الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

في عهد المهدي العباسي

واستقبل المهدي بن المنصور خلافة أبيه عام ١٥٨ ه بموجة عارمة من اللهو والعبث والمجون ، فقد استولي علي مخزون الثراء الفاحش الذي تركه أبوه نتيجة بخله وتقتيره مما احتجز من مال المسلمين ، فأرخي لنفسه الزمام في التحلل والاستهتار والاسراف ، وولع بالغناء وموائد الفجور ، فأصاب منها ما شاء ، وأباح للمغنيين ما شاؤوا من الحرية والرخاء ، وأصبح شعر بشار في الغزل الاباحي ينشد جهارا ، وبمجونه ينتشر سرا وخفاء ، حتي عيب علي المهدي ذلك ، فضيق علي بشار ، ثم أطلق له العنان.

وقد فصل القول بذلك الدكتور أحمد أمين من مصادره (١).

وكان قد بلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه ، فقربه اليه ، وأعلي من شأنه (٢).

وكان المهدي مولعا بشرب الخمر ، ومعروفا به ، حتي أثار ذلك وزيره يعقوب بن داود فنهاه عن ذلك فلم ينته ، وقال له : «أبعد الصلاة في المسجد

__________________

(١) ظ : أحمد أمين / ضحي الاسلام ١ / ١١٢ ـ ١١٤.

(٢) ظ : الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٥.

١٦١

تفعل هذا»؟

فما استمع له ، وشجعه علي الخمرة بعض شعرائه ، فقال :

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا

وأقبل علي صهباء طيبة النشر (١).

وكان المهدي أول من فتح باب الخلاعة والمجون في بني العباس ، وأول من استجاب لشهواته ونزواته علنا ، فنشأ جيل من الشباب في ميعة وضياع ، وتجرأ علي الحرمات ذوو الفسق والفجور ، وكانت نقلة نوعية في حياة الترف والسرف أشرفت فيها الدولة علي التدهور ، وصاحب ذلك البذخ الطائل الذي تجلي في مراسم تزويجه لولده هارون الرشيد من زبيدة فيما استضاف به الناس في قصر الخلد علي دجلة ، فكان مجمل ما أنفق علي ذلك من بيت مال المسلمين خمسين ألف ألف درهم ، وألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار ، وثوبا كله من الذهب (٢).

بل ذهب الشابشتي الي أكثر من هذا ، فقال : «ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه ، استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة وصناديق الجوهر ، والحلي ، والتيجان ، والأكاليل ، وقباب الفضة والذهب ، والطيب ، وأعطاها بدلة هشام (بن عبدالملك) ولم ير في الاسلام مثلها ، ومثل الحب الذي كان فيها ، وكان في ظهرها وصدرها خط من ياقوت أحمر ، وباقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله» (٣).

أما الهبات الضخمة التي منحها لأبنائه وقواده وولاته فحدث عن ذلك ولا حرج ، فقد اشتري فصا من ياقوت أحمر بثلاثمائة ألف دينار ، ووهبه لولده الهادي مما أوجد حالة من الذهر والهلع لدي سواد المسلمين الجياع.

__________________

(١) ظ : ابن الطقطقي / الفخري / ١٦٧.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٣٩.

(٣) الشابشتي / الديارات / ١٠٠.

١٦٢

وفي هذا المناخ الساخن نشأ ولده ابراهيم فكان شيخ المغنين ، وشبت ابنته علية بنت المهدي ، فكانت زعيمة الغناء النسائي في العصر العباسي ، وتفرعنت زوجته الخيزران فكان لها الباع الأطول في شؤون السياسة وادارة السلطان.

وبذر أموال الدولة علي الشعراء ، فحينما أنشده مروان بن أبي‌حفصة :

هل تطمسون من السماء نجومها

بأكفكم أو تسترون هلالها

أو تدفعون مقالة من ربكم

جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية

بثرائهم فأردتم ابطالها

 سمع المهدي ذلك ، زحف من مصلاه حتي صار علي البساط ، وهو يقول : كم بيت هي؟ قال : مائة بيت.

فأمر له بمائة ألف درهم ، وقال له :

«انها لأول مرة أعطيها شاعرا في خلافة بني العباس» (١).

