اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وابن وثّاب وأبو جعفر (١) وعيسى : بضمها ، وفيه خلاف ، هل هو أصل ، أو منقول من المسكن؟ والألف واللام في العسر الأول لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهد ، وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لن يغلب عسر يسرين وروي أيضا مرفوعا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يضحك يقول : لن يغلب عسر يسرين (٢) والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم ، ثم أعادته مع الألف واللام ، كان هو الأول ، نحو : جاء رجل فأكرمت الرجل ، وقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦] ، ولو أعادته بغير ألف ولام كان غير الأول ، فقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) لما أعاد العسر الثاني أعاده ب «أل» ، ولما كان اليسر الثاني غير الأول لم يعده بأل.

وقال الزمخشريّ (٣) : فإن قلت : ما معنى قول ابن عبّاس؟ وذكر ما تقدم.

قلت : هذا عمل على الظاهر ، وبناء على قوة الرجاء ، وأن موعد الله تعالى لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ ، وأبلغه ، والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لتقرير معناها في النفوس ، وتمكنها في القلوب ، وكما يكرر المفرد في قوله : «جاء زيد زيد» ، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيسر [لا محالة والثانية : عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر](٤) ، فهما يسران على تقدير الاستئناف ، وإنّما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو ، إما أن يكون تعريفه للعهد ، وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو ، لأن حكمه حكم زيد في قولك : «إن مع زيد مالا ، إن مع زيد مالا» ، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد ، فهو هو أيضا ، وأما اليسر ، فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر ، فقد تناول بعضا غير البعض الأول بغير إشكال.

قال أبو البقاء (٥) : العسر في الموضعين واحد ؛ لأن الألف واللام توجب تكرير الأول ، وأما يسرا في الموضعين ، فاثنان ، لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٤١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٢٨) ، عن الحسن وقتادة مرسلا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٦) ، عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

وذكره أيضا عن الحسن وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن مردويه وعبد الرزاق والبيهقي.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٨) ، عن الحسن مرسلا.

والحديث أخرجه ابن مردويه عن جابر مرفوعا كما في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٦).

وأخرجه الطبري (١٢ / ٦٢٩) عن ابن مسعود موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٦ ـ ٦١٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «الصبر» وابن المنذر والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٧٧١.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٩.

٤٠١

بضميرها ، أو بالألف واللام ومن هنا قيل : «لن يغلب عسر يسرين».

وقال الزمخشريّ (١) أيضا فإن قلت : «إن «مع» للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت : أراد أن الله ـ تعالى ـ يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرب اليسر المترقب ، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية ، وتقوية للقلوب.

وقال أيضا فإن قلت : فما معنى هذا التنكير؟.

قلت : التفخيم كأنه قيل : إنّ مع العسر يسرا عظيما ، وأي يسر ، وهو في مصحف ابن مسعود (٢) مرة واحدة.

فإن قلت : فإذا ثبت في قراءته غير مكرر فلم قال : والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر ، حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين؟.

قلت : كأنه قصد اليسرين ، أما في قوله : «يسرا» من معنى التفخيم ، فتأوله بيسر الدّارين ، وذلك يسران في الحقيقة.

فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها

تعلق هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى بعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيّره المشركون بفقره ، حتى قالوا له : نجمع لك مالا ، فاغتم لذلك ، وظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيرا حقيرا عندهم ، فعدد الله ـ تعالى ـ عليه منته بقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ، أي : ما كنت فيه من أمر الجاهلية ، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل في قلبه ما حصل فيه من التأذي ، بكونهم عيّروه بالفقر ، فقال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فعطفه بالفاء أي : لا يحزنك ما عيروك به في الفقر ، فإن مع ذلك يسرا عاجلا في الدنيا فأنجز له ما وعده ، فلم يمت ، حتى فتح عليه «الحجاز» ، و «اليمن» ووسع عليه ذات يده ، حتّى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، وترك لأهله قوت سنته ، وهذا وإن كان خاصا بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد يدخل فيه بعض أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شاء الله تعالى ، ثم ابتدأ فصلا آخر من أمر الآخرة، فقال : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فهذا شيء آخر ، والدليل على ابتدائه ، تعديه من فاء ، وواو ، وغيرهما من حروف النسق التي تدخل على العطف ، فهذا وعد عام لجميع للمؤمنين ، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة ، وربما اجتمع يسر الدنيا ، ويسر الآخرة.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٧١.

(٢) ينظر : السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٢.

٤٠٢

قوله : (فَإِذا فَرَغْتَ).

العامة : على فتح الراء من «فرغت» ، وهي الشهيرة.

وقرأها أبو السمال (١) : مكسورة ، وهي لغة فيه.

قال الزمخشري (٢) : «وليست بالفصيحة».

وقال الزمخشري أيضا : «فإن قلت : كيف تعلق قوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) بما قبله؟.

