اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقول لبيد : [الرمل]

٥٢٧٧ ـ فمتى ينقع صراخ صادق (١)

أي : فهيجن في المغار عليهم صياحا وجلبة.

وقال أبو عبيد : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم ، انتهى. فعلى هذا تكون الباء بمعنى «في» ويعود الضمير على المكان الذي فيه الإغارة ، كما تقدم.

وقال الكسائيّ : قوله : «نقع ولا لقلقة» النّقع : صنعة الطعام ، يعني في المأتم يقال منه : نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد : ذهب بالنقع إلى النقيعة ، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء : صنعة الطعام عند القدوم من سفر ، لا في المأتم.

وقال بعضهم : يريد عمرو بالنقع وضع التراب على الرأس فذهب إلى أن النقع هو التراب.

قال القرطبي (٢) : ولا أحسب عمرا ذهب إلى هذا ، ولا خافه منهن ، وكيف يبلغ خوفه ذا ، وهو يكره لهن القيام ، فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس.

قال بعضهم : النّقع : شق الجيوب قال : وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه ، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد ، وأما اللّقلقة : فشدة الصوت ، ولم أسمع فيه اختلافا.

[قال محمد بن كعب القرظي : النقع بين «مزدلفة» إلى «منى» (٣).

وقيل : إنه طريق الوادي ، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع.

وفي «الصحاح» (٤) النقع الغبار ، والجمع : النقاع والنقع محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه.

وفي الحديث أنه نهى أن يمنع نقع (٥) البئر.

__________________

ـ عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة» وفي رواية ابن سعد قال وكيع : النقع الشق ، واللقلقة الصوت. وقال بعضهم : رفع التراب على الرأس وشق الجيوب. وأما اللقلقة فهي شدة الصوت ولم أسمع فيه خلافا وقال الحربي عن الأصمعي النقع الصياح. وعن أبي سلمة هو وضع التراب على الرأس.

(١) تقدم.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٠٨.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٨) ، عن محمد بن كعب القرطبي.

(٤) ينظر الصحاح ٣ / ١٢٩٢.

(٥) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٨٢٨) ، كتاب : الرهون ، باب : النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ حديث (٢٤٧٩) ، من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر.

٤٦١

والنقع : الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء ، والجمع : نقاع وأنقع ، مثل : بحار وبحر وأبحر](١).

قوله : (فَوَسَطْنَ). العامة على تخفيف السين.

وفي الهاء في «به» أوجه :

أحدها : أنها للصبح.

والثاني : أنها للنّقع ، أي : وسطن النقع الجمع ، أي : جعلن الغبار وسط الجمع.

والباء للتعدية ، وعلى الأول هي ظرفية.

الثالث : الباء للحالية ، أي فتوسطن ملتبسا بالنقع ، أي : بالغبار ، جمعا من جموع الأعداء.

وقيل : الباء مزيدة نقله أبو (٢) البقاء.

و «جمعا» على هذه الأوجه : مفعول به.

الرابع : أن المراد ب «جمع» «المزدلفة» وهي تسمى جمعا ، والمراد : أن الإبل تتوسط جمعا

الذي هو «المزدلفة» ، كما مرّ عن أمير المؤمنين فالمراد بالجمع مكان ، لا جماعة الناس ، كقول صفية : [الوافر]

٥٢٧٨ ـ فلا والعاديات غداة جمع (٣)

وقول بشر بن أبي خازم : [الكامل]

٥٢٧٩ ـ فوسطن جمعهم وأفلت حاجب

تحت العجاجة في الغبار الأقتم (٤)

و «جمعا» على هذا منصوب على الظرف ، وعلى هذا فيكون الضمير في «به» إما للوقت أي في وقت الصبح ، وإما للنقع ، وتكون الباء للحال ، أي : ملتبسات بالنقع ، إلا أنه يشكل نصب الظرف المختص إذ كان حقه أن يتعدى إليه ب «في».

وقال أبو البقاء (٥) : إن «جمعا» حال ، وسبقه إليه مكي. وفيه بعد ؛ إذ المعنى على أن الخيل توسطت جمع الناس.

وقرأ علي ، وزيد (٦) بن علي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى : بتشديد السين ، وهما لغتان بمعنى واحد.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر الإملاء ٢ / ٢٩٢.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر المفضليات ٦٨٢ ، والجمهرة (٤٠٢) ، والبحر ٨ / ٥١ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٠.

(٥) الإملاء ٢ / ٢٩٢.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٠.

٤٦٢

وقال الزمخشري (١) : «التشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتأكيد ، كقوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥] وهي مبالغة في وسطن» انتهى.

وقوله : «وهي مبالغة» تناقض قوله أولا للتعدية ، لأن التشديد للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولا آخر ، تقول : «ذبحت الغنم» مخففا ، ثم تبالغ فتقول : «ذبّحتها» ـ مثقلا ـ وهذا على رأيه قد جعله متعديا بنفسه ، بدليل جعله الباء مزيدة ، فلا تكون للمبالغة.

فصل في معنى الآية

المعنى : فوسطن بركبانهن العدو ، أي : الجمع الذين أغاروا عليهم.

وقال ابن مسعود : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) يعني «مزدلفة» ، وسميت جمعا لاجتماع الناس فيها (٢).

ويقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : صرت وسطهم ، وقد أكثر الناس في وصف الخيل وهذا الذي ذكره الله أحسن.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود في نواصيها الخير» (٣). وقال أيضا : «ظهرها حرز وبطنها كنز».

