اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

الحالين ، وروي عنه : إثباتها في الوصل خاصة ، وحذفها الباقون في الحالين ، موافقة لخط المصحف ، ومراعاة (١) للفواصل كما تقدم في «يسر».

فصل في تفسير الآية

قال ابن عبّاس : كانوا يجوبون البلاد ، ويجعلون من الجبال بيوتا ، لقوله ـ تعالى ـ : (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً)(٢) [الحجر : ٨٢].

وقيل : أول من نحت من الجبال ، والصخور والرخام : ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة ، كلها من الحجارة.

وقوله تعالى : (بِالْوادِ) أي : بوادي القرى. قاله محمد بن إسحاق.

[وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة «تبوك» على وادي ثمود ، وهو على فرس أشقر ، فقال : «أسرعوا السير ؛ فإنكم في واد ملعون».

وقيل : الوادي بين جبال ، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ، ومنفذا ، فهو واد](٣).

قوله : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) ، أي : الجنود والعساكر والجموع. قاله ابن عباس.

وسمي «ذي الأوتاد» لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.

وقيل : ذي الأوتاد ، أي : ذي الملك الثابت.

كقوله : [الرجز]

٥١٩٧ ـ في ظلّ ملك راسخ الأوتاد (٤)

وقيل : كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا ، تجبّرا منه وعتوا ، كما فعل بامرأته آسية ، وماشطتها.

قال عبد الرحمن بن زيد : كانت له صخرة ترفع بالبكرات ، ثم يؤخذ له الإنسان ، فيوتد له أوتاد الحديد ، ثم يرسل تلك الصخرة عليه (٥).

وروى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن تلك الأوتاد ، كانت ملاعب يلعبون تحتها (٦).

قوله : (الَّذِينَ طَغَوْا) : يجوز فيه ما جاز في : «الذين» قبله ، من الإتباع والقطع على الذم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٥١٩.

(٢) ينظر القرطبي (٢٠ / ٣١) عن الضحاك.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٦٩.

(٥) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٣١) عن الضحاك.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٧٠).

٣٢١

قال ابن الخطيب (١) : يحتمل أن يرجع الضّمير إلى فرعون خاصة ؛ لأنه يليه ، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم ، وهو الأقرب. وأحسن الوجوه في إعرابه : أن يكون في محل نصب على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعا على : «هم الذين طغوا» مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يعني : عادا ، وفرعون ، وثمودا طغوا ، أي : تمردوا وعتوا ، وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان ، ثم فسر تعالى طغيانهم بقوله : (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ).

قال الكلبيّ : القتل ، والمعصية لله تعالى.

قال القفال (٢) : والجملة أن الفساد ضد الصلاح ، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر ، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم ، فمن عمل بغير أمر الله ، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.

قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ). أي : أفرغ عليهم ، وألقى ، يقال : صبّ على فلان خلعة ، أي : ألقاها عليه ؛ قال النابغة : [الطويل]

٥١٩٨ ـ فصبّ عليه الله أحسن صنعه

وكان له بين البريّة ناصرا (٣)

وقوله تعالى : (سَوْطَ عَذابٍ) أي : نصيب عذاب ؛ وقيل : شدته ؛ لأن السوط عندهم نهاية ما يعذب به.

قال الشاعر : [الطويل]

٥١٩٩ ـ ألم تر أنّ الله أظهر دينه

وصبّ على الكفّار سوط عذاب (٤)

والسوط : هو الآلة المعروفة.

قيل : سمي سوطا ؛ لأنه يساط به اللحم عند الضرب أي : يختلط ؛ قال كعب بن زهير : [البسيط]

٥٢٠٠ ـ لكنّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل (٥)

وقال آخر : [الطويل]

٥٢٠١ ـ أحارث إنّا لو تساط دماؤنا

تزايلن حتّى لا يمسّ دم دما (٦)

[وقيل : هو في الأصل مصدر : ساطه يسوطه سوطا ، ثم سميت به الآلة](٧).

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٥٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٣.

(٣) ينظر ديوان النابغة ص ٧١ ، والقرطبي ٢٠ / ٣٣.

(٤) ينظر القرطبي ٢٠ / ٣٣.

(٥) تقدم.

(٦) البيت للمتلمس ينظر مجمع البيان ١٠ / ٧٣٤ والبحر ٨ / ٤٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٠.

(٧) سقط من ب.

٣٢٢

وقال أبو زيد : أموالهم بينهم سويطة ، أي : مختلطة.

فالسّوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه سمي : المسواط ، وساطه : أي خلطه ، فهو سائط ، وأكثر من ذلك ، يقال : سوط فلان أموره ؛ قال : [الطويل]

٥٢٠٢ ـ فسطها ذميم الرّأي غير موفّق

فلست على تسويطها بمعان (١)

قال الفرّاء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أن السّوط : هو عذابهم الذي يعذبون به ، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه غاية العذاب.

وقال الزجاج : أي : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.

[ويقال : ساط دابته يسوطها أي : ضربها بسوطه.

وعن عمرو بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها (٢)](٣).

