الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

المتكلمون ينتظمون في موقع الافادة والاستزادة من الامام ، لا في موضع الجدل والمناظرة ، فهم بازاء أحد عباقرة الدنيا في استقراء المفاهيم وابراز المصاديق ، وانارة السبيل بين أيدي الباحثين الالهيين.

لقد سئل الامام عن ارادة الله تعالي ، فأجاب بديهة :

«الارادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. وأما من الله فارادته احداثه لا غير ، لأنه لا يروي ، ولا يهم ، ولا يفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فارادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له : (... كن فيكون) (١) بلا لفظ ، ولا نطق ، ولا لسان ، ولا همة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنه لا كيف له» (٢).

أرأيت كيف أفرغت البلاغة جوهرها في هذا النص الفريد ، فميز فيه بين ارادة الخالق والمخلوق ، بأبلغ لفظ ، وأوجز بيان ، وأوضح أسلوب. فارادة الانسان قرار داخلي محدث فيما يبدو له من الأفعال بعد التأمل والتفكير ، وارادة الله تعالي احداثه للشي‌ء ليس غير ، وهذا الاحداث يتم بأمر الكينونة المطلقة منه ، دون لفظ وذبذبة لسان ، ولا نطق ولا هم ولا تفكير.

والطريف في هذا الملحظ أن الامام يتحدث عن ارادة الله في شقيها التكويني والتشريعي ، بما لم يسبق اليه من قبل فلاسفة عصره والمتكلمين. يقول الامام (عليه‌السلام) : «ان الله ارادتين ومشيئتين : ارادة حتم ، وارادة عزم ، ينهي وهو يشاء ، ويأمر وهو يشاء ، أو رأيت أنه نهي آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك؟ ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالي ، وأمر ابراهيم بذبح اسحاق (ولده) ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالي» (٣).

__________________

(١) سورة ياسين / ٨٢.

(٢) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٢٧.

(٣) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٥١.

١٤١

وقد عقب الأستاذ باقر شريف القرشي علي هذا بقوله : «وبيان مراده (عليه‌السلام) : أن الارادة تنقسم الي الارادة التكوينية الحقيقية ، والي الارادة التشريعية الاعتبارية ، فارادة الانسان التي تتعلق بفعل نفسه ارادة تكوينية تؤثر في أعضائه الي ايجاد المطاوعة الا لمانع ، وأما الارادة التي تتعلق بفعل الغير كما اذا أمر بشي‌ء أو نهي عنه ، فان هذه الارادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر ايجاد الفعل أو تركه من الغير ، بل تتوقف علي الارادة التكوينية له.

واما ارادة الله التكوينية فهي التي تتعلق بالشي‌ء ، ولابد من ايجاده ، ويستحيل فيها التخلف.

وأما ارادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث أنه حسن وصالح. وأما نهي الله لآدم عن الأكل ... وأمره لابراهيم بالذبح ... فان النهي والأمر فيهما تشريعيان ، كما أن المشيئة هي المشيئة التكوينية.

والأخبار الواردة عن أئمة الهدي (عليهم‌السلام) بأن الذي جعل قربانا للبيت الحرام هو اسماعيل دون اسحاق» (١).

وها أنت تري أن هذا المناخ العقلي المتطور لدي الامام كان زاخرا بعبارات تنبض بالجمال الفني لغة ، وتصقل بصفاء الأسلوب أداء ، مما حول المعركة الكلامية المتنافرة الي مادة تفاهم ونشاط عقلي يبتعد بأفكاره عن الانكفاء وراء التهم ، ويتحاشي الهجوم المرير. علي أن هذا المناخ الذي أوجده الامام كان يتردد في أفق ملتهب لا معقول ، الا أن الامام قد عدل من مساره وقاده الي شواطي‌ء الأمن.

ولم يكن الامام الا داعية الي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، عليه ابداء الحقائق مجردة ، ووضع الأعلام لائحة ، فمن أخذ

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٥٣.

١٤٢

بها فقد أخذ بالسهم الأرشد ، ومن أبي ذلك عليه فهو وشأنه.