ويروى أن بنت امرىء القيس أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، هل أنزل عليك ربّك كلاما في صفة الخيل كلاما أفصح مما قاله جدّي؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «وما قال جدّك»؟ قالت : [الطويل]

٥٢٨٠ ـ مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل (٤)

فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) الآيات فأسلمت.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٨)

قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). هذا هو المقسم عليه ، و «لربّه» متعلق بالخبر ، وقدم الفواصل ، والكنود : الجحود.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٨٧.

(٢) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٢٥).

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ينظر ديوان امرىء القيس ص ١٩ ، وإصلاح المنطق ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٩٧ ، ٣ / ٢٤٢ ، ٣٤٣ ، والدرر ٣ / ١١٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥١ ، والشعر والشعراء ١ / ١١٦ ، والكتاب ٤ / ٢٢٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٤٩ ، ورصف المباني ص ٣٢٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٢٣ ، وشرح شذور الذهب ص ١٤٠ ، ومغني اللبيب ١ / ١٥٤ ، والمقرب ١ / ٢١٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٠.

٤٦٣

وقيل : الكفور لنعمه ؛ وأنشد : [الطويل]

٥٢٨١ ـ كنود لنعماء الرّجال ومن يكن

كنودا لنعماء الرّجال يبعّد (١)

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو بلسان «كندة» و «حضرموت» : العاصي ، وبلسان «ربيعة» و «مضر» : الكفور ، وبلسان «كنانة» : البخيل (٢).

وأنشد أبو زيد : [الخفيف]

٥٢٨٢ ـ إن تفتني فلم أطب عنك نفسا

عير أنّي أمسي بدهر كنود (٣)

وقيل : لسان الجاحد للحق. وقيل : إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها.

وقيل : الكنود : من كند إذا قطع ، كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر ، ويقال : كند الخيل : إذا قطع ؛ قال الأعشى : [المتقارب]

٥٢٨٣ ـ يعطي عطاء بصلب الفؤاد

وصول حبال وكنّادها (٤)

فهذا يدل على القطع ، ويقال : كند يكند كنودا ، أي : كفر النعمة وجحدها ، فهو كنود ، وامرأة كنود أيضا ، وكند مثله ؛ قال الأعشى : [الكامل]

٥٢٨٤ ـ أحدث لها تحدث لوصلك إنّها

كند لوصل الزّائر المعتاد (٥)

أي : كفور للمواصلة ، وروى أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكنود : هو الّذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده» خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول (٦). وقال الحسن : الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصيبات ، وينسى النعم

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٦٠ ، والبحر ٨٠ / ٥٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٠.

(٢) أخرج الشطر الأول منه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٧٢) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٣) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

(٣) ينظر البحر ٨ / ٥٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٠ ، وفتح القدير ٥ / ٤٨٣.

(٤) رواية الديوان :

أميطي تميطي بصلب الفؤاد

ينظر ديوان الأعشى ص ٥٨ ، والقرطبي ٢٠ / ١٠٩ ، واللسان (كند).

(٥) ينظر ديوان الأعشى ص ٥٠ ، ومجمع البيان ١٠ / ٩٢ ، والقرطبي ٢٠ / ١٠٩.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٧٢) ، والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٥) ، من حديث أبي أمامة مرفوعا. وقال الهيثمي : رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما جعفر بن الزبير وهو ضعيف وفي الآخر من لم أعرفه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٤) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف. وقد ورد هذا الحديث موقوفا على أبي أمامة أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٧٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٤) ، وعزاه إلى البخاري في «الأدب» وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن مردويه عنه موقوفا.

٤٦٤

والراحات ، وهو كقوله تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ).

واعلم أن الكنود لا يخرج عن أن يكون كفرا أو فسقا ، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس ، فلا بد من صرفه إلى كافر معين ، وإن حملناه على الكل فالمعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه.

قال ابن عباس : الإنسان هنا الكافر ، يقول : إنه لكفور ، ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا (١). وقال الضحاك : نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال أبو بكر الواسطي : الكنود : الذي ينفق نعم الله في معاصي الله.

وقال ذو النون المصري : الهلوع والكنود : هو الذي إذا مسه الشرّ جزوع ، وإذا مسّه الخير منوع. وقيل : هو الحسود الحقود.

قال القرطبي (٢) : «هذه الأقوال كلّها ترجع إلى معنى الكفران والجحود».

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي ، لقوله : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) ولا يليق إلا بالكافر المنكر لذلك (٣).

قوله : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ). أي : وإن الله ـ تعالى ـ على ذلك من ابن آدم لشهيد ، قاله ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين (٤).

وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب : «وإنّه» أي : وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع كقوله تعالى بعد ذلك : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٥).

والأول أولى ؛ لأنه كالوعيد والزجر له عن المعاصي.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ). اللام متعلقة ب «شديد» وفيه وجهان :

أحدهما : أنها المعدية ، والمعنى : وإنه لقوي مطيق لحب الخير أي : المال ، يقال : هو شديد لهذا الأمر ، أي : مطيق له ، ويقال : لشديد ، أي : بخيل ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدّد ؛ قال طرفة : [الطويل]

٥٢٨٥ ـ أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد (٦)

يقال : اعتامه واعتماه : أي : اختاره ، والفاحش : البخيل أيضا ؛ قال تعالى : (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٨] أي : البخل.