قال قتادة : كل شيء عذب الله به ، فهو سوط عذاب (٤).

[واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم.

قال القاضي (٥) : وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه](٦).

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، أي : يرصد عمل كل إنسان ، حتى يجازيه به.

قال الحسن وعكرمة : والمرصاد : كالمرصد ، وهو : المكان الذي يترقب فيه الرّصد (٧) ، جمع راصد كحرس ، فالمرصاد «مفعال» من : «رصده» ، كميقات من وقته ، قاله الزمخشري(٨).

وجوّز ابن عطيّة في المرصاد (٩) : أن يكون اسم فاعل ، قال : كأنه قيل : «لبالراصد» ، فعبر ببناء المبالغة.

ورده أبو حيّان (١٠) : بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء ، إذ ليس هو في موضع دخولها ، لا زائدة ، ولا غير زائدة.

__________________

(١) ينظر اللسان (سعط) والقرطبي ٢٠ / ٣٤.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٤).

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٧٢) عن ابن زيد.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٣.

(٦) سقط من ب.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٧٢) عن الحسن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٤٨.

(٩) المحرر الوجيز ٥ / ٤٧٩.

(١٠) البحر المحيط ٨ / ٤٦٥.

٣٢٣

قال شهاب الدّين (١) : قد وردت زيادتها في خبر : «إنّ» كهذه الآية ؛ وفي قول امرىء القيس : [الطويل]

٥٢٠٣ ـ ...........

فإنّك ممّا أحدثت بالمجرّب (٢)

إلّا أنّ هذه ضرورة ، لا يقاس عليه الكلام ، فضلا عن أفصحه.

فصل

تقدم الكلام في : «المرصاد» ، عند قوله : (كانَتْ مِرْصاداً) [النبأ : ٢١] ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه ، كما قيل لبعض العرب : أين ربك؟ قال : بالمرصاد.

وقال الفراء : معناه : إليه المصير.

وقال الزجاج : يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب.

وقال الضحاك : يرصد أهل الظلم ، والمعصية.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ)(١٦)

قوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) : مبتدأ ، وفي خبرها وجهان :

أصحهما : أنه الجملة من قوله : «فيقول» ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٢٦] كما تقدم ، والظرف حينئذ منصوب بالخبر ؛ لأنه في نية التأخير ، ولا يمنع الفاء من ذلك. قاله الزمخشري (٣).

الثاني : «إذا» : شرطية ، وجوابها : «فيقول» ، وقوله : «فأكرمه» : معطوف على «ابتلاه» ، والجملة الشرطية خبر : «الإنسان». قاله أبو البقاء (٤).

وفيه نظر ؛ لأن «أما» تلزم الفاء في الجملة الواقعة خبرا عما بعدها ، ولا تحذف إلا مع قول مضمر ، كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ) [آل عمران : ١٠٦] كما تقدم ، إلا في ضرورة.

قال الزمخشريّ (٥) : «فإن قلت : بم اتّصل قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ.

قلت : بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، فكأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطّاعة ، فأما الإنسان ، فلا يريد ذلك ، ولا يهمه إلا العاجلة» انتهى.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٥٢٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٤٩.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٦.

(٥) الكشاف ٤ / ٧٤٩.

٣٢٤

يعني : بالتعليق من حيث المعنى ، وكيف عطفت هذه الجملة التفصيلية على ما قبلها مترتبة عليه ، قوله : «لا يريد إلا الطّاعة» على مذهبه ، ومذهب أهل السنة : أن الله يريد الطاعة وغيرها ، ولو لا ذلك لم يقع ثم من لا يدخل في ملكه ما لا يريد ، وإصلاح العبارة أن نقول : إن الله يريد من العبد والإنسان من غير حصر.

ثم قال : فإن قلت : كيف توازن قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) ، وقوله: (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) ، وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد «أما» و «أما» تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور ، أمّا الإنسان أحسنت إلى زيد ، فهو محسن إليك ، وأمّا إذا أسأت إليه ، فهو مسيء إليك.

قلت : هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ، وذلك أن قوله (فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ) : خبر المبتدأ ، الذي هو «الإنسان» ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في نية (١) التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل : ربي أكرمني وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون «فيقول» الثاني : خبرا لمبتدأ واجب تقديره.

فصل في المراد بالإنسان

قال ابن عبّاس : المراد بالإنسان : عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة (٢).

وقيل : أمية بن خلف.

وقيل : أبي بن خلف.

(إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي : امتحنه ، واختبره بالنعمة ، و «ما» زائدة صلة ، «فأكرمه» بالمال ، و «نعّمه» بما أوسع عليه ، «فيقول : ربّي أكرمن» ، فيفرح بذلك ، ولا يحمده.

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي : امتحنه بالفقر واختبره ، «فقدر» أي : ضيق ، «عليه رزقه» على مقدار البلغة ، (فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ) أي : أولاني هوانا ، وهذه صفة الكافر ، الذي لا يؤمن بالبعث ، وإنما الكرامة عنده ، والهوان بكثرة المال والحظ في الدنيا ، وقلته ، فأمّا المؤمن ، فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.

