اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وثالثها : قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقا يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفا للمجتمع منه.

واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة ، أتبعه بما يدل على أن هناك أمورا أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).

فصل

اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة : قضاء الشهوة ، وإمضاء الغضب ، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه ، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها ، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايرا لتلك اللذات الحقيرة ، وما هو إلا أن تصير نفسه منتقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت ، وأما ما هو على أصول المتكلمين ، فالوجه فيه أيضا أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم ، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره ، قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل لا زوال له وقيل إذ أردوا شيئا حصل ، ومنهم من حمله على التعظيم ، فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.

فصل

قال بعضهم قوله (وَإِذا رَأَيْتَ) خطاب لمحمد خاصة ، والدليل عليه أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم ، فبكى حتى مات ، وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد.

قوله : (عالِيَهُمْ). قرأ نافع وحمزة (١) : بسكون الياء وكسر الهاء ، والباقون : بفتح الياء وضم الهاء ، لما سكنت الياء كسر الهاء ، ولما تحركت ضمت على ما تقدم في أول الكتاب.

فأما قراءة نافع وحمزة ، ففيها أوجه :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٦٤ ، والحجة ٦ / ٣٥٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٢ ، وحجة القراءات ٧٣٩.

٤١

أظهرها : أن يكون خبرا مقدما ، و «ثياب» مبتدأ مؤخر.

والثاني : أن «عاليهم» مبتدأ ، و «ثياب» مرفوع على جهة الفاعلية ، وإن لم يعتمد الوصف ، وهذا قول الأخفش.

والثالث : أن «عاليهم» منصوب ، وإنما سكن تخفيفا. قاله أبو البقاء.

وإذا كان منصوبا فسيأتي فيه أوجه ، وهي واردة هنا ، إلا أن تقدير الفتحة من المنقوص لا يجوز إلا في ضرورة أو شذوذ ، وهذه القراءة متواترة ، فلا ينبغي أن يقال به فيها ، وأما قراءة من نصب ، ففيه أوجه :

أحدها : أنه ظرف خبر مقدم ، و «ثياب» مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب.

قال أبو البقاء : لأن عاليهم بمعنى فوقهم.

قال ابن عطية : يجوز في النصب أن يكون على الظرف ؛ لأنه بمعنى فوقهم.

قال أبو حيان (١) : وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب : «عاليك أو عاليتك ثوب».

قال شهاب الدين (٢) : قد وردت ألفاظه من صيغة أسماء الفاعلين ظروفا ، نحو خارج الدار ، وداخلها وظاهرها ، وباطنها ، تقول : جلست خارج الدّار ، وكذلك البواقي ، فكذلك هنا.

الثاني : أنه حال من الضمير في «عليهم».

الثالث : أنه حال من مفعول «حسبتهم».

الرابع : أنه حال من مضاف مقدر ، أي : رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم ، ف «عاليهم» حال من «أهل» المقدر ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة : الزمخشري ، فإنه قال : «وعاليهم» بالنصب على أنه حال من الضمير في «يطوف عليهم» أو في «حسبتهم» ، أي: يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ، ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.

قال أبو حيان (٣) : أما أن يكون حالا من الضمير في «حسبتهم» ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهو لا يعود إلا على «ولدان» ، وهذا لا يصح ؛ لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله تعالى (وَحُلُّوا ، وَسَقاهُمْ) و (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذلك كذا مع عدم الاحتياج إلى ذلك ، والاضطرار إلى ذلك لا يجوز ، وأما جعله حالا من محذوف ، وتقديره : أهل نعيم ، فلا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط : ٨ / ٣٩٩.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٤٧.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٣٩٩.

٤٢

حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف.

قال شهاب الدين (١) : جعل أحد الضمائر لشيء ، والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به ، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضا ، وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر وألّا يقدر محذوف ، والزمخشري إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز لا على سبيل أنه مساو أو أولى ، فيرد عليه ما ذكره.

الخامس : أنه حال من مفعول «لقّاهم».

السادس : أنه حال من مفعول «جزاهم». ذكرهما مكي.

وعلى هذه الأوجه التي انتصب فيها على الحال يرتفع به «ثياب» على الفاعلية ، ولا يضر إضافته إلى معرفة في وقوعه حالا ؛ لأن الإضافة لفظية كقوله تعالى : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] فأنّث «عارضا» ولم يؤنث عاليا لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث.

السابع : أن ينتصب «عاليهم» على الظرف ، ويرتفع «ثياب» به على جهة الفاعلية ، وهذا ماش على قول الأخفش والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله ، وإن لم يعتمد ، كما تقدم ذلك في الصفّ.