فقد دحض الامام مزاعم أهل الجبر باستدلال بديهي أن الله تعالي بأمره ونهيه قد جعل السبيل ممهدا للأخذ بما أمر ، وجعله كذلك في ترك ما نهي عنه ، ولم يجبر أحدا علي عمل ، قال (عليه‌السلام) : «ان الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون ، فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين الا باذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه علي معصيته ، بل اختبرهم بالبلوي ، وكما قال :

(... ليبلوكم أيكم أحسن عملا ...) (١) (٢).

ومن هذا القبيل ما روي عن الامام الرضا (عليه‌السلام) أنه قال : سأل رجل أبي : هل منع الله عما أمر به؟ وهل نهي عما أراد؟ وهل أعان علي ما لم يرد؟

فقال (عليه‌السلام) : أما قولك هل منع عما أمر به ، فلا يجوز ذلك عليه ، ولو جاز ذلك لكان قد منع ابليس عن السجود لآدم ، ولو منعه لقدره ولم يلعنه.

وأما قولك هل نهي عما أراد؟ فلا يجوز ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة أراد أكلها ... والله تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشي‌ء ويريد غيره.

وأما قولك : هل أعان علي ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك عليه ، وتعالي الله عن أن يعين علي قتل الأنبياء وتكفيرهم ، وقتل الحسين بن علي والفضلاء من ولده ، وكيف يعين علي ما لم يرد؟ وقد أعد جهنم لمخالفيه ، ولعنهم علي تكذيبهم لطاعته وارتكابهم لمخالفته ، ولو جاز أن يعين علي ما لم يرد

__________________

(١) سورة الملك / ٢.

(٢) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٠.

١٤٣

لكان أعان فرعون علي كفره وادعائه أنه رب العالمين ، أفتري أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية ...» (١)

وهذا أبوحنيفة ، النعمان بن ثابت ، يسأل الامام وهو صبي.

قال له : «يا ابن رسول الله؛ ما تقول في أفعال العباد؛ ممن هي؟

قال الامام : يا نعمان ، قد سألت فاسمع ، واذا سمعت فعه ، واذا وعيت فاعمل.

ان أفعال العباد لا تخلو من ثلاث خصال :

اما من الله علي انفراده ، أو من الله والعبد شركة ، أو من العبد بانفراده. فان كانت من الله علي انفراده ، فما باله سبحانه يعذب عبده علي ما لم يفعله مع عدله ورحمته وحكمته؟

وان كانت من الله والعبد شركة ، فما بال الشريك القوي يعذب شريكه علي ما قد شركه فيه ، وأعانه عليه؟

ثم قال الامام : استحال الوجهان يا نعمان؟ فقال : نعم.

قال الامام : فلم يبق الا أن يكون من العبد علي انفراده ...» (٢).

وهذا تأكيد علي أصل العدل من جهة ، وهو نفي للجبر والتفويض من جهة أخري.

وقد كرر أبوحنيفة نفسه هذا السؤال للامام بصيغة أخري تحوم حول الغرض ذاته ، الا أنه خصص السؤال بصدور المعصية.

فأجابه الامام الجواب نفسه تقريبا بطرح جديد.

قال أبوحنيفة للامام : «جعلت فداك ممن المعصية؟ ...

قال الامام : ان المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه ، أو منهما

__________________

(١) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٩.

(٢) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٧٥ وانظر مصدره.

١٤٤

جميعا ، فان كانت من الله تعالي فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ، ويأخذه بما لم يفعله. وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولي بانصاف عبده الضعيف. وان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، واليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت له الجنة والنار.

قال أبوحنيفة : فقلت : (ذرية بعضها من بعض) (١) (٢).

ومع أن أباحنيفة من القائلين بالجبر ، وممن قيدوا حرية الارادة ، فانه قد سجل اعجابه بما أجاب به الامام ، سيما والرواية تقول بأن الامام كان آنذاك صغير السن.

وكان الامام لا يبخل علي أحد بالافادة منه في النظر العقلي ، لا سيما في أصول الدين وفروعه ، والظاهرة الماثلة للعيان أن جرت بينه وبين هارون الرشيد عدة مباحثات ومناظرات واحتجاجات ، يأتي بعضها في محلها ، ولكن الملفت للنظر حقا أن يطب اليه الرشيد أن يكتب له كلاما موجزا له أصول وفروع ، يفهم تفسيره ... فكتب الامام :

«بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمور الدنيا أمران : أمر لا اختلاف فيه ، وهو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون اليها ، والأخبار المجمع عليها ، المعروض عليها شبهة ، والمستنبط منها كل حادثة ، وأمر يحتمل الشك والانكار ، وسبيل استنصاح أهل الحجة ، فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمع علي تأويله ، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه وآله) لا اختلاف فيها ، أو قياس تعرف العقول عدله ، ضاق علي من استوضح تلك الحجة ردها ، ووجب عليه قبولها ، والاقرار والديانة بها ، وما لم يثبت لمنتحليه به حجة من كتاب مستجمع علي تأويله ، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه وآله) لا اختلاف فيها ، أو قياس

__________________

(١) سورة آل‌عمران / ٣٤.