قلت : لما عدد عليه نعمه السالفة ، ووعوده الآنفة ، بعثه على الشكر ، والاجتهاد في العبادة ، والنصب فيها».

وعن ابن عباس : فإذا فرغت من صلاتك ، فانصب في الدعاء (٣).

العامة : على فتح الصّاد وسكون الباء أمرا من النصب (٤) وقرىء : بتشديد الباء مفتوحة أمرا من الإنصاب.

وكذا قرىء : بكسر (٥) الصاد ساكنة الباء ، أمرا من النّصب بسكون الصاد.

قال شهاب الدين (٦) : ولا أظن الأولى إلا تصحيفا ، ولا الثانية إلا تحريفا ، فإنها تروى عن الإمامية وتفسيرها : فإذا فرغت من النبوة فانصب الخليفة.

وقال ابن عطية (٧) : وهي قراءة شاذة ، لم تثبت عن عالم.

قال الزمخشريّ (٨) : ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة ، أنه قرأ : «فانصب» ـ بكسر الصاد ـ أي : فانصب عليا للإمامة ، ولو صح هذا للرافضيّ ، لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا ، ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض علي ، وعداوته.

قال ابن مسعود : «إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل» (٩).

وقال الكلبيّ : «إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب ، أي : استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» (١٠).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٧) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٢.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٤٢.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٨.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٢.

(٩) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٧) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٩٨).

(١٠) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٧٤).

٤٠٣

وقال الحسن وقتادة : «فإذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربّك» (١).

قوله : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

قرأ الجمهور : «فارغب» أمر من «رغب» ثلاثيا.

وقرأ زيد بن علي (٢) ، وابن أبي عبلة : «فرغّب» بتشديد الغين ، أمر من «رغّب» بتشديد الغين أي : فرغب الناس إلى طلب ما عنده.

عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني» (٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٢٩) عن الحسن وابن زيد.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٢.

(٣) تقدم تخريجه.

٤٠٤

سورة التين

مكية ، وقال ابن عباس وقتادة : مدنية ، وهي ثمان آيات ، وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفا (١).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ).

قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبيّ : هو تينكم الذي تأكلون ، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت قال تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢) [المؤمنون : ٢٠] ومن خواص التين : أنه غذاء وفاكهة ، وهو سريع الهضم لا يمكث في المعدة ، ويقلل البلغم ، ويطهر الكليتين ، ويزيل ما في المثانة من الرمل ، ويسمن البدن ، ويفتح مسام الكبد والطحال.

وروى أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : أهدي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلّ من تين ، فقال : «كلوا» وأكل منه ، ثمّ قال لأصحابه : «كلوا ؛ لو قلت : إنّ فاكهة نزلت من الجنّة ، لقلت : هذه ، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم ، فكلوها ، فإنّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس» (٣).

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٠٠).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣١ ـ ٦٣٢) ، عن الحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وقتادة والكلبي. وأخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٨) ، عن ابن عباس وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٠) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٣) ذكره السيوطي في «الطب النبوي» ص ١٧٣ وعزاه إلى ابن السني وأبي نعيم في الطب والديلمي في «مسند الفردوس» قال ابن القيم في «الزاد» (٣ / ٢١٤) : في ثبوته نظر. وذكره ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٧٧٣) ، وعزاه إلى أبي نعيم في «الطب» والثعلبي وقال : وفي إسناده من لا يعرف.

٤٠٥

وعن علي بن موسى الرضى : «التين» يزيل نكهة الفم ، ويطول الشعر ، وهو أمان من الفالج ، وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة (١).

وعن معاذ ـ رضي الله عنه ـ أنه استاك بقضيب زيتون ، وقال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نعم السواك الزّيتون ، من الشّجرة المباركة ، يطيّب الفم ، ويذهب الحفر ، وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي» (٢).

وعن ابن عباس : «التين» مسجد نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي بني على الجودي والزيتون : «بيت المقدس» (٣).

وقال الضحاك : التين : «المسجد الحرام» ، والزيتون : «المسجد الأقصى» (٤).

وقال عكرمة وابن زيد : التين : «مسجد دمشق» ، والزيتون : «مسجد بيت المقدس»(٥) [وقال قتادة : «التين : الجبل الذي عليه «دمشق» ، والزيتون الذي عليه «بيت المقدس».

وقال محمد بن كعب ـ رضي الله عنه ـ : التين : مسجد أصحاب الكهف والزيتون «إيليا» (٦).

وقال عكرمة وابن زيد : التين : «دمشق» ، والزيتون : «بيت المقدس» (٧)](٨) وهذا اختيار الطبري (٩).

وقيل : هما جبلان بالشام يقال لهما : طور زيتا وطور تينا بالسريانية ، سميا بذلك لأنهما ينبتان التين والزيتون.

قال القرطبيّ (١٠) : «والصّحيح الأول ، لأنه الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل».

