الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الإرهاب السياسي

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧

الله ، وعلي المسلمين الطاعة ، وان ظلم عباد الله ، وغير أحكام الله ، وأكل أموال المسلمين ، وثوابه أو عقابه علي الله ، وليس لأحد أن يعتدي علي ذاته المقدسة!!.

الجديد في هذا المنحي في الاسلام أن الحاكم مصون غير مسؤول ، فقد أبيح له كل شي‌ء ، وقد خول بكل شي‌ء. وقد رحب الطغاة والجبابرة والملوك بهذا المبدأ الجديد.

فالارجاء اذن مذهب الطواغيت ، وهو المذهب الذي يبيح الانحراف والخروج عن الخط الديني ، ويجعل الحاكم مستقلا في برجه العاجي عن النقد والتجريح والرفض.

وطبيعي أن مذهب الارجاء قد ابتدعته الأعطيات الضخمة من السلاطين ، وجعلت منه مبدأ لا ينطق ، ولا يعترض ، ولا يحاجج ، بل يظل مسالما طول الخط.

يقول الأستاذ خودابخش : «ان أصل المرجئة ، يرجع الي ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم» (١).

وأقره علي ذلك أستاذنا الدكتور يوسف خليف بقوله : «فقد وجد الحاكمون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات والمذاهب المتعددة المعادية لهم» (٢).

ولم يقف المسلمون بمنحي عن فكرة الارجاء ، بل وقفوا في الاتجاه المعاكس لمجابهة الارجاء فالامامية يرون في مذهب الارجاء احتضانا لتطلع الطواغيت في اباحة المحظورات ، يسوغ لهم الاستبداد وسفك الدماء دون أن يخرجهم ذلك عن حضيرة الايمان ، وكان في طليعة ذلك الامام محمد الباقر

__________________

(١) ظ : يوسف عبدالقادر خليف / حياة الشعر في الكوفة / ٣٠٩.

(٢) المرجع نفسه / ٣٠٩.

١٢١

(ت ١١٤ ه) حينما قصده عمرو بن قيس الماصر ، وهو ممن يقول بالارجاء ، فقال للامام : انا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. فرد عليه الامام مستندا الي السنة الشريفة ، فقال :

«يا ابن‌قيس : أما رسول الله (صلي الله عليه وآله) فقد قال : لا يزني الزاني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق هو مؤمن. فاذهب أنت واصحابك حيث شئت» (١).

وكان ابراهيم النخعي (ت ٩٦ ه) عنيفا في مقاومة الارجاء. والمرجئة عنده هم أهل الرأي المحدث ، والارجاء بدعة ، وقد تركوا الدين أرق من الثوب السابري ، بل ذهب الي أكثر من هذا فقال : «لأنا علي هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» (٢).

وفي قبال أهل الجبر والارجاء ، كانت عقيدة القدرية القائمة علي القول بحرية الارادة والاختيار ، وزعيم القائلين بالقدر ـ غير منازع ـ الحسن البصري (٣).

والذي يهمنا في الأمر أن العباسيين قد رحبوا بفكرة الاعتزال كالأمويين من ذي قبل ، لأنهم أزاحوا فكرة التقديس عن الأبدال والأئمة ، فهم بذلك يقفون في الصف المقابل للفكر الامامي الذي يعطي للأئمة (عليهم‌السلام) مكانتهم في الولاء والتقديس.

أما الخوارج فلم يكن لهم أمر ذو بال في العصر العباسي ، وكان الخروج علي الدولة من شأن الطالبيين فحسب ، والحسنيين منهم بالذات ، ولم يكن المسلمون ليعتبروا العلويين خوارج في المفهوم الاصطلاحي ، بل عدوهم من الثائرين.

الا أن الحياة العقلية في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد انفجرت

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الباقر ٢ / ٩٠ وانظر مصدره.

(٢) ابن‌سعد / الطبقات الكبري ١ / ١٩١.

(٣) ظ : شوقي ضيف / التطور والتجديد في الشعر الأموي / ٥٢.

١٢٢

بأفكار جديدة مضافا الي مخلفات الخوارج والمرجئة وأهل القدر المعتزلة. فكانت متاعب الامام مضنية في صد التيارات والرياح الوافدة ، وهو يعيش تبعات ذلك كله ، يعالجها حينا ، ويدفعها حينا آخر ، ويوفق بين المسلمين فيما بينهما ، حتي سجل له تأريخيا ذلك الدور المشرف.

