآله) في خطبته حتي التاث الناس عليه ، فقال : ان أهل بيت سوء اذا ذكرته أشرأبت نفوسهم اليه ، وفرحوا بذلك ، فلا أحب أن أقرأ عينهم بذلك ، وهو الذي فعل بعبدالله بن العباس مالا خفاء به عليك ، وطال الكلم بينهما حتي قال يحيي : ومع ذلك هو الخارج مع أخي علي أبيك ، وقال في ذلك أبياتا منها :

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

ان الخلافة فيكم يا بني حسن

وقرأ القصيدة ، فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات ، فحلف ابن‌مصعب بالله الذي لا اله الا هو ، وبايمان البيعة : أن هذا الشعر ليس له ، فقال يحيي :

والله يا أميرالمؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت بالله كاذبا ولا صادقا قبل هذا ، وان الله اذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه ، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا الا عوجل.

قال الرشيد : حلفه ، قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولي وقوتي ، وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكبارا علي الله واستغناء عنه ، واستعلاء عليه ، ان كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبدالله منه ، فغضب الرشيد ، وقال للفضل بن الربيع : هنا شي‌ء ، ما له لا يحلف ان كان صادقا ، فرفس الفضل عبدالله برجله ، وصاح به : احلف ويحك ، وكان له فيه هوي ، فحلف باليمين ، ووجهه متغير وهو يرعد ، فضرب يحيي بين

٢٠٦

كتفيه ثم قال : يا ابن‌مصعب قطعت والله عمرك ، والله لا تفلح بعدها ، فما برح من موضعه حتي أصابه الجذام ومات في اليوم الثالث.

قال أبوفراس الحمداني يذكر ذلك :

ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت

عن ابن‌فاطمة الأقوال والتهم

فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل بن يحيي : «رأيت يا عباسي؛ ما أسرع ما أديل يحيي من ابن‌مصعب».

ثم جمع الرشيد الفقهاء ، وفيهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي‌يوسف ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وأبوالبختري : وهب بن وهب القرشي المدني ، فجمعوا في مجلس ، فخرج اليهم مسرور الكبير بالأمان الذي أعطاه الرشيد ليحيي.

فبدأ بمحمد بن الحسن الشيباني ، فنظر فيه ، فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه ، فصاح عليه مسرور : هاته فدفعه الي الحسن بن زياد ، فقال بصوت ضعيف : هو أمان. فاستلبه أبوالبختري وقال : هذا باطل منتقض ، قد شق العصا ، وسفك الدم ، فاقتله ودمه في عنقي.

فدخل مسرور علي الرشيد وأخبره ، فقال : اذهب له وقل له : فرقه ان كان باطلا بيدك!!!

فجاء مسرور ، وقال له ذلك ، فقال : شقه أباهاشم!! قال مسرور : بل شقه أنت ان كان منتقضا ، فأخذ سكينا وجعل يشقه ويده ترتعد ، حتي صيره سيورا ، فأخله مسرور علي الرشيد ، فوثب ، فأخذه من يده وهو فرح ، ووهب لأبي‌البختري (ألف ألف وستمائة ألف) وولاه قضاء القضاة ، وصرف الآخرين ، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة.

وأجمع الرشيد علي انفاذ ما أراد بيحيي ، وكان محبوسا في المطبق

٢٠٧

الذي لا يعرف به الليل من النهار ، فروي من كان مع يحيي ، قال كنت قريبا منه ، فكان في أضيق البيوت وأظلمها ، فبينا نحن ذات ليلة كذلك ، اذ سمعنا صوت الأقفال ، وقد مضي من الليل هجعة ، فاذا هارون قد أقبل علي بر ذون له ، فوقف ثم قال : أين هذا؟ يعني يحيي ، قالوا في فهذا البيت ، قال : علي به ، فأدني اليه ، فأخذ ، فضربه مائة عصا ، ويحيي يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلي الله عليه وآله) ويقول : بقرابتي منك ، فيقول : ما بيني وبينك قرابة.