قوله : (وَطُورِ سِينِينَ). الطّور جبل ، و «سينين» اسم مكان ، فأضيف الجبل للمكان الذي هو به.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ٩) عن علي بن موسى الرضا.

(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ١٠٠) وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه معلل بن محمد ولم أجد من ذكره.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٩) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٧٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٢).

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٥٠٤).

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣٠ / ٧٥).

(٨) سقط من : ب.

(٩) ينظر : جامع البيان ١٢ / ٦٣٤.

(١٠) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٧٦.

٤٠٦

قال الزمخشريّ (١) : «ونحو «سينون يبرون» في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء ، وتحريك النون بحركات الإعراب».

وقال أبو البقاء (٢) : هو لغة في «سيناء». انتهى.

وقرأ العامة : بكسر السين ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن ميمون ، وأبو رجاء (٣) : بفتحها وهي لغة بكر وتميم.

وقرأ عمر بن الخطّاب ، وعبيد الله ، والحسن ، وطلحة (٤) : سيناء بالكسر والمد.

وعمر ـ أيضا ـ وزيد بن علي (٥) : بفتحها والمد.

قال عمر بن ميمون : صليت مع عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ العشاء ب «مكة» ، فقرأ : (والتين والزيتون وطور سيناء وهذا البلد الأمين) قال : وهكذا في قراءة عبد الله ، ورفع صوته تعظيما للبيت ، وقرأ في الثانية ب (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) ، و (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ). جمع بينهما (٦). ذكره ابن الأنباري. [وقد تقدم في «المؤمنين» ، وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية](٧).

وقال الأخفش : «سينين» شجر ، الواحدة «السينينة» ، وهو غريب جدا غير معروف عند أهل التفسير [وقال مجاهد : وطور جبل سينين ، أي : مبارك بالسريانية ، وهو قول قتادة والحسن (٨).

وعن ابن عباس : سينين أي : حسن بلغة الحبشة](٩).

وعن عكرمة قال : هو الجبل الذي نادى الله تعالى منه موسى عليه‌السلام (١٠).

وقال مقاتل والكلبي : «سينين» كل جبل فيه شجر وثمر ، فهو سينين وسيناء ، بلغة النبط (١١).

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٧٣.

(٢) الإملاء ٢ / ٢٨٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٣.

(٤) ينظر السابق.

(٥) ينظر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٣) ، مختصرا وذكره بتمامه السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن الأنباري في «المصاحف».

(٧) سقط من : ب.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٤) ، عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٠) ، عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٣) ، عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٠) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره السيوطي أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١٠) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٧٦).

(١١) ينظر المصدر السابق.

٤٠٧

وقال أبو علي : «سينين» : «فعليل» ، فكررت اللام التي هي نون فيه ، كما كررت في «زحليل» للمكان الزلق ، و «كرديدة» : للقطعة من التمر ، وخنديدة : للطويل.

ولم ينصرف «سينين» كما لم ينصرف «سيناء» لأنه جعل اسما لبقعة ، أو أرض ، ولو جعل اسما للمكان ، أو المنزل ، أو اسم مذكر لانصرف ، لأنك سميت مذكرا بمذكر.

وإنما أقسم بهذا الجبل ، لأنه بالسّنام والأرض المقدسة ، وقد بارك الله فيهما ، كما قال : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١].

ولا يجوز أن يكون «سينين» نعتا للطور ، لإضافته إليه.

قوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). يعني «مكة» ، والأمين على هذا «فعيل» للمبالغة ، أي : أمن من فيه ومن [دخله من إنس ، وطير ، وحيوان ، ويجوز أن يكون من أمن للرجل بضم الميم أمانة ، فهو أمين ، وأمانته حفظه من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه ؛ لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله تعالى](١)(أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] يعني ذا أمن.

قال القرطبيّ (٢) : «أقسم الله تعالى بجبل «دمشق» ، لأنه مأوى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبجبل بيت المقدس ، لأنه مقام الأنبياء ـ عليهم‌السلام ، وب «مكة» لأنها أثر إبراهيم ، ودار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ، هذا جواب القسم [وأراد بالإنسان الكافر.

قيل : هو الوليد بن المغيرة.

وقيل : كلدة بن أسيد فعلى هذا نزلت في منكري البعث.

وقيل : المراد بالإنسان](٣) : آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذريته.

وقوله : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) صفة لمحذوف ، أي : في تقويم أحسن تقويم.

وقال أبو البقاء (٤) : «في أحسن تقويم» في موضع الحال من الإنسان ، وأراد بالتقويم : القوام ؛ لأن التقويم فعل ، وذاك وصف للخالق لا للمخلوق ، ويجوز أن يكون التقدير : في أحسن قوام التقويم ، فحذف المضاف ، ويجوز أن تكون «في» زائدة ، أي : قوّمنا أحسن تقويم انتهى.

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : أحسن تقويم ، واعتداله ، واستواء أسنانه ، لأنه خلق كلّ شيء منكبا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٧٧.