وإذا رفع «عاليهم» بالابتداء ، و «ثياب» على أنه فاعل به ، كان مفردا على بابه لوقوعه موقع الفعل ، وإذا جعل خبرا مقدما كان مفردا لا يراد به الجمع ، فيكون كقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) [الأنعام : ٤٥] أي أدبار. قاله مكي.

وقرأ ابن مسعود (٢) وزيد بن علي : «عاليتهم» مؤنثا بالتاء مرفوعا.

والأعمش وأبان عن عاصم كذلك (٣) ، إلا أنه منصوب.

وقد عرف الرفع والنصب مما تقدم.

وقرأت عائشة (٤) ـ رضي الله عنها ـ «عليتهم» فعلا ماضيا متصلا بتاء التأنيث الساكنة ، و «ثياب» فاعل به ، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله.

وقرأ ابن سيرين (٥) ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة وخلائق : جارا ومجرورا.

وإعرابه كإعراب «عاليهم» ظرفا في جواز كونه خبرا مقدما ، أو حالا مما تقدم وارتفاع «ثياب» به على التفصيل المذكور.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٤٤٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٩١ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩١ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٨.

(٥) ينظر السابق.

٤٣

فصل في الضمير في عاليهم

قال ابن الخطيب (١) : والضمير في «عاليهم» إما للولدان أو للأبرار.

فكأنهم يلبسون عدة من الثياب ، فيكون الذي يعلوها أفضلها ، ولهذا قال تعالى «عاليهم» أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس ، والمعنى : أن حجالهم من الحرير والديباج.

قوله تعالى : (ثِيابُ سُندُسٍ). قرأ العامة : بإضافة الثياب لما بعدها.

وأبو حيوة (٢) وابن أبي عبلة : «ثياب» منونة ، (سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) برفع الجميع ف «سندس» نعت ل «ثياب» ؛ لأن «السندس» نوع ، و «خضر» نعت ل «سندس» يكون أخضر وغير أخضر ، كما أن الثياب تكون سندسا وغيره ، و «إستبرق» نسق على ما قبله ، أي : وثياب إستبرق.

واعلم أن القراء السبعة في «خضر» ، و «إستبرق» على أربع مراتب (٣).

الأولى : رفعهما ، لنافع وحفص فقط.

الثانية : خفضهما ، للأخوين فقط.

الثالثة : رفع الأول ، وخفض الثاني ، لأبي عمرو وابن عامر فقط.

الرابعة : عكسه ، لابن كثير وأبي بكر فقط.

فأما القراءة الأولى : فإن رفع «خضر» على النعت ل «ثياب» ، ورفع «إستبرق» نسق على «الثياب» ولكن على حذف مضاف ، أي : وثياب إستبرق ، ومثله : على زيد ثوب خزّ وكتان ، أي : وثوب كتّان.

وأما القراءة الثانية : فيكون جر «خضر» على النعت ل «سندس».

ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع ، فقال مكي : هو اسم جمع.

وقيل : هو جمع «سندسة» ك «تمر وتمرة» ، ووصف اسم الجنس بالجمع يصح ، قال تعالى (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرعد : ١٢] ، و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ، و (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) [يس : ٨٠] وإذا كانوا قد وصفوا المحل لكونه مرادا به الجنس بالجمع في قولهم : «أهلك الناس الدينار الحمر والدّرهم البيض» ، وفي التنزيل : (أَوْ

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩١ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٨.

(٣) ينظر في هذه القراءات : السبعة ٦٦٥ ، والحجة ٣٥٦ ، ٣٥٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٢ ـ ٤٢٤ ، وحجة القراءات ٧٣٩ ـ ٧٤١.

٤٤

الطِّفْلِ الَّذِينَ) [النور : ٣١] فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى ، وجر «إستبرق» نسقا على «سندس» ، لأن المعنى ثياب من سندس ، وثياب من إستبرق.

وأما القراءة الثالثة : فرفع «خضر» نعتا ل «ثياب» وجر «إستبرق» نسقا على سندس أي : ثياب خضر من سندس ، ومن إستبرق ، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضا أخضر.

وأما القراءة الرابعة : فجر «خضر» على أنه نعت ل «سندس» ورفع «إستبرق» على النسق على «ثياب» بحذف مضاف ، أي : وثياب استبرق. وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق في سورة الكهف (١).

وقرأ ابن محيصن (٢) : «وإستبرق» بفتح القاف ، ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة ، فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها ، وبعضهم ينقل أنه وصلها.