ثم حمل فرد الي موضعه ، فقال : كم أجريتم عليه؟ قالوا : أربعة أرغفة وثمانية أرطال ماء ، قال : اجعلوها علي النصف ، ثم خرج ، ومكث ليالي ثم سمعنا وقعا ، واذا نحن به ، فدخل وقال : علي به ، فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك ، وضربه مائة عصا أخري ، وقال : كم أجريتم عليه؟ قالوا رغيفين وأربعة أرطال ماء ، قال : اجعلوها علي النصف. ثم خرج وعاد الثالثة ، وقد مرض يحيي وثقل ، قال : علي به ، قالوا : هو عليل مدنف لما به ، قال : كم أجريتم عليه؟ قالوا : رغيفا ورطلين ماء ، قال : اجعلوه علي النصف ، ثم خرج. فلم يلبث يحيي أن مات ، فأخرج الي الناس فدفن.

عن ابراهيم بن رياح : أنه بني عليه أسطوانة بالرافقة (بلدة في الرقة) وهو حي.

وعن علي بن محمد بن سليمان أنه دس اليه في الليل من حنقه حتي تلف ، قال : وبلغني أنه سقاه سما.

وعن محمد بن أبي‌الحسناء ، أن الرشيد أجاع السباع ، ثم ألقاه اليها فأكلته.

وعن عبدالله بن عمر العلوي ، قال :

دعينا الي مناظرة يحيي بن عبدالله بحضرة الرشيد وهو يقول له : يحيي

٢٠٨

اتق الله وعرفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك!! وأقبل علينا فقال : ان هذا لم يسم أصحابه ، فكلما أردت أخذ انسان يبلغني عنه شي‌ء أكرهه ، ذكر أنه ممن أمنت.

فقال يحيي : يا أميرالمؤمنين أنا رجل من السبعين فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع اليك قوما تقتلهم معي؟ لا يحل لي هذا ، قال : ثم خرجنا ذلك اليوم ، ودعانا له يوما آخر ، فرأيته أصفر اللون متغيرا ، فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه ، فقال : ألا ترون اليه لا يجيبني؟ فأخرج يحيي الينا لسانه قد صار أسود مثل الفحمة ، يرينا أنه لا يقدر علي الكلام ، فاستشاط الرشيد غضبا وقال : انه يريكم أني سقيته السم ، والله لو رأيت قتله لضربت عنقه صبرا ، ثم خرجنا من عنده ، فما صرنا في وسط الدار حتي سقط يحيي علي وجهه لآخر ما به.

وعن ادريس بن محمد بن يحيي كان يقول :

قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس.

وعن الزبير بن بكار عن عمه : أن يحيي لما أخذ من الرشيد المائتي الألف الدينار ، قضي بها دين الحسين صاحب فخ ، وكان الحسين خلف مائتي ألف دينار دينا (١).

هذا مجمل ما حصل ليحيي بن عبدالله المحض في حركته وأمانه وتسييره الي بغداد ، وسجنه ، حتي استشهاده ، وبالامكان القاء الضوء الكاشف علي تداعيات هذه المأساة.

١ ـ ان يحيي كان قذاة في حلق الرشيد كما صرح بذلك لأنه قام بتحرك علي نطاق واسع في بلاد الديلم ، ولأنه أخ الثائرين في عهد المنصور : محمد

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٦٥ ـ ٤٨٥ بتصرف واختصار ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٨٢ ـ ١٨٧.

٢٠٩

النفس الزكية ، وابراهيم أحمر العينين اللذين تحدثنا عن تورتيهما في كتابنا عن الامام الصادق (عليه‌السلام).

وظهر أن الرجل كان من الثائرين مع الحسين بن علي (صاحب فخ) وقد اختفي عن السلطة العباسية ، حتي أثر اختفاؤه في الحياة السياسية ، وانتابت الحاكمين منه هواجس وتحسبات عدة ، وأنه في اختفائه قد تنقل متنكرا بين عدة كور وقصبات وبلدان حتي استقر به المطاف في بلاد الديلم في عهد الرشيد مع سبعين من أصحابه ، ولعل اختفاءه في احدي خانات (حلوان) شمال العراق من مظاهر هذا التواري عن أنظار السلطة.