(٣) سقط من ب.

(٤) الإملاء ٢ / ٢٨٩.

٤٠٨

على وجهه ، وخلق هو مستويا ، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها.

قال ابن العربي : ليس لله ـ تعالى ـ خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا ، عالما ، قادرا ، مريدا ، متكلما ، سميعا ، بصيرا ، مدبرا ، حكيما ، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : إن الله خلق آدم عليه‌السلام على صورته يعني : على صفاته التي قدمنا ذكرها ، وفي رواية «على صورة الرّحمن» ومن أين تكون للرحمن صورة مشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني.

روي أن عيسى بن موسى الهاشمي ، كان يحبّ زوجته حبّا شديدا ، فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ، فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني ، وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم ، فقال جميع من حضر : قد طلقت ، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا ، فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم؟.

فقال له الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه ، فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك ، وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك.

فهذا يدلك على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب ، الرأس بما فيه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه ، ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات أجمع فيه.

قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ). يجوز في (أَسْفَلَ سافِلِينَ) وجهان :

أحدهما : أنه حال من المفعول.

والثاني : أنه صفة لمكان محذوف ، أي : مكانا أسفل سافلين.

وقرأ عبد الله (١) : «السّافلين» معرفا.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة (٢). [وقال ابن قتيبة السافلون هم الضعفاء الزمناء ، ومن لم يستطع

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٠٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٨٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

٤٠٩

حيلة يقال : سفل يسفل فهو سافل ، وهم سافلون كما تقول : علا يعلو فهو عال وهم عالون](١).

وعن مجاهد وأبي العالية : (أَسْفَلَ سافِلِينَ) إلى النار (٢) ، يعني الكافر.

قال علي رضي الله عنه : أبواب جهنّم بعضها أسفل من بعض ، فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل السافلين (٣). وعلى هذا التقدير : ثم رددناه إلى أسفل ، وفي أسفل السافلين.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فيه وجهان :

أحدهما : متصل على أن المعنى : رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا ، يعني أقبح من قبح خلقه ، وأشوههم صورة ، وهم أهل النار ، فالاتصال على هذا واضح.

والثاني : أنه منقطع على أن المعنى : ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في الحسن والصورة والشكل ، حيث نكسناه في خلقه ، فقوس ظهره ، وضعف بصره وسمعه والمعنى: ولكن والذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم ، وصبرهم على الابتداء بالشيخوخة ، ومشاق العبادة ، قاله الزمخشري (٤) ملخصا ، وقال : أسفل سافلين على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى الجمع.

قال الفرّاء : ولو قال : أسفل سافل جاز ، لأن لفظ الإنسان واحد كما تقول : هذا أفضل ، ولا تقول : أفضل قائمين ، لأنك تضمر الواحد ، فإن كان الواحد غير مضمور له ، رجع اسمه بالتوحيد ، والجمع ، كقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: ٣٣] ، وقوله تعالى : (إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) [الشورى : ٤٨].

قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

قال الضحاك : أجر بغير عمل.

وقيل : غير مقطوع أي : لا يمن به عليهم.

قوله تعالى : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ). «ما» استفهامية في محل رفع بالابتداء والخبر الفعل بعدها والمخاطب : الإنسان على طريقة الالتفات ، توبيخا ، وإلزاما للحجّة ، والمعنى:

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣٨) ، عن الحسن وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٠) ، عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ١٢) عن علي رضي الله عنه.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٤.

٤١٠

فما يجعلك كاذبا بسبب الدين ، وإنكاره ، وقد خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردك إلى أرذل العمر ، وينقلك من حال إلى حال فما الذي يحملك بعد هذا الدليل إلىّ أن تكون كاذبا بسبب الجزاء [لأن كل مكذب بالحق ، فهو كاذب فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا يعني : أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء ؛ لأن كل مكذّب كاذب بسبب الجزاء] ، والباء مثلها في قوله : (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل : ١٠٠].

وقيل : المخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا يكون المعنى : فماذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين ، بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت ، قاله الفرّاء والأخفش.

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي : أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق ، وإذا ثبتت القدرة ، والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ، ووقوعه ، أمّا الإمكان فبالنظر إلى القدرة ، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧].

وقيل : أحكم الحاكمين : قضاء بالحق ، وعدلا بين الخلق ، وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي في الكلام صار إيجابا ، كقوله : [الوافر]

٥٢٥٢ ـ ألستم خير من ركب المطايا

 .......... (١)

[قيل : هذه الآية منسوخة بآية السيف.

وقيل : هي ثابتة لأنه لا تنافي بينهما](٢).

وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ إذا قرءا : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) ، قالا : بلى ، وإنّا على ذلك من الشاهدين (٣).

قال القاضي : هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم ، لأنه تعالى أحكم الحاكمين ، فلا يفعل فعل (٤) السفهاء.