قال القرطبيّ (٣) : الآيتان صفة كلّ كافر ، وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته ، وفضيلته عند الله ، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا ، لم يعطينيه الله ،

__________________

(١) في ب : تقدير.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٥) عن ابن عباس.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٣٥.

٣٢٥

وكذا إن قتر عليه ، يظن أن ذلك لهوانه على الله.

قوله : «فقدر عليه».

قرأ ابن عامر (١) : بتشديد الدّال.

والباقون : بتخفيفها ، وهما لغتان بمعنى واحد ، ومعناهما : التّضييق.

قال القرطبيّ (٢) : والاختيار : التخفيف ، لقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق: ٧] وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦].

وقال أبو عمرو : و «قدر» أي : قتر. و «قدّر» مشددا : هو أن يعطيه ما يكفيه ، ولو فعل به ذلك ما قال : (رَبِّي أَهانَنِ).

فصل في الكلام على أكرمن وأهانن

قوله : «أكرمني ، أهانني».

قرأ نافع : بإثبات يائهما وصلا ، وحذفهما وقفا من غير خلاف عنه.

والمروي عن ابن كثير ، وابن محيصن ، ويعقوب : إثباتهما في الحالين ؛ لأنهما اسم فلا تحذف.

واختلف عن أبي عمرو في الوصل : فروي (٣) عنه الإثبات والحذف ، والباقون يحذفونها في الحالتين.

وعلى الحذف قوله : [المتقارب]

٥٢٠٤ ـ ومن كاشح ظاهر عمره

إذا ما انتسبت له أنكرن (٤)

يريد : أنكرني ؛ ولأنها وقعت في الموضعين بغير ياء ، والسنة لا تخالف خط المصحف ؛ لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وقال الزمخشريّ (٥) : فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ)؟ قلت : لأن البسط : إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة ، وأما التقدير ، فليس بإهانة له ؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له ، وغير مكرم ولا مهين ، وإذا أهدى لك زيد هدية ، قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول : أهانني ، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.

__________________

(١) ينظر : السابق ، وحجة القراءات ٧٦١.

(٢) السابق.

(٣) ينظر خلاف السبعة في : السبعة ٦٨٤ ، ٦٨٥ ، والحجة ٦ / ٤٠٣ ، ٤٠٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٧٨ ، وحجة القراءات ٧٦٤.

(٤) تقدم.

(٥) الكشاف ٤ / ٧٤٩.

٣٢٦

وأجاب ابن الخطيب (١) عن هذا السؤال : بأنه في قوله : «أكرمني» صادق ، وفي قوله : «أهانني» غير صادق فهو ظهن أنّ قلة الدنيا ، وتعسرها إهانة ، وهذا جهل ، واعتقاد فاسد ، فكيف يحكي الله ـ تعالى ـ ذلك عنه؟.

قيل : لما قال : «فأكرمه» ، فقد صحّ أنه أكرمه ، ثم إنه لما حكى عنه أنه قال : «أكرمن» ذمه عليه ، فكيف الجمع بينهما؟.

فالجواب : أن كلمة الإنكار : «كلّا» ، فلم لا يجوز أن يقال : إنّها مختصة بقوله تعالى : (رَبِّي أَهانَنِ)؟.

سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معا ، لكن يمكن أن يكون الذّم ؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق ، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا ، مع سبق النعم عليه من الصحة ، والعقل دلّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر ، بل محبة الدنيا ، والتكثير بالأموال والأولاد ، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث ، كما حكى الله تعالى بقوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) إلى قوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الكهف : ٣٥ و ٣٧].

قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)

قوله تعالى : (كَلَّا) : ردع للإنسان عن تلك المقالة.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ المعنى : لم أبتله بالغنى ، لكرامته عليّ ، ولم أبتله بالفقر ، لهوانه عليّ ، بل ذلك لمحض القضاء والقدر ، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل (٢) ، وهذا مذهب أهل السنة ، وأما على مذهب المعتزلة : فلمصالح خفيّة ، لا يطلع عليها إلا هو ـ سبحانه ـ فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.

قال الفراء في هذا الموضع : يعني : لم يكن للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد الله ـ تعالى ـ على الغنى والفقر.

قوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ). قرأ أبو عمرو (٣) : «يكرمون» ، وما بعده بياء الغيبة ، حملا على معنى الإنسان المتقدم ، إذ المراد به الجنس ، والجنس في معنى : الجمع.

والباقون : بالتاء في الجميع ، خطابا للإنسان المراد به الجنس ، على طريقة الالتفات.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٥) عن ابن عباس.

(٣) ينظر : السبعة ٦٨٥ ، والحجة ٦ / ٤٠٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٧٩ ، وحجة القراءات ٧٦٢.

٣٢٧

فصل فيمن نزلت فيه الآية

لما حكى قولهم ، فكأنه قال : لهم فعل أشر من هذا القول ، وهو أن الله ـ تعالى ـ يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم ، فقرعهم بذلك ، ووبخهم. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه ، وأكل ماله.