__________________

(١) تقدم تخريجه عن ابن عباس.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١١٠.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ٦٤) ، عن ابن عباس.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣٠ / ١١٠).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر ديوانه ص ٣٤ ، وابن الشجري ١ / ١١١ ، والكشاف ٤ / ٧٨٨ ، والكامل ١ / ٣٦٠ ، والطبري ٣ / ١٨٠ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٠٥ ، والبحر ٨ / ٥٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٦١.

٤٦٥

قال ابن زيد : سمى الله المال خيرا ، وعسى أن يكون شرا وخيرا ، ولكن الناس يعدونه خيرا ، فسماه الله تعالى خيرا لذلك ، قال تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] وسمى الجهاد سوءا ، فقال : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] على ما يسميه الناس (١).

الثاني : أن «اللام» للعلة ، أي : وإنه لأجل حبّ المال لبخيل.

وقيل : «اللام» بمعنى «على».

وقال الفراء : أصل نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير ، فلما قدم الحب قال : «لشديد» وحذف من آخره ذكر الحب ؛ لأنه قد جرى ذكره ، لرءوس الآي ، كقوله تعالى : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] والعصوف : للريح لا للأيام ، فلما جرى ذكر الرّيح قبل اليوم ، طرح من آخره ذكر الريح ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح.

قوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

قوله : (أَفَلا يَعْلَمُ). لما عد عليه قبائح أفعاله خوّفه ، فقال : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ).

العامل في «إذا» أوجه :

أحدها : «بعثر» نقله مكيّ عن المبرّد. وتقدم تحريره في السورة قبلها.

قال القرطبيّ (٢) : العامل في «إذا» : «بعثر» ولا يعمل فيه «يعلم» إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت ؛ إنما يراد في الدنيا ، ولا يعمل فيه «خبير» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها ، والعامل في «يومئذ» : «خبير» وإن فصل اللام بينهما ؛ لأن موضع اللام الابتداء ، وإنما دخلت في الخبر لدخول «إن» على المبتدأ.

والثاني : ما دل عليه خبر «إن» ، أي : إذا بعثر جوزوا.

والثالث : أنه «يعلم» ، وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء (٣) ، وردّه مكي ، قال : «لأن الإنسان لا يراد منه العلم والاعتبار ذلك الوقت ، وإنما يعتبر في الدنيا ويعلم».

قال أبو حيان (٤) : «وليس بمتضح ، لأن المعنى : أفلا يعلم الآن».

وكان قال قبل ذلك : «ومفعول «يعلم» محذوف ، وهو العامل في الظرف ؛ أي : أفلا يعلم ما مآله إذا بعثر» انتهى.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣٠ / ١١٠).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١١١.

(٣) الإملاء ٢ / ٢٩٢.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٥٠٢.

٤٦٦

فجعلها متعدية في ظاهر قوله إلى واحد ، وعلى هذا فقد يقال : إنها عاملة في «إذا» على سبيل أن «إذا» مفعول به لا ظرف ؛ إذ التقدير : أفلا يعرف وقت بعثرة القبور ، يعني أن يقر بالبعث ووقته ، و «إذا» قد تصرفت وخرجت عن الظرفية ، ولذلك شواهد تقدم ذكرها.

الرابع : أن العامل فيها محذوف ، وهو مفعول «يعلم» ، كما تقدم.

وقرأ العامة : «بعثر» ـ بالعين ـ مبنيّا للمفعول ، والموصول قائم مقام الفاعل.

وابن مسعود (١) : بالحاء.

قال الفرّاء : سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ «بحثر» بالحاء وحكاه الماوردي عن ابن مسعود.

وقرأ الأسود (٢) بن زيد ومحمد بن معدان : «بحث» من البحث.

وقرأ نصر بن عاصم (٣) : «بعثر» مبنيا للفاعل ، وهو الله أو الملك.

فصل في معنى الآية

المعنى (أَفَلا يَعْلَمُ) ، أي : ابن آدم (إِذا بُعْثِرَ) أي : أثير وقلب وبحث ، فأخرج ما فيها.

قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع ، جعلت أسفله أعلاه.

قال محمد بن كعب : ذلك حين يبعثون (٤).

فإن قيل : لم قال : (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) ولم يقل : من في القبور؟ ثم إنه ـ تعالى ـ لما قال : (ما فِي الْقُبُورِ) فلم قال : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.

فالجواب عن الأول : أن ما في الأرض غير المكلفين أكثر ، فأخرج الكلام على الأغلب ، أو أنهم حال ما يبعثرون لا يكونون أحياء عقلاء ، بل يصيرون كذلك بعد البعث ، فلذلك كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء ، والضمير الثاني ضمير العقلاء.

قوله : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) ، قرأ العامة : «حصّل» مبنيّا للفاعل وروي عن ابن عمر ، وعبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ونصر أيضا «حصل» (٥) خفيف الصاد مبنيا للفاعل بمعنى جميع ما في الصحف محصلا ، والتحصيل : جمع الشيء ، والحصول : اجتماعه ، والاسم : الحصيلة.

قال لبيد : [الطويل]

٥٢٨٩ ـ وكلّ امرىء يوما سيعلم سعيه

إذا حصّلت عند الإله الحواصل (٦)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٦١.

(٢) ينظر السابق.

(٣) السابق.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ٣٠ / ١١١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٦١.

(٦) ينظر ديوان لبيد ص ١٣٢ ، واللسان (حصل) ، والفخر الرازي ٣٢ / ٦٨.