ذكر الأستاذ باقر شريف القرشي عن أحد عيون الرشيد ، قوله : «كنت في خان من خانات حلوان ، فاذا بيحيي بن عبدالله في دراعة صوف غليظة ، وكساء صوف أحمر غليظ ، ومعه جماعة ينزلون اذا نزل ، ويرتحلون اذا رحل ، ويكونون معه ناحية ، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه ، وهم أعوانه» (١).

ويبدو أنه في هذا المنزل كان في سبيله الي بلاد الديلم عن طريق شمال العراق الشرقي.

٢ ـ ان الرشيد قد علم بالتحرك السري ليحيي ، وقد عرف استجابة بعض العراقيين له ، وجملة من العلويين ، وكان ذلك مما يقلق الرشيد ، فرماه بالفضل بن يحيي البرمكي بجيش مكثف مدرب علي القتال ، قيل أنه بلغ خمسين ألف رجل ، وأن أصحاب يحيي قد فزعوا من أنباء هذا الجيش ، فتفرقوا عنه ، وخالفوه كثيرا ، وأخيرا يبدو أنهم قد أسلموه عند الوثبة ، حتي اضطر الي التفاوض مع الفضل ضمن شروط معينة ، فيها الأمان له ولأصحابه ، وقد أمضي الرشيد تلك الشروط ، وأشهد عليها يحيي ،

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٩٢ وانظر مصدره.

٢١٠

ودعمت بالايمان الغليظة المؤكدة.

٣ ـ ان الرشيد قد استقبله بادي‌ء ذي بدء بالأكرام ظاهريا ، وبالعفو أمام الآخرين ، وقد رحب به ودفع له مائتي ألف دينار فأخذها ، ووفي بها دينا للحسين صاحب فخ ، ولكن الرشيد كان يدبر له المكيدة ويحكم الخطة لقتله أو اغتياله ، فبدأ بسجنه ، وعاوده مرارا بالاستجواب ، وساءله عن أسماء أصحابه وأعيانهم ، فأبي عليه يحيي ذلك ، لأنه علم يقينا أنه سيقتلهم ، فلا أمان لأهل الغدر والبهتان.

٤ ـ يبدو أن طبقة من أهل المكر والخيانة ، وممن يتقرب الي السلطان بالدماء ، قد ائتمروا فيها بينهم للسعاية بيحيي ، فغادروا الحجاز ، ووصلوا بغداد ، واحتالوا بالوصول الي الرشيد فنالوا من يحيي ، فأمر الرشيد بحبسه عند مسرور الكبير في سجن المطبق.

٥ ـ وكان الذي تولي كبر الافتراء عليه هو عبدالله بن مصعب الزبيري ، فاتهمه بأنه دعاه الي الخروج معه علي الرشيد ، فأنكر يحيي ذلك ، وجرت بينهما أيمان قاتلة ، انتهت بالانتقام من الزبيري عاجلا.

٦ ـ وقد استدعي الرشيد جمهرة من الفقهاء الرسميين وعرض عليهم الأمان ، فأبي اثنان منهم الطعن فيه ، وتجرأ أبوالبختري القرشي علي الطعن ولم يعده أمانا ، فخرق الأمان ، وقطعه بسكين سيورا ، فأجازه الرشيد علي ذلك بأعطية ضخمة ، وحرم محمد بن الحسين الشيباني من القضاء والافتاء مدة طويلة ، مما يؤكد أن الرشيد كان يسخر الفقهاء لارادته ورغبته ، فمن أبي عليه ذلك أبعده فورا.