وقال مقاتل : نزلت في قدامة بن مظعون ، وكان يتيما في حجر أمية بن خلف ، وكان يدفعه عن حقه (١).

قوله : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

قرأ الكوفيون : «ولا تحاضون» ، والأصل : تتحاضون ، فحذف إحدى التاءين ، أي : لا يحض بعضكم بعضا.

وروي عن الكسائي (٢) : «تحاضّون» بضم التاء ، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة ، أي: تحاضون أنفسكم.

والباقون (٣) : «تحضّون» من حضّه على كذا ، أي : أغراه به ، ومفعوله محذوف ، أي : لا تحضون أنفسكم ولا غيرها ، ويجوز ألّا يقدر ، أي : لا يوقعون الحضّ.

قوله : «على طعام» : متعلق ب «تحضون» ، و «طعام» : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسما للمطعوم ، ويكون على حذف مضاف ، أي على بذل ، أو إعطاء طعام ، وأن يكون اسم مصدر بمعنى : الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء ، فلا حذف حينئذ.

فصل في ترك إكرام اليتيم

اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه :

أحدها : ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

والثاني : دفعه عن حقه ، وأكل ماله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا).

قوله : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) التاء في «التّراث» : بدل من الواو ؛ لأنه من الوراثة ومثله : تولج ، وتوراة ، وتخمة وقد تقدم كما قالوا : تجاه ، وتخمة ، وتكأة ، وتؤدة ، ونحو ذلك.

والتراث : ميراث اليتامى ، وقوله تعالى : (أَكْلاً لَمًّا) ، اللّمم : الجمع الشديد ، يقال : لممت الشيء لما ، أي : جمعته جمعا.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٥) عن ابن عباس.

(٢) وقرأ بها ابن المبارك كما في المحرر الوجيز ٥ / ٤٨٠ ، والقرطبي ٢٠ / ٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٢١.

(٣) ينظر : السبعة ٦٨٥ ، والحجة ٦ / ٤١٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٧٩ ، وحجة القراءات ٧٦٢ ـ ٧٦٣.

٣٢٨

قال الحطيئة : [الطويل]

٥٢٠٥ ـ إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه

فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا (١)

ولممت شعثه من ذلك ؛ قال النابغة : [الطويل]

٥٢٠٦ ـ ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث أيّ الرّجال المهذب؟ (٢)

والجمّ : الكثير ، ومنه : جمّة الماء.

قال زهير : [الطويل]

٥٢٠٧ ـ فلمّا وردنا الماء زرقا جمامه

 .......... (٣)

ومنه : الجمّة ، للشعر ، وقولهم : جاءوا الجمّاء الغفير من ذلك.

وكتيبة ملمومة وحجر ملموم ، وقولهم : إن دارك لمومة ، أي تلم الناس وتجمعهم ، والآكل يلم الثريد ، فيجمعه لقما ، ثم يأكله.

قال الحسن : يأكلون نصيبهم ، ونصيب غيرهم ، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم(٤).

وقيل : إنّ المال الذي يتركه الميت بعضه حلال ، وبعضه شبهة ، وبعضه حرام ، فالوارث يلم الكل ، أي : يجمع البعض إلى البعض ، ويأخذ الكل ويأكله.

قال الزمخشريّ (٥) : يجوز أن يكون الذم متوجها إلى الوارث الذي ظفر بالمال ، سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه ، فيسرف في إنفاقه ، ويأكله أكلا لمّا جامعا بين ألوان المشتهيات [من الأطعمة والأشربة والفواكه](٦).

[وقال ابن زيد : كان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان ، بل يأكلون ميراثهم وتراثهم مع تراثهم](٧).

قوله : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي : كثيرا حلاله وحرامه.

والجمّ : الكثير ، يقال : جمّ الشيء يجم جموما ، فهو جم وجام ، ومنه : جمّ الماء

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٧٥١ ، والقرطبي ٢٠ / ٣٦ ، والبحر ٨ / ٤٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٢.

(٢) ينظر ديوان النابغة ٧٤ ، وابن الشجري (١ / ٢٦٧ ، واللسان (شعث) ، والقرطبي ٢٠ / ٣٦ ، والبحر ٨ / ٤٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٢.

(٣) ينظر ديوانه (١٠٥) ، والانطباع الشعري ص ٢٨١ ، ومجمع البيان ١٠ / ٧٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٧٤). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٧٥١.

(٦) سقط من : أ.

(٧) سقط من : ب.

٣٢٩

في الحوض ، إذا اجتمع وكثر ، والجمة : المكان الذي يجتمع فيه الماء ، والجموم ـ بالضم ـ المصدر يقال : جم الماء يجم جموما : إذا كثر في البئر واجتمع ، والمعنى : يحبون المال حبا كثيرا شديدا.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)(٢٦)

قوله : (كَلَّا) : ردع لهم عن ذلك ، وإنكار لفعلهم ، أي : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ، فهو ردع لانكبابهم على الدنيا وجمعهم لها.