٤٦٧

والتحصيل : التمييز ، ومنه قيل للمنخل : محصل ، وحصل الشيء ـ مخففا ـ ظهر واستبان وعليه القراءة الأخيرة.

وقال المفسرون : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) اي : ميز ما فيها من خير وشر ، وقال ابن عباس : أبرز. قال ابن الخطيب (١) : وخص أعمال القلوب بالذكر دون أعمال الجوارح ؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ؛ لأنه لو لا البواعث والإرادات ، لما حصلت أعمال الجوارح.

قوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ). العامة : على كسر الهمزة لوجود اللام في خبرها ، والظاهر أنها معلقة ل «يعلم» فهي في محل نصب ، ولكن لا يعمل في «إذا» خبرها ، لما تقدم ، بل يقدر له عامل من معناه كما تقدم. ويدل على أنها معلقة للعلم ، لا مستأنفة. وقراءة أبي السمال (٢) وغيره : «أن ربهم بهم يومئذ خبير» ، بالفتح وإسقاط اللام ، فإنها في هذه القراءة سادة مسد مفعولها.

ويحكى عن الحجاج ـ الخبيث الروح ـ أنه لما فتح همزة «أن» استدرك على نفسه ، وتعمد سقوط اللام ، وهذا إن صح كفر ، ولا يقال : إنها قراءة ثابتة ، كما نقل عن أبي السمّال فلا يكفر ، لأنه لو قرأها كذلك ناقلا لها لم يمنع منه ، ولكنه أسقط اللام عمدا إصلاحا للسانه ، واجتمعت الأمة على أن من زاد حرفا ، أو نقص حرفا في القرآن عمدا فهو كافر.

قال شهاب الدين (٣) : وإنما قلت ذلك لأني رأيت أبا حيّان قال (٤) : وقرأ أبو السمال والحجاج ، ولا يحفظ عن الحجاج إلا هذا الأثر السوء ، والناس ينقلونه عنه كذلك ، وهو أقل من أن ينقل عنه.

«ربهم ، ويومئذ» متعلقان بالخبر ، واللام غير مانعة من ذلك ، وقدما لأجل الفاصلة ، ومعنى «خبير» ، أي : عالم لا يخفى عليه منهم خافية ، وهو عالم بهم في ذلك اليوم ، وفي غيره ، ولكن المعنى : أنه يجازيهم في ذلك اليوم.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالْعادِياتِ) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة ، وشهد جمعا» (٥) ، والله أعلم وهو حزبي.

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٢ / ٦٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٦١.

(٣) الدر المصون ٦ / ٥٦١ ـ ٥٦٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٠٢.

(٥) رواه الثعلبي والواحدي في «الوسيط» وابن مردويه كما في تخريج الكشاف للزيلعي (٤ / ٢٦٧) ، وهو حديث موضوع ، تقدم الكلام عليه مرارا.

٤٦٨

سورة القارعة

مكية ، وهي إحدى عشرة آية ، وست وثلاثون كلمة ، ومائة واثنان وخمسون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)(٥)

قوله تعالى : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢] ، وكقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] ، وقد تقدم ما نقله مكي من أنه يجوز رفع «القارعة» بفعل مضمر ناصب ل «يوم».

وقيل : ستأتيكم القارعة.

وقيل : القارعة : مبتدأ وما بعده الخبر.

وقيل : معنى الكلام على التحذير.

قال الزجاج : والعرب تحذر ، وتغري بالرفع كالنصب ، وأنشد : [الخفيف]

٥٢٨٧ ـ لجديرون بالوفاء إذا قا

ل أخو النّجدة : السّلاح السّلاح (١)

وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ١٣] ، فيمن رفعه ، ويدل على ذلك قراءة عيسى (٢) : «القارعة ما القارعة» بالنصب ، بإضمار فعل ، أي : احذروا القارعة و «ما» زائدة ، و «القارعة» تأكيد للأولى تأكيدا لفظيّا.

والقرع : الضرب بشدة واعتماد. والمراد بالقارعة : القيامة ، لأنها تقرع الخلائق بأهوالها ، وأفزاعها.

وأهل اللغة يقولون : تقول العرب : قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم

__________________

(١) ينظر الخصائص ٣ / ١٠٢ ، والدرر ٣ / ١١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٨٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٦ ، والهمع ١ / ١٧٠ ، والبحر ٨ / ٥٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٣.

٤٦٩

أمر فظيع ، قال تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) [الرعد : ٣١] ، وهي الشديدة من شدائد الدّهر.

قوله تعالى : (مَا الْقارِعَةُ) استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها ، كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) ، واختلفوا في سبب تسمية القيامة بالقارعة ، فقيل : المراد بالقارعة : الصيحة التي يموت منها الخلائق ؛ لأنها تقرع أسماعهم.

وقيل : إنّ الأجرام العلوية والسفلية يصطكّان ، فيموت العالم بسبب تلك القرعة ، فلذلك سميت بالقارعة ، [وقيل : تقرع الناس بالأهوال كانشقاق السموات ، وأقطارها وتكوير الشمس ، وانتثار الكواكب ، ودك الجبال ونسفها ، وطي الأرض. وقيل : لأنها تقرع أعداء الله بالعذاب](١) ، وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ، أي : لا علم لك بكنهها ؛ لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ، وعلى هذا يكون آخر السورة مطابقا لأولها.

فإن قيل : هاهنا قال : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ، ثم قال في آخر السورة : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) ، ولم يقل : وما أدراك ما هاوية؟

فالجواب : الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس ، وكونها هاوية ليس كذلك ، فظهر الفرق.