٧ ـ وفي خاتمة المطاف رأينا الرشيد عازما علي التخلص من يحيي ، فيضربه ضربا مبرحا ، ويحيي يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلا يستجيب الرشيد لشي‌ء ، حتي أجهز عليه جوعا وعطشا ، وقيل سما ،

٢١١

ولم تكن لديه رأفة أو شفقة أو حمية ، حتي انتهت حياته بالشكل الذي ألمحنا اليه باختصار ، ورحم الله أبافراس الحمداني وهو يذكر ذلك :

يا قاصدا لمساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيي كيف ينكتم

 لا بيعة ردعتهم عن دمائهم

ولا يمين ، ولا قربي ، ولا رحم

٢١٢

التصفية الجسدية للعلويين

تعقب الرشيد العلويين ، وتتبع آثارهم ، ورصد أعيانهم وزعماءهم ، وشدد الرقابة علي من اتصل بعناصر التحرك الثوري. فقبض علي قبض منهم ، وهرب من هرب ، وأكتفي بالرشيد وحده نموذجا لبني العباس.

قال الرشيد للفضل بن يحيي : هل سمعت بخراسان ذكرا لأحد من العلويين؟ فقال : لا والله؛ لقد جهدت فما ذكر أحد لي منهم ، الا أني سمعت رجلا يذكر أن موضعا ينزله عبدالله بن الحسن بن علي بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام). سمع الرشيد ذلك فاستشاط غضبا لأن عبدالله هذا هو الذي عهد اليه من بعده الحسين (صاحب فخ).

وبعث الرشيد بأعوانه وجلاوزته يتعقبون عبدالله هذا ، فجاؤوا به ، قال له : بلغني أنك تجمع الزيدية ، وتدعوهم الي الخروج معك؟ فأنكر عبدالله ذلك قائلا :

«يا أميرالمؤمنين ، ناشدتك الله في دمي ، فوالله ما أنا من هذه الطبقة ، ولا لي ذكر فيهم ، وان أصحاب هذا الشأن بخلافي ، أنا غلام نشأت بالمدينة ، وفي صحاراها أسعي علي قدمي ، وأتصيد بالبواشق؛ ما هممت بغير ذلك.»

وعبدالله في هذا نفي عن نفسه أية تهمة بالخلاف تنسب اليه ، وبرأ من

٢١٣

فكر القائلين بالخروج ، وأنه نشأ في المدينة علي الاصطياد ، الا أن الحديث هذا لم يرق للرشيد ، ولم يقتنع به ، فأمر به الي السجن ، فلم يزل محبوسا حتي ضاق صدره ، فبعث برسالة للرشيد ضمنها شتمه وسبابه ، فلما قرأها الرشيد ، دعا جعفر بن يحيي البرمكي ، فأمره أن يجعله عنده ، وفي اليوم الثاني كان «النوروز» فقدمه جعفر وضرب عنقه ، وغسل رأسه ، وجعله في منديل ، وأهداه الي الرشيد ، فلما نظر الرأس قال لجعفر : ويحك لم فعلت هذا؟ قال : ما علمت أبلغ في سرورك من حمل رأس عدوك اليك ...» (١).

وهكذا كانت الدماء تسفك سفها ، والأرواح تزهق قسرا ، وقتل الأبرياء يقع موقع الرضا من السلطان ، ولم يكن هذا بأعجب من شأن ادريس بن عبدالله بن الحسن بن الامام الحسن بن أميرالمؤمنين (عليهما‌السلام) ، فقد أفلت ادريس من وقعة «فخ» وهرب مع مولي له يقال له «راشد» فخرج به في جملة حاج افريقيا ومصر حتي أقدمه مصر ، وبقي مختفيا بهامدة وجيزة ، ثم سلكا طريقا انتهيا معه الي فاس وطنجة ، وبث ادريس هناك دعوته ، وعظم أمره ، والتف حوله البربر ، فدعاهم الي الدين فملكوه عليهم ، وبلغ الرشيد ذلك فغمه الأمر حتي امتنع عليه النوم ، فدعا سليمان بن جرير الرقي فأعطاه سما ، وسيره نحو ادريس ، فورد سليمان علي ادريس متوسما بالمذهب فسر به ، ثم جعل سليمان يطلب غرته حتي وجد خلوة من مولاه راشد ، فسقاه السم وهرب ، بعد أن حكم خمس سنين وستة أشهر ، فقد بويع له في رمضان ١٧٢ ه وقضي في ربيع الثاني ١٧٧ ه (٢).