قوله : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا). في «دكّا» وجهان :

أحدهما : أنه مصدر مؤكد ، و «دكّا» الثاني : تأكيد للأول ، تأكيدا لفظيا. كذا قاله ابن عصفور وليس المعنى على ذلك.

والثاني : أنه نصب على الحال ، والمعنى : مكررا عليها الدّك ، ك «علمته الحساب بابا بابا» ، وهذا ظاهر قول الزمخشري (١).

وكذلك : «صفّا صفّا» حال أيضا ، أي : مصطفين ، أو ذوي صفوف كثيرة.

قال الخليل : الدّكّ : كسر الحائط والجبل والدكداك : رمل متلبّد. ورجل مدك : أي شديد الوطء على الأرض. [فمعنى الدك على قول الخليل : كسر شيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت فلم يبق على شيء](٢).

وقال المبرد : الدّك : حطّ المرتفع من الأرض بالبسط ، واندك سنام البعير : إذا انفرش في ظهره ، وناقة دكاء كذلك ، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش ، فمعنى الدك على قول الخليل : كسر الشيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت ، فلم يبق على ظهرها شيء ، وعلى قول المبرد ، معناه : أنها استوت في الانفراش ، فذهب دورها ، وقصورها ، حتى صارت كالصخرة الملساء ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وابن مسعود رضي الله عنهم : تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا التّدكّك لا بد وأن يكون متأخرا عن الزلزلة [فإذا زلزلت الأرض زلزلة] بعد زلزلة ، فتكسر الجبال ، وتنهدم ، وتمتلىء الأغوار ، وتصير ملساء ، وذلك عند انقضاء الدنيا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥١.

(٢) ثبت في أمكان هذه العبارة ما يلي : والدكداك رمل متلبد ، ورجل مدك : شديد الوطء على الأرض.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٢٠ / ٣٧).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٨.

٣٣٠

قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). أي : جاء أمره وقضاؤه. قاله الحسن ، وهو من باب حذف المضاف.

وقيل : جاءهم الربّ بالآيات ، كقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ١٢٣] أي بظلل.

وقيل : جعل مجيء الآيات مجيئا له ، تفخيما لشأن تلك الآيات ، كقوله تعالى في الحديث: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، واستسقيتك فلم تسقني واستطعمتك فلم تطعمني» (١).

وقيل : زالت الشبه ، وارتفعت الشكوك ، وصارت المعارف ضرورية ، كما تزول الشبه والشكوك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه [وقيل وجاء قهر ربك ، كما تقول جاءتنا بنو أمية ، أي : قهرهم.

قال أهل الإشارة : ظهرت قدرته واستوت ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يوصف بالتحول من مكان إلى مكان ، وأنّى له التحول والانتقال ، ولا مكان له ولا أوان ، ولا يجري عليه وقت ولا زمان ؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوات الأوقات ، ومن فاته الشيء ، فهو عاجز.

وأما قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي : والملائكة صفا بعد صفّ متحلّقين بالجن والإنس](٢).

قوله : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ).

«يومئذ» : منصوب ب «جيء» ، والقائم مقام الفاعل : «بجهنم» وجوز مكيّ : أن يكون «يومئذ» : قائم مقام الفاعل.

وأمّا «يومئذ» الثاني فقيل : بدل من «إذا دكّت» ، والعامل فيها : «يتذكر» ، قاله الزمخشري (٣) وهذا مذهب سيبويه.

وقيل : إن العامل في «إذا دكت» : يقول ، والعامل في «يومئذ» : يتذكر ، قاله أبو البقاء (٤).

فصل

قال ابن مسعود ومقاتل : «تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام ، كل زمام بيد سبعين ألف ملك يجرونها ، لها تغيّظ وزفير ، حتّى تنصبّ عن يسار العرش» (٥).

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥١.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٧.

(٥) ورد هذا الأثر عن ابن مسعود مرفوعا أخرجه مسلم وغيره وقد تقدم تخريجه.

٣٣١

رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود مرفوعا.

وقال أبو سعيد الخدريّ : لما نزلت : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تغير لون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرف في وجهه ، حتى اشتد على أصحابه ، ثم قال : أقرأني جبريل : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) ، ـ الآية ـ (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : قلت: يا رسول الله ، كيف يجاء بها؟ قال : «يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام ، يقود بكلّ زمام سبعون ألف ملك ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ تعرض لي جهنّم ، فتقول : ما لي ولك يا محمّد ، إنّ الله قد حرّم لحمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي ، إلّا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّه يقول : ربّ أمّتي ، ربّ أمّتي» (١).

قال ابن الخطيب (٢) : قال الأصوليون : معلوم أنّ جهنّم لا تنقل من مكانها ، ومعنى مجيئها : برزت وظهرت حتى يراها الخلق ، ويعلم الكافر أنّ مصيره إليها.

قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ). تقدم الكلام في إعراب : «يومئذ» ، والمعنى : يتّعظ الكافر ، ويتوب من همته بالدّنيا وقيل : يتذكر أن ذلك كان ضلالا.