بهذا وأمثاله كانت تساس الدولة في عهد المهدي ، وتبذر الأموال بين أتباعه وشهواته ، أضف اليها تشجيعه الوضاعين الذين يخترعون الأخبار والروايات في ثلب العلويين ، وضمهم اليه بما افتروا من الكذب الصراح علي النبي (صلي الله عليه وآله) (٢).

ولم يكن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في منأي عن شرور الحكم وجرائره ، فقد كابد الكثير في عهد المهدي بما تحدث عنه الرواة ، لا لشي‌ء ،

_________________

(١) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ٣ / ١٤٤.

(٢) ظ : المصدر نفسه ٢ / ١٩٣ ، ٦ / ٣٤٦ ، الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٦ / ٣٩٧ ، الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤.

١٦٣

الا العداء السافر لآل بيت النبي (صلي الله عليه وآله) والا الخوف المستطير من مكانة الامام والتفاف المسلمين حول زعامته الدينية ، بما عرف عنه من الورع والتقوي ، وما اشتهر من الأثر العلمي العظيم.

ويبدو أن المهدي قد استدعي الامام عدة مرات ، واستقدمه الي بغداد. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«وقد نجح ذوو النفوس الخبيثة في سعيهم لتأزيم الموقف بين الامام والسلطان ، فاستدعي الامام الي بغداد ، وحبس هناك باتفاق المؤرخين مدة من الزمن .. وان استدعاء الامام وحبسه في عهد المهدي قد تكرر أكثر من مرة ... وذكر (القدمة الأولي علي المهدي) دليل علي تعدد القدمات وتكرارها ، وان لم نعرف عددها وملابساتها بالتفصيل» (١).

وقد أشار الرواة الي حادثتين في هذا السياق :

فقد كتب المهدي الي عامله علي المدينة بارسال الامام الي بغداد ، فتجهز الامام للسفر ، والتقي أباخالد (الزبالي أو الرماني) وكان منقبضا ، فقال له الامام : مالي أراك منقبضا؟

قال : كيف لا أنقبض ، وأنت سائر الي هذا الطاغية ، ولا آمن عليك. فهدأ الامام من روعه ، وأخبره أن لا ضير عليه في سفره هذا ، ويبدو أن الامام سجن في هذا الاستدعاء ، قال الخطيب : ولما حبس المهدي موسي بن جعفر ، رأي المهدي في النوم علي بن أبي‌طالب ، وهو يقول :

(فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (٢).

قال الربيع : فأرسل (المهدي) الي ليلا ، فراعني ذلك ، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية ـ وكان أحسن الناس صوتا ـ وقال علي بموسي بن جعفر ،

__________________

(١) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥٨ وانظر مصادره.

(٢) سورة محمد / ٢٢.

١٦٤

فجئته به ، فعانقه ، وأجلسه الي جنبه ، وقال : يا أباالحسن ، اني رأيت أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب في النوم يقرأ علي كذا ، فتؤمنني أن لا تخرج علي أو علي أحد من ولدي؟

فقال : الله ، لا فعلت ذاك ، ولا هو من شأني.

قال : صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورده الي أهله.

قال الربيع : فأحكمت أمره ليلا ، فما أصبح الا وهو في الطريق خوف العوائق (١) وقد روي هذا الخبر في أكثر من خمسة عشر مصدرا بالتفصيل (٢).

وسار الامام (عليه‌السلام) ، فالتقي أباخالد في «زبالة» أيضا ، وكان السرور ظاهرا عليه ، فقال له الامام : «ان لهم الي عودة لا أتخلص منها» (٣).

وهناك حادثة تروي في المناقب والبحار بالشكل الآتي :

«لما بويع محمد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل ، وقال : ان اخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس ، وحالك عندي موقوف!!

قال : أفديك بالروح والمال والأهل والولد.

فلم يجبه المهدي؛ فقال : أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين.

فقال : لله درك؛ فعاهده علي ذلك ، وأمره أن يقتل الامام الكاظم (عليه‌السلام) في السحر بغتة. فنام فرأي عليا (عليه‌السلام) ، يشير اليه ، ويقرأ الآية السابقة ... ، فانتبه مذعورا ، ونهي حميدا عما أمره ، وأكرم الكاظم ووصله» (٤).

ولدي المقارنة في ضوء الروايتين نلحظ أن الامام كان سجينا عند الربيع أولا ، وعند حميد بن قحطبة ثانيا ، وعلي هذا فان اعتقال الامام قد حدث مرتين في عهد المهدي بن المنصور ، كما نلحظ أن الامام قد استقدم مرتين

__________________

(١) الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ٣ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥٩.