قوله : (يَوْمَ يَكُونُ). في ناصب «يوم» أوجه :

أحدها : مضمر يدلّ عليه القارعة ، أي : تقرعهم يوم يكون وقيل : تقديره : تأتي القارعة يوم.

الثاني : أنه اذكر مقدرا ، فهو مفعول به لا ظرف.

الثالث : أنه «القارعة» قاله ابن (٢) عطية ، وأبو البقاء (٣) ، ومكيّ.

قال أبو حيان (٤) : فإن كان عنى ابن عطيّة اللفظ الأول ، فلا يجوز ، للفصل بين العاملين وهو في صلة «أل» والمعمول بأجنبي ، وهو الخبر ، وإن جعل القارعة علما للقيامة ، فلا يعمل أيضا ، وإن عنى الثاني والثالث ، فلا يلتئم معنى الظرفية معه.

الرابع : أنه فعل مقدر رافع للقارعة الأولى ، كأنه قيل : تأتي القارعة يوم يكون. قاله مكي. وعلى هذا يكون ما بينهما اعتراضا ، وهو بعيد جدا منافر لنظم الكلام. وقرأ زيد (٥) بن علي : «يوم» بالرفع ، خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : وقتها يوم.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) المحرر الوجيز ٥ / ٥١٦.

(٣) الإملاء ٢ / ٢٩٣.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٥٠٤.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٤.

٤٧٠

قوله : «كالفراش». يجوز أن يكون خبرا للناقصة ، وأن يكون حالا من فاعل التامة ، أي : يؤخذون ويحشرون شبه الفراش ، وهو طائر معروف.

وقال قتادة : الفراش : الطّير الذي يتساقط في النار والسراج ، الواحدة : فراشة.

وقال الفراء : هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما ، وبه يضرب المثل في الطّيش والهوج ، يقال : أطيش من فراشة ؛ وأنشد : [البسيط]

٥٢٨٨ ـ فراشة الحلم فرعون العذاب وإن

يطلب نداه فكلب دونه كلب (١)

وقال آخر : [الطويل]

٥٢٨٩ ـ وقد كان أقوام رددت قلوبهم

عليهم وكانوا كالفراش من الجهل (٢)

وقال آخر : [الرجز]

٥٢٩٠ ـ طويّش من نفر أطياش

أطيش من طائرة الفراش (٣)

والفراشة : الماء القليل في الإناء وفراشة القفل لشبهها بالفراشة ، وروى «مسلم» عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبّهنّ عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النّار ، وأنتم تفلتون من يدي» (٤).

في تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتّى : منها الطيش الذي يلحقهم ، وانتشارهم في الأرض ، وركوب بعضهم بعضا ، والكثرة ، والضعف ، والذلة والمجيء من غير ذهاب ، والقصد إلى الداعي من كل جهة ، والتطاير إلى النار ؛ قال جرير : [الكامل]

٥٢٩١ ـ إنّ الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش غشين نار المصطلي (٥)

والمبثوث : المتفرق ، وقال تعالى في موضع آخر : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧].

فأول حالهم كالفراش لا وجه له يتحير في كل وجه ، ثم يكون كالجراد ، لأن لها وجها تقصده والمبثوث : المتفرق المنتشر ، وإنما ذكر على اللفظ كقوله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٥].

__________________

(١) نسب البيت إلى الضحاك بن سعد ، ولسعيد بن العاصي. ينظر الحيوان ١ / ٢٥٧ ، وديوان المعاني ١ / ١٩٦ ، والدرر ٥ / ٢٩٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٦٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠١.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ١١٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٤.

(٣) ينظر القرطبي ٢٠ / ١١٢.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ١٧٩٨). وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (١١ / ٣١٦) ، كتاب الرقاق ، باب : الانتهاء عن المعاصي حديث (٦٤٨٣) ، ومسلم (٤ / ١٧٨٩) ، كتاب الفضائل ، باب : شفقتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته رقم (١٨ / ٢٢٨٤).

(٥) ينظر ديوانه (٣٣٧) ، والكشاف ٤ / ٧٨٩ ، والبحر ٨ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٦٥٤.

٤٧١

قال ابن عباس : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) كغوغاء الجراد ، يركب بعضها بعضا ، كذلك الناس ، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا (١).

فإن قيل كيف يشبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معا ، لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟.

فالجواب : أما التشبيه بالفرش ، فبذهاب كل واحد إلى جهة الآخر ، وأما التشبيه بالجراد ، فبالكثرة والتتابع ، ويكون كبارا ، ثم يكون صغارا.

قوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). أي : الصوف الذي ينفش باليد ، أي : تصير هباء وتزول ، كقوله تعالى : (هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٦].

قال أهل اللغة : العهن : الصوف المصبوغ. وقد تقدم.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) سوف

قوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). في الموازين قولان :

أحدهما : أنه جمع موزون ، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى ، وهذا قول الفراء ، ونظيره قولك : له عندي درهم بميزان درهمك ، ووزن درهمك ، ويقولون : داري بميزان دارك ووزن دارك ، أي : حذاؤها.

والثاني : قال ابن عباس : جمع ميزان لها لسان وكفتان يوزن فيه الأعمال (٢).

[وقد تقدم القول في الميزان في سورة «الأعراف» و «الكهف» و «الأنبياء» ، وأنه له كفة ولسان يوزن فيها الصحف المكتوب فيها الحسنات ، والسيئات.

ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل عليه‌السلام يزن به أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجمع.