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي : ومن أين له الاتّعاظ والتوبة ، وقد فرط فيها في الدنيا.

وقيل : ومن أين له منفعة الذّكرى ، فلا بدّ من تقدير حذف المضاف ، وإلّا فبين «يومئذ يتذكّر» وبين : (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) تناف. قاله الزمخشري (٣).

قوله : «وأنّى» خبر مقدم ، و «الذكرى» : مبتدأ مؤخر ، و «له» متعلق بما تعلق به الظرف.

قوله : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) ، أي : في حياتي ، فاللام بمعنى «في».

وقيل : أي : قدمت عملا صالحا أي لحياة لا موت فيها.

وقيل : حياة أهل النار ليست هنيئة ، فكأنهم لا حياة لهم ، فالمعنى : يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار ، فأكون ممن له حياة هنيئة.

فصل في شبهة للمعتزلة والرد عليها

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم وقصدهم ، وأنّهم ما كانوا محجوزين عن الطّاعات ، مجبرين على المعاصي.

والجواب : أن فعلهم كان معلقا بقصد الله ـ تعالى ـ فبطل قولهم.

قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن ابي سعيد.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٥٨.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٥٢.

٣٣٢

قرأ الكسائي : «لا يعذّب (١) ولا يوثق» مبنيين للمفعول ، ورواه أبو قلابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح الثاء والذال ، والباقون : قرأوهما مبنيين للفاعل.

فأمّا قراءة الكسائي : فأسند الفعل فيها إلى : «أحد» ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى ، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى ، وأما عذابه ووثاقه ، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل ، والضمير لله تعالى ، أو مضافين للمفعول ، والضمير للإنسان ، ويكون «عذاب» واقعا موقع تعذيب ، والمعنى : لا يعذّب أحد مثل تعذيب الله ـ تعالى ـ هذا الكافر ، ولا يوثق أحد توثيقا مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ، ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر ، ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره ، وعناده.

والوثاق : بمعنى : الإيثاق ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، إلا أن في إعمال اسم المصدر عمل مسمّاه خلافا مضطربا ، فنقل عن البصريين المنع ، وعن الكوفيين الجواز ، ونقل العكس عن الفريقين ؛ ومن الإعمال قوله : [الوافر]

٥٢٠٨ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٢)

ومن منع : نصب المائة بفعل مضمر ؛ وأصرح من هذا قول الشاعر : [الطويل]

٥٢٠٩ ـ ..........

تكلّمني فيها شفاء لما بيا (٣)

وقيل : المعنى : ولا يحمل عذاب الإنسان أحد ، كقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]. قاله الزمخشري (٤).

وأما قراءة الباقين : فإنّه أسند الفعل لفاعله ، والضمير في : «عذابه» ، و «وثاقه» يحتمل عوده على الباري ـ تعالى ـ ، بمعنى : أنه لا يعذب في الدنيا ، مثل عذاب الله تعالى يومئذ أحد ، أي : أن عذاب من يعذب في الدنيا ، ليس كعذاب الله ـ تعالى ـ يوم القيامة ، كذا قاله أبو عبد الله.

وفيه نظر ، من حيث إنه يلزم أن يكون : «يومئذ» معمولا للمصدر التشبيهي ، وهو ممتنع لتقدمه عليه ، إلّا أن يقال : إنه توسع فيه.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٨٥ ، والحجة ٦ / ٤١١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٨٠ ، وحجة القراءات ٧٦٣.

(٢) تقدم.

(٣) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

فأشفي نفسي من تباريح ما بها

ويروى :

ألا هل إلى سبيل ساعة

ينظر ملحقات ديوان ذي الرمة (٦٧٥) ، وشرح المفصل ١ / ٢١ ، والدر ٥ / ٢٦٣ ، والهمع ٢ / ٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٣.

(٤) ينظر الكشاف ٤ / ٧٥٢.

٣٣٣

وقيل : المعنى : لا يكل عذابه ، ولا وثاقه لأحد ؛ لأن الأمر لله ـ تعالى ـ وحده في ذلك.

وقيل : المعنى : أنه في الشدة ، والفظاعة ، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله.

ورد هذا ، بأن «لا» ، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلا ، وإذا كان مستقبلا لم يطابق هذا المعنى ، ولا يطلق على الماضي إلّا بمجاز بعيد ، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة ، لا دار الدّنيا.

وقيل : المعنى : أنه لا يعذب أحد في الدنيا ، مثل عذاب الله الكافر فيها ، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله.

ويحتمل عوده على الإنسان ، بمعنى : لا يعذب أحد من زبانية العذاب ، مثل ما يعذبون هذا الكافر ، ويكون المعنى : لا يحمل أحد عذاب الإنسان ، لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب.

وقرأ نافع (١) في رواية ، وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهما : «وثاقه» بكسر الواو.

والمراد بهذا الكافر المعذب ، قيل : إبليس ـ لعنه الله ـ ؛ لأنه أشد الناس عذابا.