وقد يتفنن الرشيد بالتصفية الجسدية ، فيقتل من يشاء صبرا ، كما حصل هذا للعباس بن محمد بن عبدالله بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) ، اذ

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٣ ، المسعودي / مروج الذهب ٢ / ٢٣٤ به تصرف.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين ٤٨٧ ، الطبري / التأريخ ١٠ / ٢٩.

٢١٤

قبض عليه ، وأدخل علي الرشيد ، وجري بينهما كلام طويل ، فاستهان به الرشيد قائلا : يا ابن الفاعلة ، فرده العباس ردا عنيفا : «تلك أمك التي تواردها النخاسون»!!

فغضب الرشيد غضبا شديدا ، وما أكثر غضبه في هذه المجالات ، وأمر بأن يدني منه ، فقام اليه بنفسه وضربه بعمود من حديد حتي قتله (١).

وكان هذا وكد الرشيد في ابادة أعيان الطالبيين ، وتحري رجالهم والقضاء عليهم بالقتل تارة وبالسجن أخري ثم التعذيب والسم والابادة أخيرا. وقد جري له أمثال ذلك في كل من :

١ ـ اسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

٢ ـ محمد بن يحيي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

٣ ـ الحسين بن عبدالله بن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب. فقد قبض علي هؤلاء جميعا ، وأودعهم السجون الرهيبة ، وأذاقهم صنوف العذاب والتنكيل ، حتي قضوا فيها صابرين محتسبين (٢). وقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي جملة من تفصيلات هذه المآسي التي مر بها العلويون في عهد الرشيد بخاصة (٣).

وقد استظل كثير من الطالبيين بالهرب ، ولاذوا بالاستتار والتخفي من جور الرشيد وبطشه ، فقد كان يجد لذة لا تعدلها لذة في قتلهم ، ويستشعر متاعا أي متاع بالقضاء عليهم ، وكان في طليعة الهاربين : أحمد بن عيسي بن زيد بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) وكان عالما فقيها كبيرا زاهدا (٤).

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٨.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

(٣) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٨٦ ـ ١٠٣.

(٤) ظ : ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ٢٥٩.

٢١٥

وقد هرب من الارهاب الدموي العنيف الي البصرة ، والتف حوله الناس ، ودعا الي نفسه سرا ، واستجاب له جملة من الأولياء ، فساء ذلك الرشيد ، وجد في طلبه ، فما استطاع القبض عليه ، الا أن جلاوزته قبضوا علي صاحبه «حاضر» وحملوه الي الرشيد ، فلما صار بباب الكرخ رفع صوته قائلا : أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسي بن زيد العلوي وقد أخذني السلطان» فمنعته الشرطة من الكلام (١).

وجي‌ء به الي الرشيد مقيدا ، فسأله عن أحمد وأنصاره متوعدا ، فقال حاضر : والله ، لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتهما عنه ، وأنا شيخ قد جاوز التسعين ، أفأختم عملي بأن أدل علي ابن رسول الله حتي يقتل؟ فغضب الرشيد ، وأمر بضربه ضربا مبرحا فمات تحت السياط ، وأمر بصلبه ، فصلب ببغداد (٢).

فاذا كان هذا الضيم من صنع الرشيد وحده ، فما بالك بأسلافه الهادي والمهدي والمنصور فيما ابتكروه من تصفية العلويين؟؟

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٠٤.

(٢) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٥٤.