وأجيب : بالمعارضة بالعلم ، والداعي ، ثم نقول : السّفيه من قامت السفاهة به ، لا من خلق السفاهة ، كما أن المتحرك من قامت الحركة به لا من خلقها. والله أعلم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٧٩).

(٤) في أ : أفعال.

٤١١

سورة العلق

مكية ، وهي أول ما نزل من القرآن في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما (١). وقيل: أول ما نزل الفاتحة ، ثم سورة العلق ، وهي عشرون آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٥)

قوله تعالى : (اقْرَأْ) ، العامة : على سكون الهمزة ، أمر من القراءة ، وقرأ عاصم (٢) في رواية الأعشى : براء مفتوحة ، وكأنه قلب تلك الهمزة ألفا ، كقولهم : قرأ ، يقرأ ، نحو : سعى ، يسعى ، فلما أمر منه ، قيل : «اقر» بحذف الألف قياسا على حذفها من «اسع».

وهذا على حد قول زهير : [الطويل]

٥٢٥٣ ـ ..........

وإلّا يبد بالظّلم يظلم (٣)

وقد تقدم تحرير هذا.

قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) ، يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن تكون الباء للحال ، أي : اقرأ مفتتحا باسم ربّك قل : بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ ، قاله الزمخشريّ (٤).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٩) من طريق الزهري عن عائشة وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٢) عن أبي موسى ، وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري في «المصاحف». وابن مردويه وأبي نعيم في «الحلية». وأخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٨) ، والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٤٥) من حديث عائشة ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

(٢) ينظر : البحر المحيط (٨ / ٤٨٨) ، والدر المصون (٦ / ٥٤٥).

(٣) تقدم.

(٤) الكشاف (٤ / ٧٧٥).

٤١٢

الثاني : أن الباء مزيدة ، والتقدير : اقرأ باسم ربك ، كقوله : [البسيط]

٥٢٥٤ ـ ...........

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (١)

قيل : الاسم فضلة أي اذكر ربك ، قالهما أبو عبيدة.

الثالث : أن الباء للاستعانة ، والمفعول محذوف ، تقديره : اقرأ ما يوحى إليك مستعينا باسم ربّك.

الرابع : أنها بمعنى «على» ، أي : اقرأ على اسم ربّك ، كما في قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ) [هود : ٤١] ، قاله الأخفش.

[وقد تقدم في أول الكتاب كيف قدم هذا الفعل على الجار والمجرور ، وقدر متأخرا في «بسم الله الرحمن الرحيم» وتخريج الناس له ، فأغنى عن الإعادة](٢).

فصل

قال أكثر المفسرين : هذه السورة أول ما نزل من القرآن ، نزل بها جبريل عليه‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم على «حراء» ، فعلمه خمس آيات من هذه السورة.

وقال جابر بن عبد الله : أول ما نزل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(٣).

وقال أبو ميسرة الهمذاني : أول ما نزل فاتحة الكتاب.

وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أول ما نزل من القرآن : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١].

قال القرطبيّ (٤) : «الصحيح الأول».

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أول ما بدىء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصادقة (٥) ، فجاءه الملك ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، خرجه البخاري (٦).

وروت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بعدها «ن ، والقلم» ثم بعدها (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، ثم بعدها «والضّحى» ، ذكره الماوردي (٧).

ومعنى قوله : «اقرأ» أي : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحا باسم ربك وهو أن تذكر التسمية في ابتداء أول كلّ سورة ، أو اقرأ على اسم ربّك ، على ما تقدم من الإعراب.

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط من : ب.

(٣) تقدم تخريجه في سورة المدثر.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ٨٠).

(٥) في ب : الصالحة.

(٦) تقدم تخريجه.

(٧) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٠٤). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٤) وعزاه إلى ابن الأنباري في «المصاحف».

٤١٣

قوله : (الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ) ، يجوز أن يكون «خلق» الثاني تفسيرا ل «خلق» الأول ، يعني أبهمه أولا ، ثم فسره ثانيا ب «خلق الإنسان» تفخيما لخلق الإنسان ، ويجوز أن يكون حذف المفعول من الأول ، تقديره : خلق كلّ شيء ؛ لأنه مطلق ، فيتناول كلّ مخلوق ، وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تخصيص له بالذكر من بين ما يتناوله الخلق ، لأنه المنزّل إليه ، ويجوز أن يكون تأكيدا لفظيا ، فيكون قد أكد الصفة وحدها ، كقولك : الذي قام قام زيد.

والمراد بالإنسان : الجنس ، ولذلك قال تعالى : (مِنْ عَلَقٍ) جمع علقة ، لأن كل واحد مخلوق من علقة ، كما في الآية الأخرى ، والعلقة : الدّم الجامد ، وإذا جرى فهو المسفوح ، وذكر «العلق» بلفظ الجمع ، لأنه أراد بالإنسان الجمع ، وكلهم خلقوا من علق بعد النّطفة. والعلقة : قطعة من دم رطب ، سميت بذلك ؛ لأنها تعلق بما تمر عليه لرطوبتها ، فإذا جفت لم تكن علقة.