وقال الفراء : هو أمية بن خلف.

قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

قوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ).

قرأ العامة : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) بتاء التأنيث.

وقرأ زيد بن (٢) علي : «يا أيّها» ، كنداء المذكر ، ولم يجوز ذلك أحد ، إلا صاحب البديع ، وهذه شاهدة له ، وله وجه : وهو أنها كما لم تطابق صفتها تثنية وجمعا ، جاز ألّا يطابقها تأنيثا ، تقول : يا أيها الرجلان ، يا أيها الرجال.

فصل في الكلام على الآية

لما وصف حال من اطمأن إلى الدّنيا ، وصف حال من اطمأنّ إلى معرفته وعبوديته ، وسلم أمره إلى الله ـ تعالى ـ.

وقيل : هذا كلام الباري تعالى ، إكراما له كما كلّم موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) وقرأ بها الخليل بن أحمد ، ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٨١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٣.

٣٣٤

وقيل : هو من قول الملائكة لأولياء الله تعالى.

قال مجاهد وغيره : «المطمئنّة» : الساكنة الموقنة ، أيقنت أن الله تعالى ربها ، فأجيبت لذلك (١).

وقال ابن عبّاس : المطمئنة بثواب الله (٢) ، وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : المؤمنة الموقنة(٣).

وعن مجاهد أيضا : الراضية بقضاء الله (٤).

وقال مقاتل : الآمنة من عذاب الله (٥) تعالى.

وفي حرف أبي كعب (٦) : «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة».

وقيل : التي عملت على يقين بما وعد الله تعالى ، في كتابه.

وقال ابن كيسان : المطمئنة ـ هنا ـ : المخلصة وقيل : المطمئنة بذكر الله تعالى ؛ لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨] وقيل : المطمئنة بالإيمان ، المصدقة بالبعث والثواب.

وقال ابن زيد : المطمئنة ، التي بشرت بالجنة ، عند الموت ، أو عند البعث ، ويوم الجمع(٧).

قوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، أي : ارجعي إلى صاحبك ، وجسدك.

قاله ابن عبّاس وعكرمة وعطاء ، واختاره الكلبيّ ، يدل عليه قراءة ابن عباس (٨) : «فادخلي في عبدي» ، على التوحيد.

وقال الحسن : ارجعي إلى ثواب ربك.

وقال أبو صالح : ارجعي إلى الله ، وهذا عند الموت.

وقوله تعالى : (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) حالان ، أي : جامعة بين الوصفين ؛ لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر ، والمعنى : راضية بالثواب ، مرضية عنك في الأعمال ، التي عملتها في الدنيا.

فصل في مجيء الأمر بمعنى الخبر

قال القفّال (٩) : هذا وإن كان أمرا في الظّاهر ، فهو خبر في المعنى ، والتقدير : أن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨١.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٠.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٩.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٢ ، والقرطبي ٢٠ / ٣٩.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨١.

(٨) ينظر : جامع البيان ١٢ / ٥٨٣ ، والكشاف ٤ / ٧٥٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٨٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٣.

(٩) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٦٠.

٣٣٥

النفس إن كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى ، وقال الله تعالى لها : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ، قال : ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيرا في كلامهم ، كقوله : «إذا لم تستح فافعل ما شئت».

فصل في فضل هذه الآية

قال سعيد بن زيد : قرأ رجل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : ما أحسن هذا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الملك سيقولها لك يا أبا بكر» (١).

وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس ب «الطائف» ، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط ، فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ، لا ندري من تلاها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)(٢) [روى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة](٣).

وقيل : نزلت في خبيب بن عديّ ، الذي صلبه أهل «مكة» ، وجعلوا وجهه إلى «المدينة» ، فحوّل الله وجهه للقبلة.

قوله : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) ، يجوز أن يكون في جسد عبادي ، ويجوز أن يكون المعنى في زمرة عبادي. وقرأ ابن عبّاس وعكرمة وجماعة : «في عبدي» ، والمراد : الجنس ، وتعدّى الفعل الأول ب «في» ؛ لأنّ الظرف ليس بحقيقي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، وتعدّى الثاني بنفسه ؛ لأن الظرفية متحققة ، كذا قيل ، وهذا إنما يتأتّى على أحد الوجهين ، وهو أن المراد بالنّفس : بعض المؤمنين ، وأنه أمر بالدخول في زمرة عباده ، وأما إذا كان المراد بالنفس : الرّوح ، وأنها مأمورة بدخولها في الأجساد ، فالظرفية متحققة فيه أيضا.

فصل في المراد بالجنة هاهنا

قال ابن عبّاس : هذا يوم القيامة ، وهو قول الضحاك (٤).

والجمهور على أنّ المراد بالجنة : دار الخلود ، التي هي سكن الأبرار ، ودار الصالحين والأخيار.

ومعنى «في عبادي» أي : في الصالحين ، كقوله تعالى : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٩].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبى نعيم في «الحلبة».

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣٩.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٣٩.