لقد نشأت في عهد أبيه الامام الصادق فرق الغلاة والزنادقة والالحاد ، ونشأت في عهده فرق أخري وثيقة الصلة بما ابتلي به عصر أبيه. فأضاف ذلك جهدا الي جهده.

والذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة ، بل هي الي الصخب والضجيج أقرب ، وهي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق وجماعات وجماعات وتكتلات.

وقد شجعت السياسة هذا الجو المحموم المضطرب ، ليصفو لها الأفق بعيدا عن المجابهة والرفض ، وبمعزل عن مشكلات التحسس الجماعي بالظلم والمأساة والاذلال.

وكانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي بالضرورة أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة. وهي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق ، أبرم بنوده سلاطين الجور وأدعياء الفكر الوافد.

١٢٣

تعدد الاتجاهات العقائدية

ومع كل ذلك العمل التكاملي الرائد الذي فجره الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) لتوحيد الأمة ، ورأب الصدع ، الا أن بعض الظواهر العقلية قد برزت في الميدان ، نحاول القاء بعض الضوء علي مصادرها وأثرها في الظروف الاجتماعية ، كما نعرض لجزء من حياتها المترددة بتكثيف وضغط قد يؤديان المهمة دون الاغراق في التفصيلات الهامشية.

ولو أن أهداف هذه الاتجاهات كانت علمية خالصة ، أو تنافعية مشروعة ، لوصل الينا علم كثير خالص ، الا أن ما يحز في النفس أن ينحر الكثير منها الي مداخلات غير بريئة ، وأن تطغي لغة الهجوم والاسفاف علي لغة العقل والاناة ، فينشأ عن هذا وذاك احتدام لا مسوغ له في التعدي والتحدي والتداعي الذي قد يصل ببعض مفرداته الي تكفير هذا وتضليل ذاك ، وهنا تفقد الحياة العقلية هذا الوهج الحضاري في تلاقح القيم والأفكار. وتلك مأساة نتلقاها بمرارة وحزن عميق ، حتي عادت صراعا يطال المعتقدات بكثير من التهاون تارة والتجاهل تارة أخري.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

١٢٤

«واتسم عصر الامام بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية ، والتجاهات العقائدية التي لا تمت الي الاسلام بصلة ، ولا تلتقي معه بطريق ، وقد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعا لا هدوء فيه ولا استقرار ، حتي امتد ذلك الصراع الي أكثر العصور ، ويعود السبب في ذلك الي أن الفتح الاسلامي قد نقل ثقافات الأمم وسائر علومهم الي العالم الغربي والاسلامي ، بالاضافة الي أن السلام قد جاء بموجة عارمة من العلوم والأفكار ، ودعا المسلمين الي الانطلاق والتخصص في (صفحه ١١٥) جميع ألوان المعارف ، وقد أحدث ذلك انقلابا فكريا في المجتمع الاسلامي ، وتبلورت الأفكار بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيرا في العصور السالفة ، وقد اتجهت تلك الطاقات ... الي الجانب العقائدي من واقع الحياة ، فحدثت المذاهب الاسلامية والفرق الدينية ، وتشعبت الأمة الي طوائف وقع فيما بينها من النزاع والمخاصمات والجدال الشي‌ء الكثير ، فكانت النوادي تعج بالمعارك الدامية والصراع العنيف ... وكان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة هم علماء الكلام والمتكلمون» (١).

وقد ألمحنا لحياة كثير من هذه الصراعات فيما مضي من هذه الموسوعة في أعمال سابقة (٢).

وقد فصلنا القول في كتابنا «الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت» فتحدثنا عن الثورة المضادة التي قادها الامام ضد متناقضات العصر العباسي في المناخ العقلي ، وعرضنا لظاهرة الغلاة ومحاربة أئمة أهل البيت لتلك الظاهرة الضالة.

واستوفينا القول ـ بايجاز ـ في حركات الالحاد والزندقة ، وعرضنا

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٠٩.

(٢) ظ : المؤلف / الامام محمد الباقر مجدد الحضارة الاسلامية / ٨٨ ـ ١٠٦.

١٢٥

لحياة المذاهب الكلامية في عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) ووجدنا أن الامام قد وظف نظره العقلي من خلال المحاورات والمناظرات مع زعماء علم الكلام. وكان هذا التوظيف الدقيق قد اشتمل علي ظاهرتين :

الأولي : الاستدلال العقلي والبديهي الذي لا سبيل الي انكاره.

الثانية : الاقناع المقبول الذي فجره هذا الاستدلال (١) ولا ضرورة لاعادة هيكلية ذلك البحث فقد سبق القول فيه.