(٣) الشبلنجي / نور الأبصار / ٣٦.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١٧ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٤٠.

١٦٥

عليه من المدينة الي بغداد ، فاذا علمنا مدي حقد المهدي علي العلويين وشدة بطشه بهم ، كان ما استنتجناه مقاربا للواقع الذي حدث. وهكذا كان شأنه مع أبناء علي بن أبي‌طالب سجنا وتشريدا وقتلا ، فقد روي الطبري عن يعقوب بن داود وزير المهدي أن المهدي قال له :

هذا فلان بن فلان من ولد علي ، أحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه ، وتعجل ذلك ... قال : قلت أفعل ، قال : فخذه اليك ... وأهدي له جارية حسناء.

قال يعقوب : وبعثت الي العلوي ، فأدخلته وسألته عن حاله ... واذا هو ألب الناس وأحسنهم ابانة ... قال لي : ويحك؛ يا يعقوب؛ تلقي الله بدمي ، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قلت : لا والله ، فهل فيك خير؟ قال ان فعلت خيرا شكرت لك.

فقلت له : أي الطرق أحب اليك؟ قال : طريق كذا ، قلت : فمن هناك من تأنس به وتثق بموضعه؟ قال : فلان وفلان.

قلت : فابعث اليهما ، وخذ هذا المال ، وامض معهما.

واذا الجارية (التي أهديت له) قد حفظت علي قولي ، فبعثت به مع خادم لها الي المهدي ... وبعث المهدي من وقته ذاك فشحن تلك الطرق ... فلم يلبثوا أن جاؤوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال.

قال يعقوب : وأصبحت من غد ذلك اليوم ، فاذا رسول المهدي يستحضرني ...

فقال : يا يعقوب ، ما حال الرجل؟

قلت : يا أميرالمؤمنين قد أراحك الله منه.

قال : مات؟ قلت : نعم ، قال : والله؟ ثم قال : قم فضع يدك علي رأسي ،

قال : فوضعت يدي علي رأسه وحلفت له به.

١٦٦

قال : يا غلام؛ اخرج الينا ما في هذا البيت.

قال : ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال : فبقيت متحيرا وسقط في يدي. فقال المهدي : لقد حل لي دمك لو آثرت اراقته ، ولكن احبسوه (١).

وهذا نموذج فرد من نماذج كثيرة تمثل جور المهدي ، وما صاحب أيام حكمه من المظالم طيلة أحد عشر عاما من خلافته السوداء؛ ولقد عاش الامام الكاظم (عليه‌السلام) أحداثها المأساوية واجتراحها الدموي.

وربما انتبه المهدي لنفسه ، فرأي ما أحدثه من ثغرات عريضة في كيان الدولة ، فحاول ائتلاف القلوب بأسلوب من الدجل والتضليل يظهر فيه بصورة المنصف في مروءة مزعومة.

فقد عرض علي الامام موسي بن جعفر فيما يروي ، أن يرد عليه فدكا ، فرفض الامام ذلك ، ولما ألح عليه المهدي ، قال : لا أقبلها الا بحدودها. قال المهدي : وما حدودها؟

قال الامام : الحد الأول عدن. فتغير وجه المهدي.

والحد الثاني : سمرقند. فأربد وجهه.

والحد الثالث : افريقية.

فقال له المهدي : والحد الرابع؟

قال الامام : سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية. فقال له : لم يبق لنا شي‌ء ، فتحول الي مجلسي!!

قال الامام : لقد أعلمتك بأني ان حددتها لم تردها (٢).

والمهدي أراد تطييب بعض الخواطر الناطقة باغتصاب أرض الزهراء ،

__________________

(١) الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٨ / ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٤٠.

١٦٧

والامام أكد الأمر باغتصاب الخلافة والدولة لا الأرض وحدها. ومهما يكن من أمر ، فقد انتهت أيام المهدي بموته في المحرم ١٦٩ ه (١).

__________________

(١) المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٣٣.

١٦٨

في أيام موسي الهادي

وكانت أيام الهادي بن المهدي العباسي من أسوأ ما مر في حياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) علي قصر المدة واخترام الأجل ، اذ تملك عام ١٦٩ ه ، وهلك لليال بقيت من ربيع الأول عام ١٧٠ ه (١) وكان شابا نزقا تولي الخلافة العباسية وعمره خمس وعشرون سنة (٢).