وقيل : موازين لكل حادثة ميزان](٣).

وقيل : الموازين : الحجج والدلائل ، قاله عبد العزيز بن يحيى.

واستشهد بقول الشاعر : [الكامل]

٥٢٩٢ ـ قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه (٤)

ومعنى (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، أي : عيش مرضي ، يرضاه صاحبه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٣) ، عن ابن عباس.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : القرطبي ٢٠ / ١١٣.

٤٧٢

وقيل : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، أي : فاعلة للرضا ، وهو اللين والانقياد لأهلها ، فالفعل للعيشة ؛ لأنها أعطت الرضا من نفسها ، وهو اللين والانقياد.

فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة ، فهي فاعلة للرضا كالفرس المرفوعة ، وارتفاعها مقدار مائة عام ، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها ، ثم ترتفع ، وكذلك فروع الشجرة تتدلى لارتفاعها للولي ، فإذا تناول من ثمرها ترتفع ، كقوله تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣] وحيثما مشى من مكان إلى مكان جرى معه نهر حيث شاء.

قوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) ، أي : رجحت سيئاته على حسناته ، قال مقاتل وابن حيان : إنما رجحت الحسنات ؛ لأن الحق ثقيل ، والباطل خفيف.

قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، أي : هالكة ، وهذا مثل يقولونه لمن هلك ، تقول : هوت أمه لأنه إذا هلك سقطت أمه ثكلا وحزنا ، وعليه قوله فهي هاوية ، أي : ثاكلة ، قال : [الطويل]

٥٢٩٣ ـ هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا

وماذا يؤدّي اللّيل حين يثوب (١)

فكأنه قال تعالى : من خفت موازينه فقد هلك.

وقيل : الهاوية من أسماء النار ، كأنها النار العميقة يهوي أهل النار فيها والمعنى : فمأواهم النار.

وقيل للمأوى : أم ، على سبيل التشبيه بالأم ، كما يأوي إلى أمه ، قاله ابن زيد.

ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [الكامل]

٥٢٩٤ ـ فالأرض معقلنا وكانت أمّنا

فيها مقابرنا وفيها نولد (٢)

ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار.

وقال عكرمة : لأنه يهوي فيها على أم رأسه (٣).

وذكر الأخفش والكلبي وقتادة : المهوى والمهواة ما بين الجبلين ، ونحو ذلك ، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في أثر بعض.

وقرأ طلحة (٤) : «فإمّه» بكسر الهمزة ، نقل ابن خالويه عن ابن دريد ، أنها لغة

__________________

(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي ينظر الأصمعيات ص ٩٥ ، والكشاف ٤ / ٧٨٩ ، واللسان (أمم ، هوى) ، والقرطبي ٢٠ / ١١٤ ، والبحر ٨ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٤.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ١١٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٧٧) ، عن قتادة وأبي صالح وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٥) ، عن عكرمة وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٤.

٤٧٣

النحويين لا يجيزون ذلك إلا إذا تقدمها كسرة أو ياء. وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «النساء».

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) ، الأصل : «ما هي» فدخلت الهاء للسكت.

وقرأ حمزة ، والكسائي (١) ، ويعقوب ، وابن محيصن : «ما هي» بغير هاء في الوصل ووقفوا بها ، وقد تقدم في سورة «الحاقّة». و «ما هي» مبتدأ وخبر ، سادّان مسد المفعولين ل «أدراك» ، وهو من التعليق ، وهي ضمير الهاوية ، إن كانت الهاوية ـ كما قيل ـ اسما لدركة من دركات النّار ، وإلا عادت إلى الداهية المفهومة من الهاوية.

قوله : (نارٌ حامِيَةٌ). «نار» خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي نار شديدة الحر.

روى مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ناركم هذه الّتي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنّم» ، قالوا : إنها لكافية يا رسول الله ، قال ـ عليه الصلاة والسلام : «فإنّها فضّلت عليها بتسعة وستّين جزءا كلّها مثل حرّها» (٢).

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (الْقارِعَةُ) ثقل الله موازينه يوم القيامة» والله أعلم (٣).

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٥٢٣ ، وحجة القراءات ٧٧٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥١٧.

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٩٤) ، كتاب جهنم ، باب : ما جاء في صفة جهنم رقم (١) ، والبخاري (٦ / ٣٨١) ، كتاب بدء الخلق ، باب : صفة النار وأنها مخلوقة رقم (٣٢٦٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٤) ، كتاب الجنة ، باب : في شدة حر نار جهنم رقم (٣٠ / ٢٨٤٣) ، من حديث أبي هريرة.

(٣) تقدم تخريجه.

٤٧٤

سورة التكاثر

مكية في قول الجميع ، وروى البخاري أنها مدنية (١) ، وهي ثماني آيات.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ، «ألهاكم» : شغلكم ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٢٩٥ ـ ..........

فألهيتها عن ذي تمائم محول (٢)

أي : شغلكم المباهاة ، بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتّى متم ودفنتم في المقابر.

قال ابن عباس والحسن : «ألهاكم» : أنساكم ، «التّكاثر» ، أي : من الأموال ، والأولاد (٣) قاله ابن عباس والحسن وقتادة أي : التّفاخر بالقبائل والعشائر ، وقال

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٢٥٨) ، كتاب الرقاق ، باب : ما يتقى من فتنة المال ... حديث (٦٤٤٠) ، من حديث أنس.