٢١٦

موقف الامام من العنف الثوري

وفي ضوء ما رأيت من ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) وحركة يحيي بن عبدالله المحض (صاحب الديلم) وانتفاضات جملة من الطالبيين ، ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، لم يستجب لهؤلاء جميعا بالخروج معهم ، أو الانضمام الي تحركهم الثوري. وبغض النظر أن عليهم أن يستجيبوا له ، وليس عليه الاستجابة لهم ، لأنه الامام المفترض الطاعة ، فان الامام بتجربته السياسية النافذة كان قد علم مسبقا بما تؤول اليه هذه الانتفاضات الدموية من الفشل والخذلان ، وأنها لا تستطيع أن تغير بحركاتها الانتحاري شيئا من الواقع السياسي لا فعليا ولا مستقبليا ، وانما هي الدماء وقوافل الشهداء ، وان جلبت النقمة عاطفيا شيئا ما ، لذلك كان موقف الامام منها موقف الحذر المتيقظ ، كما كان موقفه من الثائرين موقف الناصح والموجه.

فقد أورد الكليني عن مولي عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب ، قال : لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ ، واحتوي علي المدينة ، دعا موسي بن جعفر (عليه‌السلام) الي البيعة ، فأتاه الامام ، وقال له : يا ابن عم؛ لا تكلفني ما كلف

٢١٧

ابن عمك عمك أباعبدالله (عليه‌السلام) ، فيخرج مني ما لا أريد ، كما خرج من أبي‌عبدالله (عليه‌السلام) ما لم يكن يريد (١).

فقال له الحسين : انما عرضت عليك أمرا فان أردته دخلت فيه ، وان كرهته لم أحملك عليه ، والله المستعان ، ثم ودعه وانصرف.

فقال له أبوالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حين ودعه : «يا ابن عم؛ انك مقتول فأجد الضراب ، فان القوم فساق ، يظهرون ايمانا ، ويسرون شركا ، وانا لله وانا اليه راجعون ، أحتسبكم عند الله من عصبة» (٢).

وأنت تري الامام يدعي الي البيعة والتأييد رفيقا بالثائرين ، مشفقا عليهم ، لا يريد أن يصطدم معهم في شي‌ء ، وبالوقت نفسه لم يثبط من العزم ، ولم يقدح بالقضية ، وكان صاحب فخ مرنا فيما استقبله به الامام ، فلم يرد اكراهه علي شي‌ء ، وانما عرض عليه أمرا لو شاء أن يدخل فيه لرحب به ، ولو كره ذلك لم يحمل عليه ، وقد لمس الامام تصميم صاحب فخ ، فأشعره مصرحا بالحقيقة التي تلقاها من فيض ذلك العلم المخزون ، بأنه مقتول ، وعليه أن يجد في القتال ، فالحاكمون فسقة يظهرون الايمان ويسرون الشرك ، فاستقبل صاحب فخ ذلك برحابة صدر وصدق عزيمة ، فهو يعلم أن الامام يعني ما يقول.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ولم يكن امتناع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عن تأييد ابن عمه بالخروج معه ، أو حث الناس علي بيعته ، أو اعلان وجوب الانخراط في صفوف الثائرين ، ناشئا من خوف من بطش السلطة ، أو ايثار للحياة علي

__________________

(١) كان محمد النفس الزكية قد دعا الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الانضمام لحركته الثورية ضد المنصور ، فأبي عليه الامام الصادق ذلك ، وأخبره بفشل ثورته ، كما أخبر بقتله وقتل أخيه من قبل المنصور ، وكان الاخبار بالواسطة عن طريق أبيه وسواه ، والامام الكاظم يشير الي هذا.

(٢) الكليني / الكافي ٣ / ٣٦٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٦١.

٢١٨

الموت ، أو حب الدنيا وزبارجها الخداعة ، وأين منه كل ذلك؟ وهو يعيش بطش السلطة وأذاها في كل يوم ، ويتمني لقاء الله وقدومه عليه في كل دعاء وابتهال.

«ان هؤلاء القادة ـ أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ـ ليسوا من حيث المنطلق والمبدأ هواة حكم أو عشاق سلطان ، ولم يكن من أهدافهم في الدنيا كرسي الملك أو عرض الخلافة ، وانما يتمثل همهم الأكبر وشغلهم الشاغل في العمل علي تطبيق أحكام الدين ، وتجسيد ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله (صلي الله عليه وآله) علي صعيد الواقع المعاش للمسلمين ، فان علموا بتحقيق الثورة لذلك ـ ولو بالقوة لا بالفعل كما ثورة الحسين (عليه‌السلام) ـ قاموا بها ، ولم يأبهوا بفداحة الخسائر وعظم التضحيات.