(٢) ظ : السيد المرتضي / أمالي المرتضي : ١ / ١٥١ ، ابن شهر آشوب / المناقب : ٣ / ٤٢٩ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٠٩.

١٤٥

تعرف العقول عدله ، وسع خاص الأمة وعامها الشك فيه والانكار له كذلك ، هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه الي ارش الخدش وما دونه ، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين ، فما ثبت لك برهانه اصطفيته ، وما غمض عنك ضوؤه نفيته.

ولا قوة الا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

وهذا الانفتاح علي المناخ العقلي لدي الامام لم يكن مقتصرا علي المسلمين وحدهم ، بل تجاوزه الي الملل والنحل الأخري ... فقد روي هشام بن الحكم أن الامام موسي بن جعفر قال لأبرهة النصراني : كيف علمك بكتابك؟ قال : أنا عالم به وبتأويله.

قال : فابتدأ الامام (عليه‌السلام) يقرأ الانجيل.

فقال أبرهة : والمسيح لقد كان يقرأها هكذا؛ وما قرأ هكذا الا المسيح ، وأنا كنت أطلبه منذ خمسين سنة. فأسلم علي يديه (٢).

واجتمع الامام موسي بن جعفر براهب ، وجرت بينهما المحاورة الآتية : قال الراهب للامام : يا هذا أنت غريب؟

قال الامام : نعم.

قال الراهب : منا أو علينا؟

قال الامام : لست منكم.

قال : أنت من الأمة المرحومة؟

قال الامام : نعم.

قال : أفمن علمائهم أنت أم جهالهم؟

قال الامام : لست من جهالهم.

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٥٨.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٦.

١٤٦

قال : كيف طوبي أصلها في دار عيسي وعندكم في دار محمد ، وأغصانها في كل دار؟

قال الامام : الشمس قد وصل ضوؤها الي كل مكان وكل موضع وهي في السماء.

قال الراهب : وفي الجنة لا ينفد طعامها وان أكلوا منه ، ولا ينقص منه شي‌ء؟

قال الامام : السراج يقتبس منه ولا ينقص منه شي‌ء.

قال الراهب : وفي الجنة ظل ممدود؟

فقال الامام : الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها؛ ظل ممدود.

وقوله : (ألم تر الي ربك كيف مد الظل ...) (١).

قال الراهب : ما يؤكل ويشرب في الجنة لا يكون بولا ولا غائطا؟

قال الامام : الجنين في بطنه أمه ... قال الراهب : أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟

قال الامام : اذا احتاج الانسان الي شي‌ء عرفت أعضاؤه ذلك ، ويفعلون بما أرادوا من غير أمر.

قال الراهب : مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟

قال الامام : مفتاح الجنة لسان العبد : لا اله الا الله. قال صدقت ، وأسلم والجماعة معه (٢).

ولا تحسبن المناخ العقلي لدي الامام كان مقتصرا علي المناظرات والمحاورات ، وانما هو خصيصة رسالية سيرها الامام ما وجد الي ذلك سبيلا ، ومهمة قيادية وجه بها الأجيال نحو المعرفة الالهية والكمال النفسي.

__________________

(١) سورة الفرقان / ٤٥.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٧.

١٤٧
١٤٨

الفصل الرابع

الامام وطواغيت عصره

١ ـ المبادئ السياسية المتقابلة.

٢ ـ في استخلاف المنصور.

٣ ـ في عهد المهدي العباسي.

٤ ـ في أيام موسى الهادي.

٥ ـ في مملكة هارون الرشيد.