«وكان سادرا في الطيش والغرور ، ومتماديا في الاثم والفجور ، وقد أراح الله منه العباد في بداية ملكه ، فلم تطل أيامه ، ولو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل وأقساها ، فقد كان طاغيا جبارا لا يتحرج من سفك الدماء واراقتها بغير حق ، وقد أسرف في سفك دماء العلويين ، فأنزل بهم العقاب الصارم ، وقد أجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي (عليه‌السلام) ، الا أن الله قصم ظهره قبل أن يقوم بذلك» (٣).

وكان شديد الوطأة علي العلويين ، وقد امتلأ عليهم حقدا نتيجة العقد النفسية المتأصلة لديه ، وقد ورث هذا الحقد لا عن كلالة ، فقد رأيت جده وأباه وأخاه من ذي قبل ، فاذا أضفت الي هذا أنه «قاسي القلب ، شرس

__________________

(١) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٩ ، الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ٢٠٥.

(٢) ظ : ابن عبد ربه / العقد الفريد ٥ / ١١٦.

(٣) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٥٧.

١٦٩

الأخلاق ، صعب المرام» (١). كانت الحصلية المترقبة الدمالاء إثر الدماء تراق فيها الأخلاق والقيم ، وتحصد فيها النفوس البريئة من آل أبي طالب في قسوة من الإجراءت لا مثيل لها ، فهو يتعقبهم في الآفاق ، ويطلب شبابهم وكهولهم في الآقاليم ، فلم يفلت إلا القليل من قبضته ، حتي قال اليعقوبي أنّه : «ألخ في طلب الطالبين ، وأخافهم خوفاً شديداً ... وكتب إلي الآفاق في طلبهم» (٢).

وقد تابعهم تحت كل حجر ومدر بعى «مأساة فخ» الشهيرة التي سنأتي علي ذكرها في موقعها من البحث.

وكانت هذه الثورة التي قادها الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام قد استدفهت النظام العباسي ، وذلك بسببٍ من مظالمه وسوء الإدارة ، واضطهاد أهل البيت عليه السلام ومن يمت إليهم بصلةٍ ما ، وإذال المسلمين ومصادرة الحرية واختلاس الأموال ، وهي من أعنف الثورات في التأريخ الإسلامي ـ مأساة ـ بعد ثورة الطفّ ، فقد استؤصل قادتها ، وأبيد معسكر ها ، وقتل مفجرها في «فخ» علي سته أميال من مكّه المكرمة ، وبقي القتلي ثالثة أيام علي وجه الأرض بلا دفن (٣).

وقد احتُزَّت رؤوسهم ، ، فكانوا رأس ونيفاً (٤).

وقد اكتوي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام بلهيب هذه الثورة فتوجّه إليه إصبع الاتّهام جزافأ ، حتي إنّ موسي الهادي قد همّ بقتل الإمام ، ثم أعرض عنه ، لعىم ثبوت تأييده لها (٥).

__________________

(١) المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٤٦.

(٢) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧.

(٣) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧ ، المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٤٨.

(٤) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ١٩٢ ، ٨ / ١٩٧.

(٥) الأبي / نثر الدر ١ / ٣٥٨ / طبعة القاهرة / ١٩٨٠ م.

١٧٠

وذكر ابن حجر أن موسي الهادي حسبه أولاً ، ثم أطلقه» (١).

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين :

«وعندما نريد البحث والتعمّق في معرفة دوافع الخليفة الهادي إلى حبس الإمام ، أو إيصال الأذى إليه ، أو العزم على قبله ، فقد يرجّح في الظنّ أنّ ذلك مربتط بقضية ثورة الحسين بن علي في سنة ١٦٩ هـ ، كما يرجّح أيضاً أن ، يكون تراجعه عن تنفيذ ما عزم عليه بسبب ما علمه بعد ذلك من جلاوزته ومخبريه من عدم مشاركة الإمام في بلك الثورة ، ورفضه دعوة ابن عمّه للخروج معه» (٢).

ومع هذا فقد عاش الإمام مأساتها بكل أبعادها كما ستري. ولم يكن موسى الهادي رجل دولة ، والا صاحب قيادة ، وقد شغّل نفسه الآثمة والشهوات الموبقة ، فهو رجل خمر وغناء وخدين نديم ومجون ، فقد «كان يتناول المسكر» (٣) بل كان من المتهالكين على شرب الخمر ، فكان أول خليفة عباسي أغري بالخمر (٤) وتبعه على ذلك هارون الرشيد (٥).