فصل

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : فما وجه التسمية في المباح كالأكل؟.

فالجواب : أنه يضيف ذاك إلى الله تعالى ليدفع ببركة اسمه الأذى ، والضرر ، أو ليدفع شركة الشيطان ، ولأنه ربما استعان بذلك المباح على الطاعة ، فيصير طاعة ، وقال هنا : باسم ربّك ، وفي التسمية المعروفة : بسم الله الرحمن الرحيم ، لأن الربّ من صفات الفعل ، وهي تستوجب العبادة بخلاف صفة الذات فأفاد الربّ هنا معنيين :

أحدهما : أني ربيتك فلزمك الفعل ، فلا تتكاسل.

والثاني : أن الشروع ملزم للإتمام ، وقد ربيتك منذ كنت علقة إلى الآن ، فلم أضيعك ، وقال هنا : «ربك» ، وقال في موضع آخر : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] كأنه يقول سبحانه : هو لي وأنا له ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليّ منّي وأنّا منه» (٢) ، لأن النعم واصلة منّي إليك ، ولم يصل إليّ منك خدمة فأقول : أنا لك ، ثم لما أتى بالعبادات وفعل الطاعات ، قال: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)

فقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ) كالدليل على الربوبية ، كأنه تعالى يقول : الدليل على أني ربّك ، أنك ما كنت معه بذاتك وصفاتك ، فخلقتك وربيتك ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه حصل منه الخلق.

قوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ، فقوله تعالى : (اقْرَأْ) تأكيد ، وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ، أي : الكريم.

__________________

(١) الفخر الرازي (٣٢ / ١٥).

(٢) تقدم تخريجه.

٤١٤

وقال الكلبيّ : يعني الحليم عن جهل العباد ، فلم يعجل بعقوبتهم (١) ، [وقيل : اقرأ أولا لنفسك ، والثاني للتبليغ ، والأول للتعميم من جبريل عليه‌السلام ، والثاني للتعليم واقرأ في صلاتك.

وقيل : اقرأ وربك ، أي : اقرأ يا محمد وربك يغنيك ويفهمك ، وإن كنت غير قارىء](٢). [والأول أشبه بالمعنى ، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمة ، دلّ على كرمه](٣).

قوله : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، يعني : الخط والكتابة ، أي : علم الإنسان الخط بالقلم.

قال قتادة : العلم نعمة من الله عظيمة ، ولو لا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش (٤) ، فدل على كمال كرمه تعالى ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبّه على فضل الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة. وسمي القلم ، لأنه يقلم ومنه تقليم الظفر ، ولو لا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا.

وروى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال : «نعم ، فاكتب ، فإنّ الله علّم بالقلم» (٥).

ويروى أن سليمان عليه‌السلام سأل عفريتا عن الكلام ، فقال : ريح لا يبقى. قال : فما قيده؟ قال : الكتابة.

وروى مجاهد عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ، ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان : القلم ، والعرش ، وجنة عدن ، وآدم عليه الصلاة والسلام(٦).

من علمه بالقلم؟ ثلاثة أقوال :

أحدها : قال كعب الأحبار : أول من كتب بالقلم آدم عليه‌السلام (٧).

وثانيها : قول الضحاك : أول ما كتب إدريس عليه الصلاة والسلام (٨).

والثالث : أنه جميع من كتب بالقلم ، لأنه ما علم إلّا بتعليم الله تعالى.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٨١).

(٢) سقط من : ب.

(٣) سقط من : أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٠٥) والقرطبي (٢٠ / ٨٢).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

٤١٥

قال القرطبي (١) : الأقلام ثلاثة في الأصل.

الأول : الذي خلقه الله تعالى بيده ، وأمره أن يكتب.

والقلم الثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير ، والكوائن والأعمال.

والقلم الثالث : أقلام النّاس ، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها مآربهم.

وروى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة» (٢).

قال بعض العلماء : وإنّما حذّرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن في إسكانهن الغرف تطلّعا على الرجال ، وليس في ذلك تحصّن لهن ولا تستّر ، وذلك لأنهن لا يملكن أنفسهن ، حتى يشرفن على الرجال ، فتحدث الفتنة والبلاء ، فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس للنّساء خير لهنّ من ألّا يراهنّ الرّجال ، ولا يرون الرّجال» (٣).

وذلك أنها خلقت من الرجل فنهمتها في الرجل ، والرجل خلقت فيه الشّهوة ، وجعلت سكنا له ، فكل واحد منهما غير مأمون على صاحبه ، وكذلك تعليم الكتابة ، ربما كانت سببا في الفتنة ، لأنها إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى ؛ فالكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط آثار يده ، وفيه تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان ، فهي أبلغ من اللسان ، فأحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقطع عنهن أسباب الفتنة تحصينا لهنّ ، وطهارة لقلوبهن.