١٤٩
١٥٠

المبادي‌ء السياسية المتقابلة

وكانت السلطات القائمة في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تنطلق سياسيا من واقع أرستقراطي قائم علي أساس الأثرة والاستعلاء ، بينما كانت سياسة الامام وهي تنطلق من واقع اسلامي متوازن ، معنيا للعدل الاجتماعي المفقود ، وألقا من النصح الكريم في بعث القدرات الانسانية ، ودليلا من القيم التي تشجب عبادة الدولة والأصنام البشرية ، مؤكدة علي المبادي‌ء التي تعتبر الانسان مخلوقا رفيعا له كرامته المضمونة في اطار تعليمات الدولة الاسلامية التي تستنكر كون الفرد عبدا للدولة.

ومن هنا كانت الفروق المميزة بين واقعين متناقضين ، واقع الاستبداد المطلق المتمثل بسلاطين الجور ، وواقع الكرامة الانسانية المتمثلة بأفكار الامام.

وكان استنطاق الوثائق التأريخية المحايدة ، واستحضار النصوص الطريفة لحياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الرصد والتوجيه والتأثير ، قد أحدثت في الأفق العام صوتا مدويا حاول البحث القاء المزيد من الضوء علي معطياته ، وقد تأكد لنا من أبعاده وجوانبه استيعاب الامام المشروع

١٥١

الطموح البشري في العدل والمساواة والحرية الاجتماعية ، مما أوجد حالة كبري في الاستنفار اليقظ من ركود الماضي الي الانبعاث الجديد من التحرر والانعتاق من تجاوزات السياسة الجافة التي انتهجتها خلائق السوء ودعاة التخريب الجماعي ، فكان الانقلاب الجذري في فكر الانسان المسلم الواعي وحياته الحقيقية منطلقا ـ في ضوء توجيه الامام ـ لمعالجته الوضع الشاذ في أنماطه المأساوية ، اذ انفتح العقل الانساني علي معايير جديدة في الأحكام والأعراف والتقييم الموضوعي تختلف علي تلك الأعراف الشائعة وراء حجز الأفكار ووأد المنطلق المنطقي للانسان ، مما جعل النظام العباسي يعيش في عزله قاتلة بين أفياء القصور وأحضان الجواري والمولدات ، وهو يبتعد عن هموم الشعب ، والشعب يبتعد عن همومه ، فهما مفترقان لا يلتقيان ، وان فرضت السيطرة بالقوة والاكراه نوعا من الطاعة ، ولكن هذا الفرض قد يتعكر صفوه بالانتفاضات المسلحة ـ كما ستري ـ فلم يكتب للدولة العباسية الاستقرار السياسي الا في ظل مسرحيات مفضوحة الغايات حاولها النظام للحل المؤقت ، كالتجائه الي نصب الامام الثامن من أئمة أهل البيت؛ الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) في مركز ولاية العهد للمأمون ريثما تهدأ العاصفة.

ولقد أصيب المجتمع الاسلامي بالشلل التام والانكماش علي الذات جراء ما يعانيه من مخلفات هذا الوضع الغريب حتي أسقط في يده ، ولكن التجربة الرافضة لظواهر التمزق الداخلي ، والتي نهض بها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بصلابة وأناة ، تعطي الجماعة الاسلامية زخما متحركا في مجابهة المناخ المريض الملوث ، وتمد الأمة قوة وفتوة للانطلاق الغاضب علي العنف والتسلط.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) نموذجا لا مثيل له في اشراق الضمير

١٥٢

وتوهج الذات ، فحقق مبدأ «الغيرية» الذي يعيش فيه القائد الفذ لغيره من الناس لا لنفسه ، وتلك هي التضحية التي ندبت لها شريعة السماء.

لقد كان بامكان الامام أن يغض طرفا عن تجاوزات الحكم العباسي فحسب ، لا أن يجاربه أو يؤيده ، فالحاكم لا يطمح بذلك ، ولو تجاوز الامام ما رسمه لنفسه لعاش في بحبوحة من النعيم ، بين القصور الفارهة والحياة الرغيدة ، ولكنه لم يخلق لهذا قط ، بل انتصب شاخصا ماثلا للمبادي‌ء الرسالية التي ترفض كل صيغ المحاباة والاستئثار بحقوق الفرد والأمة ، فكانت المجابهة للاضطهاد والاستبداد تشكل نظرة مستقبلية لارساء مرجعية أهل البيت في اثراء الضمير الانساني بالموقف الصلب ، والمبدأ الثابت ، والحياة الحرة الكريمة ، دونما اراقة دماء بريئة ، أو اثارة معارك عقيمة ، فليكن والحالة هذه هو الضحية لهذا التوجه الناهض ، فما خلق الامام ليريح أو يستريح ، بل ليناضل ما استطاع الي ذلك سبيلا ، وكان تكليفه الشرعي هو الذي يملي عليه طبيعة العمل والتعبير عن الموقف بطرقه الخاصة التي تتفادي الصراع المرير بين الجمهور الأعزل المضطهد ، وبين القوي الفاعلة وهي تتسلح بالجبروت والجيش المدرب ، وبذلك استطاع الامام تحقيق هدفين مهمين في سهم واحد :