قال الزمخشري : «وقرىء : «وإستبرق» نصبا في موضع الجر على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط ؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول الإستبرق ، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد جعل علما لهذا الضرب من الثياب ، وقرأ : «واستبرق» بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى ب «استفعل» من البريق ، وهو ليس بصحيح ـ أيضا ـ لأنه معرب مشهور تعريبه وأصله استبره».

وقال أبو حيان (٣) : ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله بعد : وقرىء «وإستبرق» بوصل الألف والفتح ، أنّ قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ، والمنقول عنه في كتب القراءات : أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف.

قال شهاب الدين (٤) : قد سبق الزمخشري إلى هذا مكي ، فإنه قال : وقد قرأ ابن محيصن بغير صرف ، وهو وهم إن جعله اسما ؛ لأنه نكرة منصرفة.

وقيل : بل جعله فعلا ماضيا من «برق» فهو جائز في اللفظ بعيد في المعنى.

وقيل : إنه في الأصل فعل ماض على «استفعل» من «برق» ، فهو عربي من البريق ، فلما سمّي به قطعت ألفه ؛ لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل ، وإنما دخلت معتلة مغيرة عن أصلها ، معدودة ، لا يقاس عليها ؛ انتهى ، فدل قوله «قطعت ألفه» إلى آخره ، أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف ، ودل قوله أولا : وقيل : بل جعله فعلا ماضيا من «برق» ، أنه قرأ بوصل الألف ، لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى

__________________

(١) آية ٣١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٩.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٤٠٠.

(٤) الدر المصون ٦ / ٤٤٩.

٤٥

الأسماء ، ويترك ألفه ألف قطع ألبتة ، وهذا جهل باللغة ، فيكون قد روي عنه قراءتا قطع الألف ووصلها ، فظهر أن الزمخشري لم ينفرد بالنقل عن ابن محيصن بقطع الهمزة.

وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : لا يجوز ، والصواب : أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميرا ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف ، وإجراؤه على قراءة الجماعة.

قال أبو حيان (١) : نقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، فيتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل «استفعل» من البريق ، تقول : برق واستبرق ، ك «عجب واستعجب» ، ولما كان قوله : «خضر» يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السّندس ، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك بريقا وحسنا يزيل غبشيته ، ف «استبرق» فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السّندس ، أو على الأخضر الدالّ عليه خضر ، وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية ، وتوهيم ضابط ثقة. وهذا هو الذي ذكره مكي. وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف.

قوله تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) عطف على «ويطوف» عطف ماضيا لفظا مستقبلا معنى ، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه.

وقال الزمخشري بعد سؤال وجواب من حيث المعنى : وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران : سوار من ذهب وسوار من فضة.

وناقشه أبو حيان في قوله : «بالمعصم» ، فقال (٢) : قوله : «بالمعصم» إما أن يكون مفعول «أحسن» وإما أن يكون بدلا منه ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور ، فإن كان الأول فلا يجوز ؛ لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول «أفعل» التعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيدا ، وإن كان الثاني ففي هذا الفصل خلاف ، والمنقول عن بعضهم أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه فيما فيه خلاف.

قال شهاب الدين (٣) : وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل حتى في الشيء اليسير على أن الصحيح جوازه ، وهو المسموع من العرب نثرا ؛ قال عمرو بن معديكرب : لله درّ بني مجاشع ما أكثر في الهيجاء لقاءها ، وأثبت في المكرمات بقاءها ، وأحسن في اللّزبات عطاءها ، والتشاغل بغير هذا أولى.

فصل في المراد بالأساور

قال هنا : «أساور من فضة» وفي سورة «فاطر» : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٤٠٠.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٤٠٠.

(٣) الدر المصون ٦ / ٤٥٠.

٤٦

[فاطر : ٣٣] ، وفي سورة «الحج» : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] فقيل : حليّ (١) الرجل الفضة.

وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب ، وسواران من فضة ، وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع لهم محاسن أهل الجنة. قاله سعيد بن المسيب رضي الله عنه.

وقيل : يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه.

وقيل : أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء.

وقيل : هذا للنساء والصبيان.

وقيل : هذا بحسب الأوقات.

قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)](٢) ، قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرّوا بشجرة تخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فيجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تتشعّث أشعارهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خزنة الجنة ، فيقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(٣) [الزمر : ٧٣].

وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك وضمرت بطونهم (٤).

وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة ينبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشّ وغلّ وحسد ، وما كان في جوفه من أذى (٥) ، وعلى هذا فيكون «فعولا» للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. قاله القرطبي (٦).