وهنا لابد من رصد بعض المشاهد العقلية التي حفلت بها حياة عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) مما دأب المناخ السياسي الي التشجيع عليه ، للهدف المركزي في التخطيط السلطوي للاستبداد أني كان سبيله ، ولا مانع بعد هذا من تشعب آراء الأمة ، وتمزيق الصف الاسلامي.

روي محمد بن أبي‌عمير عن علي الأسواري ، قال :

كان ليحيي بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم علي بعض ، فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيي بن خالد :

يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال : ... ما شي‌ء مما رفعني به أميرالمؤمنين ، وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فانه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم علي بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ... وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم وعزموا

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت / الباب الأول / الفصل الثالث / الحياة العقلية وظواهرها الاجتماعية.

١٢٦

أن لا يكلموا هشاما الا في الامامة ، لعلمهم بمذهب الرشيد وانكاره علي من قال بالامامة.

ويحضر الرشيد هذه الجلسة ، وفيها هشام بن الحكم من الامامية وعبدالله بن يزيد الأباضي من الخوارج ، وحضر جماعة المعتزلة. ولك أن تختبر أهداف هذه الجلسة ، فمن رأي يحيي بن خالد البرمكي أن «يتبين فساد كل مذهب» من مذاهب القوم ، وهدف المعتزلة الايقاع بهشام بن الحكم لأنه امامي ، ويعرفون رأي الرشيد بمن قال ذلك ، فلا يسألونه الا بالامامة ، والرشيد يحضر ليعرف أعداءه من أوليائه ، والقوم في أخذ ورد من مبحث (صفحه ١١٧) الامامة ، وهشام يعطي الدليل اثر الدليل علي صحة مذهبه ، والمعتزلة يردون وينقضون ، وهشام يرد الرد والنقض معا ، والخوارج يعتذرون عن الخوض في الموضوع لأن هشاما شريك الأباضي في التجارة ، وتحتدم آراء القوم في جدل مستميت وخصام شديد ، حتي ينجر الحديث الي القول من قبل هشام أن الامام معصوم من الذنوب ، وأنه أشجع الناس ، وأسخي الناس ، وأعلم الناس ، وقرع الحجة بالحجة.

والرشيد يسمع هذا كله ، ومعه جعفر بن يحيي يسمع هذا كله ، فقال الرشيد لجعفر ، من يعني بهذا؟ قال : يا أميرالمؤمنين يعني موسي بن جعفر ، قال ، ما عني بها غير أهلها ، ثم عض علي شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقي لي ملكي ساعة واحدة؟ فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف.

وعلم يحيي بن خالد أن هشاما قد أتي ، فغمز الي هشام بالخروج ، وعلم هشام أنه قد أخذ علي حين غرة ، فانسل من المجلس وهرب ، وكان ذلك آخر العهد به حتي مات (١).

__________________

(١) ظ : هذه المحاورة كاملة / البحار للمجلسي : ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٢.

١٢٧

في هذه المحاورات والمناظرات عمق علمي لا شك في ذلك ، ولكن تبني السلطة لهذا النوع من الجهد العقلي يكشف أنهم بسبيل كشف من يواليهم ممن يخالف عليهم ، ولابانة من يؤيد مذهبهم السياسي ممن يحتمل عليه ، فهي وان كانت آفاقا معرفية في الجدل والحجاج والمناظرة ، الا أن عليها رصدا سياسيا جاثما ، يأخذ عليهم الأنفاس ، ويلتقط الاشارات فيذهب ضحية ذلك أمثال هؤلاء العلماء.

وظاهرة أخري أن الحكم يبارك هذه الخطوات أني كانت النتائج ، لأنها تصب في رافد مصالحهم الفئوية السياسية ، فما علي المتكلمين الا الجهد المضني في الجدل والاحتجاج ، وما علي الحكم الا استثمار ذلك في صراعات بين صفوف الأمة لا أول لها ولا آخر ، ولكنها تشغل الناس ، وتلك نقطة انطلاق كبري يسعي اليها الحكم والسلطان.

١٢٨

الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة

وكما انشق المسلمون الي مذاهب متعددة في القدر والارجاء والجبر والتفويض ، وكما نشأت المعتزلة والأشاعرة والخوارج ، فقد انشق الشيعة فيما بينهم ، فكانت الفرق الخارجة عن نظام أهل البيت مفارقة لتسلسل الأئمة الاثني عشر القائل بامامة أميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) وولايته الكبري ، ثم الحسن والحسين ، وعلي بن الحسين (عليهما‌السلام) ، ومحمد الباقر ، وجعفر الصادق. وموسي الكاظم ، وعلي الرضا ، ومحمد الجواد ، وعلي الهادي ، والحسن العسكري ، والحجة القائم المنتظر (عليهم‌السلام) أجمعين.