قوله تعالى : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

قيل : الإنسان هنا آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ علمه أسماء كل شيء ، وقال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١].

وقيل : الإنسان ـ هنا ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء: ١١٣].

وقيل : عام ، لقوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً)

__________________

(١) ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ٨٢).

(٢) ذكره المتقي الهندي (٤٤٩٩٩) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي عن ابن مسعود.

وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٤ / ٢٢٤) عن عائشة قال ابن عراق في «تنزيه الشريعة» : ولا يصح.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٨٣).

٤١٦

[النحل : ٧٨] ، لأنه تعالى بين أنه خلقه من نطفة ، وأنعم عليه بالنعم المذكورة ، ثم ذكر أنه إذا زاد عليه في النعمة فإنه يطغى ، ويتجاوز الحد في المعاصي ، واتباع هوى النفس ، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى). إلى آخر السورة.

قيل : إنه نزل في أبي جهل ، نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي في المسجد ، ويقرأ باسم الربّ ـ تبارك وتعالى ـ وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل ، ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أولى ما نزل ، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل ، وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بضم ذلك إلى أول السورة ؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى ، ألا ترى أنّ قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] آخر ما نزل ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.

و «كلّا» بمعنى حقا.

قال الجرجانيّ : لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون «كلّا» ردّا له ، كما قالوا في (كَلَّا وَالْقَمَرِ) [المدثر : ٣٢] ، فإنهم قالوا : معناه : أي والقمر ؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.

وقال مقاتل : كلّا ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة ، وعلمه بعد الجهل ؛ لأنه عند صيرورته غنيا يطغى ، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا ، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.

قوله : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، مفعول له ، أي : رؤيته نفسه مستغنيا ، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين ؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب.

قال الزمخشريّ (١) : «ومعنى الرؤية ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين ، و «استغنى» هو المفعول الثاني».

قال شهاب الدين (٢) : والمسألة فيها خلاف ، ذهب جماعة إلى أن «رأى» البصرية تعطى حكم العلمية ، وجعل من ذلك قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : لقد رأيتنا مع رسول

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٧٧٧).

(٢) الدر المصون (٦ / ٥٤٦).

٤١٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان (١) ؛ وأنشد : [الكامل]

٥٢٥٥ ـ ولقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني تارة وأمامي (٢)

وتقدم تحقيقه. وقرأ قنبل (٣) بخلاف عنه : «رأه» دون ألف بعد الهمزة ، وهو مقصور من «رآه» في قراءة العامة.

ولا شك أن الحذف جاء قليلا ، كقولهم : «أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة» بحذف لام «ترى» ؛ وقول الآخر : [الرجز]

٥٢٥٦ ـ وصّاني العجّاج فيما وصّني (٤)

يريد : فيما وصاني ، ولما روي عن مجاهد هذه القراءة عن قنبل ، وقال : «قرأت بها عليه» نسبه فيها إلى الغلط ، ولا ينبغي ذلك ، لأنه إذا ثبت ذلك قراءة ، فإن لها وجها وإن كان غيره أشهر منه ، فلا ينبغي أن يقدم على تغليطه.

فصل في نزول الآية

قال ابن عبّاس في رواية «أبي صالح» : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون ، أتاه أبو جهل ، فقال : يا محمد ، أتزعم أنه من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال «مكة» ذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى ، فندع ديننا ، ونتبع دينك ، قال : فأتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا محمد خيّرهم في ذلك ، فإن شاءوا فعلنا لهم ما أرادوه ، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لا يقبلون ذلك ، فكفّ عنهم أسفا عليهم (٥).

[وقيل : أن رآه استغنى بالعشيرة والأنصار والأعوان ، وحذف اللام من قوله : «أن رآه» كما يقال : إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم](٦).

قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى). هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان ، والمعنى : أن مرجع من هذا وصفه إلى الله تعالى ، فيجازيه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لقطري بن الفجاءة ؛ ينظر ديوانه ص ١٧١ ، وخزانة الأدب (١ / ١٥٨) ، ١٦٠ ، والدرر (١٨٥١٤ ، ٢٦٩١٢) ، وشرح التصريح (٢ / ١٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٦ ، وشرح شواهد العيني (١ / ٤٣٨) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٥٠ ، ٣٠٥) ، وأسرار العربية ص ٢٥٥ ، والأشباه والنظائر (٣ / ١٣) ، وأوضح المسالك (٣٣ / ٥٧) ، وجواهر الأدب ص ٣٢٢ ، ومغني اللبيب (١ / ١٤٩) ، وهمع الهوامع (١ / ١٥٦ ، ٢ / ٣٦).

(٣) ينظر : السبعة (٦٩٢) ، والحجة ٦ / ٤٢٣ ، وإعراب القراءات (٢ / ٥٠٨) ، وحجة القراءات (٧٦٧).