قال ابن الخطيب (٧) : قوله تعالى : (طَهُوراً) فيه قولان :

الأول : المبالغة في كونه طاهرا ثم على هذا التفسير احتمالان :

أحدهما : ألّا يكون نجسا كخمر الدنيا.

__________________

(١) في أ : الرجال.

(٢) سقط من ب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٧٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٦) عن مقاتل.

(٦) الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ٩٦).

(٧) ينظر الفخر الرازي (٣٠ / ٢٢٥).

٤٧

وثانيهما (١) : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة ، يعني ما مسته الأيدي الوضيعة والأرجل الدنسة.

وثانيهما : أنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهرا ؛ لأنه يطهّر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) هو نوع ما ذكره قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل ، أو هذا نوع آخر؟.

قلنا : بل هذا نوع آخر ، لوجوه :

أحدها : التّكرار.

والثاني : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه تبارك وتعالى ، بقوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) ، وذلك يدل على فضل هذا على غيره.

والثالث : ما روي من أنه يقدّم إليهم الأطعمة والأشربة ، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك ، وهذا يدل على أن الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقا يفوح منه ريح كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة.

قوله تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) ، أي : يقال لهم : إن هذا كان جزاؤكم ، أي : ثواب أعمالكم ، فيزداد بذلك القول فرحهم وسرورهم ، كما أن المعاقب يزداد غمّه ، إذا قيل له : هذا جزاء عملك الرديء «وكان سعيكم» أي : عملكم «مشكورا» أي : من قبل الله وشكره للعبد قبول طاعته وثناؤه عليه وإثابته.

وقال قتادة : غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى (٢).

وقيل : هذا إخبار من الله ـ تعالى ـ لعباده في الدنيا كأنه ـ تعالى ـ شرح لهم ثواب أهل الجنة ، أي أنّ هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبيدي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (٣) : وفي الآية سؤالان :

__________________

(١) في ب : والثانية.

(٢) ينظر القرطبي (١٩ / ٩٦) وأخرجه الطبري (١٢ / ٣٧٣).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٦.

٤٨

الأول : إذا كان فعل العبد خلقا لله ـ تعالى ـ فكيف يعقل أن يكون فعل الله ـ تعالى ـ جزاء على فعل الله؟.

والجواب : أن الجزاء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلا لله.

السؤال الثاني : كون سعي العبد مشكورا يقتضي كون الله شاكرا له؟.

والجواب : كون الله ـ تعالى ـ شاكرا للعبد محال إلا على وجه المجاز ، وهو من ثلاثة أوجه:

الأول : قال القاضي : إن الثواب مقابل لعملهم كما أن الشكر مقابل للنعم.

والثاني : قال القفال : إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثنى به أنه مشكور ، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده ، وهو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطائه إياهم عليها ثوابا كبيرا.

الثالث : أن منتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيّا لربه ، كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ ـ ٢٨] ، وكونها راضية من ربه أقلّ درجة من كونها مرضية لربه ، فقوله تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إشارة إلى الأمر الذي تصير به النفس راضية مرضية ، وقوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) إشارة إلى كونها مرضية لربها لما كانت هذه الحالة أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(٢٦)

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا). يجوز أن يكون توكيدا لاسم «إن» وأن يكون فصلا و «نزّلنا» على هذين الوجهين هو خبر «إن» ، ويجوز أن يكون «نحن» مبتدأ ، و «نزّلنا» خبره والجملة خبر «إنّ».

وقال مكي : «نحن» في موضع نصب على الصّفة لاسم «إن» لأن المضمر يوصف بالمضمر ؛ إذ هو بمعنى التأكيد لا بمعنى الغلبة ، ولا يوصف بالمظهر ؛ لأنه بمعنى التّحلية والمضمر مستغن عن التحلية ، لأنه لم يضمر إلا بعد أن عرف تحليته وعينه ، وهو محتاج إلى التأكيد لتأكيد الخبر عنه.

قال شهاب الدين (١) : وهذه عبارة غريبة جدّا ، كيف يجعل المضمر موصوفا بمثله ،

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٤٥٠.

٤٩

ولا نعلم خلافا في عدم جواز وصف المضمر إلا ما نقل عن الكسائي أنه جوّز وصف ضمير الغائب بضمير آخر ، فلا خلاف في عدم جوازه ، ثم كلامه يؤول إلى التأكيد فلا حاجة إلى العدول عنه.