هذا التسلسل الامامي كان منظورا اليه ، ومتحدثا عنه ، منذ عهد مبكر ، بدأه رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعلي ، والحسن والحسين حتي عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) بروايات متواترة وأحاديث مستفيضة وهو ما عليه الامامية ، وهو جزء لا يتجزأ من مبدأ الامامة.

ولدي الامعان في تأريخ الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة نجده أسبق عهدا من عصر الامام موسي بن جعفر ، فقد نشأت الكيسانية القائلة بامامة

١٢٩

محمد بن الحنفية ، وهو الأخ الثالث غير الشقيق لسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (عليهما‌السلام).

فكانت الفتنة به عظيمة ـ ولا علاقة له بها ـ لأنه ابن أميرالمؤمنين ، وليس بأيدينا من المصادر ما يشير الي ادعائه الامامة لا من قريب ولا من بعيد؛ بينما رأي أتباعه بأنه المهدي المنتظر ، وأن وفاته كانت غيبة له ، بل هو حي لم يمت وانما احتجب عن الأنظار. وسميت هذه الفرقة بالكيسانية نسبة الي كيسان مولي المختار الثقفي ، بل قيل انه المختار نفسه.

وقد انقرضت هذه الفرقة ، فلا وجود لها اليوم.

ومن أبرز الفرق التي انشقت علي نظام أهل البيت «الزيدية» نسبة الي الشهيد زيد بن علي بن الحسين زين‌العابدين (عليه‌السلام) ، ولم يكن زيد قد ادعي لنفسه الامامة أبدا ، بل كان ثائرا ، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ، حتي سفك في سبيل الله دمه ، وصلبت جثته بعد القتل وأحرقت ، وهو مرضي عند الأئمة (عليهم‌السلام) ، وقد دعا الي الرضا من آل محمد.

روي العيص بن القاسم ، قال : «سمعت أباعبدالله (الامام الصادق) يقول : عليكم بتقوي الله ... ان أتاكم آت منا ، فانظروا علي أي شي‌ء تخرجون؟ ولا تقولوا خرج زيد ، فان زيدا كان عالما ، وكان صدوقا؛ ولم يدعكم الي نفسه ، وانما دعاكم الي الرضا من آل محمد (صلي الله عليه وآله) ، ولو ظهر لوفي بما دعاكم اليه ، وانما خرج الي سلطان مجتمع ليفضه (ليقضه) (١).

ولم يكن للامام أن يسدد رأي زيد لو لم يكن علي حق. الا أن الزيدية اتخذت منهجا في دعوي الامامة يقوم علي مبدأ السيف ، من خرج بالسيف فهو الامام المفترض الطاعة ، ومن أقام امامته علي غير الكفاح المسلح ،

__________________

(١) الكليني / روضة الكافي / ٢٦٤.

١٣٠

فليس بامام ، فلا يجوز اتباعه بزعمهم ، ولا يجوز القول بامامته (١).

وهنالك فرق انطلقت في الميدان في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وكان أبرزها : الاسماعيلية ، والفطحية ، والواقفة.

ولكل فرقة من هذه الفرق الثلاث دعواها في تسلم منصب الامامة لغير الامام الشرعي المنصوص عليه في سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام).

فالاسماعيلية تنتسب الي اسماعيل بن الامام جعفر الصادق ، فعلي الرغم من وفاته في حياة أبيه ، فقد أنكروا ذلك بشدة ، وقالوا : لا يموت حتي يملك (٢).

وكان هذا الزعم مخالفا لحقائق الاحداث ، اذ توفي اسماعيل في عهد مبكر قبل الدعوة اليه ، فقد مات في حياة أبيه في «العريض» وحمل علي رقاب الرجال الي المدينة ، ودفن بالبقيع ، وتقدم الامام الصادق سريره ، وأمر بوضعه علي الأرض قبل دفنه مرارا كثيرة ، وكان يكشف عن وجهه وينظر اليه ، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده ، وازالة الشبهة عنهم في حياته (٣).

ويقوم مذهب هذه الطائفة علي الغلو ، وحصر الامامة في ذرية اسماعيل فيما يزعمون ، ويضفون علي زعمائهم أقدس النعوت التي يرفضها حتي شبابهم المثقف.