(٤) البيت لرؤبة بن العجاج ينظر اللسان (وصى) ، والبحر (٨ / ٤٨٩) ، والدر المصون (٦ / ٥٤٦).

(٥) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٨٣).

(٦) سقط من : ب.

٤١٨

والرجعى والمرجع والرجوع : مصادر ، يقال : رجع إليه رجوعا ومرجعا ورجعى ، على وزن «فعلى».

قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) تقدم الكلام على (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى).

وقال الزمخشري (١) هنا : فإن قلت : ما متعلق «أرأيت»؟.

قلت : «الّذي ينهى» مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين ، فإن قلت : فأين جواب الشرط؟.

قلت : هو محذوف تقديره : «إن كان على الهدى ، أو أمر بالتّقوى ، ألم يعلم بأنّ الله يرى» ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.

فإن قلت : كيف يصح أن يكون «ألم يعلم» جوابا للشرط؟.

قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني ، وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟.

فإن قلت : فما أرأيت الثانية ، وتوسطها بين مفعول «أرأيت»؟ قلت : هي زائدة مكررة للتأكيد.

قال شهاب الدين (٢) : اعلم أن «أرأيت» لا يكون مفعولها الثاني إلا جملة استفهامية كقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٧] ، ومثله كثير ، وهنا «أرأيت» ثلاث مرات ، وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية ، فيكون في موضع المفعول الثاني لها ، ومفعولها الأول محذوف ، وهو ضمير يعود على «الّذي ينهى عبدا» الواقع مفعولا ل «أرأيت» الأولى ، ومفعول «أرأيت» الأولى الذي هو الثاني محذوف ، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة ، وأما «أرأيت» الثانية ، فلم يذكر لها مفعول ، لا أول ، ولا ثان ، حذف الأول لدلالة المفعول من «أرأيت» الأولى عليه ، وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالث عليه ، فقد حذف الثاني من الأولى ، والأول من الثالثة ، والاثنان من الثانية ، وليس طلب كل من «أرأيت» للجملة الاسمية على سبيل التنازع ؛ لأنه يستدعي إضمارا. والجملة لا تضمر إنما تضمر المفردات ، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وأما الكلام على الشرط مع «أرأيت» هذه ، فقد تقدم في «الأنعام» ، ويجوز الزمخشريّ وقوع جواب الشرط استفهاما بنفسه ، وهذا لا يجوز ، بل نصوا على وجوب ذكر الفاء في مثله ، وإن ورد شيء من ذلك فهو ضرورة.

قال القرطبيّ (٣) : وقيل : كل واحد من «أرأيت» بدل من الأول ، و (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) الخبر.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٧٧٨).

(٢) الدر المصون (٦ / ٥٤٦).

(٣) الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ٨٤).

٤١٩

فصل في تفسير الآية

قال المفسرون : «الذي ينهى» أبو جهل ، وقوله تعالى : «عبدا» يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا لأطأنّ على عنقه. ثم إنه لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة نكص على عقبيه ، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ، قال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا.

قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : فأنزل الله هذه الآيات تعجّبا منه (١).

وعن الحسن : أنه أمية بن خلف ، كان ينهى سلمان عن الصلاة.

وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : من هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.

قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي : أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الصفة ، أليس ناهيه عن الصّلاة والتّقوى هالكا؟.

قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني أبا جهل كذب بكتاب الله ، وأعرض عن الإيمان.

وقال الفراء : «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلّى» ، والناهي مكذب متولّ عن الذكر ، أي : فما أعجب هذا بما يقول ، ثم قال : ويله (أَلَمْ يَعْلَمْ) أبو جهل (بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، أي: يراه ويعلم فعله ، فهو تقريع وتوبيخ.

قال ابن الخطيب (٢) : هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعجب ، وفي وجه هذا التعجب وجوه :

أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل أو بعمر» (٣) ، فقيل : أبمثل هذا يعزّ الإسلام وهو ينهى عبدا إذا صلى.

الثاني : أنه كان يلقب بأبي الحكم. فقيل : كيف يلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة.

الثالث : أنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ، ثم إنه ينهى عن طاعة الربّ تعالى ، وهذا عين الحماقة والتكبّر ، ف «عبدا» يدل على التعظيم ، كأنه قيل : [ينهى أشد الخلق عبودية عن العبادة ، وهذا عين الجهل ، ولهذا لم يقل :](٤) ينهاك ، وأيضا فإن هذا

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٨٣).

(٢) ينظر الفخر الرازي (٣٢ / ٢١).

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٧٧) ، كتاب : المناقب ، باب : في مناقب عمر حديث (٣٦٨٣) من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه وقد تكلم بعضهم في النضر أبي عمر وهو يروي مناكير من قبل حفظه.

وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (٧ / ١٨٨ ، ١٨٩) من هذا الوجه.

(٤) سقط من : أ.

٤٢٠