الأول : مجابهة التعالي وشريعة الغاب؛ بالقول الصارم ، أو النضال السلبي الهادر ، أو الكلمة النافذة الي الأعماق ، وهي تزلزل عروش الطغاة وكبرياء الجبابرة.

الثاني : الابقاء بحدود كبيرة علي البقية المؤمنة ، دون التفريط بها في خنادق القتال وميادين الحروب المدمرة. فقد رأي الامام ـ علي قلة أنصاره ـ أن القتال لا يحقق له نصرا فعليا ولا مستقبليا ، فعليه أن يسلك بأتباعه بحلم ورؤية ، ويحفزهم باعداد القوة الي الظرف المناسب.

١٥٣

وكان عصر الامام قد أتاح له الالتقاء البغيض بطواغيت عصره من بني العباس ، فكانت مبادؤه متقاطعة مع كل من : أبي‌جعفر المنصور ، والمهدي العباسي ، وموسي الهادي ، وهارون الرشيد ، وهم يمثلون الدولة العباسية في قوتها وعنفوانها.

وسنلاحظ عن قرب مدي الاستهانة بالقيم الانسانية والأخلاقية لدي هؤلاء ، والامام موسي بن جعفر كالجبل الأشم رسوخا وثباتا وقيما.

١٥٤

في استخلاف المنصور

لم يكن المنصور حازما كما صوره مدونو التأريخ ، ولم يكن داهية كما يصفه رواة الأحداث ، بل كان من جبابرة الأرض الذين سفكوا الدماء ، وانتهكوا الحرمات. ولم يكن ليتعامل بمنظور ديني علي الاطلاق ، وانما هو الملك الدنيوي العقيم ، فهو لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم والموبقات ازاء تثبيت أركان مملكته ، ولا أدل علي ذلك ما اقترفه من قتل الحسنيين تحت كل حجر ومدر ، ومن تتبع آثار المعارضين ابادة وسجونا وطوامير ، حتي طفح الاناء بما فيه شدة وقسوة وتنكيلا.

ومع أن التأريخ الرسمي قد منح الطغاة هالة من التعظيم وشيئا من الاكبار ، الا أن شذرات من تقريراته قد فضحت ذلك الستار الشفاف الذي أحيط بتلك الأبراج العاجية التي استقل في ظلالها دعاة الجور وقتلة الأبرياء. لقد أنزل العباسيون بقيادة أبي‌جعفر المنصور أفدح العقوبات بأبناء عمومتهم من العلويين ، لم يمنعهم عن ذلك قرابة أو لحمة نسب ، ولم يردعهم دين أو ورع ، وانما هو الاستئثار الشامل بكل شي‌ء ، والأحكام العرفية الصارمة لأدني مخالفة ، ولم تكن جرائم المنصور نفسه بريئة من

١٥٥

القسوة الضارية التي أنست جرائم الجاهلية في عنفها وشدتها ، يضاف اليها الغدر بأقرب الناس ، وأنصار النظام ، وقادة الحركة العباسية أنفسهم ، حتي قال الأستاذ السيد أمير علي الهندي :

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء ، وتعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط ... سادرا في بطشه ، ومستهترا في فتكه ، وتعتبر معاملته لأولاد علي (عليه‌السلام) صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي» (١).

ولم يكن أمر قسوته بمعزل عن تسليط الضوء علي برنامجه الدموي في استئصال شأفة المعارضين السياسيين من قبل التأريخ ، بل صرح بأكثر من مصدر ومورد بآثار ذلك النهج الارهابي المفجع في صوره المرعبة.