فصل في مناسبة اتصال الآية بما قبلها

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر أصناف الوعد والوعيد بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه ، فليس بسحر ولا كهانة ولا شعر وأنه حقّ.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنزل القرآن متفرقا آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة فلذلك قال : «نزّلنا» (١).

قال ابن الخطيب (٢) : المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر تعالى أن ذلك وحي من الله تعالى ولا جرم بالغ في تكرار الضمير بعد إيقاعه تأكيدا على تأكيد فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق ، أقول على سبيل التأكيد : إن ذلك وحي حقّ وتنزيل صدق من عندي ، وفي ذلك فائدتان :

إحداهما : إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار ؛ لأن الله ـ تعالى ـ عظّمه وصدقه.

والثانية : تقويته على تحمّل مشاق التكليف ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : إني ما نزلت عليك القرآن متفرقا إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضاء ربك.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : اصبر على أذى المشركين ، ثم نسخ بآية القتال.

وقيل : اصبر لما حكم به عليك من الطّاعات ، أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة ، (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) أي : ذا إثم (أَوْ كَفُوراً) أي : لا تطع الكفار.

روى معمر عن قتادة ، قال : قال أبو جهل : إن رأيت محمدا لأطأنّ على عنقه ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).(٣)

وقيل : نزلت في عتبة بن أبي ربيعة والوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوة ففيهما نزلت ، وعرض عليه عتبة

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٩ / ٩٦) والطبري (١٢ / ٣٧٣).

(٢) ينظر الفخر الرازي (٣٠ / ٢٢٧).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٧٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٠) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

٥٠

ابنته وكانت من أجمل النساء ، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ، ويترك ما هو عليه ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات من أول «حم» السجدة ، إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١ ـ ١٣] ، فانصرفا عنه وقال أحدهما : ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.

قوله : (أَوْ كَفُوراً). في «أو» هذه أوجه :

أحدها : أنها على بابها ، وهو قول سيبويه.

قال أبو البقاء : وتفيد في النهي عن الجميع ، لأنك إذا قلت في الإباحة : جالس الحسن أو ابن سيرين كان التقدير : جالس أحدهما فإذا نهي قال : لا تكلم زيدا أو عمرا ، فالتقدير : لا تكلم أحدهما ، فأيهما كلمه كان أحدهما فيكون ممنوعا منه ، فكذلك في الآية ، ويؤول المعنى إلى تقدير : ولا تطع منهما آثما ولا كفورا.

قال الزمخشري رحمه‌الله : فإن قلت : معنى «أو» ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو لتكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟.

قلت : لو قال : لا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما هو عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهي أن يقول لأبويه : «أفّ» علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى.

الثاني : أنها بمعنى «لا» ، أي : لا تطع من أثم ولا من كفر.

قال مكي : «وهو قول الفراء ، وهو بمعنى الإباحة التي ذكرنا».

الثالث : أنها بمعنى الواو ، وقد تقدم أن ذلك قول الكوفيين.

والكفور وإن كان يستلزم الإثم إلا أنه عطف لأحد أمرين :

إما أن يكونا شخصين بعينهما كما تقدم فالآثم عتبة ، والكفور الوليد.

وإما لما قاله الزمخشري : «فإن قلت : كانوا كلهم كفرة ، فما معنى القسمة في قوله (آثِماً أَوْ كَفُوراً)؟.

قلت : معناه لا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه ، لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث».

فصل

قال ابن الخطيب (١) : قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) يدخل فيه ألّا تطع فيه آثما أو كفورا ، فكأن ذكره بعد ذلك تكرار؟.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٨.

٥١

والجواب : أن الأول أمر بالمأمورات ، والثاني : نهي عن المنهيات ، ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح ، فيكون التصريح منه مفيدا.

فإن قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يطيع أحدا منهم ، فما فائدة هذا النهي؟.

فالجواب : أن المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى الفساد ، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله ـ تعالى ـ وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم أنه لا بدّ من الرغبة إلى الله ـ تعالى ـ والتضرع إليه أن يصونه عن الشّبهات والشّهوات.

فإن قيل : ما الفرق بين الآثم والكفور؟.

فالجواب : أن الآثم هو الآتي بالمعاصي أيّ معصية كانت ، والكفور : هو الجاحد للنعمة ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفورا ، لأن الإثم عام في المعاصي كلها ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨].

فسمى الشرك إثما ، وقال تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] وقال تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [الأنعام : ١٢٠] ، وقال تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩]. قد نزلت هذه الآيات على أن الإثم جميع المعاصي.

قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). أي : صلّ لربّك أول النّهار وآخره ففي أوله صلاة الصّبح والظهر والعصر ، وهو الأصيل ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة ، (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) يعني التّطوع فيه (١). قاله ابن حبيب.

وقال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة (٢).

وقيل : هو الذّكر المطلق ، سواء كان في الصّلاة أو في غيرها.

وقال ابن زيد وغيره : إنّ قوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) منسوخ بالصلوات الخمس(٣).

وقيل : هو ندب.

وقيل : هو مخصوص بالنبي عليه الصلاة والسلام.

وجمع الأصيل : الأصائل ، والأصل ، كقولك : سفائن وسفن ، والأصائل : جمع الجمع ، ودخلت «من» على الظرف للتبعيض ، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١].

__________________

(١) في أ : في الليل.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٧).

(٣) ينظر المصدر السابق.

٥٢

قوله : (وَسَبِّحْهُ) فيه دليل على عدم صحة قول بعض أهل المعاني والبيان ، أن الجمع بين الحاء والهاء ـ مثلا ـ يخرج الكلم عن فصاحتها ؛ وجعلوا من ذلك قوله : [الطويل]

٥٠٥٠ ـ كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي (١)

البيت لأبي تمام ، ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه وبين الآية الكريمة بأن التكرار في البيت هو المخرج عن الفصاحة بخلاف الآية فإنه لا تكرار فيها.

قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٣١)

قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ). توبيخ وتقريع والمراد أهل «مكة» ، والعاجلة: الدنيا.

واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعظيم والأمر والنهي ، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين ، فقال تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) ، ومعناه : إن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية.

قوله : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) ، أي : بين أيديهم ، وقال : «وراءهم» ولم يقل : قدّامهم لأمور :

أحدها : أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.

وثانيها : المراد : يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، أي عسير ، فأسقط المضاف.

وثالثها : أن «وراء» يستعمل بمعنى «قدّام» ، كقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) [إبراهيم : ١٦] (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف : ٧٩].

وقال مكي : سمّي «وراء» لتواريه عنك ، فظاهر هذا أنه حقيقة ، والصحيح أنه استعير ل «قدّام».

قوله : «يوما». مفعول ب «يذرون» لا ظرف ، ووصفه بالثقل على المجاز ؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني.

__________________

(١) قائله ـ كما قال المؤلف بعده ـ هو أبو تمام. ينظر ديوانه ٢ / ١٦٦ ومعاهد التنصيص ١ / ٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٥١.

٥٣

وقيل : معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة.

وقيل : نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة نبوته ، وحبّهم العاجلة : أخذهم الرّشا على ما كتموه ، وقيل : أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا ، والآية تعمّ ، واليوم الثقيل : يوم القيامة ، وسمي ثقيلا لشدائده وأهواله وقيل : للقضاء فيه بين العباد.

قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) أي من طين ، (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي : خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم ، والأسر : الخلق.

قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر ، أي : الخلق ، ويقال : أسره الله ، إذا شدد خلقه ؛ قال لبيد : [الرمل]

٥٠٥١ ـ ساهم الوجه شديد أسره

مشرف الحارك محبوك الكتد (١)

وقال الأخطل : [الكامل]

٥٠٥٢ ـ من كلّ مجتنب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا (٢)

وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شددنا مفاصلهم (٣).

قال أهل اللغة : الأسر : الرّبط ، ومنه : أسر الرجل ، إذا أوثق بالقيد ، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب ، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب ، تقول : أسرت القتب أسرا ، أي : شددته وربطته.

فصل في معنى الأسر

قال ابن زيد : الأسر القوة ، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية ، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب ، أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به ، وهما لا يحصلان إلا بتكوين

__________________

(١) يروى الشطر الثاني برواية : مشرف الحال محبوك الكفل.

ينظر ديوان لبيد (١٤٤) ، واللسان (حبك) (حرك) ، والقرطبي ١٩ / ٩٨.

(٢) ينظر ديوان الأخطل ص ٣٨٨ ، والطبري ٢٩ / ١٣٩ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦٢٥ ، والقرطبي ١٩ / ٩٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٧٥) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٠) عن الربيع وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٧٥).

(٥) ينظر الفخر الرازي (٣٠ / ٢٢٨).

٥٤

الله وإيجاده ، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ـ تعالى ـ وترك التمرّد.

وأما الترهيب فإنه قادر على أن يميتهم وأن يسلب النعم عنهم ، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية ، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله ـ تعالى ـ وترك التمرّد ، فكأنه قيل : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله ـ تعالى ـ والانقياد له ، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله ـ تعالى ـ والإعراض عن حكمه.