وكان الهادي خليعاً ماجناً ، أقبل على اللهو والدعارة ، فبذل المال العظيم على شهواته وطربه ومحافل الغناء حتى قال إسحاق الموصلي : لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب» (٦). وقد غنّاه إبراهيم الموصلي بصوت فأطربه فوهب له ثلاثين ألف دينار (٧).

وهكذا تكون الشقة بين الشعب البائس اليائس وبين حكّايه وسلاطينه

__________________

(١) ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / ١٢٢.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٦٠.

(٣) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ٢٢٢ ، السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٨٦.

(٤) الجهشياري / الوزراء والكتاب / ١٤٤.

(٥) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٦ / ٤٨٩ ، الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٢١٦.

(٦) ظ : الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٢١٦.

(٧) المصدر نفسه ٥ / ٢٤١.

١٧١

العابثين ، الشعب يتطلّع إلى رغيف الخبز ، والسلطان يسرف بإمعان تحقيقاً للذائذ الآثمة.

ويتدزع الإمام موسي بن جعفر عليه السلام ضروب الآسي في أيام هذا الطاغية المشهور ، فيصبر على الأذى ، يكظم غيظه ، حتىإذا توعّده بالقتل جازماً ، وأنهي إليه الخبر ، وعنده جماعة من بني هاشم وأهل بيته ، قال لأهل بيته : ما تشيرون؟

قالوا : نرى أي تتباعد عنه ، وأن تيّب شخصك منه ، فإنّه لا يؤمن شرّه ، فتبسّم الإمام ، وقال مستشهداً :

زعمت سخيهة أن ستغلب ربّها

ولِيُغلَين مغالبُ الغلّابِ

ثم رفع يده إلى السماء ، فقال :

«اللهم كم من عدوٍ شحذ لى ظبةَ مُديِتِه ، وأرهفَ لي شبا حدّهِ ، وداف لي قواتل سمومه ، ولم تنم عين حراسبه ، فلمّا رأيت عفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن ملمّات الجوايح ، صرفَت ذلك بحولك وقوتك. لا بحولي وقوتي ، فألفيتُه في الحفير الذي احتفره خائباً مما أمّله في دنياه ، متباعداً مما رجاه في آخرته ، فلك الحمد على ذلك قدر اسحقاقك سيدي ، اللّهم فخذه بعزتك ، وافلل حدّه عني بقدرتك ، واجعل له شغلاً فيما يليه ، وعجزاً عمن يناويه.

اللّهم أعدني عليه عليه عدوي حاضرة ، تكون من غيظي شفاءً ، ومن حقي عليه وفاءً ، وصل اللّهم دائي بالإجابة ، وانظم شكايتي بالتغيير ، وعرّفه عمّا قليل ما ووعدت الظالمين ، وعظمني ما وعدت في إجابة المضطرين ، إنك ذو الفضل العظيم زوالمنّ القدم».

(ثم تفرق القوم ، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت

١٧٢

موسى بن المهدي) (١)

وكان دفاء الإمام مستجاباً وعلي الفور ، حيث ورد البريد يهلاك موسي الهادي ، وفي ذلك يقول بعض من حضر عند موسي بن جعفر من أهل بيته :

وسارية لم تسرِ في الأرضِ تبتغي

محلاً ... ولم يقطع بها البعدَ قطعُ

 سرتْ حيثُ لم تحدَ الركابُ ولم تُنخْ

لوردٍ ... ولم يقصر لها البعد مانعُ

 تمرُّ زراءَ الليل ... والليل ضاربٌ

بجثمانِهِ فيه سميرٌ وهاجعُ

 تفتحُ ابوابُ السماءِ ... ودونَها

إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ

 إذا وردتْ لم يردد اللّه وفدَها

على أهلها .. واللّه راءٍ وسامعُ

 وإني لأردو اللّه حتى كأنما

أرى بدمنل الظنّ ما الله صانعُ (٢)

 والأبيات إشارة تفصيلية إلى دعوة الإمام في ردّ كيد الهادي ، وهكذا كان ، فقد انتهت حياة الهادي بدعاء الإمام ، دون الدخول بتفصيلات مؤامرة القضاء على الهادي.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢١٧.

(٢) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٧٩.