٣٣٦

قال ابن الخطيب (١) : ولمّا كانت الجنّة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء ، لا جرم قال تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) ، بفاء التعقيب ، ولما كانت الجنة الجسمانية ، لا يحصل الكون فيها إلا بعد قيام القيامة الكبرى ، لا جرم قال تعالى : (وَادْخُلِي جَنَّتِي) بالواو والله تعالى أعلم.

روى الثّعلبيّ عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) غفر له ، ومن قرأها في سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة» (٢)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٦٢.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٣٧

سورة البلد

مكيّة ، وهي عشرون آية ، واثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثمائة وعشرون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠)

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) : يجوز أن تكون «لا» : زائدة ، كما تقدم في : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، قاله الأخفش ، أي : أقسم ؛ لأنه قال : «بهذا البلد» ، وقد أقسم به في قوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ٣] ، فكيف يجوز القسم به ، وقد أقسم به سبحانه ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٥٢١٠ ـ تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة

وكاد صميم القلب لا يتقطّع (١)

أي : يتقطع ، ودخل حرف «لا» : صلة ، ومنه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] وقد قال تعالى في سورة «ص» : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) [ص : ٧٥].

وقرأ الحسن والأعمش (٢) وابن كثير : «لأقسم» من غير ألف بعد اللام إثباتا.

وأجاز الأخفش أيضا ، أن تكون بمعنى : «ألا».

وقيل : ليست بنفي القسم ، وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا ، ولا والله ما كان كذا ، ولا والله لأفعلن كذا.

وقيل : هي نفي صحيح ، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد ، إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه. حكاه مكيّ ، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : «لا» : رد عليهم ،

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٢٠ / ٤٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٨٣.

٣٣٨

وهذا اختيار ابن العربي ، لأنه قال : «وأما من قال : إنها رد ، فهو قول ليس له رد ؛ لأنه يصح به المعنى ، ويتمكن اللفظ والمراد».

فهو رد لكلام من أنكر البعث ، ثم ابتدأ القسم.

وقال القشيريّ : قوله : «لا» رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة ، المغرور في الدنيا ، أي : ليس الأمر كما تحسبه من أنه لم يقسم عليه أحد ، ثم ابتدأ القسم ، وأجمعوا على أنّ المراد بالبلد : مكّة المشرفة ، أي : أقسم بالبلد الحرام ، الذي أنت فيه ، لكرامتك عليّ وحبي لك.

قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد). فيه وجهان :

أحدهما : أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين ، إما على معنى : أنه ـ تعالى ـ أقسم بهذا البلد ، وما بعده ، على أن الإنسان في كبد ، واعترض بينهما بهذه الجملة ، يعني : ومن المكابدة ، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد ، كما يستحل الصيد في غير الحرم.

وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة ، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح «مكة» ، تتميما للتّسلية ، فقال تعالى : وأنت حلّ به فيما يستقبل ، تصنع فيه ما تريد من القتل ، والأسر ، ف «حلّ» بمعنى : حلال ، قال معناه الزّمخشري (١). ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ) في معنى الاستقبال؟.

قلت : قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، ومثله واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوّ ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأنّ الأحوال المستقبلة عنده ، كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأنّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح؟.

الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية ، أي : لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حالّ بها ، لعظم قدرك ، أي : لا نقسم بشيء ، وأنت أحق بالإقسام بك منه.

وقيل : المعنى : لا أقسم به ، وأنت مستحلّ فيه ، أي : مستحل إذ ذاك.

فصل في المراد بهذا البلد

أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة» ، وفضلها معروف ، فإنه تعالى ، جعله حرما آمنا قال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] ، وجعل مسجده قبلة لأهل

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٤.

٣٣٩

المشرق والمغرب ، وقال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] ، وأمر النّاس بحجّ البيت ، فقال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] وقال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٠] ، وقال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦] ، وقال تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ (١) يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج : ٢٧] ، وشرف مقام إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] ، وحرم صيده ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الأرض من تحته ، فهذه الفضائل ، وأكثر منها ، لما اجتمعت في «مكة» لا جرم أقسم الله تعالى بها.

فصل في تفسير وأنت حلّ

روى منصور عن مجاهد : «وأنت حلّ» ، قال : ما صنعت فيه من شيء ، فأنت في حل(١).

وكذا قال ابن عبّاس : أحل له يوم دخل «مكة» ، أن يقتل من شاء ، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما ، ولم يحل لأحد من الناس ، أن يقتل بها أحدا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله (٣).

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ، قال : أحلت له ساعة من نهار ، ثم أطبقت ، وحرمت إلى يوم القيامة ، وذلك يوم فتح «مكة» (٤).

[قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالا غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه ، وهو محلك أي : من أهل «مكة» نشأت بينهم ، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨].

وقيل : أنت فيه محسن ، وأنا عنك فيه راض](٦).

وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلّ وحلال ومحل ، ورجل حرم وحرام ومحرم.

وقال قتادة : «وأنت حل به» : أي لست بآثم ، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤١).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٦) عن ابن زيد.

(٦) سقط من : ب.

٣٤٠