قوله تعالى : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم (١).

وقال ابن الخطيب (٢) : معناه : إذا شئنا أهلكناهم ، وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلا منهم كقوله تعالى : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) [الواقعة : ٦١] ، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم ، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير إن ثبتت الحاجة ، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام ؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٩] ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) [النساء : ١٣٣]. وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور (٣).

وقيل : أمثالهم في الكفر.

فصل في نظم الآية

قال الزمخشري في قوله تعالى : (وَإِذا شِئْنا) : وحقه أن يجيء ب «إن» لا ب «إذا» ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨] ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يعني : أنّ «إذا» للمحقّق ، و «إن» للمحتمل ، وهو تعالى لم يشأ ذلك ، وجوابه أن «إذا» قد تقع موقع «إن» كالعكس.

قال ابن الخطيب (٤) : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف ، لأن كل واحد من «إن» و «إذا» حرف شرط ، إلا أن حرف «إن» لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك.

أما حرف «إذا» فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس ـ فهاهنا ـ لما كان الله تعالى عالما أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف «إذا».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٩).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٣٠.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ٩٩).

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٣٠.

٥٥

قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ). أي : هذه السورة موعظة ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : طريقا موصّلا إلى طاعته.

وقيل : «سبيلا» أي وسيلة.

وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.

فصل في قول الجبرية

قال ابن الخطيب (١) : متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر ، لأن قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة ، فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله تعالى بعد ذلك : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإن مشيئة الله ـ تعالى ـ مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، لأن هذه الآية أيضا تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ، ثم التقدير ما تقدم.

قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله ـ تعالى ـ وهو أمر قد شاءه ؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه ، وهذا لا يقتضي أن يقال : العبد لا يشاء إلّا ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه ، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصّور المتقدمة ، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية واردا بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال ، أي إلّا في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.

وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إلا أن يريد تفسير المعنى.

والثاني : أنه ظرف.

قال الزمخشري : «فإن قلت : ما محل أن يشاء الله؟.

قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى ، وكذلك قرأ ابن مسعود(٢) : إلا ما يشاء الله ، لأن «ما» مع الفعل ك «إن» معه».

وردّ أبو حيان (٣) : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر الصريح ، لو قلت : أجيئك أن

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٣٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٧٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤١٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٠٢.

٥٦

يصيح الديك ، أو ما يصيح ، لم يجز. قال شهاب الدين (١) : قد تقدم الكلام في ذلك مرارا.

وقرأ نافع والكوفيون : «تشاءون» خطابا لسائر الخلق ، أو على الالتفات من الغيبة في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) ، والباقون (٢) : بالغيبة جريا على قوله : «خلقناهم» وما بعده.

قوله : (وَما تَشاؤُنَ) أي الطاعة والاستقامة ، واتخاذ السبيل إلى الله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ، وليس لهم ، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد ، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى ، قيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.

قال القرطبي (٣) : والأشبه أنه ليس بنسخ ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.

قال الفراء : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) جواب لقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم ، فقال : «وما تشاءون» ذلك السبيل (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لكم ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بأعمالكم «حكيما» في أمره ونهيه لكم.

قوله تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ). أي : يدخله الجنة راحما له.

قال ابن الخطيب (٤) : إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله تعالى وفضله ، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق ؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل أو الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فتركه محال ، فوجوده واجب عقلا ، وعدمه ممتنع عقلا ، وما كان كذلك لا يكون معلقا على المشيئة ألبتة.

قوله : (وَالظَّالِمِينَ) ، أي : ويعذّب الظالمين ، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره «أعدّ لهم» من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : وعذب الظالمين ، ونحوه : «زيدا مررت به» أي : جاوزت ولابست. وكان النصب هنا مختارا لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها ، وهو قوله «يدخل».

قال الزجاج : نصب «الظّالمين» لأن قبله منصوبا ، أي : يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ، أي : المشركين ، ويكون «أعدّ لهم» تفسيرا لهذا المضمر ؛ قال الشاعر : [المنسرح]

٥٠٥٣ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٤٥٢.

(٢) ينظر : السبعة ٦٦٥ ، والحجة ٦ / ٣٦٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ، وحجة القراءات ٧٤١.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٩٩.

(٤) الفخر الرازي : ٣٠ / ٢٣٢.

٥٧

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (١)

أي : أخشى الذئب أخشاه.

قال الزجاج : والاختيار النصب ، وإن جاز الرفع.