١٧٣

في مملكة هارون الرشيد

ولي هارون الرشيد الملك في ربيع الامام سنة ١٧٠ ه ، ومات لليال خلت من جمادي الآخرة سنة ١٩٣ ه ، وقد امتدت خلافته ثلاثة وعشرين عاما (١).

وقد اتسعت رقعة الدولة الاسلامية في عصره اتساعا عريضا ، فضربت بأطنابها غربا وشرقا وجنوبا وشمالا ، فمن حدود البحر الأبيض المتوسط ومشارف البحر الأحمر حتي افريقيا ، ومن مضايق البسفور وبحر قزوين حتي أزبكستان وبخاري وسمرقند ، ومن شواطي‌ء الخليج ومضارب الهند والسند حتي تخوم الصين. يضاف الي هذا كله الجزيرة العربية من أقصاها الي أدناها ، وهي مساحات واسعة اشتملت علي نصف العالم تقريبا ، حتي أثر عنه مخاطبا السحابة «حيثما تمطرين ففي ملكي ..».

وقد صدق بتعبيره عن سلطانه بأنه ملك ، فهو من أعتي الملوك وان تظاهر برقة القلب ، وهو من أقسي الجبابرة وان بدا بطيبة البري‌ء ، وهو من أترف الحاكمين وان تجلبب برداء الزهد واظهار الورع ، وهو من المخططين البارزين لاقامة السلطة بقوة الحرب ، وحماية الملك بسفك الدماء.

وقد كان القلقشندي مهذب التعبير في رواية خطابه للسحب : «اذهبي

__________________

(١) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٩ ، الطبري ٨ / ٢٣٠.

١٧٤

الي حيث شئت بأنني خراجك» (١).

وقد حكي هذا التعبير ما في قلب الرشيد من الاعتداد بالمال والخراج ، لا بالاسلام ودولته ، فأحتجان الأموال ، وتكدس الأرصدة هو الذي يوفر له حياة البذخ والعبث ، وهو الذي يحقق له موائد الفسق واللهو والطرب ، والسيطرة علي المال من المهمات الأساسية في ملكه ، يستعين به في شراء الضمائر ، والقضاء علي المعارضين ، والترفيه عن ولاته وبطانته وحواشيه وجواريه ، والاغداق علي المغنين والمخنثين والقيان.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«وجبي له الخراج من جميع الأقاليم الاسلامية ، وصارت عاصمته بغداد عروس الدنيا ، ومستودع أضخم بيت للمال في العالم ... وانتشر فيها الثراء الفاحش والتضخم النقدي عند التجار والموظفين والندماء والمطربين والمجان ، وتناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت علي طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي والفارسي ، وصارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق ، وأعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ» (٢).

ولا تحسبن هذه الامبراطورية جاءت لتطبيق مبادي‌ء الاسلام أو تحكيم شريعة السماء ، وانما استغلت استغلالا فظيعا للاستعلاء في الأرض ، وافترضت لتلبية رغبات المجون العابث ، فالشعب المسلم علي قارعة الطريق يتشكي البؤس والحرمان وفقد الحياة الكريمة ، وقصور الخلفاء تعج بالقيان والجواري والغلمان ، وأنفقت واردات الدولة في تشيد القصور الفارهة ، وبددت الميزانية العامة في اغراق أتباع النظام بالأعطيات الضخمة ،

__________________

(١) القلقشندي / صبح الأعشي ٣ / ٢٧٠.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢١.

١٧٥

واتخام وعاظ السلاطين بالهبات الطائلة ، وكان لسوق المجان والفسوق نصيب مما قرره السلطان ، وكانت الثروات اثرة بين هؤلاء وهؤلاء. وقد قدر الدكتور عبدالجبار الجومرد واردات الدولة ب «مليارين ومائتين وعشرين مليون دينارا ، وتسعمائة وستين ألف دينار» (١).

وهذا القدر العظيم في الميزانية يجعلها أضخم ميزانية في العالم آنذاك بالنسبة للقيمة النقدية المتداولة وقيمة الأسعار ، فقد ذكر الدكتور أحمد أمين الأسعار في الأسواق ، فذهب أن الكبش يباع بدرهم ، والجمل بأربعة دنانير ، والتمر ستون رطلا بدرهم ، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم ، والسمن ثمانية أرطال بدرهم ، وأجرة البناء الأستاذ بخمس حبات ، والحبة ثلث الدرهم ، والدانق سدس الدرهم (٢).