(٢) عجز بيت وصدره :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

ينظر : ديوانه (١٢) ، والأزهية ص ٢٤٤ ، والجنى الداني ص ٧٥ ، وجواهر الأدب ص ٦٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٣٤ ، والدرر ٤ / ١٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٥٠ ، وشرح شذور الذهب ص ٤١٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٠٢ ، ٤٦٣ ، والكتاب ٢ / ١٦٣ ، ولسان العرب ٨ / ١٢٦ ، ١٢٧ (رضع) ، ١١ / ٥١١ (غيل) ، والمقاصد النحويّة ٣ / ٣٣٦ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٧٣ ، ورصف المباني ص ٣٨٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧٢ ، ومغني اللبيب ١ / ١٣٦ ، ١٦١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٦ ، والقرطبي ٣٠ / ١١٥.

(٣) ذكره البخاري (٨ / ٦٠٠) ، تعليقا عن ابن عباس وقال الحافظ في «الفتح» (٨ / ٦٠٠) ، وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٩) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

٤٧٥

الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة ، يقال : لهيت عن كذا ـ بالكسر ـ ألهى لهيا ، ولهيانا : إذا سلوت عنه ، وتركت ذكره ، وأضربت عنه ، وألهاه : أي : شغله ، ولهاه به تلهية : أي: تملله والتكاثر : المكاثرة قال قتادة ومقاتل وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا.

وقال ابن زيد : نزلت في فخذ من الأنصار.

وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني سهم ، تعادوا وتكاثروا بالسادة ، والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم : نحن أكثر سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر عائذا ، فكثر بنو عبد مناف سهما ، ثم تكاثروا بالأموات ، فكثرتهم سهم ، فنزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بأحيائكم فلم ترضوا (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) مفتخرين بالأموات (١).

وعن عمرو بن دينار : حلف أن هذه السورة نزلت في التجار.

وعن شيبان عن قتادة ، قال : نزلت في أهل الكتاب (٢).

قال القرطبي (٣) : «والآية تعمّ جميع ما ذكر وغيره».

وروى ابن شهاب عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنّ لابن آدم واديا من ذهب ، لأحبّ أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلّا التّراب ، ويتوب الله على من تاب» ، رواه البخاري (٤).

قال ثابت عن أنس عن أبيّ : كنا نرى هذا من القرآن ، حتى نزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)(٥). رواه البخاري.

قال ابن العربي : وهذا نصّ صريح ، غاب عن أهل التفسير [فجهلوا وجهّلوا ، والحمد لله على المعرفة](٦).

وقرأ (٧) ابن عباس : «أألهاكم» على استفهام التقرير والإنكار ونقل في هذا المد مع

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١١٥) ، والرازي (٣٢ / ٧٣).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٩) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١١٥.

(٤) تقدم تخريجه من حديث ابن عباس وأنس.

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ٢٥٨) ، كتاب الرقاق : باب ما يتقى من فتنة المال حديث (٦٤٤٠).

(٦) سقط من : أ.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٥.

٤٧٦

التسهيل ، ونقل فيه بتحقيق الهمزتين من غير مد.

قوله تعالى : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ، «حتّى» غاية لقوله : «ألهاكم» ، وهو عطف عليه ، والمعنى : أي أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوارا ، ترجعون فيها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار.

وقيل : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) حتى عددتم الأموات.

وقيل : هذا وعيد ، أي : اشتغلتم بمفاخرة الدنيا حتى تزورا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله ـ عزوجل ـ و «المقابر» جمع مقبرة ، ومقبرة بفتح الباء وضمها والقبور : جمع قبر ، وسمي سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر ، وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا ؛ أي : دفنته ، وأقبرته ، أي : أمرت بأن يقبر.

فصل في معنى ألهاكم

قال المفسرون : معنى الآية : ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت فأنتم على ذلك.

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريبا ، والأموات ملازمون القبور ، فكيف يقال : إنه زار القبر؟.

وأيضا : فقوله ـ جل ذكره ـ : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل على المستقبل؟.

فالجواب عن الأول : أنّ سكان القبور ، لا بد أن ينصرفوا منها.

وعن الثاني : أن المراد من كان مشرفا على الموت لكبر أو لغيره كما يقال : إنه على شفير قبره وإما أن المراد من تقدمهم ، كقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) [البقرة : ٦١].

وقال أبو مسلم : إن الله يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار ، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.

فصل في ذكر المقابر

قال القرطبي (٢) : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة.

وفيه نظر ؛ لأنه تعالى قال في سورة أخرى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس : ٢١].

واعلم أن زيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ، لأنها تذكر الموت ، والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزّهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها.

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٢ / ٧٤.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١١٦.

٤٧٧

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، فإنّها تزهد في الدّنيا ، وتذكر الآخرة» (١).

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن زوّارات القبور (٢).

قال بعض أهل العلم : كان هذا قبل ترخيصه في زيارة القبور ، فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء.

وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنّساء ، لقلّة صبرهن ، وكثرة جزعهن.

وقال بعضهم : زيارة القبور للرجال متفق عليه ، وأما النّساء فمختلف فيه : أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك ، وجاز لجميعهن ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال بغير خلاف لعدم خشية الفتنة.

فصل في آداب زيارة القبور

ينبغي لمن زار القبور أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظّه منها إلا التّطواف فقط ، فإن هذه حالة يشاركه فيها البهائم ، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن ، والدعاء ، ويتجنب المشي على القبور ، والجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من تلقاء وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبته حيا ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه أنه كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم ، وتفرقت في القبور أجزاؤهم ، وترمّل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وأنّ حاله كحالهم ، ومآله كمآلهم.