وقوله تعالى في «حم عسق» : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ) [الشورى : ٨] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى ، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء ، وهاهنا قوله : (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً) يدل على «ويعذّب» فجاز النصب.

وقرأ الزبير ، وأبان (٢) بن عثمان ، وابن أبي عبلة : «والظّالمون» رفعا على الابتداء ، وما بعده الخبر ، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة.

وقرأ ابن مسعود (٣) : «وللظّالمين» بلام الجر ، وفيه وجهان :

أظهرهما (٤) : أن يكون «للظّالمين» متعلقا ب «أعدّ» بعده ، ويكون «لهم» تأكيدا.

والثاني : وهو ضعيف ، أن يكون من باب الاشتغال ، على أن يقدر فعلا مثل الظاهر ، ويجر الاسم بحرف الجر ، فتقول : «بزيد مررت به» أي : مررت بزيد مررت به ، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور ، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى ، فإن ورد نحو «بزيد مررت به» عدّ من التوكيد لا من الاشتغال. والأليم : المؤلم.

روى الثّعلبيّ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) كان جزاؤه على الله تعالى جنّة وحريرا» (٥).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٧٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥١٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٣.

(٣) ينظر : السابق ، والدر المصون ٦ / ٤٥٢.

(٤) في أ : أشهرهما.

(٥) تقدم تخريجه.

٥٨

سورة المرسلات

مكيّة في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر.

وقال ابن عباس وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ : إلا آية منها (١) ، وهي قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨] ، مدنية.

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : نزلت (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ ونحن نسير معه ، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت ، فبينا نحن نتلقّاها منه ، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حيّة ، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» (٢).

وعن كريب مولى ابن عباس ، قال : قرأت سورة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس ، فبكت ، وقالت : والله يا بنيّ ، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب (٣).

وهي خمسون آية ، ومائة وإحدى وثمانون كلمة ، وثمانمائة وستّة عشر حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ)(٧)

قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً). في «عرفا» ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٧٥).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤) كتاب التفسير : باب سورة والمرسلات حديث (٤٩٣٠) ومسلم (٤ / ١٧٥٥) كتاب السلام : باب قتل الحيات وغيرها حديث (١٣٧ / ٢٢٣٤) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٥٠٥) من حديث ابن مسعود.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٢٤٦) كتاب الأذان : باب القراءة في «المغرب» حديث (٧٦٣) ومسلم (١ / ٣٣٨) كتاب الصلاة : باب القراءة في الصبح رقم (١٧٣ / ٤٦٢).

٥٩

أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل العرف ، وهو ضد النّكر ، فإن الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة ، فالمعنى فيهم ظاهر ، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين ، والمراد بالمرسلات ، إما الملائكة ، وإما الأنبياء ، وإما الرياح ، أي : والملائكة المرسلات ، أو والأنبياء المرسلات ، أو والرياح المرسلات. و «العرف» المعروف ، والإحسان ، قال : [البسيط]

٥٠٥٤ ـ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والنّاس (١)

وقد يقال : كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء ، وحقه أن يجمع بالواو والنون ، نقول : الأنبياء المرسلون ، ولا نقول : المرسلات؟.

والجواب : أن المرسلات جمع مرسلة ، ومرسلة : صفة لجماعة من الأنبياء ، والمرسلات : جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة ، لا جمع مرسل مفرد.

والثاني : أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة ، من قولهم : جاءوا كعرف الفرس ، وهم على فلان كعرف الضبع ، إذا تألبّوا عليه.

قال ابن الخطيب (٢) : يكون مصدرا ، كأنه قيل : والمرسلات إرسالا ، أي متتابعة.

الثالث : أن ينتصب على إسقاط الخافض ، أي : المرسلات بالعرف ، وفيه ضعف ، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف (٣).

والعامة : على تسكين رائه ، وعيسى (٤) : بضمها ، وهو على تثقيل المخفف ، نحو : «بكّر» في «بكر» ، ويحتمل أن يكون هو الأصل ، والمشهور مخففة منه ، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين.

فصل في المراد بالمرسلات

جمهور المفسرين على أن «المرسلات» هي الرياح.

وروى مسروق عن عبد الله قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي ، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي (٥).

__________________

(١) البيت للحطيئة. ينظر ديوانه ص ١٠٩ ، والخصائص ٢ / ٤٨٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٧ ، والبخلاء ص ٢١٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي : ٣٠ / ٢٣٣.

(٣) آية ٤٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٣.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٧٨) عن ابن مسعود ومسروق وأبي صالح.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٥١١) عن أبي هريرة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

٦٠