وفي هذا الجو الغائم نشأت (الفطحية) القائلة بامامة عبدالله بن الامام الصادق (عليه‌السلام) ، وقد لزمهم هذا اللقب لقولهم بامامته ، وهو أفطح الرجلين. ويقال أنهم لقبوا بذلك لأن داعيهم الي امامة عبدالله هذا كان رجلا يقال

__________________

(١) ظ : النوبختي / فرق الشيعة / ٧٥.

(٢) ظ : الأشعري / مقالات الاسلاميين / ٩٨.

(٣) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٣١

له : عبدالله بن الأفطح (١) وقد تسمي هذه الفرقة العمارية ، نسبة الي أحد زعمائها المسمي «عمار» (٢).

وسرعان ما اختفت هذه الفرقة ، اذ لم يعش عبدالله بعد أبيه الا سبعين يوما ، ولم يعقب ولدا ذكرا (٣) وكأن مبدأ هذه الفرقة قد ولد ميتا ، وانتهي أمرها.

ونشأت أفكار فرقة ضالة ، كان لها الأثر في تفريق الكلمة ، وتشويه الحقائق المجردة ، وهي فرقة الواقفة ، وقد تسمي «الواقفية» وسبب هذه التسمية أنها وقفت علي امامة موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وادعت أنه حي لم يمت ولا يموت ، وأنه رفع الي السماء كما رفع عيسي بن مريم (عليه‌السلام) وأنه هو القائم المنتظر الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. وأن الذي في سجن السندي بن شاهك ليس هو الامام موسي بن جعفر بل شبه وخيل اليهم أنه هو (٤).

وكانت هذه المقالة مدعاة الي السخرية من قبل الامامية لأنها لا تقوم علي أساس نصي أو تأريخي علي الاطلاق.

قال الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ ه) :

«أما الذي يدل علي فساد مذهب الواقفة ... فما ظهر من موته (عليه‌السلام) ، واشتهر واستفاض كما اشتهر موت أبيه وجده ومن تقدمه من آبائه ... علي أن موته اشتهر ما لم يشتهر موت أحد من آبائه (عليهم‌السلام) ، لأنه أظهر ، فقد أحضروا القضاة والشهود ، ونودي عليه ببغداد علي الجسر ، وقيل : هذا الذي

__________________

(١) ظ : المصدر نفسه / ٣٢٠.

(٢) ظ : الأشعري / مقالات الاسلاميين.

(٣) ظ : الشهرستاني / مقالات الاسلاميين.

(٤) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٠٤.

١٣٢

تزعم الرافضة أنه حي لا يموت ، مات حتف أنفه» (١).

ويبدو أن العنصر المادي ، وخيانة الله ورسوله في احتجان الحق الشرعي ومال المسلمين ، هو الذي أدي بالقول الي الوقف.

فروي الثقات : ان اول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي‌حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسي الرواسي ، طمعوا في الدنيا ، ومالوا الي حطامها ، واستمالوا قوما ، فبذلوا لهم مما اختانوه من الأموال ... فكان عند زياد بن مروان سبعون ألف دينار ... وعند عثمان بن عيسي ثلاثون ألف دينار وخمس جوار ، فبعث اليهم الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) : أن احملوا ما قبلكم من المال ، وما كان اجتمع لأبي عندكم من أثاث وجوار ، فاني وارثه ، وقائم مقامه ، فأنكر ذلك البطائني والقندي ، وأما عثمان بن عيسي الرواسي فكتب اليه : ان أباك (عليه‌السلام) لم يمت ، وهو حي قائم ، ومن ذكر أنه مات فهو مبطل ، واعمل علي أنه قد مضي كما تقول ، فلم يأمرني بدفع شي‌ء اليك ، وأما الجواري : فقد أعتقتهن ، وتزوجت بهن (٢).

وتهافت كثير من ذوي الأحلام القاصرة وذوي الأطماع الواهنة الي اعتناق مذهب الواقفة دون هدي من كتاب أو سنة أو عقل.

والطريف في الأمر أن يحمل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في حياته علي هذه الفرقة وعلي رئيسها بالذات ، فعن ابن أبي‌داود ، قال : «كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي‌حمزة البطائني ، ـ وكان رئيس الوافقة ـ فسمعته يقول : قال أبوابراهيم (عليه‌السلام) (موسي بن جعفر) : انما أنت

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٢٠.

(٢) ظ : الصدوق / علل الشرائع / ٢٣٦ طبع النجف ، الطوسي / الغيبة / ٤٦ ـ ٤٧ ، الصدوق / عيون أخبار الرضا : ١١٢ / ١ ، الكشي / الرجال / ٣٠٧ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٢٥٢.