وان لم يضمنوا هذه النتيجة لا في الحال ولا في المستقبل المنظور ، امتنعوا عن اراقة الدماء ، وتأجيج نيران الحروب والفتن ، لأنها بلا جدوي ولا مردود» (١).

وثمة ملحظ آخر جدير بالأهمية ، أن الشعب المسلم وهو يعاني المحن والشدائد في حكم الارهاب والجبروت ، قد ضربت أغلب فصائله صفحا عن السياسة ومشكلاتها ، واتجه شبابها نحو الاغتراف من نمير أهل البيت العلمي ، فكانت قوافل العلماء تؤم ساحة أهل البيت الرعيل اثر الرعيل ، للاستضاءة بنور العلم ، وكانت عائدية التمتع بهذا البرنامج المعرفي تعود بما هو أجدي نفعا للمسلمين ، وبما هو أكثر تحريرا للعقول ، وهي ترفض الاعتساف السياسي ، وتأبي التضحية بالنفس دون جدوي متوافرة.

ان ما قام به الحسين بن علي (صاحب فخ) عبارة عن انكار للمفهوم السلطوي العام ، وكان هذا الانكار في أقصي درجاته وأعظم عطائه ، وهذه

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٦١ ـ ٦٢.

٢١٩

الطريق مسنونة في انكار المنكر والأمر بالمعروف ، فقد يري بعضهم ذلك لازما له أني اتفق حتي مع عدم أمن الضرر فيعتبره جهادا ، وهذا اجتهاد قد يخطي‌ء فيه المجتهد وقد يصيب ، أما الامام (عليه‌السلام) فله حكمه الخاص الذي ينطلق من موازين أخري يحددها تكليفه الشرعي ليس غير.

ولم يكن الامام لينجذب للأحاسيس وهي شلاء ، ولم يكن ليتأثر بالعواطف الصارخة وهي موقتة ، وكان عمله الفعلي الهادف يستوعب الأجيال المتعاقبة لا الأيام القليلة الزائلة ، ولم يكن همه لينحصر بالتغيير السياسي والعدة غير متكاملة لدرئه ، والنصرة غير متيسرة لردعه ، وللامام أن يري ، ولأتباعه وأوليائه أن يمتثلوا ، فالآراء لا تفرض علي الامام مهما كان مصدرها البشري الا اذا اقترنت بقناعته المنطقية ، لهذا نجد أن دأب الأئمة (عليهم‌السلام) ومنهم الامام موسي بن جعفر استثمار توجه الناس اليهم بالاتجاه العلمي ، فأذكوا شرارته ، وألقحوا جذوته ، فكانت ثماره بناء الأمة عقليا وفكريا ، وذلك هو الهدف المركزي الذي تقصر عن تحقيقه عروش الظالمين ، بل وتتضاءل أمام زحفه صولة السلاطين ، فقد ذهبت جبروتهم أدراج الرياح كأمس الدابر ، وخلد علم أهل البيت في مدرجة التأريخ الانساني المتحضر ، وكان هذا الاتجاه امتدادا طبيعيا لمسيرة الأئمة في حياتهم العملية في ضوء تعليمات القرآن الكريم والسنة النبوية لا يحيدون عنهما قيد شعرة قط.

ولك هنا أن تعرف موقف الامام من حركة يحيي بن عبدالله المحض كما عرفت من ثورة الحسين (صاحب فخ) فكلاهما يصدران عن رافد العنف الثوري ، ولم يكونا أحرص علي الثورة من الامام لو أن ظروفها كانت مواتية ، ولما لم يكن الأمر بهذه السهولة واليسر ، فالامام لم يجد شرعية تتبع ، ولا مشروعية تستهدف في زج نفسه أو أوليائه في دوامة محكوم عليها

٢٢٠