قال الطبري (ت ٣١٠ ه) : ان المنصور : «أمر بأسطوانة مبنية ففرغت ، ثم أدخل فيها محمد بن ابراهيم بن الحسن ، فبني عليه وهو حي» (٢).

بل أنه عمد الي جملة الأسري من الحسنيين فكبلهم بالقيود والأغلال حتي ماتوا في السجون (٣).

وقيل : انهم وجدوا مسمرين في الحيطان (٤).

قال السيوطي بأنه : «قتل خلقا كثيرا حتي استقام ملكه» (٥).

وهو الذي أمر بضرب أبي‌حنيفة النعمان بن ثابت ، ثم سجنه فمات بعد أيام (٦).

بل روي السيوطي : أنه قتل أباحنيفة بالسم (٧).

__________________

(١) أمير علي الهندي / مختصر تاريخ العرب / ١٨٤.

(٢) الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٧ / ٥٤٦.

(٣) المصدر نفسه ٧ / ٥٤٠.

(٤) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٠٦.

(٥) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٢.

(٦) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤.

(٧) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٢.

١٥٦

وهذه أمثلة شاردة علي فظاظة أفعاله وسوء معاملته ، مع شرائح من الناس والأبرياء منهم بخاصة ، ولا أدل علي ذلك من قتله الامام الصادق (عليه‌السلام) فقضي مسموما بأمره.

وقد عرضنا لشي‌ء من سيرته في البطش الدموي في كتابنا : «الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم أهل البيت» ونضيف هنا أنه كان ممن يتلاعب بشريعة سيد المرسلين (صلي الله عليه وآله) ، ويخالف أحكامها بأحكام ما أنزل الله بها سلطانا.

«فقد دخل عليه ابن هرمة الشاعر المشهور بشرب الحمر ، فقال له المنصور : ما حاجتك؟ قال ابن هرمة : تكتب الي عاملك بالمدينة أن لا يحدني اذا وجدني سكران!! فقال :

لا أعطل حدا من حدود الله. قال : تحتال لي!!

فكتب المنصور الي عامله : من أتاك بابن هرمة سكرانا فاجلده مائة ، واجلد ابن‌هرمة ثمانين.

فكان من يراه سكران يقول :

من يشتري مائة بثمانين ، ثم يتركه ويمضي» (١).

وهكذا يجد المنصور المخرج لاباحة شرب الخمر وتعطيل الحدود ، علما بأنه كان يتناول الخمرة ، ولكنه لا يظهر لندمائه بشرب ولا غناء (٢) وكان معروفا بالفتك ، ولقد غدر بأب مسلم الخراساني قائد الدعوة العباسية ، وبأبي‌سلمة الخلال وزير آل محمد كما وصفوه ، وبعمه عبدالله بن علي ، وسواهم من أعيان رجاله.

وكان بخيلا يضرب المثل بشحه وبخله ، ويجد ذلك مكرمة وحسن تدبير ، ويحرص علي خزائنه جمعا واحتكارا ، والشعب المسلم يتضور

__________________

(١) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٨.

(٢) المصدر نفسه / ١٧٩.

١٥٧

جوعا وبؤسا ، ويعلل ذلك بقوله : «من قل ماله قل رجاله ، ومن قل رجاله قوي عليه عدوه ، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه ، ومن اتضع ملكه استبيح حماه» (١).

وهكذا تري حاكما غادرا بخيلا فاتكا يتقمص الخلافة الاسلامية ، ويتبوأ مقعد ادارة المسلمين بهذه الصفات المهزوزة ، وكان حريا بالتأريخ أن يكشف سود صحائفه ، ولكن التأريخ يجري في ميدان الحكم سواء رضي الناس أم سخطوا.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد قضي أكثر من عشرين عاما في خلافة المنصور التي امتدت بين عام ١٣٦ ه حتي عام ١٥٨ ه ، وهي فترة ليست بالقصيرة ، اذ أفني زهرة شبابه في حياة هذا الحاكم ، وهو يسفك الدماء بغير الحق ، ويستبيح الذمام ابتداء من القضاء علي الحسنيين وانتهاء بسم الامام الصادق (عليه‌السلام). وما رافق ذلك من المظالم الهائلة والارهاب الجماعي ، مما ذهب ضحيته آلاف المسلمين الرساليين ، مضافا الي القضاء علي شباب الهاشميين وشيوخهم قتلا وتشريدا واعتقالا. كما حدث بذلك التأريخ (٢).