وفي هذا الضوء كان ما أبداه الجهشياري دقيقا حينما اعتبر واردات الدولة عبارة عن : خمسمائة مليون درهم ومائتين وأربعين ألف درهم (٣).

وذلك بالدرهم الفضي المتعارف عليه في ذلك العصر.

فأين تري مصرف هذه الايرادات الضخمة من قبل السلطان؟

انّ هذه الايرادات الكبري لم تكن لتصرف في وجوه البر والاحسان ، ولا لنشر تعاليم الاسلام ، ولا لاعمار البلاد ، ولا لتلبية احتياج البائس (صفحه ١٦٠) الفقير ، ولا في وجوهها المشروعة الا لماما ، وانما كانت تبذر في سبيل الرغبات الخاصة ، والمسلمون بين جائع وعريان ، وشريد وطريد ، والعلماء في فقر وفاقة واذلال ، وقادة الفكر والمعرفة في بؤس وشقاء ، وعامة الناس كالعبيد في ذل واضطهاد ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، الا تلك الطبقة الأرستقراطية من الولاة وأبناء السلاطين وفقهاء البلاط ، فانها في

__________________

(١) عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد / ٢ / ٣٦٢.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٩ وانظر مصدره.

(٣) ظ : الجهشياري / الوزراء والكتاب / ٢٨٨.

١٧٦

نعيم من العيش الرغيد!! وهذا المال الذي هو مال المسلمين زكاة وخراجا ، يتقاسمه المغنون والجواري والغلمان في هبات جزيلة متتابعة ، فقد غني دحمان الأشقر الرشيد فطرب لذلك وقال له : تمن علي ، فتمني علي الرشيد ضيعتين واردهما أربعون ألف دينار فأعطاه اياهما (١).

وأنشده أبوالعتاهية أبياتا ، غناها للرشيد ابراهيم الموصلي ، فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم ، ومائة ثوب (٢) وغناه يحيي المكي فأطربه ، فقال الرشيد : أعطوه ما في ذلك البيت ، فكان فيه ما قيمته خمسون ألف درهم (٣) وغناه يحيي المكي أيضا بيت من الشعر ، فسكر عليه حتي أمسي ، وأمر له بعشرة آلاف درهم (٤).

وغني اسحاق الموصلي للرشيد بأبيات وصف فيها بستانا بظهر الحيرة قيمته أربعة عشر ألف دينارا ، فأمر له الرشيد بأربعة عشر ألف دينار ، فاشتراها (٥).

وغناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختاراته ، فطرب له الرشيد طربا شديدا ، واستعاده عامة ليله ... فأمر له بمائتي ألف درهم (٦).

وغناه ابراهيم الموصلي بعد أن أطلقه من الحبس بهذا البيت :

تضوع مسكا بطن نعمان

اذ مشت به زينب في نسوة خفرات

فأمر له بثلاثين ألف درهم (٧).

__________________

(١) ظ : السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١١٦.

(٢) الأصبهاني / الأغاني ٤ / ٧٤.

(٣) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ١٨٧.

(٤) المصدر نفسه ٦ / ١٨٥.

(٥) المصدر نفسه ١٧٥ ـ ٥ / ١٧٤.

(٦) كتاب التاج / ٤١.

(٧) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ٢٠٥.

١٧٧

وهذا غيض من فيض سقناه علي سبيل المثال لتبذير أموال المسلمين علي الغناء ومجالسه فحسب ، فما بالك في اعداد تلك المجالس وتهيئة مرافقها ومتطلباتها وما يقتضي لها من الأشربة والأنبذة وآلات الطرب والفرش الوثير والوسائد والستائر ، وما يتبع ذلك من الانفاق لدي اصطفاف الموائد؟؟

أما الجواري وشراؤها ، فقد بلغ حد الاسراف في الأسعار ، والمغالاة في استزادة منها ، وأسوق اليك هذا النموذج في عدد ما في القصر لنوع خاص من الجواري تشرف عليه زوجته أم‌جعفر ، وقد أقبلت في زهاء ألفي جارية من جواريها!!

وسائر جواري القصر ، عليهن غرائب اللباس ، وكان قد استقل بجارية عنها في غاية الجمال والكمال!! فأقبلت جواري أم‌جعفر في قبال جواريه الأخريات ، وهن في لحن واحد :

منفصل عني ...