١٣٣

وأصحابك يا علي أشباه الحمير!!.

فقال لي عيينة : أسمعت؟ قلت : اي والله لقد سمعت.

فقال : لا ، والله لا أنقل اليه قدمي ما حييت» (١).

وقال ربيع بن عبدالرحمن : «كان والله موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من المتوسمين ، يعلم من يقف عليه بعد موته ، ويجحد الامام بعد امامته» (٢).

وقد تمخض الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) ، لقيادة حملة واسعة ندد فيها بالواقفة ، وحذر منها ، وفند آراءها ، وأخبر عن الضلال والانحراف في خطواتها.

فقد سأل مرة ما فعل الشقي حمزة بن بزيع؟ فقال ابراهيم بن أبي‌البلاد : هو ذا قد قدم. فقال (عليه‌السلام) : يزعم أن أبي حي ، هم اليوم شكاك ، ولا يموتون غدا الا علي الزندقة.

يقول صفوان بن يحيي : فقلت في نفسي : شكاك قد عرفتهم ، فكيف يموتون علي الزندقة؟

فما لبثنا الا قليلا حتي بلغنا عن رجل منهم أنه قال عند موته : هو كافر برب أماته. فقلت : هذا تصديق الحديث (٣).

وعن محمد بن سنان؛ قال : ذكر علي بن أبي‌حمزة عند الامام الرضا (عليه‌السلام) فلعنه ثم قال : ان علي بن أبي‌حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه ، فأبي الله الا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، ولو كره اللعين المشرك ، قلت : المشرك؟ قال : نعم والله رغم أنفه ، كذلك هو في كتاب الله : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ...) (٤)

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٤٩ ، المجلس / البحار : ٤٨ / ٢٥٥.

(٢) الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا : ١ / ١١٢.

(٣) ظ : الشيخ الطوسي / الغيبة / ٤٩ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ٢٥٦.

(٤) سورة التوبة / ٣٢.

١٣٤

وقد جرت فيه وفي أمثاله ، انه أراد أن يطفي‌ء نور الله (١).

وقد روي جعفر بن محمد النوفلي ، أنه سأل الامام الرضا (عليه‌السلام) : قلت : جعلت فداك ، ان أناسا يزعمون أن أباك حي؟

فقال : «كذبوا لعنهم الله؛ لو كان حيا ما قسم ميراثه ، ولا نكح نساؤه ، ولكنه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي‌طالب ...» (٢).

ومع هذا الشجب المستمر ، والانكار الصريح ، فان فتنة الواقفة قد استهوت جماعة من أعيان الشيعة فيهم الأكابر والأعاظم ، الا أن الله تعالي قد كشفها ببركة الامام الرضا (عليه‌السلام) ، فرجع عنها أولئك الذين شكوا بوفاة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، ثم عادوا لامامة الرضا (عليه‌السلام) بعد البراهين والأدلة. وقد استوعب الشيخ الطوسي ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم ، بعد أن لزمتهم الحجة ، ولا داعي لاعادة ذلك مع عودتهم الي الهدي (٣).

وكان هذا بحسن التأتي لسيدنا ومولانا الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) وقوة حجته ، ونفاذ بصيرته ، وصدق تجاربه ، وقرعه الدليل بالدليل ، وجهره بمعاداة أولئك الأفاقين.

فقد روي أحمد بن محمد قال :

«وقف علي ، أبوالحسن (الامام الرضا) في بني زريق ، فقال لي وهو رافع صوته ، يا أحمد؛ قلت : لبيك ، قال :

انه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) جهد الناس في اطفاء نور الله ، فأبي الله الا أن يتم نوره بأميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

فلما توفي أبوالحسن (عليه‌السلام) (الامام موسي بن جعفر) جهد علي ابن أبي‌حمزة وأصحابه في اطفاء نور الله ، فأبي الله الا أن يتم نوره ، وان أهل الحق

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٥٠ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ٢٥٧.

(٢) ظ : الشيخ الصدوق / عيون أخبار الرضا ٢ / ٢١٦ ، البحار ٤٨ / ٢٦٠.

(٣) ظ : الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا ٢ / ٢١٦ ، البحار ٤٨ / ٢٦٠.

١٣٥

اذا دخل عليهم داخل سروا به ، واذا خرج عنهم خارج لم يجزعوا عليه ، وذلك أنهم علي يقين من أمرهم ، وان أهل الباطل اذا دخل فيهم داخل سروا به ، واذا خرج عنهم خارج جزعوا عليه ، وذلك أنهم علي شك من أمرهم ، ان الله جل جلاله يقول : (... فمستقر ومستودع ...) (١).