وكان الاضطهاد السياسي يتراوح في تلك الحقبة بين قطع الأعناق وقطع الأرزاق ومصادرة الحرية ، فكان علي الناس وهي ترافق هذه الانتهاكات أن تحيا شاهد الخوف والهلع والفقر.

والامام ينظر الي هذا كله ، ولا يستطيع تغيير ذلك جذريا ، وان استطاع أن يفضحه علي رؤوس الأشهاد سلبا أو ايجابا ، غاب عنه الأولياء الا صفوة تعد بأطراف الأصابع ، ادخرهم لتبليغ الرسالة ، واستتر عنه الزعماء فقد

__________________

(١) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٢١.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٣٥٠.

١٥٨

ملئت غرائرهم بالأموال والرشاوي ، وبقي في ضعفاء من الناس لا حول لهم ولا طول ، والأمر يتنقل بالفوضي من سيي‌ء الي أسوأ ، والآفاق داكنة بين سحاب وضباب ، والحياة مضطربة بين السيف والحيف ، وقلق المسلمون علي الامام حينما كتب المنصور الي واليه علي المدينة عند وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) :

«ان كان الامام قد أوصي الي رجل بعينه ، فقدمه واضرب عنقه». فكتب الوالي الي المنصور أن الامام الصادق قد أوصي الي خمسة : أبي‌جعفر المنصور نفسه ، ومحمد بن سليمان والي المدينة ، وولده عبدالله الأفطح ، وولده موسي ، وزوجته حميدة.

فقال المنصور : ما الي قتل هؤلاء من سبيل (١).

وكانت جرائم المنصور تتجاوز الحدود في الانتقام والتشفي ، وأكتفي بحديث «الخزانة» التي احتجزها لنفسه ، ولم يطلع عليها أحدا ، وهي محاطة بالسرية والكتمان ، حتي ظهر أمرها بعد وفاته بما تحدث عنه محمد بن جرير الطبري بقوله :

«لما عزم المنصور علي الحج دعا (ريطة بنت أبي‌العباس السفاح) امرأة المهدي ، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي‌جعفر ، فأوصاها بما أراد ، وعهد اليها ، ودفع اليها مفاتيح الخزائن ، وتقدم اليها وأحلفها ، ووكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن ، ولا تطلع عليها أحدا الا المهدي ، ولا هي الا أن يصح عندها موته ، فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما أحد حتي يفتحا الخزانة ، فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت اليه المفاتيح وأخبرته ألا تفتحه ، ولا يطلع عليه أحد حتي يصح عندها موته ، فلما انتهي الي المهدي موت المنصور ، وولي الخلافة

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٧ / ٣.

١٥٩

فتح الباب ومعه ريطة ، فاذا أزج (١) كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين ، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ، واذا فيهم أطفال ، ورجال شباب ، ومشايخ عدة كثيرة ، فلما رأي المهدي ذلك ارتاع لما رأي ، وأمر فحفرت لهم حفيرة ، فدفنوا فيها ، وعمل فوقها دكانا» (٢).

وهكذا نجد شأن الطغاة الكبار في الانتقام اللاانساني بأقرب الناس صلة ونسبا ، ولا غرابة في ذلك ووصيته لولده المهدي تقول : «اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف : فقيرا لا يرجو الا غناك ، وخائفا لا يرجو الا أمنك ، ومسجونا لا يرجو الفرج الا منك» (٣).

ويعقب علي الرواية الأستاذ باقر شريف القرشي بقوله :

«انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة أصناف ، وانما ترك الناس جميعا كذلك ، فقد روعهم بخوفه ، وسلبهم الأمن والدعة ، ونشر الفقر والمجاعة بينهم ، وملأ السجون بالأحرار والمصلحين» (٤).

وكيف تري حياة الامام ، وهو يعايش كل المآسي التي اجترحها المنصور في حقده؟ بلي مات المنصور وعمر الامام ثلاثون عاما أبقت في قلبه ذكريات اللوعة والمرارة والأسي ، فكان بذلك يحيا الألم الكبير في كل ظواهره المروعة.

__________________

(١) الزُجُ المكان الذي يزج فيه المعتقلون أي السجن أو المعقل.

(٢) الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٦ / ٣٢٠.

(٣) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ٣٤٩.

(٤) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٣١.

١٦٠