وما قلبي عنه منفصل

 يا قاطعي اليوم لمن

نويت بعدي أن تصل

فطرب الرشيد ، وقام علي رجليه حتي استقبل أم‌جعفر قائلا : لم أر كاليوم قط.

ثم نادي مسرورا الخادم قائلا : يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته ، فكان مبلغ ما نثره يومئذ : ستة آلاف ألف درهم (١).

واذا لم يكن هذا عبثا بأموال الدولة فكيف يكون العبث؟

ومع هذا كله ، وفوق هذا كله ، فان الرشيد يسمي أميرالمؤمنين!! فيا

__________________

(١) الأصبهاني / الأغاني ١٠ / ١٧٢.

١٧٨

لله وللمسلمين ، فأي أمير هذا الذي يعيش بين خابية وزق ، ويحيا بين قينة ومغنية ، ويحظي بجارية وجارية ، ويشتمل قصره الملكي العامر علي آلاف الجواري من مختلف الجنسيات!!

ولك أن تعجب من بخله علي طبقات الشعب ، ولك أن تعجب من سخائه علي المجان والمخنثين ومرتزقة الشعراء ، فقد كان يجيز بعض الشعراء في قصائدهم عن كل بيت بألف دينار (١) وأعطي لأعرابي من باهلة أنشده بيتين ذكر فيهما ولديه الأمين والمأمون مائة ألف درهم (٢).

وكان أشجع السلمي ثقيلا علي الرشيد ، فأنشده قصيدتين طرب لهما الرشيد ، فقال له :

يا أشجع؛ لقد دخلت الي وأنت أثقل الناس علي قلبي ، وانك لتخرج وأنت أحب الناس الي.

قال أشجع : ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟

قال الرشيد : الغني؟ فأسأل ما بدا لك.

قال : ألف ألف درهم ، قال الرشيد : ادفعوا له (٣).

هذه الهبات الضخمة لشعراء مغمورين؛ فما بالك في شعراء الطبقة الأولي؟

أما تبذير الرشيد واسرافه في شراء الجواهر والأحجار الكريمة ، والقلائد الثمينة فما لا رأت عين ولا سمعت اذن ، فكان خاتمه بمائة ألف دينار (٤).

وقد اشتري جواهر معدودة بمائتي ألف دينار ، فوهبها لدنانير البرمكية (٥).

__________________

(١) ظ : المسعودي / مروج الذهب ٢ / ٣٨٢.

(٢) ظ : الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٣ / ٢٦١.

(٣) ظ : طبقات الشعراء / ٢٥٢.

(٤) ظ : ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٦ / ٤٤.

(٥) البيهقي / المحاسن والمساوي / ٥٤٤.

١٧٩

وكان عند الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع ، وعلي رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته ، وقد قوم الطائر وحده بمائة ألف دينار (١).

وقد شاركته السيدة زبيدة بملحظ الاسراف في الجواهر وسواها ... فأمرت أن يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب ، ثم اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها ، واتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبندق ، اشترتها بخمسين ألف دينار (٢) واشترت غلاما يضرب علي العود بثلاثمائة ألف درهم (٣) وغناها ابن جامع هي والرشيد بثلاثة أبيات ، فأمرت زبيدة أن يدفع لابن جامع المغني عن كل بيت مائة ألف درهم (٤).

ووهبت زبيدة لمنصور النمري جوهرة لوصفه مدينة السلام ، اغراءا بالرشيد للرجوع اليها ، اذ كان يستطيب المقام بالرقة ، فأرادت عودته لبغداد ، فعمل النمري بيتين استحسنهما الرشيد ، فوهبت له جوهرة ، ثم دست من يشتريها منه بثلاثمائة ألف درهم (٥).

وصنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس ، وصورة كل طائر من الذهب ، وأعينها من يواقيت وجواهر ، أنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار (٦).

يضاف الي هذا العبث بذخ البرامكة المستطير ، واسرافهم في العطاء للشعراء والزعماء والأتباع ووعاظ السلاطين ، حتي عرف عنهم أنهم من

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٦ وانظر مصدره.

(٢) غي لسترانج / بين الخلفاء والخلفاء / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) مصطفي جواد / سيدات البلاط العباسي / ٤٨.

(٤) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ٧٧.

(٥) طبقات الشعراء / ٢٤٦.

(٦) الأبشيهي / المستطرف في كل فن مستظرف ١ / ٩٨.

١٨٠