قال : ثم قال أبوعبدالله (عليه‌السلام) : المستقر الثابت ، والمستودع المعار» (٢) ولما صرح الحق عن وجهه ، انتهي أمر هذه الفرقة ، وذهبت أدراج الرياح ، وكأنها لم تكن.

ولئن انشقت فرق الشيعة من الداخل ، فقد انشق المسلمون من الخارج ، فوفدت عليهم الرياح الصفراء يحملها الأعاجم في كثير من الضغط علي النفوس الضعيفة والأحلام الطائشة ، وقد استأثرت الشعوبية بطائفة منهم ، واستقطبت المزدكية والزرادشتية والمانوية جيلا من الناس ، وأسفرت حركات الالحاد والزندقة عن اتباع وسائرين بالركاب ، وقد شاء أربابها تزيين مبادئهم بشعارات براقة لم تظهر حتي اختفت ، ولكنها أثرت في الحياة الفعلية ايما تأثير ، ولكنها عاشت في أوهام العقول ولم تبلغ الأفئدة ، وقد وقف منها المسلمون موقف المناضل المستميت ، وكان الدور الأكبر للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بارز السمات والآثار ، فرفضها المجتمع المسلم ، وعادت ادعاءاتها باهتة الألوان ، فما استقرت حتي تبددت ، وما اجتمعت حتي تفرقت.

ولئن أتاح المناخ السياسي لهذه المبادي‌ء الوافدة أن تتطاول ، فقد أتاحت قيادة أهل البيت الفرصة للعمل علي الاطاحة بها ، كما ستشاهد هذا في المبحث الآتي.

__________________

(١) سورة الأنعام / ٩٨.

(٢) الكشي / الرجال / ٢٧٨ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٦١.

١٣٦

الامام في خضم التيار الكلامي

واستبق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خطا المتكلمين ، وبادر الي الدفاع عن التوحيد ، وأبطل شبهات الانحراف ، وحمل الفكر علي المحجة البيضاء ، كما حدب علي ايصال المفردات الرائدة الي الذهن الانساني بيسر وسماح من خلال ذلك الوهج اللماع لاستلهام الحقائق ناصعة مجردة. فللامام رسالة في التوحيد بلغ بها الذروة في الحديث عن الخالق وصفاته ، وتنزيه الباري‌ء المصور من كل المقولات الضالة ، وافتقار الناس اليه تعالي واستغناؤه عن الخلق ، بما يعتبر سجلا حافلا بأصول التوحيد ، وهو بمعطياته لا نظير له في تأريخ حضارة الانسان.

بدأ الامام (عليه‌السلام) في هذه الرسالة : بحمد الله الدال علي وجوده بمخلوقاته ، والمستشهد بآياته علي قدرته.

وذهب الامام أن صفات الله عين ذاته ، فلا يحاط بحد ، بصير لا بأداة ، سميع لا بآلة ، لا تدركه العقول لقصورها عن ذلك ، وهو في غاية الظهور لتجرده عن الحجب ، الديانة معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، الي آخر ما

١٣٧

أبان (عليه‌السلام) ؛ وان من كمال البحث العقلي اثبات نص هذه الرسالة.

قال الامام (عليه‌السلام) : «الحمد لله الملهم عباده حمده ، وفاطرهم علي معرفة ربوبيته ، الدال علي وجوده بخلقه ، المستشهد بآياته علي قدرته ، الممتنعة من الصفات ذاته ، ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الاحاطة به ، لا أمد لكونه ، ولا غاية لبقائه ، لا تشمله المشاعر ، ولا تحجبه الحجب ، والحجاب بينه وبين خلقه بأخلقه اياهم ، لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ، ولا مكان مما يمتنع منه ، ولافتراق الصانع من المصنوع ، والحاد من المحدود ، والرب من المربوب ، والواحد بلا تأويل عدد ، والخالق لا بمعني حركة ، والبصير لا بأداة ، والسميع لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة ، والباطن باجتنان ، والظاهر البائن لا بتراخي مسافة ، أزلة نهي لمجاول الأفكار ، ودوامه ردع لطامحات العقول ، قد حسر كنهه نوافذ الأبصار ، وقمح وجوده جوائل الأوهام.

أول الديانة به معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، وكمال توحيده نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة ، وشهادتهما جميعا بالتثنية.