[قوله تعالى : (كَلَّا) قال الفراء : أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر. والتمام على هذا (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي سوف تعلمون عاقبة هذا.

قوله تعالى : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) جعله ابن مالك من التوكيد مع توسّط حرف العطف](٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٦٧٢) ، كتاب الجنائز ، باب : استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه في زيارة قبر أمه (١٠٦ / ٩٧٧) ، من حديث بريدة بن الحصيب.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٣٣٧ ، ٣٥٦) ، والطيالسي (١ / ١٧١) ، رقم (٨١٧) ، والترمذي (١٠٥٦) ، وابن ماجه (١٥٧٦) ، وابن حبان في «صحيحه» رقم (٣١٧٥) ، والبيهقي (٤ / ٧٨) ، وأبو يعلى (١٠ / ٣١٤) ، رقم (٥٩٠٨) ، من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

(٣) سقط من : ب.

٤٧٨

وقال الزمخشريّ : والتكرير تأكيد للردع ، والرد عليهم ، و «ثمّ» دالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول ، وأشد كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك : «لا تفعل» انتهى.

ونقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الدنيا (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرر لحصول التّغاير بينهما ؛ لأجل تغاير المتعلقين (١) ، و «ثمّ» على بابها من المهلة وحذف متعلق العلم في الأفعال الثلاثة ، لأن الغرض الفعل لا متعلقه.

وقال الزمخشريّ (٢) : والمعنى : سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله ، انتهى. فقدر له مفعولا واحدا كأنه جعله بمعنى «عرف».

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينزل بكم من العذاب في القبور (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الآخرة إذا حل بكم العذاب ، فالتّكرار للحالين (٣).

وروى زر بن حبيش عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا نشك في عذاب القبر ، حتى نزلت هذه السورة (٤) فأشار إلى أن قوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني في القبور.

[وقيل : كلا سوف تعلمون إذا نزل بكم الموت ، وجاءتكم رسل ربكم تنزع أرواحكم ، ثم كلا سوف تعلمون في القيامة أنكم معذبون ، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث ، وحشر ، وعرض ، وسؤال ، إلى غير ذلك من أهوال يوم القيامة](٥).

وقال الضحاك : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها المؤمنون (٦) ، وكذلك كان يقرؤها ، الأولى بالتاء ، والثانية بالياء فالأول وعيد ، والثاني وعد.

قوله : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ) جواب «لو» محذوف ، أي : لفعلتم ما لا يوصف.

وقيل : التقدير : لرجعتم عن كفركم.

قال ابن الخطيب (٧) : وجواب «لو» محذوف ، وليس «لترونّ» جوابها ، لأن هذا مثبت ، وجواب «لو» يكون منفيا ، ولأنه عطف عليه قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ) وهو مستقبل ، لا بد من وقوعه ، وحذف جواب «لو» كثير.

قال الأخفش : التقدير : لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٨).

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٧٩٢.

(٣) ينظر القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٨).

(٤) ينظر القرطبي (٢٠ / ١١٨).

(٥) سقط من : ب.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٧٩) ، عن الضحاك.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ٧٥.

٤٧٩

وقيل : لو تعلمون لماذا خلقتم لاشتغلتم وحذف الجواب أفخر ، لأنه يذهب الوهم معه كل مذهب ، قال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) [الأنبياء : ٣٩] ، وقال تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٢٧] وأعاد «كلّا» ، وهو زجر وتنبيه ؛ لأنه عقب كل واحد بشيء آخر ، كأنه قال : لا تفعلوا ، فإنكم تندمون ، لا تفعلوا ، فإنكم تستوجبون العقاب.

و (عِلْمَ الْيَقِينِ) مصدر.

قيل : وأصله العلم اليقين ، فأضيف الموصوف إلى صفته.

وقيل : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن العلم يكون يقينا وغير يقين ، فأضيف إليه إضافة العام للخاص ، وهذا يدل على أنّ اليقين أخصّ.

فصل في المراد باليقين

قال المفسّرون : أضاف العلم إلى اليقين ، كقوله تعالى : (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] ، قال قتادة : اليقين هنا : الموت (١).

وعنه أيضا : البعث (٢) ، لأنه إذا جاء زال الشكّ ، أي : لو تعلمون علم البعث أو الموت ، فعبر عن الموت باليقين ، كقولك : علم الطب ، وعلم الحساب ، والعلم من أشد البواعث على الفعل ، فإذا كان بحيث يمكن العمل ، كان تذكرة ، وموعظة ، وإن كان بعد فوات العمل كان حسرة ، وندامة ، وفيها تهديد عظيم للعلماء ، الذين لا يعملون بعلمهم.

قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). جواب قسم مقدر ، أي : لترون الجحيم في الآخرة.

والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار.

وقيل : عام [كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فهي للكفار دار ، وللمؤمنين ممرّ](٣).

وقرأ (٤) ابن عامر ، والكسائي : «لترونّ» مبنيا للمفعول ، وهي مفعولة من «رأى» الثلاثي أي : أريته الشيء ، فاكتسب مفعولا آخر ، فقام الأول مقام الفاعل ، وبقي الثاني منصوبا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٦٠) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٦٠) ، وعزاه إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) سقط من : أ.

(٤) ينظر : السبعة ٦٩٥ ، والحجة ٦ / ٤٣٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٢٤ ، وحجة القراءات ٧٧١.

٤٨٠