الممتنع من الأزل ، فمن وصف الله فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال : كيف؟ فقد استوصفه ، ومن قال : فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال : علي م؟ فقد جهله ، ومن قال : أين؟ فقد أخلي منه ، ومن قال : ما هو؟ فقد نعته ، ومن قال : الي م؟ فقد غاياه ، عالم اذ لا معلوم ، وخالق اذ لا مخلوق ، ورب اذ لا مربوب ، وكذلك يوصف ربنا ، وفوق ما يصفه الواصفون» (١).

ولا أعلم وثيقة توحيدية نابضة كهذه الوثيقة في أدلتها وايجازها

__________________

(١) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٣٩ ـ ١٤٠.

١٣٨

وبلاغتها ، الا أن تكون لأميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) وأولاده المعصومين ، فموردهم واحد ، ورافدهم واحد.

وفي مجال التجسيد ، دحض الامام الأقوال بالحركة ، ونزه الباري عزوجل عن الانتقال والتخطي ، لأن ذلك وصف للمتحرك ، والمتحرك لا يكون بمكانين في آن واحد ، والله تعالي فوق الزمان والمكان ، وهو علي سواء في القرب والبعد ، فلا يحد بمكان ، ولا يتحرك بجوارح ، ولا يتحدث بفم. قال الامام (عليه‌السلام) : «لا أقول انه قائم فأزيله عن مكانه ، ولا أحده بمكان يكون فيه ، ولا أحده أن يتحرك في شي‌ء من الأركان والجوارح ، ولا أحده بلفظ شق فم ، ولكن كما قال تعالي : (... كن فيكون) (١) بمشيئته من غير تردد في نفس ، صمدا فردا ، لم يحتج الي شريك يذكر له ملكه ، ولا يفتح له أبواب عمله» (٢).

وفي السياق نفسه نفي الامام نزول الله فيما تزعم بعض المرويات ، ونفي احتياجه للنزول ، فكل شي‌ء محتاج اليه ، وهو ليس بحاجة الي شي‌ء.

قال الامام (عليه‌السلام) :

«ان الله لا ينزل ، ولا يحتاج أن ينزل ، انما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج الي شي‌ء بل يحتاج اليه ، وهو ذو الطول لا اله الا هو العزيز الحكيم» (٣).

ثم دعم الامام هذا الرأي بالدليل العقلي ، فان النزول دليل الحركة ، والمتحرك له من يحركه ، وذلك من المحدثات ، والله تعالي هو الأزلي القديم. قال الامام (عليه‌السلام) :

_________________

(١) سورة ياسين / ٨٢.

(٢) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٢٥.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ١٢٥.

١٣٩

«أما قول الواصفين : انه ينزل تبارك وتعالي ، فانما يقول بذلك من ينسبه الي نقص أو زيادة ، وكل متحرك يحتاج الي من يحركه أو يتحرك به ، فمن ظن بالله الظنون فقد هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له علي حد تحدونه بنقص ، أو زيادة ، أو تحريك ، أو تحرك ، أو زوال ، أو استنزال ، أو نهوض ، أو قعود ، فان الله جل وعز عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وتوهم المتوهمين» (١).

وكما نفي الامام الحركة وأبطلها ، فقد نفي القول بالجسم والصورة والمثلية.

قال الامام : «سبحان من ليس كمثله شي‌ء ، لا جسم ولا صورة» (٢).

وعرض علي الامام قول أهل التجسيم فيما نصه :

«ان الله جسم ليس كمثله شي‌ء ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ، متكلم ، ناطق ، والكلام والقدرة والعمل تجري مجري واحدا ، ليس شي‌ء منها مخلوقا».

فرد الامام هذه المزاعم الفجة ، وحمل علي قائلها ، بقوله : «قاتله الله ، أما علم أن الجسم محدود ، والكلام غير المتكلم ، معاذ الله!! وأبرأ الي الله من هذا القول. لا جسم ، ولا صورة ، ولا تحديد ، وكل شي‌ء سواه مخلوق. انما تكون الأشياء بارادته ومشيئته من غير كلام ، ولا تردد نفس ، ولا نطق لسان» (٣).

ان هذا المنطق الفياض بروائعه الكلامية ينطلق من معرفة خارقة بحقائق الأشياء ، ومن نفس أثيرة غمرها الايمان ، فنظرت في صفات الباري بعين البصيرة ، وكانت الأدلة البرهانية تتقاطر معها كالسيل اذا انحدر ، لذلك كان

__________________

(١) الكليني / الكافي ١ / ١٢٥.

(٢) المصدر نفسه ١ / ١٠٤.

(٣) المصدر نفسه ١ / ١٠٦.

١٤٠